تَفسيرُ سُورَةِ المُجَادَلَةِ
وهي مَدَنِيَّةٌ
قولُه تَعالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} نَزلَتِ الآيةُ في خَوْلَةَ بنتِ ثَعْلَبَةَ، وهي امرأةُ أَوْسِ بنِ الصَّامِتِ.
ويُقالُ: خَوْلَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ.
وقِيلَ: خَوْلَةُ بنتُ الصَّامِتِ.
والأَصَحُّ هو الأَوَّلُ، وعليه أكْثَرُ أهلِ التفسيرِ؛ مِنهم: مُجاهِدٌ، وقَتَادَةُ، ومحمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، وغيرُهم. وكانَ أوْسُ بنُ الصَّامِتِ ظاهَرَ منها.
وفي رِوايةٍ عن خَوْلَةَ أنَّها قالَتْ: كانَ بأَوْسِ بنِ الصَّامِتِ لَمَمٌ، فرَاجَعْتُه في بعضِ الأمْرِ فظَاهَرَ مِنِّي.
قالَ محمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: أَتَتْ خَوْلَةُ بنتُ ثَعْلَبَةَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وقالَتْ: إنَّ أَوْسَ بنَ الصَّامِتِ زَوْجِي وابنُ عَمِّي وأحَبُّ الناسِ إلَيَّ، وقد ظَاهَرَ مِنِّي. فقال َعليه السلامُ: ((مَا أَرَاكِ إِلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)).
فجَعَلَتْ تَشْتَكِي وتقولُ: أبو وَلَدِي وزَوجِي ولا أستطيعُ فِراقَه. ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((مَا أَرَاكِ إِلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)). وهي تُراجِعُه مَرَّةً بعدَ أُخْرَى؛فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}.
قالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها: سُبحانَ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ؛ كُنْتُ في جانبِ البيتِ ولا أَسْمَعُ ما تقولُ خَوْلَةُ؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}.
وقولُه: {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} اشْتَكَى وشَكَا بِمَعْنًى واحدٍ.
وقولُه: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي: تَراجُعَكُما.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ظاهِرٌ.
قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي: ليْسَ هُنَّ بأُمَّهَاتِهم, والمعنَى: أنه ليْسَ أزواجُهُنَّ كما قالوا: إنَّ ظُهورَهُنَّ كظَهْرِ أمَّهَاتِهم.
وقولُه: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً}. قالَ قَتادةُ: أيْ: كَذِباً. والكَذِبُ هو قولُه لها: أنتِ عَلَيَّ كظهْرِ أُمِّي.
وقولُه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: لِمَن نَدِمَ على قولِه، وهذا قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ}. قالَ الحَسَنُ وطاوُسٌ والزُّهْرِيُّ: العَوْدُ هو الوَطْءُ. وهذا قولُ مالِكٍ.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ: هو أنْ يَنْدَمَ على ما قالَ ويَرجِعَ إلى الأُلْفَةِ.
ومَذْهَبُ الشافعيِّ في العَوْدِ: أنه يُمْسِكُها علَى النِّكَاحِ عَقِيبَ الظِّهَارِ, ولا يُطَلِّقُها, قالَ: وإِنَّمَا يكونُ هذا عَوْداً؛ لأنَّ الظِّهارَ قَصْدُ التحريمِ, فإذا مَضَى وَقْتٌ عَقِيبَ الظِّهارِ، ولَمْ يُحَرِّمْها على نفْسِه بالطلاقِ فهو عائدٌ عمَّا قالَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ على هذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ الذي ذَكَرْنا.
وأمَّا مَذْهَبُ أبي حَنيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه, فإنه قالَ: العَوْدُ: هو أنْ يَعْزِمَ على إِمْساكِها، فإذا فَعَلَ ذلكَ فقَدْ تَحقَّقَ العَوْدُ.
والفَرْقُ بينَ هذا وبينَ قولِ الشافعيِّ: أنَّه إذا مَضَى عَقِيبَ الظِّهارِ وَقْتٌ يُمْكِنُه أنْ يُطَلِّقَها فيهِ ولَمْ يُطَلِّقْ فهو عائدٌ، وإنْ لم يَعْزِمْ على إمساكِها.
وعندَ أبي حنيفةَ ما لم يَعزِمْ على إمساكِها لا يكونُ عائداً.
وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ، وهو قولُ أبي العاليةِ وبُكَيْرِ بنِ عبدِ اللَّهِ الأشَجِّ: أنَّ العَوْدَ هو أنْ يُكَرِّرَ لفْظَ الظِّهارِ. وأَوَّلاَ العَوْدَ لِمَا قالوا بهذا.
وقالَ القُتَيْبِيُّ: ثَبَتَ الظِّهارُ بنفْسِ القولِ وتَجِبُ الكَفَّارةُ.
ومعنى العَوْدِ في هذا: هو العَوْدُ إلى ما كانَ عليه أهلُ الجاهليَّةِ مِن فعْلِ الظِّهارِ؛ وكأنَّه قالَ: (وَيَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) يَعنِي: إلى ما قالَه أهْلُ الجاهليَّةِ.
وقالَ الأَخْفَشُ سعيدُ بنُ مَسْعَدَةَ: في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ, وتقديرُها: والذينَ يُظَاهِرونَ نِساءَهم ثم يَعُودُونَ فتحريرُ رَقَبَةٍ بما قالوا.
وقولُه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} يَعنِي الوَطْءَ، وأمَّا اللَّمْسُ فيما دونَ الفَرْجِ اخْتَلَفُوا فيه؛ فحُكِيَ عن الحَسَنِ البَصْرِيِّ أنه قالَ: يَجُوزُ.
وقالَ الزُّهْرِيُّ: لا يَجوزُ.
والأصَحُّ أنه لا يَجوزُ حتى يُكَفِّرَ.
وقولُه: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ظاهِرُ المعنى.
وقولُه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ: مُؤمنةٍ.
وعن الشَّعْبِيِّ قالَ: رَقبةٍ قدْ صَلَّتْ وعَرَفَتِ الإيمانَ.
وفي الخبَرِ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ دعَا أوْسَ بنَ الصَّامِتِ وقالَ: ((أَعْتِقْ رَقَبَةً)). فقالَ: لا أَجِدُها. فقالَ: ((صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ))، قالَ: لا أَستطيعُ - وكانَ شيخاً قدْ أَسَنَّ وكَبِرَ - فقالَ: ((أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً))، فقالَ: نَعَمْ.
ورُوِيَ أنَّه قالَ: لا أَجِدُ إلاَّ أنْ تُعِينَنِي. فأَعانَه رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بفَرَقٍ مِن تَمْرٍ، وأعانَتْهُ المَرْأةُ بفَرَقٍ مِن تَمْرٍ.
وفي روايةٍ: أنَّه لَمَّا أَعْطاهُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ التمْرَ قالَ: ليسَ في المدينةِ أحَدٌ أحْوَجُ إليه مِنِّي. فقالَ: ((كُلْهُ أَنْتَ وَعِيَالُكَ)).
قولُه تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} قدْ بَيَّنَّا.
وعن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ قالَ: إذا أفْطَرَ بعُذْرٍ يَقضِي يوماً مكانَه ولا يَستقْبِلُ.
وقالَ إبْراهيمُ النَّخَعِيُّ: يَستقْبِلُ. وعليه أكثَرُ الفُقهاءِ.
وقولُه: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} قد بَيَّنَّا. والأصَحُّ أنه يُطْعِمُ مُدًّا مُدًّا، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ.
وقولُه: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}. أي: سُنَّةُ اللَّهِ, ويُقالُ: أوَامِرُ اللَّهِ.
وقولُه: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مُؤْلِمٌ.