قولُه تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}.
وقُرِئَ في الشاذِّ: (حَتَّى يَنْفُضُوا) مِن النَّفْضِ؛ أيْ: حَتَّى يَنْفُضُوا أوْعِيَتَهم فيَفْتَقِروا ويَتَفَرَّقُوا.
وقولُه: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ}. يُقالُ: الواوُ محذوفةٌ. ومعناه: وهُمُ الذينَ يَقولونَ.
وكذلك في قولِه: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}. أيْ: ويَقولونَ, قالَ الشاعِرُ:
لأَمْرٍ مَا تَصرَّفَتِ اللَّيالِي = لأمْرٍ مَا تَحرَّكَتِ النُّجُومُ
أيْ: ولأَمْرٍ.
وقولُه: {لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}. نَزلَتِ الآيةُ على سبَبٍ, وهو ما روَاهُ الزُّهْرِيُّ، عن عُرْوَةَ، عن أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ, أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه كانَ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً مِن غِفَارٍ يُقالُ له: جَهْجَاهُ. لِيَعْمَلَ له في بعضِ الغَزَوَاتِ، وهي غَزوةُ الْمُرَيْسِيعِ, فجَرَتْ بينَه وبينَ رجُلٍ مِن الأنصارِ مُنازَعَةٌ على رأسِ بئرٍ للإسقاءِ, فقالَ الأَنْصَارِيُّ: يا لَلأنصارِ. وقالَ جَهْجَاهُ: يا لَلمُهاجرِينَ.
فسَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ فقالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
وبَلَغَ ذلك عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ, فغَضِبَ وقالَ: هذا مِثْلُ ما قالَ الأُوَلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ. وقالَ: أمَا إنَّكم لو أَطَعْتُمُونِي لم تُنْفِقُوا على مَنِ اجْتَمَعَ عندَ هذا الرجُلِ - وكان الأنصارُ يُنْفِقُونَ على المُهاجرِينَ، وكانوا يَنْفَضُّونَ عنه - وقالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ. وعَنَى بالأعَزِّ نفْسَه وبالأذَلِّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ.
فبَلَغَ ذلكَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقالَ عُمَرُ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ. فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((لاَ يَبْلُغُ النَّاسَ أَنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))؛ أي: لا أَقتُلُه لهذا.
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بذلك أبو علِيٍّ الشافعيُّ بمَكَّةَ، أخْبَرَنا أبو الحسَنِ بنُ فِرَاسٍ، أَخْبَرَنا أبو جَعْفرٍ محمَّدُ بنُ إبراهيمَ الدَّيْبُلِيُّ، أخْبَرَنا أبو عبدِ اللَّهِ سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الْمَخْزُومِيُّ، أخْبَرَنا سُفيانُ, عن الزُّهْرِيِّ... الحديثَ.
وقدْ ذَكَرَ البُخَارِيُّ هذا الخبَرَ في كِتابِه بِروايةِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ, قالَ: كُنْتُ معَ عُمَرَ في غَزاةٍ فسَمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ يقولُ لأصحابِه: لا تُنْفِقُوا على مَن عندَ رسولِ اللَّهِ حتى يَنْفَضُّوا. وقالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ.
قالَ: فجِئْتُ إلى عُمَرَ وذَكَرْتُ له ذلكَ، وذكَرَ عمرُ ذلك لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, فجاءَ ابنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وحَلَفَ أنَّه ما قالَه, فصَدَّقَه وكَذَّبَنِي، فأصابَنِي مِن الْهَمِّ ما لَمْ يُصِبْنِي مثلُه قَطُّ, حتى جَلَسْتُ في بَيْتِي؛فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ والتي قبْلَها، فدَعَانِي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ صَدَّقَكَ)).
وفي روايةِ سُفيانَ, عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ, عن جابرٍ: أنَّ رَجُلاً مِن المُهاجرِينَ كَسَعَ رجُلاً مِن الأنصارِ، فقالَ الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ. وقالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يا لَلمهاجرِينَ.
وكانَ الأنصارُ أكثَرَ مِن المُهاجِرِينَ حينَ قَدِمَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ، ثم كَثُرَ المُهاجرِينَ مِن بعدُ.
فلَمَّا سَمِعَ عبدُ اللَّهِ بنُ أبَيِّ بنِ سَلُولٍ ذلكَ قالَ ما ذَكَرْنَاهُ, وساقَ الحديثَ قَريباً مِن الذي ذَكَرْناهُ أوَّلاً.
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بذلكَ أبو عليٍّ الشافعيُّ بمَكَّةَ بالإسنادِ الذي ذَكَرْنا, عن سُفْيانَ.
وقولُه: {حَتَّى يَنْفَضُّوا}. أيْ: يَتَفَرَّقُوا.
وقولُه تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. معناه: أنَّهم لو لم تُنْفِقُوا فلِلَّهِ خَزائنُ السماواتِ والأرضِ, فهو يَرْزُقُكُم.
ويُقالُ: خَزائِنُ السماواتِ بالْمَطَرِ، وخَزائنُ الأرضِ بالنَّباتِ.
وعن بعضِهم: خَزائنُ السماواتِ ما قَضاهُ، وخَزائنُ الأرْضِ ما أَعطاهُ.
وقالَ بعضُ أربابِ الخواطِرِ: خزائنُ السماواتِ: الغُيوبُ، وخَزائنُ الأرضِ: القُلوبُ. والصحيحُ الأوَّلُ.
قولُه: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ}. قدْ بَيَّنَّا.
قولُه تعالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}. قدْ ذَكَرْنا.
والأعَزُّ هو الأقْدَرُ على مَنْعِ الغَيْرِ، والأذَلُّ هو الأَعْجَزُ عن نَفْعِ الغيرِ.
وقِيلَ: مَعناهُ: لَيُخْرِجَنَّ العزيزُ منها الذليلَ.
وفي "أفْعَلَ" بمعنَى "فَعِيلٍ" قالَ الفَرَزْدَقُ:
إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا = بَيْتاً دَعائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ
أيْ: عزيزٌ طويلٌ.
وقولُه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. أي: الغَلَبَةُ والْمَنَعَةُ والقُوَّةُ، والعِزَّةُ لِلَّهِ لعِزَّةٍ في ذاتِه، والعِزَّةُ لرسولِه وللمُؤْمنِينَ بما أَعطاهُم اللَّهُ تعالى مِن الغَلَبَةِ والْمَنَعَةِ والقُوَّةِ.
وقولُه: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}. أيْ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ العِزَّةَ والغلَبَةَ لِلَّهِ ولرَسُولِه وللمُؤْمنِينَ.