دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 شوال 1441هـ/17-06-2020م, 08:32 AM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي

3: تطبيقات الدرس الرابع عشر:
بيّن اللطائف البيانية للالتفات في الآيات التاليات:
قبل أن أبين اللطائف البيانية هنا, فإني سأذكر لك لطائف لا تخلو منها التفاتة, وتكاد تشترك الالتفاتات فيها, منها: تنبيه السامع, وتحريك مخيلته, والتنقل به بين الصور والأساليب والمشاهد, فدارس علم الرواية يعلم جيدا أن من أسباب تفوق كثير من الروايات وعبقريتها هي القدرة السردية لدى الكاتب, كيف يتنقل من الحديث بلسان الراوي إلى البطل إلى المشاهد, وهكذا في عملية مدهشة تنال من عقل القارئ وتصيبه بالذهول, ولله المثل الأعلى, فإن كتابه لا يمل, وإن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, ومن لطائفه البلاغية هي هذا التلفت المتكرر والواضح في أسلوب الآي, وله من الفوائد الكثير مما لا حاجة لتكراره فقد ورد في مقدمة درس الشيخ -حفظه المولى وأجزل ثوابه-..

1: قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}
لعل في الالتفات هنا من مخاطبة الله لقريش خاصة والكفار عامة في قوله :"يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" إلى قوله: "وما تأتيهم...إلا كانوا عنها معرضين" بيان إعراض الله عن مخاطبتهم عتابا لهم, وتقريعا وتوبيخا, وهذا المشهد يظهر لي -ولله المثل الأعلى- في مشهد الأب وهو يعاتب ابنه على خطأ صدر منه, فقد يخاطبه مباشرة مقرعا بأسلوب مباشر, ثم يشيح بوجهه عنه مكملا عتابه بصيغة الغائب, فمثلا يقول: لقد أعطيتك كذا وفعلت كذا وكان هذا جزاء محبتي لك, ثم يشيح بوجهه عنه ويكمل: هكذا هم الأبناء لا يقدرون ما يعطى لهم ولا يعرفون ثمن كذا وكذا, تاركا للابن فرصة ليراجع نفسه أثناء إشاحته تلك, ومبينا له مدى غضبه وعتبه عليه.
يقول ابن عاشور: "ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم ، تنصيصاً على ذلك ، وإعراضاً عن خطابهم ، وتمحيضاً للخطاب للمؤمنين ، وهو من أحسن الالتفات ، لأنّ الالتفات يحسنّه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المرادُ منه تجديد نشاط السامع ."


2: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
دعوني أصف لكم المشهد بعيني المتواضعة التي رأت الآية, فعبرت عن لطائفها بلغة العصر الحديث, كمشهد رهيب مليء بالتنقلات والصور, هكذا رأيت الآية:
"ويوم نسير الجبال" تبدأ الآية بعرض مشهد الحساب بصيغة الفعل فترى الصورة متحركة, وهذا ما يتناسب مع تحرك الجبال, فالصورة الآن متحركة ومدهشة إذ تملؤك بالذهول, جبال تتحرك! رحماك ربنا. ولعل الخطاب القرآني جاء بصيغة الفعل المضارع لكي يكون المشهد حاضرا أمامك فتتهيبه, ثم يلتفت للفعل الماضي, والالتفات فضلا عن أنه يشد انتباهك لصورة يوم القيامة, فإنه بالفعل هو ما يتناسب مع الحال, إذ لا تتصور يوم القيامة إلا يوما مليئا بالأحداث, مختلط المشاهد, حتى يلتبس عليك الماضي بالحاضر, فما تكاد تعرف الزمن من هول ما ترى, ولعل في هذا لطيفة تستنبط لبيان سبب كثرة الالتفات في هذه الآية كما سنرى, "والخطاب في قوله وترى الأرض بارزة لغير معين"كما ذكر ابن عاشور, وهو يفيد أنك أيها الرائي أيا كنت فسترى ذلك, لا يهم هنا تعيين الرائي فأي راء سيعرض له هذا المشهد المهيب, والذي انتقل فيه من التكلم إلى الخطاب بشكل بديع يهزك سرعة تنقله, ثم يعرض عليك قوله "الأرض بارزة" ولم يقل "تبرز", ولعل السبب يعود لكون بروز الأرض حدث ثابت, لذا استخدم الاسم في وصفها فليست بحاجة لكاميرا فيديو -إن صح التعبير- كما هو قوله: "نسير الجبال", ويكفيها صورة ثابتة تتوقف فيها الأنفس وهي ترى مشهد الأرض بارزة, يعمها الصمت أمام قهر الجبار, "وحشرناهم" نجد هنا انتقالا سريعا من الخطاب "ترى" إلى مقام التكلم, في مشهد رهيب مهيب تعجز الأذهان عن تصوره, فالخطاب القرآني نسب تسيير الجبال لله لعظمة الموقف في البداية, ثم انتقل إلى مخاطبة الرائي"وترى" ليبين له ولنا جميعا أننا داخلون في هذا الخطاب, هل ترونه؟ لأنكم سترونه حتما فاستعدوا. ثم ينتقل الخطاب للمتكلم "وحشرناهم" بل ويأتي على صورة الماضي, تأكيدا للمعنى فهو كالأمر الذي حدث وانتهى من شدة ثبوته, وتنويعا مهيبا متسارعا يتناسب مع سرعة رتم الأحداث وارتباك المرء مع الزمن الذي لم يعد كما يعرفه, فلا ليل ولا نهار كما كان, فالشمس كورت, والنجوم انكدرت, والحياة قلبت رأسا على عقب أمام هذا الناظر, ويكمل المولى "فلم نغادر منهم أحدا" يا الله! أكاد أخر أمام هذه البلاغة القرآنية في إيصال الصورة المفزعة ليوم الحساب, المشهد يكتم أنفاسك, فالمولى بعد أن ذكر الحشر بين أن لا مجال للمغادرة, أغلقت المخارج, وجفت الصحف, والكل واقف أمام هذا المشهد البديع يترقب!
يقول ابن عاشور: "وجملة وعرضوا على ربك معطوفة على جملة وحشرناهم ، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في حشرناهم ، أي : حشرناهم وقد عرضوا ; تنبيها على سرعة عرضهم في حين حشرهم .
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله على ربك دون أن يقال ( علينا ) لتضمن الإضافة تنويها بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث" فانظر لهذه الدقائق البيانية اللطيفة يا رعاك الله. ينتقل الخطاب هنا "وعرضوا على ربك صفا" إلى صورة أخرى من صور الجمل الفعلية, فالفعل هنا مبني للمجهول, لكي يرتكز نظرك على مشهد العرض المهيب دون سواه, "لقد جئتمونا" هكذا مباشرة بحذف جملة تقديرها "وقال لهم" أو نحوها. لكن البلاغة القرآنية تأبى الإطالة والإسهاب الذي لا يرجى منه مزيد نفع ولا بيان, كما أن الصورة هنا تستدعي التنقل السريع بين المشاهد. يااه! أي انتقال هذا, لا كاميرا سينمائية تستطيع رسمه, ولا سرد روائي يستطيع حبكه, هنا انتقلت الكاميرا -إن حق لي التعبير بذلك- من المشهد البعيد لصورة الناس وهي معروضة على ربها إلى المخاطبين, إليكم أنتم يا من تسمعون هذا الخطاب وتتلون هذا الكتاب, أنتم "لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة", من تصوير المشهد العام يلتفت الخطاب إلى توجيه الخطاب مباشرة إلى المخاطبين, ها أنتم قد جئتم إلينا اليوم كصورتكم التي خلقناكم بها سابقا, "بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا" يقول ابن عاشور: "والإضراب في قوله بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار ، فالخبر مستعمل في التغليط مجازا ، وليس مستعملا في إفادة مدلوله الأصلي" .فهذا الموعد قد حل, والساعة قد أزفت.. فاللهم رحماك رحماك..
أعتذر إن كنت قد أطلت أو نسيت المطلوب فأسهبت, لكن التركيز على بيان القرآن والتفاتاته جعلني أفيق من قراءتي المتسارعة, وأعي حجم المعاني التي فلتت مني سابقا, وما كان مني هنا إلا أن توقفت أمامها وكتبت ما فاض به الخاطر, ورصده الذهن, ونعوذ بالله من أن ننسب ذلك للنص القرآني مدعين, لكنه اجتهاد تدبري حاولنا فيه ألا نكسر القواعد, أو نحيد عن السطور.


تطبيقات الدرس الخامس عشر:
بيّن معاني الاستفهام في الآيات التاليات، واشرح المسائل المتعلقة به:
1: قول الله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}.
أصلها كيف كان عذابي ونذري كأنه يقول انظروا كيف كان عذابي ونذري. يعني: كيف رأيتموه؟ يشير إلى ضخامته وعظمته وقوته. والاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان على كيفية هائلة لا يحيطها الوصف، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين, والاستفهام مستعمل في التعجيب من شدة هذا العذاب الموصوف . والجملة في معنى التذييل وهو تعريض بتهديد المشركين أن يصيبهم عذاب جزاء تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإعراضهم وأذاهم كما أصاب الأقوام من قبلهم, بمعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم؟.
ونجد من المعاني التي اتفق عليها كثير من المفسرين وذكروها في كتبهم اجتماع معنى التبكيت والتخويف والتعظيم والتهويل والتقريع.


2: قول الله تعالى: { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}.
الاستفهام هنا للتقرير -والله أعلم-, كما يقول أحدنا بعد أن لاقى شرا من شخص عمل له خيرا: ألم أعمل لك كذا وأعطك كذا, أي: فكيف تنكر معروفي وخيري عليك, فالسؤال لحمله على الإقرار بذلك المعروف, ومن ثم ترك جحوده ونكرانه. يقول ابن عاشور: "استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضد ما يقربه مثل قوله ألم نشرح لك صدرك . أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله. وتكذيب الآلاء كناية عن الإشراك بالله في الإلهية . والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون إنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره إذ تعبدون غيره دواما".
ويؤيده ما جاء في الأثر عن رسول الله, فقد روى الطبري عن محمّد بن عبّاد بن موسى، وعمرو بن مالكٍ البصريّ، قالا: حدّثنا يحيى بن سليمٍ الطّائفيّ، عن إسماعيل بن أميّة، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ سورة الرّحمن، أو قرئت عنده، فقال: "ما لي أسمع الجنّ أحسن جوابًا لربّها منكم؟ قالوا: ماذا يا رسول اللّه؟ قال: ما أتيت على قول اللّه: فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ إلاّ قالت الجنّ: لا بشيءٍ من نعمة ربّنا نكذّب". وقد روى كذلك عن ابن عباس أنه كان يفعل ذلك عند قراءة الآية, فلعل فيما روي دليلا على أن الغرض من الاستفهام هو إقرار المخاطب بنعم الله وبالتالي عبادته وحده كما يجب ويستحق.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 2 ذو الحجة 1441هـ/22-07-2020م, 05:30 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورة الأمير مشاهدة المشاركة
3: تطبيقات الدرس الرابع عشر:
بيّن اللطائف البيانية للالتفات في الآيات التاليات:
قبل أن أبين اللطائف البيانية هنا, فإني سأذكر لك لطائف لا تخلو منها التفاتة, وتكاد تشترك الالتفاتات فيها, منها: تنبيه السامع, وتحريك مخيلته, والتنقل به بين الصور والأساليب والمشاهد, فدارس علم الرواية يعلم جيدا أن من أسباب تفوق كثير من الروايات وعبقريتها هي القدرة السردية لدى الكاتب, كيف يتنقل من الحديث بلسان الراوي إلى البطل إلى المشاهد, وهكذا في عملية مدهشة تنال من عقل القارئ وتصيبه بالذهول, ولله المثل الأعلى, فإن كتابه لا يمل, وإن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, ومن لطائفه البلاغية هي هذا التلفت المتكرر والواضح في أسلوب الآي, وله من الفوائد الكثير مما لا حاجة لتكراره فقد ورد في مقدمة درس الشيخ -حفظه المولى وأجزل ثوابه-..

1: قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}
لعل في الالتفات هنا من مخاطبة الله لقريش خاصة والكفار عامة في قوله :"يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" إلى قوله: "وما تأتيهم...إلا كانوا عنها معرضين" بيان إعراض الله عن مخاطبتهم عتابا لهم, وتقريعا وتوبيخا, وهذا المشهد يظهر لي -ولله المثل الأعلى- في مشهد الأب وهو يعاتب ابنه على خطأ صدر منه, فقد يخاطبه مباشرة مقرعا بأسلوب مباشر, ثم يشيح بوجهه عنه مكملا عتابه بصيغة الغائب, فمثلا يقول: لقد أعطيتك كذا وفعلت كذا وكان هذا جزاء محبتي لك, ثم يشيح بوجهه عنه ويكمل: هكذا هم الأبناء لا يقدرون ما يعطى لهم ولا يعرفون ثمن كذا وكذا, تاركا للابن فرصة ليراجع نفسه أثناء إشاحته تلك, ومبينا له مدى غضبه وعتبه عليه.
يقول ابن عاشور: "ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم ، تنصيصاً على ذلك ، وإعراضاً عن خطابهم ، وتمحيضاً للخطاب للمؤمنين ، وهو من أحسن الالتفات ، لأنّ الالتفات يحسنّه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المرادُ منه تجديد نشاط السامع ."

[وفيه معنى آخر، وهو أنّ الخطاب في قوله تعالى: {يعلم سرّكم وجهركم} عامّ في كلّ من يصلح له وفيهم المؤمن والكافر، وقوله: {وما تأتيهم} التفات إلى ذمّ المختصّين بالذمّ منهم]


2: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
دعوني أصف لكم المشهد بعيني المتواضعة التي رأت الآية, فعبرت عن لطائفها بلغة العصر الحديث, كمشهد رهيب مليء بالتنقلات والصور, هكذا رأيت الآية:
"ويوم نسير الجبال" تبدأ الآية بعرض مشهد الحساب بصيغة الفعل فترى الصورة متحركة, وهذا ما يتناسب مع تحرك الجبال, فالصورة الآن متحركة ومدهشة إذ تملؤك بالذهول, جبال تتحرك! رحماك ربنا. ولعل الخطاب القرآني جاء بصيغة الفعل المضارع لكي يكون المشهد حاضرا أمامك فتتهيبه, ثم يلتفت للفعل الماضي, والالتفات فضلا عن أنه يشد انتباهك لصورة يوم القيامة, فإنه بالفعل هو ما يتناسب مع الحال, إذ لا تتصور يوم القيامة إلا يوما مليئا بالأحداث, مختلط المشاهد, حتى يلتبس عليك الماضي بالحاضر, فما تكاد تعرف الزمن من هول ما ترى, ولعل في هذا لطيفة تستنبط لبيان سبب كثرة الالتفات في هذه الآية كما سنرى, "والخطاب في قوله وترى الأرض بارزة لغير معين"كما ذكر ابن عاشور, وهو يفيد أنك أيها الرائي أيا كنت فسترى ذلك, لا يهم هنا تعيين الرائي فأي راء سيعرض له هذا المشهد المهيب, والذي انتقل فيه من التكلم إلى الخطاب بشكل بديع يهزك سرعة تنقله, ثم يعرض عليك قوله "الأرض بارزة" ولم يقل "تبرز", ولعل السبب يعود لكون بروز الأرض حدث ثابت, لذا استخدم الاسم في وصفها فليست بحاجة لكاميرا فيديو -إن صح التعبير- كما هو قوله: "نسير الجبال", ويكفيها صورة ثابتة تتوقف فيها الأنفس وهي ترى مشهد الأرض بارزة, يعمها الصمت أمام قهر الجبار, "وحشرناهم" نجد هنا انتقالا سريعا من الخطاب "ترى" إلى مقام التكلم, في مشهد رهيب مهيب تعجز الأذهان عن تصوره, فالخطاب القرآني نسب تسيير الجبال لله لعظمة الموقف في البداية, ثم انتقل إلى مخاطبة الرائي"وترى" ليبين له ولنا جميعا أننا داخلون في هذا الخطاب, هل ترونه؟ لأنكم سترونه حتما فاستعدوا. ثم ينتقل الخطاب للمتكلم "وحشرناهم" بل ويأتي على صورة الماضي, تأكيدا للمعنى فهو كالأمر الذي حدث وانتهى من شدة ثبوته, وتنويعا مهيبا متسارعا يتناسب مع سرعة رتم الأحداث وارتباك المرء مع الزمن الذي لم يعد كما يعرفه, فلا ليل ولا نهار كما كان, فالشمس كورت, والنجوم انكدرت, والحياة قلبت رأسا على عقب أمام هذا الناظر, ويكمل المولى "فلم نغادر منهم أحدا" يا الله! أكاد أخر أمام هذه البلاغة القرآنية في إيصال الصورة المفزعة ليوم الحساب, المشهد يكتم أنفاسك, فالمولى بعد أن ذكر الحشر بين أن لا مجال للمغادرة, أغلقت المخارج, وجفت الصحف, والكل واقف أمام هذا المشهد البديع يترقب!
يقول ابن عاشور: "وجملة وعرضوا على ربك معطوفة على جملة وحشرناهم ، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في حشرناهم ، أي : حشرناهم وقد عرضوا ; تنبيها على سرعة عرضهم في حين حشرهم .
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله على ربك دون أن يقال ( علينا ) لتضمن الإضافة تنويها بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث" فانظر لهذه الدقائق البيانية اللطيفة يا رعاك الله. ينتقل الخطاب هنا "وعرضوا على ربك صفا" إلى صورة أخرى من صور الجمل الفعلية, فالفعل هنا مبني للمجهول, لكي يرتكز نظرك على مشهد العرض المهيب دون سواه, "لقد جئتمونا" هكذا مباشرة بحذف جملة تقديرها "وقال لهم" أو نحوها. لكن البلاغة القرآنية تأبى الإطالة والإسهاب الذي لا يرجى منه مزيد نفع ولا بيان, كما أن الصورة هنا تستدعي التنقل السريع بين المشاهد. يااه! أي انتقال هذا, لا كاميرا سينمائية تستطيع رسمه, ولا سرد روائي يستطيع حبكه, هنا انتقلت الكاميرا -إن حق لي التعبير بذلك- من المشهد البعيد لصورة الناس وهي معروضة على ربها إلى المخاطبين, إليكم أنتم يا من تسمعون هذا الخطاب وتتلون هذا الكتاب, أنتم "لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة", من تصوير المشهد العام يلتفت الخطاب إلى توجيه الخطاب مباشرة إلى المخاطبين, ها أنتم قد جئتم إلينا اليوم كصورتكم التي خلقناكم بها سابقا, "بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا" يقول ابن عاشور: "والإضراب في قوله بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار ، فالخبر مستعمل في التغليط مجازا ، وليس مستعملا في إفادة مدلوله الأصلي" .فهذا الموعد قد حل, والساعة قد أزفت.. فاللهم رحماك رحماك..
أعتذر إن كنت قد أطلت أو نسيت المطلوب فأسهبت, لكن التركيز على بيان القرآن والتفاتاته جعلني أفيق من قراءتي المتسارعة, وأعي حجم المعاني التي فلتت مني سابقا, وما كان مني هنا إلا أن توقفت أمامها وكتبت ما فاض به الخاطر, ورصده الذهن, ونعوذ بالله من أن ننسب ذلك للنص القرآني مدعين, لكنه اجتهاد تدبري حاولنا فيه ألا نكسر القواعد, أو نحيد عن السطور.


تطبيقات الدرس الخامس عشر:
بيّن معاني الاستفهام في الآيات التاليات، واشرح المسائل المتعلقة به:
1: قول الله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}.
أصلها كيف كان عذابي ونذري كأنه يقول انظروا كيف كان عذابي ونذري. يعني: كيف رأيتموه؟ يشير إلى ضخامته وعظمته وقوته. والاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان على كيفية هائلة لا يحيطها الوصف، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين, والاستفهام مستعمل في التعجيب من شدة هذا العذاب الموصوف . والجملة في معنى التذييل وهو تعريض بتهديد المشركين أن يصيبهم عذاب جزاء تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإعراضهم وأذاهم كما أصاب الأقوام من قبلهم, بمعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم؟.
ونجد من المعاني التي اتفق عليها كثير من المفسرين وذكروها في كتبهم اجتماع معنى التبكيت والتخويف والتعظيم والتهويل والتقريع.
[ هذه المعاني في حقّ المشركين وأما في حقّ المؤمنين فيكون معناه التعجيب]

2: قول الله تعالى: { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}.
الاستفهام هنا للتقرير -والله أعلم-,كما يقول أحدنا بعد أن لاقى شرا من شخص عمل له خيرا: ألم أعمل لك كذا وأعطك كذا, أي: فكيف تنكر معروفي وخيري عليك, فالسؤال لحمله على الإقرار بذلك المعروف, ومن ثم ترك جحوده ونكرانه. يقول ابن عاشور: "استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضد ما يقربه مثل قوله ألم نشرح لك صدرك . أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله. وتكذيب الآلاء كناية عن الإشراك بالله في الإلهية . والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون إنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره إذ تعبدون غيره دواما".
ويؤيده ما جاء في الأثر عن رسول الله, فقد روى الطبري عن محمّد بن عبّاد بن موسى، وعمرو بن مالكٍ البصريّ، قالا: حدّثنا يحيى بن سليمٍ الطّائفيّ، عن إسماعيل بن أميّة، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ سورة الرّحمن، أو قرئت عنده، فقال: "ما لي أسمع الجنّ أحسن جوابًا لربّها منكم؟ قالوا: ماذا يا رسول اللّه؟ قال: ما أتيت على قول اللّه: فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ إلاّ قالت الجنّ: لا بشيءٍ من نعمة ربّنا نكذّب". وقد روى كذلك عن ابن عباس أنه كان يفعل ذلك عند قراءة الآية, فلعل فيما روي دليلا على أن الغرض من الاستفهام هو إقرار المخاطب بنعم الله وبالتالي عبادته وحده كما يجب ويستحق.

[ هنا ملحظ دقيق ينبغي أن يُلحظ، وهو التفريق بين المعنى القريب الاستفهام ومقصد الاستفهام، وكذلك التمييز بين أصناف المخاطبين بهذا الاستفهام، ولذلك فإنّ تحرير معنى الاستفهام في هذه الآية ونظائرها من المواضع المشكلة التي ينبغي إنعام النظر فيها، وقد تختلف عبارات المفسرين فيها بحسب ما يسبق إلى أذهانهم من المعنى القريب أو المقصد وما يرجحون من تعيين الصنف المخاطَب؛ وعلى جميع الاحتمالات فإن هذا الاستفهام لا يصحّ أن يكون جوابه بالإقرار حتى يُعدّ استفهاماً تقريرياً وإنما يكون جوابه بالنفي، لكن إنما فهم معنى التقرير من التذكير بنعم الله تعالى والاستفهام عنها استفهاماً يُقصد به تقريرها]



أ+ أحسنت وأجدت بارك الله فيك، وزادك علماً وتوفيقاً.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, الثاني

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:37 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir