دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة البناء في التفسير > صفحات الدراسة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17 شوال 1435هـ/13-08-2014م, 12:03 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي صفحة الطالبة: تماضر( لدراسة التفسير )

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 شوال 1435هـ/15-08-2014م, 07:13 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

-الاستعاذة وما يتعلق بها من مسائل :
-الخلاف في موضع الاستعاذة:

القول الأول: قالت طائفة من القراءوغيرهم: نتعوّذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون)) النّحل: 98، 99
. ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة؛ وممّن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره ابن قلوقا عنه، وأبو حاتمٍ السّجستانيّ، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذليّ المغربيّ في كتاب " الكامل ".
وروي عن أبي هريرة -أيضا-وهو غريب.
القول الثاني : أن المشهور في موضع الاستعاذة في القراءة الذي عليه الجمهور : أنّ الاستعاذة لدفع الوسواس فيها، إنّما تكون قبل التّلاوة، ومعنى الآية عندهم:"فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم". النّحل: 98. أي: إذا أردت القراءة، كقوله:"إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" الآية..المائدة: 6. أي: إذا أردتم القيام.
والدّليل على ذلك من السنة الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك:
1- مارواه الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه اللّه: ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من اللّيل فاستفتح صلاته وكبّر قال:(سبحانك اللّهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك) ويقول:(لا إله إلّا اللّه) ثلاثًا، ثمّ يقول:(أعوذ باللّه السّميع العليم، من الشّيطان الرّجيم، من همزه ونفخه ونفثه). وقد رواه أهل السّنن الأربعة ,وهو أشهر حديث في هذا الباب.
2-عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».
قال عمرٌو: «وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر».أخرجه أبوداود وابن ماجه.
3-عن عديّ بن ثابتٍ، قال: قال سليمان بن صرد: استبّ رجلان عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ونحن عنده جلوسٌ، فأحدهما يسبّ صاحبه مغضبًا قد احمرّ وجهه، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم» فقالوا للرّجل: ألا تسمع ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟!، قال: إنّي لست بمجنونٍ .أخرجه البخاري.
-حكم الاستعاذة :
القول الأول: جمهور العلماء على أنّ الاستعاذة مستحبّةٌ ليست بمتحتّمةٍ يأثم تاركها.
القول الثاني: وحكى فخر الدّين عن عطاء بن أبي رباحٍ وجوبها في الصّلاة وخارجها كلّما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوّذ مرّةً واحدةً في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، واحتجّ فخر الدّين لعطاءٍ بظاهر الآية: {فاستعذ} وهو أمرٌ ظاهره الوجوب وبمواظبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عليها، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ، ولأنّ الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب.
القول الثالث: وقال بعضهم: كانت واجبةٌ على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دون أمّته.
وحكي عن مالكٍ أنّه لا يتعوّذ في المكتوبة ويتعوّذ لقيام شهر رمضان في أوّل ليلةٍ منه.
-الجهر والإسرار في الاستعاذة:
وقال الشافعي في الإملاء، يجهر بالتعوذ، وإن أسرّ فلا يضرّ، وقال في الأمّ بالتّخيير لأنّه أسرّ ابن عمر وجهر أبو هريرة، واختلف قول الشّافعيّ فيما عدا الرّكعة الأولى: هل يستحبّ التّعوّذ فيها؟ على قولين، ورجّح عدم الاستحباب، واللّه أعلم.
-هل الاستعاذة في الصلاة للصلاة أم للقراءة ؟
القول الأول: ثمّ الاستعاذة في الصّلاة إنّما هي للتّلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ.
القول الثاني: وقال أبو يوسف: بل للصّلاة، فعلى هذا يتعوّذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوّذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة.
-ومن لطائف الاستعاذة؛ أنّها طهارةٌ للفم ممّا كان يتعاطاه من اللّغو والرّفث، وتطييبٌ له وتهيّؤٌ لتلاوة كلام اللّه وهي استعانةٌ باللّه واعترافٌ له بالقدرة وللعبد بالضّعف والعجز عن مقاومة هذا العدوّ المبين الباطنيّ الّذي لا يقدر على منعه ودفعه إلّا اللّه الّذي خلقه، ولا يقبل مصانعةً، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدوّ من نوع الإنسان كما دلّت على ذلك آيات القرآن في ثلاثٍ من المثاني، وقال تعالى:"إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربّك وكيلا".الإسراء:65.
-معنى الاستعاذة:
والاستعاذة:
هي الالتجاء إلى اللّه والالتصاق بجنابه من شرّ كلّ ذي شرٍّ، والعياذة تكون لدفع الشّرّ، واللّياذ يكون لطلب جلب الخير .
ومعنى أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، أي: أستجير بجناب اللّه من الشّيطان الرّجيم أن يضرّني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أمرت به، أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه؛ فإنّ الشّيطان لا يكفّه عن الإنسان إلّا اللّه؛ ولهذا أمر اللّه تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليردّه طبعه عمّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ لأنّه لا يقبل رشوةً ولا يؤثّر فيه جميلٌ؛ لأنّه شرّيرٌ بالطّبع ولا يكفّه عنك إلّا الّذي خلقه.
والشيطان في لغة العرب: مشتقٌّ من شطن إذا بعد، فهو بعيدٌ بطبعه عن طباع البشر، وبعيدٌ بفسقه عن كلّ خيرٍ.
والشّيطان مشتقٌّ من البعد على الصّحيح؛ ولهذا يسمّون كلّ ما تمرّد من جنّيٍّ وإنسيٍّ وحيوانٍ شيطانًا، قال اللّه تعالى:((وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا)) الأنعام: 112.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:" يا أبا ذرٍّ، تعوّذ باللّه من شياطين الإنس والجنّ"، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال:"نعم".
وقيل: مشتقٌّ من شاط لأنّه مخلوقٌ من نارٍ، ومنهم من يقول: كلاهما صحيحٌ في المعنى، ولكنّ الأوّل أصحّ، وعليه يدلّ كلام العرب.
والرّجيم: فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، أي: أنّه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كلّه، كما قال تعالى:"ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين". الملك:5.

-لم أجد حديثًا عن الاستعاذة في غير تفسير ابن كثير رحمه الله , هذا والله أسأل أن يغفر الزلل ويتجاوز عن الخلل , وأرجو موافاتي بالملاحظات على التلخيص بارك الله في الجميع.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 شوال 1435هـ/15-08-2014م, 08:39 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

البسملة ومايتعلق بها من مسائل:
-هل هي آية أو بعض آية ؟ -ك , ش -

اتّفق العلماء على أنّها بعض آيةٍ من سورة النّمل , ثمّ اختلفوا:
القول الأول:
آية مستقلة في بداية كل سورة بما في ذلك سورة الفاتحة عدا براءة , وممن قال ذلك من الصحابة : ابن عبّاسٍ، وابن عمر..وغيرهم. ومن التّابعين: عطاءٌ، وطاوسٌ، والزّهريّ... والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، في روايةٍ عنه , وغيرهم رحمهم الله .
القول الثاني:آية من سورة الفاتحة فقط دوناً عن بقية سور القرآن الكريم , قال به الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه , وهو غريب .
‌القول الثالث: ليست آية في سورة الفاتحة أو أي سورة أخرى وإنما وجدت للفصل بين السور , وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابهما .
‌القول الرابع: بعض آية لجميع السور بما في ذلك سورة الفاتحة . وبه قال الشافعي في بعض طرق مذهبه وهو غريب.
القول الخامس: وقال داود: هي آيةٌ مستقلّةٌ في أوّل كلّ سورةٍ لا منها، وهذه روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ.
على أقوالٍ للعلماء سلفًا وخلفًا، وذلك مبسوطٌ في غير هذا الموضع.
-مايتعلق بالجهر بها :
الخلاف في الجهر بالبسملة وعدمه متفرع عن الخلاف في كونها آية أو بعض آية :

1-فمن رأى أنّها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنّها آيةٌ من أوّلها.
2-وأمّا من قال بأنّها من أوائل السّور فاختلفوا:
أ-فذهب الشّافعيّ، رحمه اللّه، إلى أنّه يجهر بها مع الفاتحة والسّورة، وهو مذهب طوائفٍ من الصّحابة والتّابعين وأئمّة المسلمين سلفًا وخلفًا،, فجهر بها من الصّحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عبّاسٍ وغيرهم , ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة , وهو غريب , ومن التّابعين عن سعيد بن جبيرٍ، وعكرمة , والزّهريّ...وغيرهم .
والحجّة في ذلك أنّها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها، وأيضًا فقد روى النّسائيّ في سننه وابن خزيمة وابن حبّان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة أنّه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: «إنّي لأشبهكم صلاةً برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم». وصحّحه الدّارقطنيّ والخطيب والبيهقيّ وغيرهم.
وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن ابن عبّاسٍ قال:"كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجهر بـ(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)"، ثمّ قال: صحيحٌ .
وفي صحيح البخاريّ، عن أنس بن مالكٍ أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"كانت قراءته مدًّا" , ثمّ قرأ:( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم)، يمدّ )بسم اللّه(، ويمدّ )الرّحمن(، ويمدّ)الرّحيم).
ب- وذهب آخرون إلى أنّه لا يجهر بالبسملة في الصّلاة، وهذا هو الثّابت عن الخلفاء الأربعة وعبد اللّه بن مغفّلٍ، وطوائفٍ من سلف التّابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة، والثّوريّ، وأحمد بن حنبلٍ.
القول الثالث: وعند الإمام مالكٍ: أنّه لا يقرأ البسملة بالكلّيّة، لا جهرًا ولا سرًّا، واحتجّوا بما في صحيح مسلمٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت:" كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفتتح الصّلاة بالتّكبير، والقراءة بـ(الحمد للّه ربّ العالمين)
وبما في الصّحيحين، عن أنس بن مالكٍ، قال: (صلّيت خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأبي بكرٍ وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين.)
ولمسلمٍ: (لا يذكرون "بسم اللّه الرّحمن الرّحيم" في أوّل قراءةٍ ولا في آخرها). ونحوه في السّنن عن عبد اللّه بن مغفّل، رضي اللّه عنه.
فهذه مآخذ الأئمّة، رحمهم اللّه، في هذه المسألة وهي قريبةٌ؛ لأنّهم أجمعوا على صحّة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسرّ، وللّه الحمد والمنّة.

-فضلها ومواطن وجوبها واستحبابها : -ك-
-روى الإمام أحمد بن حنبلٍ في مسنده: عن رديف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: عثر بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلت: تعس الشّيطان. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:(لا تقل تعس الشّيطان. فإنّك إذا قلت: تعس الشّيطان تعاظم، وقال: بقوّتي صرعته، وإذا قلت: باسم اللّه، تصاغر حتّى يصير مثل الذّباب). فهذا من تأثير بركة بسم اللّه.
1-ولهذا تستحبّ في أوّل كل عمل وقولٍ.
2-وتستحبّ في أوّل الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسّنن، من رواية أبي هريرة، وسعيد بن زيدٍ، وأبي سعيدٍ مرفوعًا:(لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه) . وهو حديثٌ حسنٌ. ومن العلماء من أوجبها عند الذّكر هاهنا، ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا.
3-وهكذا تستحبّ عند الأكل لما في صحيح مسلمٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة:(قل: باسم اللّه، وكل بيمينك، وكل ممّا يليك) ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه.
4-وكذلك تستحبّ عند الجماع لما في الصّحيحين، عن ابن عبّاسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:(لو أنّ أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم اللّه، اللّهمّ جنّبنا الشّيطان، وجنّب الشّيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولدٌ لم يضرّه الشّيطان أبدًا).
-خلاف النحويين في تقدير المتعلق بالباء في قولك: باسم اللّه، هل هو اسمٌ أو فعلٌ متقاربان وكلٌّ قد ورد به القرآن:
القول الأول:
من قدّره باسمٍ، تقديره: باسم اللّه ابتدائي، لقوله تعالى:(وقال اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفورٌ رحيمٌ)هود: 41.
القول الثاني : ومن قدّره بالفعل أمرًا وخبرًا نحو: أبدأ ببسم اللّه أو ابتدأت ببسم اللّه، فلقوله:(اقرأ باسم ربّك الّذي خلق) العلق: 1.
وكلاهما صحيحٌ، فإنّ الفعل لا بدّ له من مصدرٍ، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الّذي سمّيت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلًا أو شربًا أو قراءةً أو وضوءًا أو صلاةً، فالمشروع ذكر اسم اللّه في الشّروع في ذلك كلّه، تبرّكًا وتيمّنًا واستعانةً على الإتمام والتّقبّل، واللّه أعلم.
-هل الاسم هو المسمى أو غيره ؟ اختلف الناس في ذلك على أقوال:
أحدها: أنّ الاسم هو المسمّى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلّانيّ وابن فوركٍ.
القول الثاني : قول الحشويّة والكرّاميّة والأشعريّة: الاسم نفس المسمّى وغير التّسمية. قاله فخر الدّين الرّازيّ في مقدّمات تفسيره.
القول الثالث: وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمّى ونفس التّسمية.
والمختار عندنا: أنّ الاسم غير المسمّى وغير التّسمية.
ثمّ نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللّفظ الّذي هو أصواتٌ مقطّعةٌ وحروفٌ مؤلّفةٌ، فالعلم الضّروريّ حاصلٌ أنّه غير المسمّى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمّى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبثٌ، فثبت أنّ الخوض في هذا البحث على جميع التّقديرات يجري مجرى العبث.
معنى : (بسم الله) –ك , س -
بسم الله : أي ابتدئ بكل اسم لله تعالى ؛ لأن لفظ (اسم) مفرد مضاف فيعم جميع الأسماء الحسنى .
اللّه: -ك , س , ش-
علمٌ على الرّبّ تبارك وتعالى، يقال: إنّه الاسم الأعظم؛ لأنّه يوصف بجميع الصّفات , كما قال تعالى:(هو اللّه الّذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشّهادة هو الرّحمن الرّحيم …)الآية .
فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى:( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).
وفي الصّحيحين، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ للّه تسعةً وتسعين اسمًا، مائةٌ إلّا واحدًا من أحصاها دخل الجنّة»
وهو اسمٌ لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاقٌ من فعل ويفعل، فذهب من ذهب من النّحاة إلى أنّه اسمٌ جامدٌ لا اشتقاق له.
فالله هو المألوه المعبود المستحق للعبادة , لما اتصف به من صفات الأولهية وهي صفات الكمال.
وقد كان الإله يطلق على كل معبود , بحق أو باطل , ثم غلب على المعبود بحق سبحانه.
معنى : (الرّحمن الرّحيم) : -ك , س , ش -
قال ابن كثير رحمه الله : اسمان مشتقّان من الرّحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشدّ مبالغةً من رحيمٍ، وفي كلام ابن جريرٍ ما يفهم حكاية الاتّفاق على هذا، وفي تفسير بعض السّلف ما يدلّ على ذلك، كما تقدّم في الأثر، عن عيسى عليه السّلام، أنّه قال":والرّحمن رحمن الدّنيا والآخرة، والرّحيم رحيم الآخرة."
وقد زعم بعضهم أنّه غير مشتقٍّ إذ لو كان كذلك لاتّصل بذكر المرحوم وقد قال:(وكان بالمؤمنين رحيمًا)الأحزاب: 43.
وقال القرطبيّ: والدّليل على أنّه مشتقٌّ ما خرّجه التّرمذيّ وصحّحه عن عبد الرّحمن بن عوفٍ، أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: قال اللّه تعالى: "أنا الرّحمن خلقت الرّحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته": وهذا نصٌّ في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشّقاق.
قال أبو عليٍّ الفارسيّ: الرّحمن: اسمٌ عامٌّ في جميع أنواع الرّحمة يختصّ به اللّه تعالى، والرّحيم إنّما هو من جهة المؤمنين، قال اللّه تعالى(:وكان بالمؤمنين رحيمًا )لأحزاب: 43.
وقال ابن عبّاسٍ:"هما اسمان رقيقان، أحدهما أرقّ من الآخر, أي أكثر رحمة".
وقال ابن المبارك:"الرّحمن إذا سئل أعطى، والرّحيم إذا لمّ يسأل يغضب".
قالوا: ولهذا قال:(ثمّ استوى على العرش الرّحمن)الفرقان: 59 وقال:(الرّحمن على العرش استوى)طه: 5 فذكر الاستواء باسمه الرّحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال:(وكان بالمؤمنين رحيمًا)الأحزاب: 43 فخصّهم باسمه الرّحيم، قالوا: فدلّ على أنّ الرّحمن أشدّ مبالغةً في الرّحمة لعمومها في الدّارين لجميع خلقه، والرّحيم خاصّةٌ بالمؤمنين، لكن جاء في الدّعاء المأثور:"رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما".
قال السعدي رحمه الله : الرحمن الرحيم اسمان دالان على أنه ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شي , وعمّت كل حي , وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله , فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة , ومن عداهم فله نصيب منها . أ.هـ
واسمه تعالى الرّحمن خاصٌّ به لم يسم به غيره، كما قال تعالى:(قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرّحمن أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)
وقد زعم بعضهم أنّ الرّحيم أشدّ مبالغةً من الرّحمن –كما ذكر ذلك في زبدة التفسير-؛ لأنّه أكّد به، والتّأكيد لا يكون إلّا أقوى من المؤكّد، والجواب أنّ هذا ليس من باب التّوكيد، وإنّما هو من باب النّعت [بعد النّعت] ولا يلزم فيه ما ذكروه.
والحاصل: أنّ من أسمائه تعالى ما يسمّى به غيره، ومنها ما لا يسمّى به غيره، كاسم اللّه والرّحمن والخالق والرّزّاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم اللّه، ووصفه بالرّحمن؛ لأنّه أخصّ وأعرف من الرّحيم؛ لأنّ التّسمية أوّلًا إنّما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخصّ فالأخصّ.

هذا والله أعلم , وماحصل من زلل أو نقص فمن الشيطان وماكان من صواب فمن الله وحده , اسأل الله الإعانة والتوفيق , وبانتظار موافاتكم بالملاحظات بارك الله في الجميع.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19 شوال 1435هـ/15-08-2014م, 11:20 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
Post

تلخيص تفسير (الحمدلله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين )

1-أسماء سورة الفاتحة , وسبب تسميتها بذلك: -ك , ش –

1-الفاتحة، أي فاتحة الكتاب خطًّا، وبها تفتح القراءة في الصّلاة،وسميت بذلك لكونه افتتح بها القرآن , وقيل: إنّما سمّيت بذلك لرجوع معاني القرآن كلّه إلى ما تضمّنته.
2-أمّ الكتاب ، أم القرآن والسبع المثاني.
>< وكره أنسٌ، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين: «إنّما ذلك اللّوح المحفوظ»، وقال الحسن: «الآيات المحكمات: هنّ أمّ الكتاب»، ولذا كرها -أيضًا -أن يقال لها أمّ القرآن.
وقد ثبت في [الحديث] الصّحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الحمد للّه أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسّبع المثاني والقرآن العظيم».
3- الحمد
4- الصّلاة،
لقوله عليه السّلام عن ربّه:"قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد للّه ربّ العالمين، قال اللّه: حمدني عبدي" الحديث. فسمّيت الفاتحة: صلاةً؛ لأنّها شرطٌ فيها.
5- الشّفاء؛ لما رواه الدّارميّ عن أبي سعيدٍ مرفوعًا:"فاتحة الكتاب شفاءٌ من كلّ سمٍّ".
6- الرّقية؛ لحديث أبي سعيدٍ في الصّحيح حين رقى بها الرّجل السّليم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:"وما يدريك أنّها رقيةٌ؟"
7-وروى الشّعبيّ عن ابن عبّاسٍ أنّه سمّاها: أساس القرآن، قال: فأساسها {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم).
8-وسمّاها سفيان بن عيينة: الواقية.
9-وسمّاها يحيى بن أبي كثيرٍ: الكافية؛ لأنّها تكفي عمّا عداها ولا يكفي ما سواها عنها، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة:"أمّ القرآن عوضٌ من غيرها، وليس غيرها عوضًا عنها"..

2-هل سورة الفاتحة مكية أم مدنية ؟ - ك , ش -
القول الأول
: هي مكّيّةٌ، قاله ابن عبّاسٍ وقتادة وأبو العالية، لقوله تعالى:"ولقد آتيناك سبعًا من المثاني" الحجر: 87، وهو الأرجح.
[color="rgb(72, 61, 139)"] القول الثاني:[/color] وقيل مدنيّةٌ، قاله أبو هريرة ومجاهدٌ وعطاء بن يسارٍ والزّهريّ.
[color="rgb(72, 61, 139)"]القول الثالث[/color]: ويقال: نزلت مرّتين: مرّةً بمكّة، ومرّةً بالمدينة، واللّه أعلم
[color="rgb(72, 61, 139)"]القول الرابع:[/color]. وحكى أبو اللّيث السّمرقنديّ أنّ نصفها نزل بمكّة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريبٌ جدًّا، نقله القرطبيّ عنه.
[color="rgb(72, 61, 139)"]3-عدد آياتها : ك[/color]
وهي سبع آياتٍ بلا خلافٍ.
[color="rgb(72, 61, 139)"]4-فضائل سورة الفاتحة : -ك , ش -[/color]
1-عن أبي سعيد بن المعلّى، رضي اللّه عنه، قال: كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم أجبه حتّى صلّيت وأتيته، فقال:"ما منعك أن تأتيني؟" قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّي كنت أصلّي. قال:"ألم يقل اللّه:(يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا للّه وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال: 24"، [color="rgb(72, 61, 139)"]ثمّ قال:"لأعلّمنّك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" قال: فأخذ بيدي، فلمّا أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول اللّه إنّك قلت:"لأعلّمنّك أعظم سورةٍ في القرآن" قال:"نعم، الحمد للّه ربّ العالمين هي: السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته"[/color]
2-عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: كنّا في مسيرٍ لنا، فنزلنا، فجاءت جاريةٌ فقالت: إنّ سيّد الحيّ سليمٌ، وإنّ نفرنا غيّب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاةً، وسقانا لبنًا، فلمّا رجع قلنا له: أكنت تحسن رقيةً، أو كنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلّا بأمّ الكتاب، قلنا: لا تحدّثوا شيئًا حتّى نأتي، أو نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا قدمنا المدينة ذكرناه للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال[color="rgb(72, 61, 139)"]:"وما كان يدريه أنّها رقيةٌ، اقسموا واضربوا لي بسهمٍ"[/color]
3-، عن ابن عبّاسٍ، قال:"بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السّماء، فقال: هذا بابٌ قد فتح من السّماء، ما فتح قطّ. قال: فنزل منه ملكٌ، فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: [color="rgb(72, 61, 139)"]أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، ولن تقرأ حرفًا منهما إلّا أوتيته"[/color]. رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه وهذا لفظه.
4-عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال:[color="rgb(72, 61, 139)"]"من صلّى صلاةً لم يقرأ فيها أمّ القرآن فهي خدا[/color]ج -ثلاثًا- غير تمامٍ" فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك؛ فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:"قال اللّه عزّ وجلّ: [قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل]، فإذا قال العبد:(الحمد للّه ربّ العالمين(، قال اللّه: [حمدني عبدي]، وإذا قال:(الرّحمن الرّحيم)، قال اللّه: [أثنى عليّ عبدي]، فإذا قال:(مالك يوم الدّين), قال: [مجّدني عبدي] -وقال مرّةً: [فوّض إليّ عبدي]- فإذا قال:(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) , قال: [هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل]، فإذا قال:(اهدنا الصّراط المستقيم* صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) قال:[هذا لعبدي ولعبدي ما سأل]. رواه مسلم.
[color="rgb(72, 61, 139)"]
5-مسائل تخص سورة الفاتحة :[/color]
أ-دلت أدلة كثيرة على أنه لا بدّ من القراءة في الصّلاة، وهو اتّفاقٌ من العلماء.
[color="rgb(72, 61, 139)"]ولكن اختلفوا في مسألةٍ ....، وذلك أنّه هل يتعيّن للقراءة في الصّلاة فاتحة الكتاب، أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين:[/color]
[color="rgb(72, 61, 139)"]القول الأول[/color]: فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنّها لا تتعيّن، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصّلاة.
[color="rgb(72, 61, 139)"] واحتجّوا [/color]: بعموم قوله تعالى:"فاقرءوا ما تيسّر من القرآن"المزّمّل: 20.
وبما ثبت في الصّحيحين، من حديث أبي هريرة في قصّة المسيء صلاته أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال له:"إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن".
قالوا: فأمره بقراءة ما تيسّر، ولم يعيّن له الفاتحة ولا غيرها، فدلّ على ما قلناه.
[color="rgb(72, 61, 139)"]والقول الثّاني:[/color] أنّه تتعيّن قراءة الفاتحة في الصّلاة، ولا تجزئ الصّلاة بدونها، وهو قول بقيّة الأئمّة: مالكٌ والشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ وأصحابهم وجمهور العلماء. [color="rgb(72, 61, 139)"]–الراجح-
واحتجّوا على ذلك :[/color] بقوله صلوات اللّه وسلامه عليه:"من صلّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج". والخداج هو: النّاقص كما فسّر به في الحديث:" غير تمامٍ".
واحتجّوا -أيضًا-بما ثبت في الصّحيحين عن عبادة بن الصّامت، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبّان، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:"لا تجزئ صلاةٌ لا يقرأ فيها بأمّ القرآن".
والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك،رحمهم اللّه.
ب[color="rgb(72, 61, 139)"]-هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوالٍ للعلماء:[/color]
[color="rgb(72, 61, 139)"]أحدها: [/color]أنّه تجب عليه قراءتها، كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدّمة.
[color="rgb(72, 61, 139)"]والثّاني[/color]: لا تجب على المأموم قراءةٌ بالكلّيّة لا الفاتحة ولا غيرها، لا في الصّلاة الجهريّة ولا السّرّيّة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبلٍ في مسنده، عن جابر بن عبد اللّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال:"من كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءةٌ" ولكن في إسناده ضعفٌ. وقد روي هذا الحديث من طرقٍ، ولا يصحّ شيءٌ منها عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، واللّه أعلم.
[color="rgb(72, 61, 139)"]والقول الثّالث[/color]: أنّه تجب القراءة على المأموم في السّرّيّة، لما تقدّم، ولا تجب في الجهريّة لما ثبت في صحيح مسلمٍ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:" إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به؛ فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا"وذكر بقيّة الحديث.
وهكذا رواه أهل السّنن؛ أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال:"وإذا قرأ فأنصتوا:"وقد صحّحه مسلم بن الحجّاج أيضًا، فدلّ هذان الحديثان على صحّة هذا القول وهو قولٌ قديمٌ للشّافعيّ، رحمه اللّه، وروايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبل.
والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكامٍ لا تتعلّق بغيرها من السّور، واللّه أعلم.

([color="rgb(72, 61, 139)"]الحمدلله رب العالمين )
( الحمدلله )
معنى (الحمد للّه): -ك , س , ش-[/color]
الشّكر للّه خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كلّ ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النّعم الّتي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلّفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرّزق، وغذّاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاقٍ منهم ذلك عليه، ومع ما نبّههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدّية إلى دوام الخلود في دار المقام في النّعيم المقيم، فلربّنا الحمد على ذلك كلّه أوّلًا وآخرًا.
وقال ابن جريرٍ: "(الحمد للّه) ثناءٌ أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنّه قال: قولوا:(الحمد للّه) ".
قال ابن سعدي رحمه الله ط: الحمدلله : الثناء على الله بصفات الكمال وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل , فله الحمد الكامل بجميع الوجوه .
[color="rgb(72, 61, 139)"]-الفرق بين الحمد والشكر –ك , ش -:[/color]
الحمد : الثناء باللسان على الجميل الاختياري , ويكون باللسان فقط , يكون لكمال المحمود ولو في غير مقابلة النعمة .
الشكر : لا يكون إلا لمقابل نعمة , وهو باللسان والقلب والأعضاء.
الله : علمٌ على الرّبّ تبارك وتعالى، يقال: إنّه الاسم الأعظم؛ لأنّه يوصف بجميع الصّفات , كما قال تعالى:(هو اللّه الّذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشّهادة هو الرّحمن الرّحيم …(الآية .
فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى): ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها(.
وهو اسمٌ لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاقٌ من فعل ويفعل، فذهب من ذهب من النّحاة إلى أنّه اسمٌ جامدٌ لا اشتقاق له.
فالله هو المألوه المعبود المستحق للعبادة , لما اتصف به من صفات الأولهية وهي صفات الكمال.
[color="rgb(72, 61, 139)"]معنى (رب العالمين) : -ك , س , ش -[/color]
المالك المتصرّف فهو المربي جميع العالمين وهم من سوى الله بخلقه إياهم وبإعداده لهم الآلات , وبإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء , فما بهم من نعمة فمنه تعالى .
فالرب اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى , ولا يقال في غيره إلا مضافًا .
تربية ا[color="rgb(72, 61, 139)"]لله تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة :[/color]
فتربيته العامة : فهي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم بما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا .
وتربيته الخاصةُ: تربيَتُهُ لأوليائِهِ، فيربِّيهِم بالإيمانِ، ويوفِّقُهُمْ لَهُ، ويكمِّلُهُ لهمْ، ويدفعُ عنهمْ الصوارِفَ والعوائقَ الحائلةَ بينهُمْ وبينَهُ.
وحقيقتُهَا: تربيةُ التوفيقِ لكلِّ خيرٍ، والعصمةُ عَنْ كلِّ شرٍّ، ولعلَّ هذا [المعنَى] هوَ السرُّ في كونِ أكثرِ أدعيةِ الأنبياءِ بلفظِ الربِّ، فإنَّ مطالبَهمْ كلهَا داخلةٌ تَحتَ ربوبيتهِ الخاصةِ.
[color="rgb(72, 61, 139)"]والعالمين:[/color] جمع عالمٍ، [وهو كلّ موجودٍ سوى اللّه عزّ وجلّ]، والعالم جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات [في السّماوات والأرض] في البرّ والبحر، وكلّ قرنٍ منها وجيلٍ يسمّى عالمًا أيضًا.
وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالم عبارةٌ عمّا يعقل وهم الإنس والجنّ والملائكة والشّياطين ولا يقال للبهائم: عالمٌ.
وقال الزّجّاج: العالم كلّ ما خلق اللّه في الدّنيا والآخرة. قال القرطبيّ: وهذا هو الصّحيح أنّه شاملٌ لكلّ العالمين؛ كقوله:(قال فرعون وما ربّ العالمين * قال ربّ السّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)
والعالم مشتقٌّ من العلامة (قلت): لأنّه علمٌ دالٌّ على وجود خالقه وصانعه ووحدانيّته.
فدلَّ قولُه:(رَبِّ الْعَالَمِينَ) على انفرادِهِ بالخلقِ والتدبيرِ والنعمِ، وكمالِ غناهُ، وتمامِ فقرِ العالمينَ إليهِ، بكلِّ وجهٍ واعتبارٍ.
[color="rgb(72, 61, 139)"](الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[/color] قد تقدم تفسيرهما.
ولما كان في اتصافه برب العالمين ترهيب قرنه بالرحمن الرحيم ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته.
[color="rgb(72, 61, 139)"])مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[/color]) : -ك , ش -
قرئ: (مَلِك) و(مَالِك)، فـ(المَلِك) صفة لذاته، و(المالك) صفة لفعله.
ويقال: مليكٌ أيضًا، وأشبع نافعٌ كسرة الكاف فقرأ: "ملكي يوم الدّين" وقد رجّح كلًّا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى، وكلاهما صحيحةٌ حسنة
[color="rgb(72, 61, 139)"]معنى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّين) : -ك , س -[/color]
المالكُ: هوَ مَنِ اتصفَ بصفةِ المالكِ التي منْ آثارِهَا أنَّهُ يأمرُ وينهى، ويثيبُ ويعاقبُ، ويتصرفُ بمماليكِهِ بجميعِ أنواعِ التصرفاتِ، وتخصيص الملك بيوم الدّين لا ينفيه عمّا عداه، لأنّه قد تقدّم الإخبار بأنّه ربّ العالمين، وذلك عامٌّ في الدّنيا والآخرة، وإنّما أضيف إلى يوم الدّين لأنّه لا يدّعي أحدٌ هنالك شيئًا، ولا يتكلّم أحدٌ إلّا بإذنه، كما قال:(وم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا لا يتكلّمون إلا من أذن له الرّحمن وقال صوابًا) النّبأ: 38 وقال تعالى:(وخشعت الأصوات للرّحمن فلا تسمع إلا همسًا)طه: 108 وقال:(يوم يأت لا تكلّم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ)هودٍ: 105
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ:"(مالك يوم الدّين( يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معه حكمًا، كملكهم في الدّنيا"
قال:"ويوم الدّين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ وإنّ شرًّا فشرٌّ، إلّا من عفا عنه". وكذلك قال غيره من الصّحابة والتّابعين والسّلف، وهو ظاهرٌ.


هذا وماكان من خطأ فمن نفسي والشيطان , وماكان من صوابا فمن الله , وبانتظار الملاحظات , بارك الله في الجميع.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19 شوال 1435هـ/15-08-2014م, 12:18 PM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

((إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)) –ك , س , ش-
معنى العبادة :

العبادة في اللّغة من الذّلّة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبّد، أي: مذلّلٌ، وفي الشّرع: عبارةٌ عمّا يجمع كمال المحبّة والخضوع والخوف.
والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ من الأعمالِ والأقوالِ الظاهرةِ والباطنةِ.
معنى الاستعانة: هيَ الاعتمادُ على اللهِ تعالىَ في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ، معَ الثِّقةِ بهِ في تحصيلِ ذلكَ.
أي: نخصُّكَ وحدكَ بالعبادةِ والاستعانةِ؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يفيدُ الحصرَ، وهوَ إثباتُ الحكمِ للمذكورِ ونفيهُ عما عداهُ، فكأنَّهُ يقولُ: نعبدكَ، ولا نعبدُ غَيركَ، ونستعينُ بكَ، ولا نستعينُ بغيركَ.
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ:"(إيّاك نعبد) يعني: إيّاك نوحّد ونخاف ونرجو يا ربّنا لا غيرك (وإيّاك نستعين) على طاعتك وعلى أمورنا كلّها".
وقال قتادة:"(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم".
-فائدة تقديم المفعول (إياك) : ك
وقدّم المفعول وهو )إيّاك(، وكرّر؛ للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلّا إيّاك، ولا نتوكّل إلّا عليك، وهذا هو كمال الطّاعة.
-أهمية العبادة والاستعانة: -ك , س -
قال ابن كثير رحمه الله : والدّين يرجع كلّه إلى هذين المعنيين , وهذا كما قال بعض السّلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة:(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)فالأوّل تبرّؤٌ من الشّرك، والثّاني تبرّؤٌ من الحول والقوة، والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ.
قال ابن سعدي رحمه الله : والقيامُ بعبادةِ اللهِ والاستعانةِ بهِ هوَ الوسيلةُ للسعادةِ الأبديةِ، والنجاةِ منْ جميعِ الشرورِ، فلا سبيلَ إلى النجاةِ إلاَّ بالقيامِ بهمَا، وإنَّما تكونُ العبادةُ عبادةً إذا كانَتْ مأخوذةً عنْ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مقصوداً بها وجهُ اللهِ، فبهذينِ الأمرينِ تكونُ عبادةً.
وتقديم العبادةِ على الاستعانةِ منْ بابِ تقديمِ العامِّ على الخاصِّ، واهتماماً بتقديمِ حقِّهِ تعالى على حقِّ عبدِهِ.
-وذكرُ )الاستعانة( بعدَ )العبادةِ(معَ دخولِهَا فيهَا، لاحتياجِ العبدِ في جميعِ عباداتهِ إلى الاستعانةِ باللهِ تعالى، فإنَّهُ إنْ لم يعنهُ اللهُ لم يحصلْ لهُ ما يريدهُ منْ فعلِ الأوامرِ واجتنابِ النواهي.
-فائدة تحوّل الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب: هو مناسبةٌ، لأنّه لمّا أثنى على اللّه فكأنّه اقترب وحضر بين يدي اللّه تعالى؛ فلهذا قال:(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين( وفي هذا دليلٌ على أنّ أوّل السّورة خبرٌ من اللّه تعالى بالثّناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك؛ ولهذا لا تصحّ صلاة من لم يقل ذلك، وهو قادرٌ عليه، كما جاء في الصّحيحين، عن عبادة بن الصّامت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
-معنى النون في قوله : (إياك نعبد ) :
قال الأشقر رحمه الله : والمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس.
وروى ابن كثير عدة أقوال في هذا الموضع :
القول الأول: أنّ المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلّي فردٌ منهم، ولا سيّما إن كان في جماعةٍ أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة الّتي خلقوا لأجلها، وتوسّط لهم بخيرٍ،
القول الثاني: يجوز أن تكون للتّعظيم، كأنّ العبد قيل له: إذا كنت في العبادة فأنت شريفٌ وجاهك عريضٌ فقل:(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين).
القول الثالث: ألطف في التّواضع من إيّاك أعبد، لما في الثّاني من تعظيمه نفسه من جعله نفسه وحده أهلًا لعبادة اللّه تعالى الّذي لا يستطيع أحدٌ أن يعبده حقّ عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقامٌ عظيمٌ يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب اللّه تعالى.

هذا وماكان من خطأ فمن نفسي والشيطان وماكان من صواب فمن الله وحده ..

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 شوال 1435هـ/16-08-2014م, 11:33 PM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
Post

(اهدنا الصراط المستقيم )
القراءات في الصراط:
-ك-
قراءة الجمهور بالصّادّ. وقرئ: "السّراط" وقرئ بالزّاي، قال الفرّاء: وهي لغة بني عذرة وبلقين وبني كلب.
علاقة الآية بما قبلها : -ك-
لما تقدم الثناء على المسؤول، تبارك وتعالى، ناسب أن يعقّب بالسّؤال؛ كما قال: [فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل] وهذا أكمل أحوال السّائل، أن يمدح مسؤوله، ثمّ يسأل حاجته [وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: {اهدنا}]، لأنّه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد اللّه تعالى إليه لأنّه الأكمل.
معنى الهداية في الآية: -ك , س , ش -
الإرشاد والتّوفيق، وقد تعدّى الهداية بنفسها كما هنا {اهدنا الصّراط المستقيم} فتضمّن معنى ألهمنا، أو وفّقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا.
والصراط المستقيم : هوَ الطريقُ الواضحُ الموصلُ إلى اللهِ وإلى جنتِهِ، وهو معرفةُ الحقِّ والعملُ بهِ. -س-
اختلفت عبارات المفسّرين من السّلف والخلف في تفسير الصّراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيءٍ واحدٍ، وهو المتابعة للّه وللرّسول: -ك-
فروي أنه :

1-كتاب الله عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الصّراط المستقيم كتاب اللّه». وكذلك رواه ابن جريرٍ، وقد روي هذا موقوفًا عن عليٍّ، وهو أشبه، واللّه أعلم.
2- الإسلام : وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «قال جبريل لمحمّدٍ، عليهما السّلام: قل: يا محمّد، {اهدنا الصّراط المستقيم}. يقول: اهدنا الطّريق الهادي، وهو دين اللّه الّذي لا عوج فيه»..
3-الحق: وقال مجاهدٌ: {اهدنا الصّراط المستقيم}، قال: «الحقّ». وهذا أشمل، ولا منافاة بينه وبين ما تقدّم.
فاهدِنَا إلى الصراطِ واهدِنَا في الصراطِ، فالهدايةُ إلى الصراطِ: لزومُ دينِ الإسلامِ، وتركُ ما سواهُ منَ الأديانِ، والهدايةُ في الصراطِ تشملُ الهدايةَ لجميعِ التفاصيلِ الدينيّةِ علماً وعملاً.-س-
وكلّ هذه الأقوال صحيحةٌ، وهي متلازمةٌ، فإنّ من اتّبع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، واقتدى باللّذين من بعده أبي بكرٍ وعمر، فقد اتّبع الحقّ، ومن اتّبع الحقّ فقد اتّبع الإسلام، ومن اتّبع الإسلام فقد اتّبع القرآن، وهو كتاب اللّه وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحةٌ يصدّق بعضها بعضًا، وللّه الحمد.
وهذا الدعاءُ منْ أجمعِ الأدعيةِ وأنفعِها للعبدِ، ولهذا وجبَ على الإنسانِ أنْ يدعوَ اللهَ بهِ في كلِّ ركعةٍ من صلاتِهِ، لضرورتِهِ إلى ذلكَ. .
فإن قيل: كيف يسأل المؤمن الهداية في كلّ وقتٍ من صلاةٍ وغيرها، وهو متّصفٌ بذلك؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟ -ك-
فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلًا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده اللّه إلى ذلك؛ فإنّ العبد مفتقرٌ في كلّ ساعةٍ وحالةٍ إلى اللّه تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصّره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإنّ العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلّا ما شاء اللّه، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كلّ وقتٍ أن يمدّه بالمعونة والثّبات والتّوفيق، فالسّعيد من وفّقه اللّه تعالى لسؤاله؛ فإنّه تعالى قد تكفّل بإجابة الدّاعي إذا دعاه، ولا سيّما المضطرّ المحتاج المفتقر إليه آناء اللّيل وأطراف النّهار، وقد قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل} الآية [النّساء: 136]، فقد أمر الّذين آمنوا بالإيمان، وليس في ذلك تحصيل الحاصل؛ لأنّ المراد الثّبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، واللّه أعلم.
وقال تعالى آمرًا لعباده المؤمنين أن يقولوا: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب} وقد كان الصدّيق رضي اللّه عنه يقرأ بهذه الآية في الرّكعة الثّالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرًّا. فمعنى قوله تعالى: {اهدنا الصّراط المستقيم} استمرّ بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره.
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) : -ك,س,ش-
هم المذكورون في سورة النساء، حيث قال:(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً).
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «صراط الّذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصّدّيقين، والشّهداء، والصّالحين؛ وذلك نظير ما قال ربّنا تعالى: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم} الآية [النّساء: 69]».
وقوله تعالى:(غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين)
القراءات : ك

قرأ الجمهور: "غير" بالجرّ على النّعت، قال الزّمخشريّ: وقرئ بالنّصب على الحال، وهي قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعمر بن الخطّاب، ورويت عن ابن كثيرٍ، وذو الحال الضّمير في(عليهم) والعامل:(أنعمت )والمعنى: اهدنا الصّراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم ممّن تقدّم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطّاعة للّه ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره.
(غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) -ك , س, ش-
غير صراط المغضوب عليهم، وهم الّذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه فاستحقوا غضب الله .
ولا صراط الضّالّين وهم الّذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضّلالة لا يهتدون إلى الحقّ جهلا فكانوا على ضلال مبين ، وأكد الكلام بلا ليدلّ على أنّ ثمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنّصارى.
وقال الضّحّاك، وابن جريج، عن ابن عبّاسٍ:(غير المغضوب عليهم) اليهود،(ولا الضالين)هم النّصارى.

هذا وماكان من صواب فمن الله وحده , وماكان من خطأ فمن نفسسي والشيطان , والله أسأل التوفيق والمعونة والسداد , وبانتظار الملاحظات على التلخيص أحسن الله إليكم.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 شوال 1435هـ/17-08-2014م, 12:21 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
Lightbulb

وقفات مع سورة الفاتحة : -ك-
-يستحبّ لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين [مثل: يس]، ويقال: أمين. بالقصر أيضًا [مثل: يمينٍ]، ومعناه:
اللّهمّ استجب، والدّليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والتّرمذيّ، عن وائل بن حجرٍ، قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ: {غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين} فقال: «آمين»، مدّ بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته، وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ. وروي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ وغيرهم.
قال أصحابنا وغيرهم: ويستحبّ ذلك لمن هو خارج الصّلاة، ويتأكّد في حقّ المصلّي، وسواءٌ كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا، وفي جميع الأحوال، لما جاء في الصّحيحين، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدّم من ذنبه».
وفي صحيح مسلمٍ عن أبي موسى مرفوعًا: «إذا قال -يعني الإمام-: {ولا الضّالّين}، فقولوا: آمين. يجبكم اللّه».
-هذهِ السورةُ على إيجازِها، قدِ احتوتْ على ما لم تحتوِ عليهِ سورةٌ منْ سورِ القرآنِ، فتضمَّنَتْ أنواعَ التوحيدِ الثلاثةَ: -س-
- توحيدُ الربوبيةِ،يؤخذُ مِنْ قولِهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
- وتوحيدُ الإلهيةِ، وهوَ إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، يُؤخذُ مِنْ لفظِ: (الله) ومِنْ قولِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
- وتوحيدُ الأسماءِ والصفاتِ، وهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ للهِ تعالى، التي أثبتَها لنفسِهِ، وأثبتَها لهُ رسولُهُ منْ غيرِ تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ، وقدْ دلَّ على ذلكَ لفظُ {الْحَمْدُ} كما تقدمَ.
- وتضمنتْ إثباتَ النبوَّةِ في قولِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنَّ ذلكَ ممتنعٌ بدونِ الرسالةِ.
- وإثباتَ الجزاءِ على الأعمالِ في قولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكونُ بالعدلِ؛ لأنَّ الدينَ معناهُ الجزاءُ بالعدلِ.
-وتضمنتْ إثباتَ القدرِ، وأنَّ العبدَ فاعلٌ حقيقةً، خلافاً للقدريةِ والجبريةِ.
بلْ تضمنتِ الردَّ على جميعِ أهلِ البِدعِ [والضلالِ] في قولِهِ:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنَّهُ معرفةُ الحقِّ والعملُ بهِ، وكلُّ مبتدعٍ [وضالٍّ] فهوَ مخالفٌ لذلِكَ.
- وتضمنتْ إخلاصَ الدينِ للهِ تعالى عبادةً واستعانةً في قولِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 27 شوال 1435هـ/23-08-2014م, 12:46 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

اسم السورة , ومكان نزولها:
سورة النّبأ , وقيل: سورة عمّ. وهي مكّيّةٌ

تفسير قوله: (عمّ يتسائلون) :
سبب نزول (عم يتسائلون) : -ك -

(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ):لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ والبَعثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَلا عَلَيْهِم الْقُرْآنَ - جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ، يَقُولُونَ: مَاذَا حَصَلَ لِمُحَمَّدٍ؟ وَمَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: -ك , س , ش -
عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً؟ ثمَّ بَيَّنَ ما يتساءلونَ عنهُ بِقَوْلِهِ:(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ).
الخلاف في معنى (عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون ) :
قال ابن كثير : عن أيّ شيءٍ يتساءلون؟ عن أمر القيامة، وهو النّبأ العظيم. يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر, وقال به ابن سعدي رحمه الله .
قال قتادة وابن زيدٍ: النّبأ العظيم: البعث بعد الموت
. وقال مجاهدٌ: هو القرآن ووافقه الأشقر فقال : هُوَ الْخَبَرُ الهائِلُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لأَنَّهُ يُنْبِئُ عَن التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَوُقُوعِ الْبَعْثِ والنُّشورِ.
. والأظهر الأوّل؛ لقوله:(الّذي هم فيه مختلفون) يعني: النّاس فيه على قولين؛ مؤمنٌ به وكافرٌ, وقال بعدها :( كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) أي: سيعلمونَ إذا نزلَ بهمُ العذابُ ما كانوا بهِ يكذبونَ، حين يُدَعُّون إلى نارِ جهنمَ دعّاً، ويقالُ لهمْ:(هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
وفسر الأشقر الآيات التالية حسب قوله في تفسير (النبأ العظيم) فقال:
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ؛ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ سِحْراً، وَبَعْضُهُمْ شِعْراً، وَبَعْضُهُمْ كَهَانَةً، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
(كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) أَيْ: لا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي شأنِ الْقُرْآنِ، فَهُوَ حَقٌّ، وَلِذَا سَيَعْلَمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ.
-مسائل لغوية :
-سبب تكرار (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ): -ش-

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ):رَدْعٌ لَهُمْ وَزَجْرٌ، ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ، فَقَالَ: (ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي التأكيدِ والتشديدِ فِي الوعيدِ.
-ثمّ شرع تعالى يبيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدّالّة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره وعلى صدق ما أخبرت به الرسل :
فقال:(ألم نجعل الأرض مهاداً)

المِهَادُ:الوِطَاءُ وَالْفِرَاشُ، كالمَهْدِ للصَّبِيِّ، وَهُوَ مَا يُمَهَّدُ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ. –ش-
أي: ممهّدةً للخلائق ذلولاً لهم قارّةً ساكنةً ثابتةً,فهي مهيَّأةً لهمْ ولمصالحهمْ، منَ الحروثِ والمساكنِ والسبلِ. –ك , س –
(والجبال أوتاداً): -ك , س , ش -
أي: جعلها أوتاداً أرساها بها وثبّتها وقرّرها؛ حتّى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً): -ك , س , ش -
أي: ذكوراً وإناثاً من جنسٍ واحدٍ، ليسكنَ كلٌّ منهما إلى الآخرِ، فتكونَ المودةُ والرحمةُ، وتنشأَ عنهما الذريةُ، وفي ضمنِ هذا الامتنانُ بلذةِ المنكحِ ,كقوله:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمةً)الروم: 21.
وقوله:(وجعلنا نومكم سباتاً) –ك , س , ش -
أي: قطعاً للحركة؛ لتحصل الرّاحة من كثرة التّرداد والسّعي في المعاش في عرض النّهار، وقد تقدّم مثل هذه الآية في سورة الفرقان.
(وجعلنا اللّيل لباساً): أَيْ: نُلْبِسُكُمْ ظُلْمَتَهُ وَنُغَشِّيكُمْ بِهَا كَمَا يُغَشِّيكُمُ اللِّبَاسُ. –ش-
(وجعلنا اللّيل لباساً): أي: يغشى النّاس ظلامه وسواده كما قال:(واللّيل إذا يغشاها) –ك-
وقال قتادة في قوله:(وجعلنا اللّيل لباساً) أي: سكناً.
وقوله:(وجعلنا النّهار معاشاً): –ك , ش-
أي: جعلناه مشرقاً منيراً مضيئاً؛ ليتمكّن النّاس من التّصرّف فيه والذّهاب والمجيء للمعاش وَمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وغير ذلك.
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً): -ك , س , ش -
أي: سبعَ سمواتٍ، في غايةِ القوةِ، والصلابةِ والشدةِ، وقد أمسكها اللهُ بقدرتهِ، وجعلها سقفاً للأرضِ، فيها عدةُ منافعَ لهمْ وزينها بالكواكب الثّوابت والسّيّارات.
ولهذا ذكرَ من منافعها الشمس، فقالَ:(وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً) نبَّه بالسراجِ على النعمةِ بنورِها، الذي صارَ كالضرورةِ للخلقِ وبالوهاجِ الذي فيه الحرارةُ على حرارتهِا وما فيها منَ المصالحِ , والوَهَجُ يَجْمَعُ النُّورَ والحرارةَ.
وقوله:(وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجّاجاً):
المُعْصِرَاتُ: هِيَ السَّحابُ الَّتِي تَنْعَصِرُ بالماءِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ، والثَّجَّاجُ: المُنْصَبُّ بِكَثْرَةٍ.
-أقوال السلف في معنى (من المعصرات ماء ثجاجًا ) :
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: المعصرات: الرّيح.
وكذا قال عكرمة ومجاهدٌ وقتادة ومقاتلٌ والكلبيّ وزيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن: إنّها الرّياح. ومعنى هذا القول: أنّها تستدرّ المطر من السّحاب.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ:(من المعصرات) أي: من السّحاب. وكذا قال عكرمة أيضاً وأبو العالية والضّحّاك والحسن والرّبيع بن أنسٍ والثّوريّ، واختاره ابن جريرٍ.
وقال الفرّاء: هي السّحاب التي تتحلّب بالمطر ولم تمطر بعد، كما يقال: مرأةٌ معصرٌ إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن وقتادة:(من المعصرات) يعني: السّماوات، وهذا قولٌ غريبٌ.
والأظهر أنّ المراد بالمعصرات السّحاب كما قال تعالى:(اللّه الّذي يرسل الرّياح فتثير سحاباً فيبسطه في السّماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله) أي: من بينه.
وقوله:(ماءً ثجّاجاً): -ك-

قال مجاهدٌ وقتادة والرّبيع بن أنسٍ:(ثجّاجاً):منصبًّا.
وقال الثّوريّ: متتابعاً. وقال ابن زيدٍ: كثيراً.
قال ابن جريرٍ: ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثّجّ، وإنّما الثّجّ: الصّبّ المتتابع، ومنه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:(أفضل الحجّ العجّ والثّجّ) يعني: صبّ دماء البدن. هكذا قال.
قال ابن كثير : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :(أنعت لك الكرسف) يعني: أن تحتشي بالقطن؛ فقالت: يا رسول اللّه هو أكثر من ذلك، إنّما أثجّ ثجًّا. وهذا فيه دلالةٌ على استعمال الثّجّ في الصّبّ المتتابع الكثير، واللّه أعلم.
وقوله:(لنخرج به حبًّا ونباتاً وجنّاتٍ ألفافاً) –ك , س, ش -
أي: لنخرج بهذا الماء الكثير الطّيّب النّافع المبارك(حبًّا) يدّخر للأناسيّ والأنعام، (ونباتاً) أي: خضراً يؤكل رطباً.
(وجنّاتٍ) أي: بساتين وحدائق من ثمراتٍ متنوّعةٍ وألوانٍ مختلفةٍ وطعومٍ وروائح متفاوتةٍ، وإن كان ذلك في بقعةٍ واحدةٍ من الأرض مجتمعاً، ولهذا قال:(وجنّاتٍ ألفافاً).
قال ابن عبّاسٍ وغيره:(ألفافاً) مجتمعةً، وهذه كقوله تعالى:(وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وجنّاتٌ من أعنابٍ وزرعٍ ونخيلٍ صنوانٌ وغير صنوانٍ يسقى بماءٍ واحدٍ ونفضّل بعضها على بعضٍ في الأكل) الآية.
فالذي أنعمَ عليكمْ بهذه النعم العظيمة، التي لا يقدَّرُ قدرهَا، ولا يحصى عدُّها، كيفَ تكفرونَ بهِ وتكذِّبونَ ما أخبركمْ به منَ البعثِ والنشورِ؟ أمْ كيفَ تستعينونَ بنعمهِ على معاصيهِ وتجحدونَها؟

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا )17.
{إن يوم الفصل كان ميقاتا} يقول تعالى مخبراً عن يوم الفصل، وهو يوم القيامة أنّه مؤقّتٌ بأجلٍ معدودٍ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على التّعيين إلاّ اللّه عزّ وجلّ كما قال:(وما نؤخّره إلاّ لأجلٍ معدودٍ) –ك-
وَسُمِّيَ يَوْمَ الْفَصْلِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ خَلْقِهِ . –ش-
تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا )18.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: وَهُوَ القَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ.
قال البخاريّ : عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:(ما بين النّفختين أربعون) قالوا: أربعون يوماً؟ قال:"أبيت" قالوا: أربعون شهراً؟ قال:"أبيت" قالوا: أربعون سنةً؟ قال:"أبيت" قال : ثمّ ينزل اللّه من السّماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيءٌ إلاّ يبلى إلاّ عظماً واحداً، وهو عجب الذّنب، ومنه يركّب الخلق يوم القيامة)
فَتَأْتُون:إِلَى مَوْضِعِ العَرْضِ.
أَفْوَاجاً: أَيْ: زُمَراً زُمَراً وَجَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ. ش
قال مجاهدٌ: زمراً. قال ابن جريرٍ: يعني: تأتي كلّ أمّةٍ مع رسولها؛ كقوله:(يوم ندعو كلّ أناسٍ بإمامهم)
تفسير قوله تعالى: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا )19 –ك , ش-
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ: لِنُزُولِ الْمَلائِكَةِ.
فكانت أبواباً: أي: طرقاً ومسالك لنزول الملائكة.
تفسير قوله تعالى: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا )20. –ك , ش -
أَيْ: سُيِّرَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقُلِعَتْ عَنْ مَقَارِّهَا، فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، يَظُنُّ الناظرُ أَنَّهَا سَرَابٌ , وبعد هذا تذهب بالكلّيّة فلا عين ولا أثر، كما قال:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً). وقال:(ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة)

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) 21. – ك, ش-
أَيْ: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ مَوْضِعَ رَصْدٍ يَرْصُدُ فِيهِ خَزَنَةُ النَّارِ الْكُفَّارَ؛ لِيُعَذِّبُوهُمْ فِيهَا، أَوْ هِيَ فِي نَفْسِهَا مُتَطَلِّعَةٌ لِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهَا مِن الْكُفَّارِ كَمَا يَتَطَلَّعُ الراصدُ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِ وَيَأْتِي إِلَيْهِ.
قال الحسن وقتادة في قوله:(إنّ جهنّم كانت مرصاداً) يعني: أنّه لا يدخل أحدٌ الجنّة حتّى يجتاز بالنّار، فإن كان معه جوازٌ نجا، وإلاّ احتبس.
وقال سفيان الثّوريّ: عليها ثلاث قناطر.

تفسير قوله تعالى: (لِلطَّاغِينَ مَآَبًا )22. –ك, ش-
(للطّاغين) وهم المردة العصاة المخالفون للرّسل،(مآباً)أي: مرجعاً ومنقلباً ومصيراً ونزلاً , والمآب , المرجع .
تفسير قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا )23
أي: ماكثين فيها أحقاباً، وهي جمع حقبٍ، وهو: المدّة من الزّمان، وقد اختلفوا في مقداره، فمنهم من قال الحقب : ثمانين سنة وهو الأقرب , ومنهم من قال سبعين سنة , ومنهم من قال الحقب أربعين سنة , والأقرب والله أعلم وهو قول جمهور المفسرين أن الحقب ثمانين سنة , وقال سعيدٌ، عن قتادة: قال اللّه تعالى:(لابثين فيها أحقاباً) وهو ما لا انقطاع له، وكلّما مضى حقبٌ جاء حقبٌ بعده، وذكر لنا أنّ الحقب ثمانون سنةً. .
والصّحيح أنّها لا انقضاء لها كما قال قتادة والرّبيع بن أنسٍ.
قالَ الأشقر: (لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً)؛ أَيْ: مَاكِثِينَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ الدُّهُورُ. وَالْحُقْبُ: القِطْعَةُ الطويلةُ من الزَّمانِ، إِذَا مَضَى حُقْبٌ دَخَلَ آخَرُ، ثُمَّ آخَرُ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الأَبَدِ.

تفسير قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) 24
أي: لا يجدون في جهنّم برداً لقلوبهم ولا شراباً طيّباً يتغذّون به.
ولهذا قال:"إلاّ حميماً وغسّاقاً". قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم، ومن الشّراب الغسّاق. وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ
قال ابن جريرٍ: وقيل: المراد بقوله:(لا يذوقون فيها برداً) يعني: النّوم، يعني بالبرد النّعاس والنّوم، هكذا ذكره ولم يعزه إلى أحدٍ.
تفسير قوله تعالى: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا )25. –ك , س , ش -
فأمّا الحميم فهو الحارّ الذي قد انتهى حرّه وحموّه، والغسّاق هو ما اجتمع من صديد أهل النّار وعرقهم ودموعهم وجروحهم،، الذي هوَ في غايةِ النتنِ، وكراهةِ المذاقِ، وإنَّما استحقُّوا هذهِ العقوباتِ الفظيعةَ جزاءً لهم ووفاقاً على ما عملوا منَ الأعمالِ الموصلةِ إليهمْ، لمْ يظلمْهُمُ اللهُ، ولكن ظلمُوا أنفسَهمْ، ولهذا ذكرَ أعمالَهم، التي استحقوا بها هذا الجزاءَ، فقالَ:(إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً), فهو باردٌ لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه.
قال السعدي والأشقر : الحميم : ماءً حارّاً، يشوي وجوههم، ويقطعُ أمعاءهُمْ.
وإنَّما استحقُّوا هذهِ العقوباتِ الفظيعةَ جزاءً لهم ووفاقاً على ما عملوا منَ الأعمالِ الموصلةِ إليهمْ، لمْ يظلمْهُمُ اللهُ، ولكن ظلمُوا أنفسَهمْ، ولهذا ذكرَ أعمالَهم، التي استحقوا بها هذا الجزاءَ، فقالَ:(إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً)
تفسير قوله تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا )26. –ك , س , ش-
أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدّنيا. قاله مجاهدٌ وقتادة وغير واحدٍ
(جَزَاءً وِفَاقا): وَافَقَ الْعَذَابُ الذَّنْبَ، فَلا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ، وَلا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ سَيِّئَةً، فَآتَاهُمُ اللَّهُ بِمَا يَسُوؤُهُمْ.
تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا )27.
أي: لم يكونوا يعتقدون أنّ ثمّ داراً يجازون فيها ويحاسبون , قَدْ كَانُوا لا يَطْمَعُونَ فِي ثَوَابٍ وَلا يَخَافُونَ منْ حِسَابٍ لأنهم لا يؤمنونَ بالبعثِ، ولا أنَّ اللهَ يجازي الخلقَ بالخيرِ والشرِّ، فلذلكَ أهملوا العملَ للآخرةِ.
تفسير قوله تعالى: (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا )28 –ك , س , ش -
أي: وكانوا يكذّبون بحجج اللّه ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله، فيقابلونها بالتّكذيب والمعاندة.
وقوله:كذّاباً : تكذيباً واضحاً صريحاً شديدًا وجاءتهمُ البيناتُ فعاندوهَا.
تفسير قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا )29. –ك , س , ش -
(وَكُلُّ شَيْءٍ): من قليلٍ وكثيرٍ، وخيرٍ وشرٍّ .
(أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً) أي: كتبناهُ في اللَّوحِ المحفوظِ لِتَعْرِفَهُ الْمَلائِكَةُ، فلا يخشى المجرمونَ أنَّا عذبناهُم بذنوبٍ لم يعملوهَا، ولا يحسبوا أنَّه يضيعُ منْ أعمالِهِم شيء، أو ينسى منها مثقالُ ذرةٍ.
كمَا قالَ تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَتَبَهُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
تفسير قوله تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا )30.
(فَذُوقُوا): أيها المكذِّبونَ هذا العذابَ الأليمَ والخزيَ الدائمَ.
أي: يقال لأهل النّار ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلاّ عذاباً من جنسه وكلَّ وقتٍ وحينٍ يزدادُ عذابهمْ ، (وآخر من شكله أزواجٌ).
يُقَالُ لَهُمْ هَذَا؛ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالآياتِ وَقَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ؛ أَيْ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَبَداً .
قال قتادة، عن أبي أيّوب الأزديّ، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: لم ينزل على أهل النّار آيةٌ أشدّ من هذه:(فذوقوا فلن نزيدكم إلاّ عذاباً). قال فهم في مزيدٍ من العذاب أبداً.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 27 شوال 1435هـ/23-08-2014م, 01:40 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا )31.
لما ذكرَ حالَ المجرمينَ، ذكرَ مآلَ المتقينَ فيقول تعالى مخبراً عن السّعداء وما أعدّ لهم تعالى من الكرامة والنّعيم المقيم؛ فقال:(إنّ للمتّقين مفازاً)
أي: الذينَ اتقوا سخطَ ربهمْ، بالتمسكِ بطاعتهِ، والانكفافِ عمَّا يكرهه فلهمْ مفازٌ ومنجى، وبُعدٌ عن النارِ، وفي ذلكَ المفازِ لهمْ.
الْمَفَازُ: الفَوْزُ والظَّفَرُ بالمطلوبِ والنجاةُ من النَّارِ.
قال ابن عبّاسٍ والضّحّاك: متنزّهاً. وقال مجاهدٌ وقتادة: فازوا فنجوا من النّار.
والأظهر ههنا قول ابن عبّاسٍ؛ لأنّه قال بعده:(وحدائق).
تفسير قوله تعالى: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا )32. –ك , س -

حدائق:وهيَ البساتينُ الجامعةُ لأصنافِ الأشجارِ الزاهيةِ والنخيل وغيرها، في الثمارِ التي تتفجرُ بينَ خلالها الأنهار، وخصَّ الأعنابَ لشرفهِ وكثرتهِ في تلكَ الحدائق
تفسير قوله تعالى: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا )33. –ك , س , ش -
أي: وحوراً كواعب، قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وغير واحدٍ.
أي:نواهد، يعنون أن ثديّهنّ نواهد لم يتدلّين؛ لأنّهنّ أبكارٌ عربٌ أترابٌ، أي: في سنٍّ واحدٍ متقاربٍ، ومنْ عادةِ الأترابِ أنْ يكنَّ متآلفاتٍ متعاشراتٍ، وذلك السنُّ الذي هنَّ فيهِ ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً، في أعدلِ سنِّ الشباب.

تفسير قوله تعالى: (وَكَأْسًا دِهَاقًا )34. -ك, س , ش -
قال ابن عبّاسٍ: مملوءةً متتابعةً، وقال عكرمة: صافيةً.
وقال مجاهدٌ والحسن وقتادة وابن زيدٍ: دهاقاً: الملأى المترعة.
فهي مملوءةً منْ رحيقٍ، لذةٍ للشاربينَ. وقيل مملوءة بالخمر.
تفسير قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا)35. –ك , س ,ش -
أي: ليس فيها كلامٌ لاغٍ عارٍ عن الفائدة، ولا إثمٌ كذبٌ، بل هي دار السّلام، وكلّ كلامٍ فيها سالمٌ من النّقص.
تفسير قوله تعالى: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) 36. -ك , س , ش-
. أي: هذا الذي ذكرناه جازاهم اللّه به وأعطاهموه بفضله ومنّه وإحسانه ورحمته، (عطاءً حساباً) أي: كافياً وافراً شاملاً كثيراً، تقول العرب: أعطاني فأحسبني أي: كفاني، ومنه: حسبي اللّه. أي: اللّه كافيّ.
قوإنَّما أعطاهُمُ اللهُ هذا الثوابَ الجزيلَ منْ فضلِهِ وإحسانهِ بسببِ أعمالهمُ التي وفقهمُ اللهُ لهَا، وجعلهَا ثمناً لجنتهِ ونعيمهَا

تفسير قوله تعالى: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا )37. -ك , س , ش -
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنّه ربّ السّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنّه الرّحمن الّذي شملت رحمته كلّ شيءٍ ، فربَّاهمْ ورحمهمْ، ولطفَ بهم، حتَّى أدركوا ما أدركوا.
وقوله:(لا يملكون منه خطاباً) أي: لا يقدر أحدٌ على ابتداء مخاطبته إلاّ بإذنه؛ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْأَلُوا إِلاَّ فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ ,كقوله:(من ذا الّذي يشفع عنده إلاّ بإذنه) وكقوله:(يوم يأت لا تكلّم نفسٌ إلاّ بإذنه ).

تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا )38. -ك, س , ش -
ثم ذكرَ عظمتهُ وملكهُ العظيم يومَ القيامةِ، وأنَّ جميعَ الخلقِ كلهُمْ ذَلكَ اليوم ساكتون لا يتكلمونَ إلا بإذنَ اللهُ لهُ في الكلامِ؛ لأنَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ هوَ الْحَقُّ الذي لا يروجُ فيهِ الباطلُ، ولا ينفعُ فيهِ الكذبُ.
اختلف المفسّرون في المراد بالرّوح ههنا ما هو؟ على أقوالٍ:
أحدها: ما رواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: أنّهم أرواح بني آدم.
الثّاني: هم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة، وقال قتادة: هذا ممّا كان ابن عبّاسٍ يكتمه.
الثّالث:أنّهم خلقٌ من خلق اللّه على صور بني آدم، وليسوا بملائكةٍ ولابشرٍ، وهم يأكلون ويشربون، قاله ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وأبو صالحٍ والأعمش.
الرّابع:هو جبريل، قاله الشّعبيّ وسعيد بن جبيرٍ والضّحّاك، ويستشهد لهذا القول بقوله:(نزل به الرّوح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين).
وقال مقاتل بن حيّان: الرّوح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرّبّ عزّ وجلّ، وصاحب الوحي.
والخامس:أنّه القرآن، قاله ابن زيدٍ، كقوله:(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا..) الآية.
والسّادس: أنّه ملكٌ من الملائكة بقدر جميع المخلوقات، قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله:(يوم يقوم الرّوح) قال: هو ملكٌ عظيمٌ من أعظم الملائكة خلقاً.
وَقِيلَ: هُمْ أراوحُ بَنِي آدَمَ تَقُومُ صَفًّا، وتقومُ الْمَلائِكَةُ صَفًّا، وَذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى الأَجْسَامِ
. وتوقّف ابن جريرٍ فلم يقطع بواحدٍ من هذه الأقوال كلّها، والأشبه واللّه أعلم أنّهم بنو آدم.
وقوله:(إلاّ من أذن له الرّحمن) كقوله:(لا تكلّم نفسٌ إلاّ بإذنه) وكما ثبت في الصّحيح: "ولا يتكلّم يومئذٍ إلاّ الرّسل".
وقوله:(وقال صواباً) أي: حقًّا، ومن الحقّ: لا إله إلاّ اللّه، كما قاله أبو صالحٍ وعكرمة.

تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) ) - ك, س , ش-
وقوله :(ذلك اليوم الحقّ) أي: الكائن لا محالة , ذلك اليوم الذي لا يروجُ فيهِ الباطلُ، ولا ينفعُ فيهِ الكذبُ.
فلما رغَّبَ ورهَّبَ، وبشَّرَ وأنذرَ قال :(فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً) أي: مرجعاً يرْجِعُ إِلَيْهِ بالعملِ الصالح وطريقاً يهتدي إليه، ومنهجاً يمرّ به عليه .

تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا )40. -ك, س , ش-
وقوله:(إنّا أنذرناكم عذاباً قريبا) يعني: يوم القيامة لتأكّد وقوعه صار قريباً؛ لأنّ كلّ ما هو آتٍ آتٍ .
(يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه). أي: يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرّها، قديمها وحديثها؛ فإنْ وجدَ خيراً فليحمدِ اللهَ، وإنْ وجدَ غيرَ ذلكَ فلا يلومنَّ إلا نفسهُ، ولهذَا كانَ الكفارُ يتمنونَ الموتَ منْ شدةِ الحسرةِ والندمِ.
(ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً) أي: يودّ الكافر يومئذٍ أنّه كان في الدّار الدّنيا تراباً، ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود، وذلك حين عاين عذاب اللّه ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السّفرة الكرام البررة، وقيل: إنّما يودّ ذلك حين يحكم اللّه بين الحيوانات الّتي كانت في الدّنيا، فيفصل بينها بحكمه العدل الّذي لا يجور، حتّى إنّه ليقتصّ للشّاة الجمّاء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً. فتصير تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: {يا ليتني كنت تراباً}. أي: كنت حيواناً فأرجع إلى التّراب. لِمَا يُشَاهِدُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ أنواعِ العذاب , وقد ورد معنى هذا في حديث الصّور المشهور، وورد فيه آثارٌ عن أبي هريرة وعبد اللّه بن عمرٍو وغيرهما.
نسألُ اللهَ أنْ يعافينا مِنَ الكفرِ والشرِّ كلِّهِ، إنَّهُ جوادٌ كريمٌ.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 1 ذو القعدة 1435هـ/26-08-2014م, 02:06 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي تفسير سورة النازعات

-اسم السورة ومكان نزولها :
تفسير سورة النازعات , وهي مكية
وتسمى سورة الساهرة , قاله الأشقر .

-تفسير قوله تعالى: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا )1. –ك , س , ش-
-الأقوال في معنى (النازعات )
قال ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ وغيرهم :(والنّازعات غرقاً): الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسرٍ فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولةٍ وكأنّما حلّته من نشاطٍ، وهو قوله:(والنّاشطات نشطاً).
قاله ابن عبّاسٍ، وعن ابن عبّاسٍ:(والنّازعات) هي أنفس الكفّار تنزع، ثمّ تنشط، ثمّ تغرق في النّار. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال مجاهدٌ:(والنّازعات غرقاً) الموت.
وقال الحسن وقتادة:(والنّازعات غرقاً (1) والنّاشطات نشطاً)هي النّجوم.
وقال عطاء بن أبي رباحٍ : هي القسيّ في القتال. والصّحيح الأوّل، وعليه الأكثرون
قال ابن سعدي رحمه الله : هذهِ الإقساماتُ بالملائكةِ الكرامِ، وأفعالِهمْ الدالةُ على كمالِ انقيادهمْ لأمرِ اللهِ وإسراعِهمْ في تنفيذِ أمرهِ:
-الخلاف في المقسم عليه:
-يحتملُ أنَّ المقسمَ عليه، الجزاءُ والبعثُ، بدليلِ الإتيانِ بأحوالِ القيامةِ بعدَ ذلكَ.
-ويحتملُ أنَّ المقسم عليهِ والمقسمَ بهِ متحدانِ،وأنَّه أقسمَ على الملائكةِ؛ لأنَّ الإيمانَ بهمْ أحدُ أركانِ الإيمانِ الستةِ، ولأنَّ في ذكِر أفعالهِمْ هنَا ما يتضمنُ الجزاءَ الذي تتولاهُ الملائكةُ عندَ الموتِ وقبلَه وبعدَه، فقالَ:(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً(وهمُ الملائكةُ التي تنزعُ الأرواحَ بقوةٍ، وتغرقُ في نزعِها من الأعماق حتى تخرجَ الروحُ، فتجازى بعملهَا.
تفسير قوله تعالى: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) 2. –ك , س , ش-
وهمْ الملائكةُ أيضاً، تجتَذبُ الأرواحَ بقوةٍ ونشاطٍ.
أَيْ: تَنْشِطُ النُّفُوسَ؛أَيْ: تُخْرِجُهَا من الأجسادِ جَذْباً بِقُوَّةٍ، والنَّشْطُ: الجَذْبُ بِسُرْعَةٍ، وَقِيلَ: النَّاشِطَاتُ لأرواحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنَّازِعَاتُ لأَرْوَاحِ الْكَافِرِينَ.

-تفسير قوله تعالى: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا )3

فقال ابن مسعودٍ: هي الملائكة، وروي عن عليٍّ ومجاهدٍ وسعيد بن جبيرٍ وأبي صالحٍ مثل ذلك.
وعن مجاهدٍ:(والسّابحات سبحاً) الموت. وقال قتادة: هي النّجوم.
وقال عطاء بن أبي رباحٍ: هي السّفن.
قال ابن سعدي : وَالسَّابِحَاتِ أي: المتردداتِ في الهواءِ صعوداً ونزولاً سَبْحاً
قال الأشقر: وَالسَّابِحَاتِ:الْمَلائِكَةُ يَنْزِلُونَ مِن السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ لأمرِ اللَّهِ.
تفسير قوله تعالى: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا )4. –ك, س , ش-
-الأقوال في معنى (السابقات):
روي عن عليٍّ ومسروقٍ ومجاهدٍ وأبي صالحٍ والحسن البصريّ: يعني الملائكة، قاله الحسن، سبقت إلى الإيمان والتّصديق به.
وعن مجاهدٍ: الموت.
وقال قتادة: هي النّجوم.
وقال عطاءٌ: هي الخيل في سبيل اللّه.
قال ابن سعدي: فَالسَّابِقَاتِ} لغيرهَا {سَبْقاً فتبادرُ لأمرِ اللهِ، وتسبقُ الشياطينَ في إيصالِ الوحيِ إلى رسلِ اللهِ حتى لا تسترقَهُ.
قال الأشقر: فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً : هِيَ الْمَلائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.

-تفسير قوله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا )5. –ك , س, ش-
قال عليٌّ ومجاهدٌ وعطاءٌ وأبو صالحٍ والحسن وقتادة والرّبيع بن أنسٍ والسّدّيّ: هي الملائكة.
زاد الحسن: تدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض. يعني: بأمر ربّها عزّ وجلّ. ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جريرٍ بالمراد في شيءٍ من ذلك، إلاّ أنّه حكى في:(المدبّرات أمراً) أنّها الملائكة ولا أثبت ولا نفى.
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً) الملائكةُ الذينَ وكَّلهم اللهُ أن يدبروا كثيراً منْ أمور العالمِ العلويِّ والسفليِّ، منَ الأمطارِ، والنباتِ، والأشجارِ، والرياحِ، والبحارِ، والأجنحةِ، والحيواناتِ، والجنةِ، والنارِ وغيرِ قِيلَ: وَتَدْبِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ: جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وعَزْرَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ.فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَمُوَكَّلٌ بالرِّياحِ والجنودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بالقَطْرِ والنباتِ، وَأَمَّا عَزْرَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ الأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرافيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بالأَمْرِ عَلَيْهِمْ.

-تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تتبعها الرادفة)6,7. –ك, س, ش-
قال ابن عبّاسٍ: هما النّفختان الأولى والثّانية. وهكذا قال مجاهدٌ والحسن وقتادة والضّحّاك وغير واحدٍ.
وعن مجاهدٍ أمّا الأولى: وهي قوله(يوم ترجف الرّاجفة), فقوله جلّت عظمته:(يوم ترجف الأرض والجبال) والثّانية: وهي الرّادفة، فهي كقوله:(وحملت الأرض والجبال فدكّتا دكّةً واحدةً)
وقد قال الإمام أحمد: عن الطّفيل بن أبيّ بن كعبٍ عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلّم:(جاءت الرّاجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه) فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، أرأيت إن جعلت صلاتي كلّها عليك؟ قال:(إذن يكفيك اللّه ما أهمّك من دنياك وآخرتك)
قال ابن سعدي: تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ:وهيَ قيامُ الساعةِ.
قالَ الأَشْقَرُ :(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ):وَهِيَ النَّفْخَةُ الأُولَى الَّتِي يَمُوتُ بِهَا جَمِيعُ الخلائق.
(تتبعها الرَّادِفَةُ( الرَّادِفَةُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَكُونُ عِنْدَهَا الْبَعْثُ.

-تفسير قوله تعالى: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ )8. –ك , س , ش-
قال ابن عبّاسٍ: يعني: خائفةٌ. وكذا قال مجاهدٌ وقتادة.
أي: موجفةٌ ومنزعجةٌ فهي مُضْطَرِبَةُ قَلِقَةُ؛ لِمَا عَايَنَتْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ.
تفسير قوله تعالى: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَة) 9. –ك, س , ش-
أي: أبصار أصحابها، وإنّما أضيف إليها للملابسة، أي: ذليلةٌ حقيرةٌ قد ملكَ قلوبهَم الخوفُ، وأذهلَ أفئدتهَمُ الفزعُ، وغلَبَ عليهمُ التأسفُ واستولتْ عليهمُ الحسرةُ ممّا عاينت من الأهوال
، يُرِيدُ أَبْصَارَ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ.

-تفسير قوله تعالى: (يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ )10. -ك,س , ش-
يعني مشركي قريشٍ ومن قال بقولهم في إنكار المعاد، يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى(الحافرة): وهي القبور - قاله مجاهدٌ - وبعد تمزّق أجسادهم وتفتّت عظامهم ونخورها.
إِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تُبْعَثُونَ.أَيْ: أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا وَابْتِدَاءِ أَمْرِنَا، فَنَصِيرَ أَحْيَاءً بَعْدَ مَوْتِنَا، وَبَعْدَ كَوْنِنَا فِي حُفَرِ الْقُبُورِ؟

-تفسير قوله تعالى: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً )11 .- س, ش-
أَيْ: أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً بَالِيَةً نُرَدُّ وَنُبْعَثُ مَعَ كَوْنِهَا أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ؟

-تفسير قوله تعالى: (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ )12. –ك, س , ش -

فاستبعدوا أنْ يبعثَهمُ اللهُ ويعيدَهمْ بعدمَا كانوا عظاماً نخرةً، جهلاً منهم بقدرةِ اللهِ، وتجرُّؤَاً عليهِ.
قال محمّد بن كعبٍ: قالت قريشٌ: لئن أحيانا اللّه بعد أن نموت لنخسرنّ.
أي: إِنْ رُدِدْنَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَنَخْسَرَنَّ بِمَا يُصِيبُنَا مِمَّا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ

-تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ )13. -ك, س , ش-
أي: فإنّما هو أمرٌ من اللّه لا مثنويّة فيه ولا تأكيد، فإذا النّاس قيامٌ ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيل فينفخ في الصّور نفخة البعث، فإذا الأوّلون والآخرون قيامٌ بين يدي الرّبّ عزّ وجلّ ينظرون، كما قال:(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنّون إن لبثتم إلاّ قليلاً).
قال إبراهيم التّيميّ: أشدّ ما يكون الرّبّ غضباً على خلقه يوم يبعثهم.
صيحة واحدة يُنفخُ فيهَا في الصورِ، فإذَا الخلائقُ كلُّهم , والْمَعْنَى: لا تَسْتَبْعِدُوا ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَكُونُ الْبَعْثُ بِهَا.

-تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ )14. –ك , س , ش-
قال ابن عبّاسٍ:(السّاهرة)الأرض كلّها، وكذا قال سعيد بن جبيرٍ وقتادة وأبو صالحٍ.
وقال عكرمة والحسن والضّحّاك وابن زيدٍ: السّاهرة: على وجه الأرض , ، قيامٌ ينظرونَ، فيجمعهمُ اللهُ ويقضي بينهمْ بحكمِه العدلِ ويجازيهم.
وقال الرّبيع بن أنسٍ:(فإذا هم بالسّاهرة): يقول اللّه عزّ وجلّ:(يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات وبرزوا للّه الواحد القهّار) ويقول:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً).
قِيلَ: السَّاهِرَةُ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيُحَاسِبُ عَلَيْهَا الخلائقَ.

-تفسير قوله تعالى: (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) -ك ، س ، ش -
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}يخبر تعالى رسوله محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم عن عبده ورسوله موسى عليه السّلام، أنّه ابتعثه إلى فرعون وأيّده بالمعجزات، ومع هذا استمرّ على كفره وطغيانه حتّى أخذه اللّه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، وكذلك عاقبة من خالفك وكذّب بما جئت به، ولهذا قال في آخر القصّة: {إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى}.
فقوله: {هل أتاك حديث موسى}. أي: هل سمعت بخبره؟).
وهذَا الاستفهامُ عنْ أمرٍ عظيمٍ متحققٍ وقوعهُ، أي: هلْ أتاكَ حديثهُ
أَيْ: قَدْ جَاءَكَ وَبَلَغَكَ مِنْ قَصَصِ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى مَا يُعْرَفُ بِهِ حَدِيثُهُمَا.

-تفسير قوله تعالى: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) ) -ك ، س ، ش -
{إذ ناداه ربّه} أي: كلّمه نداءً، {بالواد المقدّس}. أي: المطهّر، {طوًى}: وهو اسم الوادي على الصّحيح ، وهوَ المحلُّ الذي كلَّمَهُ اللهُ فيهِ، وامتنّ عليهِ بالرسالةِ، واختصَّهُ بالوحيِ والاجتباءِ فقالَ لهُ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}.

-تفسير قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) ) -ك ، س ، ش -
{ إنّه طغى}. أي: تجبّر وتمرّد وعتا ، فجَاوَزَ الْحَدَّ فِي العِصْيانِ والتكَبُّرِ وَالْكُفْرِ بِاللَّه .
أي: فانههُ عن طغيانهِ وشركهِ وعصيانهِ بقولٍ ليِّنٍ، وخطابٍ لطيفٍ، لعلَّهُ {يتذكرُ أو يخشَى}).

-تفسير قوله تعالى: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) ) -ك ، س ، ش -
أي: قل له: هل لك أن تجيب إلى طريقةٍ ومسلكٍ تزّكّى به؟ أي: تسلم وتطيع ، فتزكي نفسك باتباع موسى وترك الشرك.

-تفسير قوله تعالى: (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) ) -ك ، س ، ش -
{وأهديك إلى ربّك}. أي: أدلّك إلى عبادة ربّك وأبين لك مواقع رضاه من مواقع سخطه.
{فتخشى}. أي: فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً بعدما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير ، وَالخَشْيَةُ لا تَكُونُ إِلاَّ مِنْ مُهْتَدٍ رَاشِد ، فامتنعَ فرعونُ مما دعاهُ إليهِ موسى.

- تفسير قوله تعالى: (فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) ) -ك ، س ، ش -
{فأراه الآية الكبرى}. يعني: فأظهر له موسى مع هذه الدّعوة الحقّ حجّةً قويّةً ودليلاً واضحاً على صدق ما جاء به من عند اللّه).
(فأراه الآية الكبرى) أي جنس الآيات فلا يمنع تعددها ، وقيل هي العصا ، وقيل هي يده.

-تفسير قوله تعالى: (فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ) -ك ، س ، ش -
{فكذّب وعصى}. أي: فكذّب بالحقّ وخالف ما أمره به من الطّاعة، وحاصله أنّه كفر قلبه، فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمه بأنّ ما جاء به أنّه حقٌّ لا يلزم منه أنّه مؤمنٌ به؛ لأنّ المعرفة علم القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحقّ والخضوع له.

-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) ) -ك ، س ، ش -
{ثُمَّ أَدْبَرَ}؛ أَيْ: تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَن الإِيمَانِ، {يَسْعَى}؛ أَيْ: يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْتَهِدُ فِي مُعَارَضَةِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى ، ومن ذلك جمعه السحره.

-تفسير قوله تعالى: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) ) -ك ، س ، ش -
{فَحَشَرَ}؛ أَيْ: فَجَمَعَ جُنُودَهُ للقتالِ والمُحاربةِ، أَوْ جَمَعَ السَّحَرَةَ للمُعارضةِ، أَوْ جَمَعَ النَّاسَ للحُضورِ لِيُشَاهِدُوا مَا يَقَعُ).

-تفسير قوله تعالى: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ) -ك ، س ، ش -
. قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله:{ما علمت لكم من إلهٍ غيري}. بأربعين سنةً).
{فَقَالَ} لهمْ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فأذْعنوا لهُ، وأقرُّوا بباطلهِ حينَ استخفَّهُم.

-تفسير قوله تعالى: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) ) -ك ، س ، ش -
أي: انتقم اللّه منه انتقاماً جعله به عبرةً ونكالاً لأمثاله من المتمرّدين في الدّنيا، {ويوم القيامة بئس الرّفد المرفود}. كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون}.
هذا هو الصّحيح في معنى الآية، أنّ المراد بقوله: {نكال الآخرة والأولى}. أي: الدّنيا والآخرة ، فصارتْ عقوبَتُهُ دليلاً وزاجراً، ومبينةً لعقوبةِ الدنيا والآخرةِ .
أي أَخَذَهُ اللَّهُ فَنَكَّلَهُ نَكَالَ الآخِرَةِ؛ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَنَكَالَ الأُولَى؛ وَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا بالغَرَقِ؛ لِيَتَّعِظَ بِهِ مَنْ يَسْمَعُ خَبَرَهُ
وقيل: المراد بذلك كلمتاه الأولى والثّانية.
وقيل: كفره وعصيانه، والصّحيح الذي لا شكّ فيه الأوّل.

-تفسير قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) ) -ك ، س ، ش -
أي: لمن يتّعظ وينزجر ، ففِيمَا ذُكِرَ مِنْ قِصَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَا فُعِلَ بِهِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَتَّقِيَهُ.

-تفسير قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) ) -ك ، س ، ش -
يقولُ تعالى مبيِّناً دليلاً واضحاً لمنكري البعثِ ومستبعدي إعادةِ اللهِ للأجسادِ: {أأنتم} أيّها النّاس، {أشدّ خلقاً أم السّماء}. ذاتُ الجرْمِ العظيم، والخلقِ القوي، والارتفاعِ الباهِر يعني: بل السّماء أشدّ خلقاً منكم، كما قال تعالى: {لخلق السّماوات والأرض أكبر من خلق النّاس}. وقال: {أوليس الّذي خلق السّماوات والأرض بقادرٍ على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم}.
فقوله: {بناها}. فسّره بقوله: {رفع سمكها فسوّاها}
أَيْ: أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْثُكُمْ أَشَدُّ عِنْدَكُمْ وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ؟ لأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ الَّتِي لَهَا هَذَا الجِرْمُ الْعَظِيمُ، وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وبدائعِ القُدْرةِ مَا هُوَ بَيِّنٌ للنَّاظِرِينَ، كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إعادةِ الأَجْسَامِ الَّتِي أَمَاتَهَا بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟

-تفسير قوله تعالى: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) ) -ك ، س ، ش -
{رفع سمكها فسوّاها} أي: جعلها عالية البناء بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء لا تَفَاوُتَ فِيهَا وَلا اعْوِجَاجَ، وَلا فُطُورَ وَلا شُقُوقَ, مكلّلةً بالكواكب في الليلة الظّلماء.


تفسير قوله تعالى: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) ) -ك ، س ، ش -
أي: جعل ليلها مظلماً أسود حالكاً، ونهارها مضيئاً مشرقاً نيّراً واضحاً.
قال ابن عبّاسٍ: {أغطش ليلها}: أظلمه. وكذا قال مجاهدٌ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ وجماعةٌ كثيرون.
{وأخرج ضحاها}. أي: أظهرَ فيهِ النورَ العظيمَ، حينَ أتى بالشمسِ، فامتدَّ النَّاسُ في مصالحِ دينهِمْ ودنياهمْ

-تفسير قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) ) -ك ، س ، ش -
{والأرض بعد ذلك دحاها}. فسّره بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها}.
قال ابن كثير رحمه الله :وقد تقدّم في سورة (حم السجدة) أنّ الأرض خلقت قبل خلق السّماء، ولكن إنّما دحيت بعد خلق السّماء بمعنى أنّه أخرج ما كان فيها بالقوّة إلى الفعل، وهذا معنى قول ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ، واختاره ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن ابن عبّاسٍ: {دحاها}. ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقّق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال والرّمال والسّبل والآكام، فذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها}.
{دَحَاهَا}أي: بسطها وأودعَ فيها منافعهَا.

-تفسير قوله تعالى: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) ) –ش-
أَيْ: فَجَّرَ مِنَ الأَرْضِ الأنهارَ والبِحارَ والعُيونَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مَرْعَاهَا؛ أَي: النَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى.

-تفسير قوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) ) -ك ، س ، ش -
أي: قرّرها وأثبتها وأكّدها في أماكنها، فجَعَلَهَا كالأوتادِ للأرضِ؛ لِئَلاَّ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا ,وهو الحكيم العليم الرّؤوف بخلقه الرّحيم.
قال الإمام أحمد: عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (لمّا خلق اللّه الأرض جعلت تميد؛ فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت، فتعجّب الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الحديد؟ قال: نعم، النّار. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من النّار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الماء؟ قال: نعم، الرّيح. قالت: يا ربّ، فهل منخلقك شيءٌ أشدّ من الرّيح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدّق بيمينه يخفيها من شماله).

-تفسير قوله تعالى: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) ) –ك-
أي: دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبّت جبالها لتستقرّ بأهلها ويقرّ قرارها، كلّ ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدّة احتياجهم إليها في هذه الدّار إلى أن ينتهي الأمد، وينقضي الأجل.

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 1 ذو القعدة 1435هـ/26-08-2014م, 02:45 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) ) –ك, س , ش-
الطامة الكبرى:يوم القيامة، قال ابن عبّاسٍ: سمّيت بذلك؛ لأنّها تطمّ على كلّ أمرٍ هائلٍ مفظعٍ، كما قال تعالى: {والسّاعة أدهى وأمرّ}.
قال الأشقر: الدَّاهيةُ الْعُظْمَى الَّتِي تَطُمُّ عَلَى سَائِرِ الطَّامَّاتِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تُسْلِمُ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ.
أي: إذا جاءتِ القيامةُ الكبرى، والشدةُ العظمى، التي تهونُ عندَها كلُّ شدةٍ، فحينئذٍ يذهلُ الوالدُ عن ولدهِ، والصاحبُ عن صاحبه [وكلُّ محبٍّ عنْ حبيبهِ].

-تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) ) –ك, س , ش-
أي: حينئذٍ يتذكّر ابن آدم جميع عمله؛ خيره وشرّه، كما قال: {يومئذٍ يتذكّر الإنسان وأنّى له الذّكرى}فيتمنى زيادةَ مثقالِ ذرةٍ في حسناتهِ، ويغمّه ويحزنُ لزيادةِ مثقالِ ذرةٍ في سيئاتهِ.
ويعلمُ إذ ذاكَ أنَّ مادَّةَ ربحِهِ وخسرانهِ ما سعاهُ في الدنيا، وينقطعُ كلُّ سببٍ وصلةٍ كانتْ في الدنيا، سوى الأعمالِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) ) –ك, س , ش-
أي: أظهرت للنّاظرين فرآها النّاس عياناً ,قدْ برزتْ لأهلِهَا، واستعدتْ لأخذِهمْ، منتظرةً لأمرِ ربِّها.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يُكْشَفُ عَنْهَا الغِطاءُ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَعْرِفُ بِرُؤْيَتِهَا قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بالسلامةِ مِنْهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَزْدَادُ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِ.

-تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) ) –ك, س , ش-
أي: تمرّد وعتا و جاوزَ الحدَّ بأَنْ تجرَّأَ علَى المعاصي الكبارِ، ولمْ يقتصرْ علَى ما حدَّهُ اللهُ

-تفسير قوله تعالى: (وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) ) –ك, س , ش-
أي: قدّم الدنيا على أمر دينه وأخراه , فصارَ سعيُهُ لهَا، ووقتُهُ مستغرقاً في حظوظِهَا وشهواتِها، ونسيَ الآخرةَ وتركَ العملَ لهَا.

-تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) ) –ك, س , ش-
أي: فإنّ مصيره إلى الجحيم، وإنّ مطعمه من الزّقّوم، ومشربه من الحميم.

-تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) ) –ك, س , ش-
أي: خاف القيام بين يدي اللّه عزّ وجلّ وخاف حكم اللّه فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردّها إلى طاعة مولاها.

-تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ) –ك, س , ش-
أي: منقلبه ومصيره ومرجعه الَّذِي يَنْزِلُهُ، والمكانُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ، إلى الجنّة الفيحاء
لا غَيْرُهَا.

-تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) ) –ك, س , ش-
{يَسْأَلُونَكَ} أي: يسألُكَ المتعنتونَ المكذبونَ بالبعثِ {عَنِ السَّاعَةِ} متَى وقوعهَا؟ و{أَيَّانَ مُرْسَاهَا} كَرُسُوِّ السَّفِينَةِ ؟

-تفسير قوله تعالى: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) ) –ك, س , ش-
أي: ما الفائدةُ لكَ ولهمْ في ذكرهَا ومعرفةِ وقتِ مجيئِها؟ فليسَ تحتَ ذلكَ نتيجةٌ، ولهذا لمَّا كانَ علمُ العبادِ للساعةِ ليسَ لهمْ فيهِ مصلحةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بلِ المصلحةُ في خفائِهِ عليهمْ، طوَى علمَ ذلكَ عنْ جميعِ الخلقِ، واستأثرَ بعلمهِ فقالَ: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} فهو الذي يعلم وقتها على التّعيين، {ثقلت في السّماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتةً يسألونك كأنّك حفيٌّ عنها قل إنّما علمها عند اللّه}.
ولهذا لمّا سأل جبريل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن وقت السّاعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السّائل).

-تفسير قوله تعالى: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) ) –ك, س , ش-
أي: إليهِ ينتهي علمُهَا، فَلا يُوجَدُ عِلْمُهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا وَيَطْلُبُونَ مِنْكَ بَيَانَ وَقْتِ قِيَامِهَا؟ كمَا قالَ في الآيةِ الأخرى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}).

-تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) ) –ك, س , ش-
أي: إنّما بعثتك لتنذر النّاس وتحذّرهم من بأس اللّه وعذابه، فمن خشي اللّه وخاف مقامه ووعيده اتّبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذّبك وخالفك.


-تفسير قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) ) –ك, س , ش-
أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدّة الحياة الدّنيا، حتى كأنّها عندهم كانت عشيّةً من يومٍ أو ضحًى من يومٍ.
عن ابن عبّاسٍ: {كأنّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشيّةً أو ضحاها}. أمّا عشيّةٌ فما بين الظّهر إلى غروب الشّمس،{أو ضحاها}ما بين طلوع الشّمس إلى نصف النّهار.
وقال قتادة: دقّت الدّنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
وَالْمُرَادُ: تَقْلِيلُ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي نُفُوسِهِمْ إِذَا رَأَوْا أهوالَ الْقِيَامَةِ.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 1 ذو القعدة 1435هـ/26-08-2014م, 05:24 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي تفسير سورة عبس

تفسير سورة عبس
أسماء السورة ومكان نزولها:

سورة عبس , وهي مكية.

سبب نزول السورة
قال ابن كثير رحمه الله
:ذكر غير واحدٍ من المفسّرين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريشٍ، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أمّ مكتومٍ، وكان ممّن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ ويلحّ عليه، وودّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن لو كفّ ساعته تلك؛ ليتمكّن من مخاطبة ذلك الرّجل طمعاً ورغبة ًفي هدايته، وعبس في وجه ابن أمّ مكتومٍ وأعرض عنه وأقبل على الآخر؛ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {عبس وتولّى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعلّه يزّكّى}
عن عائشة قالت: أنزلت: {عبس وتولّى} في ابن أمّ مكتومٍ الأعمى، أتى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجعل يقول: أرشدني. قالت: وعند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلٌ من عظماء المشركين. قالت: فجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: ((أترى بما أقول بأساً؟)). فيقول: لا. ففي هذا أنزلت: {عبس وتولّى}.
وقد روى التّرمذيّ هذا الحديث عن سعيد بن يحيى الأمويّ بإسناده مثله.

-تفسير قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) ) –ك , س , ش -
أَيْ: كَلَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ وَأَعْرَضَ في بدنهِ؛ لأجلِ مجيءالأعمَى لهُ.

-تفسير قوله تعالى: (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) ) –ك , س , ش -
أَيْ: لأَنه جَاءَهُ الأَعْمَى وهو ابن أم مكتوم رضي الله عنه.

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) ) –ك , س , ش -
ثم ذكرَ الفائدةَ في الإقبالِ عليهِ، فقال:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ}أي:الأعمى{يَزَّكَّى}أي: يتطهرُ عن الأخلاقِ الرذيلةِ، ويتصفُ بالأخلاقِ الجميلةِ ويَتَطَهَّرُ مِنَ الذُّنوبِ بالعملِ الصالحِ؛ بِسَبَبِ مَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ.

-تفسير قوله تعالى: (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) ) –ك , س , ش -
أي: يتذكرُ ما ينفعُهُ، فيعملُ بتلكَ الذكرَى.
وهذهِ فائدةٌ كبيرةٌ، هيَ المقصودةُ منْ بعثةِ الرسلِ، ووعظِ الوعَّاظِ، وتذكيرِ المذكِّرينَ، فإقبالكَ على مَنْ جاءَ بنفسهِ مفتقراً لذلكَ منكَ، هوَ الأليقُ الواجبُ، وأمَّا تصديكَ وتعرضكَ للغنيِّ المستغني الذي لا يسألُ ولا يستفتي لعدَم رغبتهِ في الخير، معَ تركِكَ مَنْ هوَ أهمُّ منهُ فإنَّهُ لا ينبغي لكَ، فإنَّهُ ليسَ عليكَ أنْ لا يزكَّى، فلو لمْ يتزكَّ، فلستَ بمحاسبٍ على مَا عملهُ مِنَ الشرِّ.
فدلَّ هذا على القاعدةِ المشهورةِ، أنَّهُ: (لا يتركُ أمرٌ معلومٌ لأمرٍ موهومٍ، ولا مصلحةٌ متحققةٌ لمصلحةٍ متوهمةٍ) وأنَّهُ ينبغي الإقبالُ على طالبِ العلمِ، المفتقرِ إليهِ، الحريصِ عليهِ أزيدَ منْ غيرِهِ.

-تفسير قوله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) ) –ك , ش-
أَيْ: كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيمَانِ وَعَمَّا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ

-تفسير قوله تعالى: (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) ) –ك , ش-
أَيْ: تُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَحَدِيثِكَ لعله يهتدي، وَهُوَ يُظْهِرُ الاستغناءَ عَنْكَ وَالإِعْرَاضَ عَمَّا جِئْتَ بِهِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) ) –ك , ش-
أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي أَلاَّ يُسْلِمَ وَلا يَهْتَدِيَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ، فَلا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ مَنْ كَانَ هكذا مِنَ الْكُفَّارِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) ) –ك , س , ش -
أَيْ: وَصَلَ إِلَيْكَ مُسْرِعاً فِي المَجِيءِ إِلَيْكَ, طَالِباً مِنْكَ أَنْ تُرْشِدَهُ إِلَى الْخَيْرِ وَتَعِظَهُ بِمَوَاعِظِ اللَّهِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ يَخْشَى (9) ) –ك , س , ش -
أَيْ: يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى.

-تفسير قوله تعالى: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) ) –ك , س , ش -
أي: تتشاغل وَتُعْرِضُ وَتَتَغَافَلُ ، ومن ههنا أمر اللّه عزّ وجلّ رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا يخصّ بالإنذار أحداً، بل يساوي فيه بين الشّريف والضّعيف، والفقير والغنيّ، والسّادة والعبيد، والرّجال والنّساء، والصّغار والكبار، ثمّ اللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، وله الحكمة البالغة والحجّة الدّامغة.

-تفسير قوله تعالى :( كلا إنها تذكرة (11)) –ك , س , ش -
{كَلاَّ}: لا تَفْعَلْ بَعْدَ هَذَا الوَاقِعِ مِنْكَ مِثْلَهُ؛ مِنَ الإعراضِ عَن الفقيرِ, والتَّصَدِّي للغَنِيِّ, وَالتَّشَاغُلِ بِهِ، مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَزَكَّى، عَنْ إِرْشادِ مَنْ جَاءَكَ منْ أَهْلِ التَّزَكِّى وَالقَبُولِ للموعظةِ.
{إنها تذكرة} : أي: هذه السّورة أو الوصيّة بالمساواة بين النّاس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسّدّيّ: {كلاّ إنّها تذكرةٌ}. يعني: القرآن

-تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) ) –ك , س , ش -
أي: فمن شاء ذكر اللّه في جميع أموره، ويحتمل عود الضّمير على الوحي فيكون المعنى: عملَ بهِ ؛ لدلالة الكلام عليه ، كقولهِ تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.

-تفسير قوله تعالى: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) ) –ك , س , ش -
أي: هذه السّورة أو العظة وكلاهما متلازمٌ، بل جميع القرآن {في صحفٍ مكرّمةٍ}. أي: معظّمةٍ موقّرةٍ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِمَا فِيهَا من الْعِلْمِ والحِكْمةِ، أَوْ لأَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

-تفسير قوله تعالى: (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) ) –ك , س , ش -
{مرفوعةٍ}. أي: عالية القدر والرتبة عند الله ، {مطهّرةٍ}. أي: من الدّنس والزّيادة والنّقص
فهي مُنَزَّهَةٍ لا يَمَسُّهَا إِلاَّ المُطَهَّرُونَ، مُصَانَةٍ عَنِ الشَّيَاطِينِ وَالكُفَّارِ لا يَنَالُونَهَا.

-تفسير قوله تعالى: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) ) –ك , س , ش -
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والضّحّاك وابن زيدٍ: هي الملائكة.
وقال وهب بن منبّهٍ: هم أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال قتادة: هم القرّاء.
وقال ابن جريجٍ: عن ابن عبّاسٍ: السّفرة بالنّبطيّة: القرّاء.
وقال ابن جريرٍ: الصّحيح أنّ السّفرة: الملائكة.
والسّفرة يعني: بين اللّه وبين خلقه، ومنه يقال: السّفير الذي يسعى بين النّاس في الصّلح والخير،
وقال البخاريّ: سفرة الملائكة. سفرت: أصلحت بينهم، وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي اللّه وتأديته كالسّفير الّذي يصلح بين القوم.

-تفسير قوله تعالى: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) ) –ك , س , ش -
أي: خلقهم كريمٌ حسنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالهم بارّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ، ومن ههنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السّداد والرّشاد.
قال الإمام أحمد: عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الّذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السّفرة الكرام البررة، والّذي يقرؤه وهو عليه شاقٌّ له أجران)). أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.

-تفسير قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) ) –ك , س , ش -
وذلكَ كُلّهُ حفظٌ منَ اللهِ لكتابهِ، أنْ جعلَ السُّفراءَ فيهِ إلى الرسلِ الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولمْ يجعلْ للشياطين عليهِ سبيلاً، وهذا مما يوجبُ الإيمانَ بهِ وتلقيهِ بالقبولِ، ولكن معَ هذا أبى الإنسانُ إلاَّ كفوراً، ولهذا يقول تعالى: ذامًّا لمن كفر بكتابه وأنكر البعث والنّشور من بني آدم :{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} لنعمةِ اللهِ، وما أشدَّ معاندته للحقِّ بعدمَا تبينَ، وهوَ أضعفُ الأشياءِ، خلقهُ اللهُ مِنْ ماءٍ مهينٍ، ثمَّ قدَّرَ خلقهُ، وسوّاهُ بشراً سويّاً، وأتقنَ قواه الظاهرةَ والباطنةَ.
قال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {قتل الإنسان}: لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالكٍ، وهذا لجنس الإنسان المكذّب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستندٍ بل بمجرّد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جريجٍ: {ما أكفره}: ما أشدّ كفره. وقال ابن جريرٍ: ويحتمل أن يكون المراد: أيّ شيءٍ جعله كافراً؟ أي: ما حمله على التّكذيب بالمعاد.
وقال قتادة، وقد حكاه البغويّ عن مقاتلٍ والكلبيّ: {ما أكفره}: ما ألعنه.

-تفسير قوله تعالى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) ) –ك , س , ش -
ثمّ بيّن تعالى له كيف خلقه من الشّيء الحقير، وأنّه قادرٌ على إعادته كما بدأه؛ فقال: {من أيّ شيءٍ خلقه (18)} أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ ؟

-تفسير قوله تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ) –ك , س , ش -
أَيْ: خلقه مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ مَنْ خَرَجَ مِن مَخْرَجِ البَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟
{فَقَدَّرَهُ}؛ أي: فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَخَلَقَ لَهُ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَسَائِرَ الآلاتِ وَالحَوَاسِّ وقدّر أجله ورزقه وعمله وشقيٌّ أو سعيدٌ

-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ) –ك , س , ش -
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: ثمّ يسّر عليه خروجه من بطن أمّه. وكذا قال عكرمة والضّحّاك وأبو صالحٍ وقتادة والسّدّيّ، واختاره ابن جريرٍ.
وقال مجاهدٌ: هذه كقوله: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}. أي: بيّنّاه له ووضّحناه وسهّلنا عليه عمله. وهكذا قال الحسن وابن زيدٍ، وهذا هو الأرجح، واللّه أعلم
فيسَّرَ لهُ الأسبابَ الدينيةَ والدنيويةَ، وهداهُ السبيلَ، [وبيَّنَهُ] وامتحنهُ بالأمرِ والنهي، أي: أكرَمهُ.

-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ) –ك , س , ش -
أي: إنّه بعد خلقه له أماته فأقبره، أي: جعله ذا قبرٍ، أكرمَهُ بالدفنِ، ولم يجعلْهُ كسائرِ الحيواناتِ التي تكونُ جيفُها على وجهِ الأرضِ , والعرب تقول: قبرت الرّجل. إذا ولي ذلك منه.

-تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) ) –ك , س , ش -
أي: بعثه بعد موته للجزاء، ومنه يقال: البعث والنّشور، {ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون}. (وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثمّ نكسوها لحماً).
وثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :((كلّ ابن آدم يبلى إلاّ عجب الذّنب، منه خلق وفيه يركّب)) .


-تفسير قوله تعالى: (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) ) –ك , س , ش -
قال ابن جريرٍ: {لمّا يقض ما أمره}:لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض لربّه عزّ وجلّ. وبه قال ابن سعدي رحمه الله.
عن مجاهدٍ قوله: {كلاّ لمّا يقض ما أمره}. قال: لا يقضي أحدٌ أبداً كلّ ما افترض عليه. وحكاه البغويّ عن الحسن البصريّ بنحوٍ من هذا، ولم أجد للمتقدّمين فيه كلاماً سوى هذا، والذي يقع لي في معنى ذلك واللّه أعلم أنّ المعنى: {ثمّ إذا شاء أنشره}. أي: بعثه، {كلاّ لمّا يقض ما أمره}. لا يفعله الآن حتّى تنقضي المدّة ويفرغ القدر من بني آدم ممّن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدّنيا، وقد أمر به تعالى كوناً وقدراً، فإذا تناهى ذلك عند اللّه أنشر اللّه الخلائق وأعادهم كما بدأهم.

-تفسير قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) ) –ك , س , ش -
فيه امتنانٌ وفيه استدلالٌ بإحياء النّبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وتراباً متمزّقاً
أَيْ: لِيَنْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ طَعَامَهُ الَّذِي جَعَلَهُ سَبَباً لِحَيَاتِهِ؟

-تفسير قوله تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ) –ك , س-
أي: أنزلناه من السّماء على الأرض بكثرةٍ.

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) ) –ك , س , ش -
أَيْ: شَقَقْنَاهَا بالنَّباتِ الخارجِ مِنْهَا بِسَبَبِ نُزُولِ الْمَطَرِ شَقًّا بَدِيعاً لائِقاً بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ والكِبَرِ وَالشَّكْلِ والهَيْئَةِ , فنبت وارتفع.

تفسير قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) ) –ك , س , ش -
{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أصنافَاً مصنفةً مِنْ أنواعِ الأطعمةِ اللذيذةِ، والأقواتِ الشهيةِ {حُبًّا} وهذا شاملٌ لسائرِ الحبوبِ على اختلافِ أصنافِهَا , وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّباتَ لا يَزَالُ يَنْمُو وَيَتَزَايَدُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ حَبًّا.

-تفسير قوله تعالى: (وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) ) –ك , س , ش -
فالحبّ: كلّ ما يذكر من الحبوب، والعنب معروفٌ، والقضب: هو الفصفصة التي تأكلها الدّوابّ رطبةً، ويقال لها: القَتُّ الرَّطْبُ الَّذِي تُعْلَفُ بِهِ الدَّوَابُّ أيضاً، قال ذلك ابن عبّاسٍ وقتادة والضّحّاك والسّدّيّ، وقال الحسن البصريّ: القضب: العلف.

-تفسير قوله تعالى: (وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) ) –ك , س-
{وزيتوناً}. وهو معروفٌ، وهو أدمٌ، وعصيره أدمٌ ويستصبح به ويدّهن به، {ونخلاً}. يؤكل بلحاً بسراً ورطباً وتمراً ونيئاً ومطبوخاً، ويعتصر منه ربٌّ وخلٌّ.
وخصّ هذهِ الأربعةَ لكثرةِ فوائدهَا ومنافعهَا.

-تفسير قوله تعالى: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) ) –ك , س , ش -
أي: بساتين فيها الأشجارُ الكثيرةُ الملتفةُ ، وبه قال ابن كثير وابن سعدي.
قال الحسن وقتادة: {غلباً}: نخلٌ غلاظٌ كرامٌ. وبه قال الأشقر.
وقال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ: الحدائق: كلّ ما التفّ واجتمع.
وقال ابن عبّاسٍ أيضاً: {غلباً}: الشّجر الّذي يستظلّ به.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {وحدائق غلباً}. أي: طوالٌ.
وقال عكرمة: {غلباً} أي: غلاظ الأوساط.
وفي روايةٍ: غلاظ الرّقاب، ألم تر إلى الرّجل إذا كان غليظ الرّقبة قيل: واللّه إنّه لأغلب. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وكلا الأقوال ترجع إلى معنى واحد وهو صفة البساتين والأشجار فيها .

-تفسير قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) ) –ك , س , ش -
{وفاكهةً وأبًّا}. أمّا الفاكهة: فهو ما يتفكّه به من الثّمار.
-الخلاف في معنى الأبّ:
قال ابن عبّاسٍ: الفاكهة: كلّ ما أكل رطباً، والأبّ: ما أنبتت الأرض ممّا تأكله الدّوابّ ولا يأكله النّاس. وبه قال ابن سعدي رحمه الله , ولهذا قالَ: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأِنْعَامِكُمْ}.
وفي روايةٍ عنه: وهو الحشيش للبهائم. وعن مجاهدٍ والحسن وقتادة وابن زيدٍ: الأبّ للبهائم كالفاكهة لبني آدم.
وقال مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وأبو مالكٍ: الأبّ: الكلأ.
وعن عطاءٍ: كلّ شيءٍ نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ. وبه قال الضحاك وزاد: سوى الفاكهة.
وقال أبو السّائب: ما أنبتت الأرض ممّا يأكل النّاس وتأكل الأنعام.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ حيث قال: ... عن أنسٍ قال: قرأ عمر بن الخطّاب: {عبس وتولّى}. فلمّا أتى على هذه الآية: {وفاكهةً وأبًّا}. قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأبّ؟ فقال: لعمرك يابن الخطّاب، إنّ هذا لهو التّكلّف. فهو إسنادٌ صحيحٌ.
وقد رواه غير واحدٍ عن أنسٍ به، وهو محمولٌ على أنّه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلاّ فهو وكلّ من قرأ هذه الآية يعلم أنّه من نبات الأرض؛ لقوله: {فأنبتنا فيها حبًّا وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهةً وأبًّا.

-تفسير قوله تعالى: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) ) –ك , س -
أي: عيشةً لكم ولأنعامكم في هذه الدّار التي خلقَها اللهُ وسخرهَا لكمْ، فمَنْ نظرَ في هذهِ النعمِ، أوجبَ لهُ ذلكَ شكرَ ربِّهِ، وبذلَ الجهدِ في الإنابةِ إليهِ، والإقبالِ على طاعتهِ، والتصديقِ بأخبارِهِ .

-تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) ) –ك , س , ش -
قال ابن عبّاسٍ
: {الصّاخّة}: اسمٌ من أسماء يوم القيامة، عظّمه اللّه وحذّره عباده.
قال ابن جريرٍ: لعلّه اسمٌ للنّفخة في الصّور.
وقال البغويّ: {الصّاخّة}. يعني صيحة يوم القيامة، سمّيت بذلك؛ لأنّها تصخّ الأسماع أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.
أي: إذا جاءتْ صيحةُ القيامةِ، التي تصخُّ لهولِهَا الأسماعُ، وتنزعجُ لها الأفئدةُ يومئذٍ، مما يرى الناسُ مِنَ الأهوالِ وشدةِ الحاجةِ لسالفِ الأعمالِ.

-تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) ) –ك , س , ش -
أي: يراهم ويفرّ منهم ويبتعد عنهم؛ لأنّ الهول عظيمٌ والخطب جليلٌ.
قال عكرمة: يلقى الرّجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أيّ بعلٍ كنت لك؟ فتقول: نعم البعل، كنت. وتثني بخيرٍ ما استطاعت؛ فيقول لها: فإنّي أطلب إليك اليوم حسنةً واحدةً تهبينها لي لعلّي أنجو ممّا ترين. فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكنّي لا أطيق أن أعطيك شيئاً، أتخوّف مثل الذي تخاف.
قال: وإنّ الرّجل ليلقى ابنه فيتعلّق به فيقول: يا بنيّ، أيّ والدٍ كنت لك؟ فيثني بخيرٍ، فيقول: يا بنيّ إنّي احتجت إلى مثقال ذرّةٍ من حسناتك لعلّي أنجو بها ممّا ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت! ولكنّي أتخوّف مثل الّذي تتخوّف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً. يقول اللّه تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه}.
وفي الحديث الصّحيح في أمر الشّفاعة أنّه إذا طلب إلى كلٍّ من أولي العزم أن يشفع عند اللّه في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليوم إلاّ نفسي. حتّى إنّ عيسى ابن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلاّ نفسي لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى: {يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه}. قال قتادة: الأحبّ فالأحبّ والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.
وهؤلاءِ أَخَصُّ القَرَابَةِ وَأَوْلاهُم بالحُنُوِّ والرَّأْفَةِ، فَالْفِرَارُ مِنْهُمْ لا يَكُونُ إِلاَّ لِهَوْلٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ فَظِيعٍ وذلكَ لأنَّهُ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}

-تفسير قوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ) –ك , س , ش -
أي: هو في شغلٍ، شاغلٌ عن غيره ,يَشْغَلُهُ عَن الأقرباءِ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُمْ، وَيَفِرُّ عَنْهُمْ؛ حَذَراً من مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا بَيْنَهُمْ؛ وَلِئَلاَّ يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ قَدْ أشغلتهُ نفسهُ، واهتمَّ لفكاكِهَا، ولمْ يكنْ لهُ التفاتٌ إلى غيرِهَا.
قال ابن أبي حاتمٍ: ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((تحشرون حفاةً عراةً مشاةً غرلاً)). قال: فقالت زوجته: يا رسول اللّه، أويرى بعضنا عورة بعضٍ؟! قال: (({لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه})). أو قال: ((ما أشغله عن النّظر)).

تفسير قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ) –ك , س , ش -
أي: يكون الناس هنالك فريقين:
سعداءَ وأشقياءَ، فأمَّا السعداءُ، فوجوههم [يومئذٍ] {مُسْفِرَةٌ} أي: مُشْرِقَةٌ مُضِيئَةٌ قدْ ظهرَ فيها السرورُ، والبهجةُ، منْ مَا عرفُوا من نجاتهِمْ، وفوزِهمْ بالنعيمِ.

-تفسير قوله تعالى: (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) ) –ك-
أي: مسرورةٌ فرحةٌ، من سرور قلوبهم قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنّة.

-تفسير قوله تعالى: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) ) –ك , س , ش -
قال ابن أبي حاتمٍ: عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((يلجم الكافر العرق ثمّ تقع الغبرة على وجوههم)) قال: فهو قوله: {ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ}. أَيْ: غُبَارٌ وَكُدُورَةٌ؛ لِمَا تَرَاهُ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ الْعَذَابِ.

-تفسير قوله تعالى: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) ) –ك , س , ش -
وقال ابن عبّاسٍ: {ترهقها قترةٌ}. أي: يغشاها سواد الوجوه .
فهي سوداءُ مظلمةٌ مدلهمةٌ، قدْ أيستْ مِنْ كلِّ خيرٍ، وعرفَتْ شقَاءَهَا وهلاكَهَا).

-تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) ) –ك , س , ش -
أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، أي: الذينَ كفرُوا بنعمةِ اللهِ، وكذبوا بآياتِ اللهِ، وتجرؤوا على محارمِهِ,كما قال: {ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً}نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ، إنَّه جوادٌ كريمٌ .

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 1 ذو القعدة 1435هـ/26-08-2014م, 06:58 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير سورة التكوير

-مكان نزول السورة:

وهي مكّيّةٌ.
فضائل السورة: -ك , ش-
أخرج أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ, { وَ} إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} وَ{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}))

-تفسير قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ) -ك , ش-
-الأقوال في معنى{إذا الشّمس كوّرت}.

عن ابن عبّاسٍ: يعني: أظلمت.
وقال العوفيّ عنه: ذهبت.
وقال مجاهدٌ: اضمحلّت وذهبت. وكذا قال الضّحّاك.
وقال قتادة: ذهب ضوؤها.
وقال سعيد بن جبيرٍ: {كوّرت}: غوّرت.
وقال الرّبيع بن خثيمٍ: {كوّرت}. يعني: رمي بها.
وقال أبو صالحٍ: {كوّرت}: ألقيت. وعنه أيضاً: نكّست.
وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض.
قال ابن جريرٍ: والصّواب من القول عندنا في ذلك أنّ التّكوير: جمع الشّيء بعضه على بعضٍ، ومنه تكوير العمامة وهو لفّها على الرّأس، وكتكوير الكرة، وهي: جمع الثّياب بعضها إلى بعضٍ، فمعنى قوله: {كوّرت}: جمع بعضها إلى بعضٍ ثمّ لفّت فرمي بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها. وبه قال ابن سعدي والأشقر.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن ابن عبّاسٍ: {إذا الشّمس كوّرت}. قال: يكوّر اللّه الشّمس والقمر والنّجوم يوم القيامة في البحر، ويبعث اللّه ريحاً دبوراً فتضرمها ناراً. وكذا قال عامرٌ الشّعبيّ.
قال البخاريّ: عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الشّمس والقمر يكوّران يوم القيامة)). انفرد به البخاريّ، وهذا لفظه، وإنّما أخرجه في كتاب (بدء الخلق)، وكان جديراً أن يذكره ههنا أو يكرّره كما هي عادته في أمثاله.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) )
وقوله: {وإذا النّجوم انكدرت}. أي: انتثرت.كما قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت}.
وأصل الانكدار الانصباب.
قال الرّبيع بن أنسٍ: عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ قال: ستّ آياتٍ قبل يوم القيامة بينا النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحرّكت واضطربت واختلطت ففزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ واختلطت الدّوابّ والطّير والوحوش فماجوا بعضهم في بعضٍ.
قالَ ابن سعدي :{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}أي: تغيَّرتْ، وتساقطتْ، مِنْ أفلاكِهَا
وَقِيلَ: انْكِدَارُهَا: طَمْسُ نُورِهَا.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) )
أي: صارتْ كثيباً مهيلاً، ثمَّ صارتْ كالعهنِ المنفوشِ، ثم تغيَّرتْ وصارتْ هباءً منبثاً، وزالت عن أماكنها .
قال الأشقر: أَيْ: قُلِعَتْ عَن الأَرْضِ، وَسُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ).

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) )
قال عكرمة ومجاهدٌ: عشار الإبل.
قال مجاهدٌ: {عطّلت}: تركت وسيّبت. وقال أبيّ بن كعبٍ والضّحّاك: أهملها أهلها.
وقال الرّبيع بن خثيمٍ: لم تحلب ولم تصرّ، تخلّى منها أربابها.
وقال الضّحّاك: تركت لا راعي لها.
والمعنى في هذا كلّه متقاربٌ والمقصود أنّ العشار من الإبل وهي خيارها، والحوامل منها التي قد وصلت في حملها إلى الشّهر العاشر، واحدها عشراء، ولا يزال ذلك اسمها حتّى تضع - قد اشتغل النّاس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها، بعدما كانوا أرغب شيءٍ فيها، بما دهمهم من الأمر العظيم المفظع الهائل، وهو أمر القيامة، وانعقاد أسبابها ووقوع مقدّماتها.
وقيل: بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك ولا سبيل لهم إليها.
وقد قيل في العشار: إنّها السّحاب تعطّل عن المسير بين السّماء والأرض لخراب الدّنيا.
وقيل: إنّها الأرض التي تعشّر، وقيل: إنّها الدّيار التي كانت تسكن تعطّلت لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلّها الإمام أبو عبد اللّه القرطبيّ في كتابه (التّذكرة)، ورجّح أنّها الإبل، وعزاه إلى أكثر النّاس.
قلت: بل لا يعرف عن السّلف والأئمّة سواه، واللّه أعلم.
وَخَصَّ العِشَارَ؛ لأَنَّهَا أَنْفَسُ مَالٍ عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَعَزُّهُ عِنْدَهُمْ. فتُرِكَتْ هَمَلاً بِلا رَاعٍ؛ وَذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوا من الهَوْلِ الْعَظِيمِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): (وقوله: {وإذا الوحوش حشرت}. أي: جمعت كما قال تعالى: {وما من دابّةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلاّ أممٌ أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ ثمّ إلى ربّهم يحشرون}.
قال ابن عبّاسٍ: يحشر كلّ شيءٍ حتّى الذّباب، رواه ابن أبي حاتمٍ وكذا قال الرّبيع بن خثيمٍ والسّدّيّ وغير واحدٍ، وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية: إنّ هذه الخلائق موافيةٌ فيقضي اللّه فيها ما يشاء.
الْوُحُوشُ: غَيْرُ المُسْتَأْنَسِ مِن دوابِّ الْبَرِّ، وَمَعْنَى حُشِرَتْ: بُعِثَتْ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا.
قال ابن جريرٍ: والأولى قول من قال: حشرت وجمعت، قال اللّه تعالى: {والطّير محشورةً}. أي: مجموعةً
أي:جمعتْ ليومِ القيامةِ، ليقتصَّ اللهُ منْ بعضهَا لبعضٍ، ويرَى العبادُ كمالَ عدلِهِ، حتَى إنَّهُ ليقتصُّ منَ القرناءِ للجمّاءِ، ثمَّ يقولُ لهَا: كوني تراباً

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) )
. قال ابن جريرٍ: عن سعيد بن المسيّب قال: قال عليٌّ رضي اللّه عنه لرجلٍ من اليهود: أين جهنّم؟ قال: البحر. فقال: ما أراه إلاّ صادقاً.
وقال ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ: يرسل اللّه عليها الرّيح الدّبور فتسعّرها، فتصير ناراً تأجّج. وقد تقدّم الكلام على ذلك عند قوله: {والبحر المسجور}.
وقال مجاهدٌ والحسن بن مسلمٍ: {سجّرت}: أوقدت. فَصَارَتْ نَاراً تَضْطَرِمُ. وبه قال ابن سعدي والأشقر.
وقال الحسن: يبست.
وقال الضّحّاك وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرةٌ.
وقال الضّحّاك أيضاً: {سجّرت}: فجّرت. وقال السّدّيّ: فتحت وسيّرت.
وقال الرّبيع بن خثيمٍ: {سجّرت}: فاضت.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) )
جمع كلّ شكلٍ إلى نظيره، كقوله: {احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم}.
روى أبي حاتمٍ من طرقٍ أخر عن سماك بن حربٍ، عن النّعمان بن بشيرٍ: أنّ عمر بن الخطّاب خطب النّاس فقرأ: {وإذا النّفوس زوّجت}. فقال: تزوّجها أن تؤلّف كلّ شيعةٍ إلى شيعتهم.
وفي روايةٍ: هما الرّجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنّة أو النّار.
وفي روايةٍ عن النّعمان أنّ عمر قال للنّاس: ما تقولون في تفسير هذه الآية: {وإذا النّفوس زوّجت}؟ فسكتوا. قال: ولكن أعلمه، هو الرّجل يزوّج نظيره من أهل الجنّة والرّجل يزوّج نظيره من أهل النّار. ثمّ قرأ:{احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم}.
وقال العوفيّ: عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإذا النّفوس زوّجت}. قال: ذلك حين يكون النّاس أزواجاً ثلاثةً.
وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإذا النّفوس زوّجت}. قال: الأمثال من النّاس جمع بينهم. وكذا قال الرّبيع بن خثيمٍ والحسن وقتادة واختاره ابن جريرٍ وهو الصّحيح.
- وهذا كقولِهِ تعالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}
-{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً}.
-{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}).
قال الأشقر : أَيْ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بالحُورِ العِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بالشَّيَاطِينِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) )
{الموءودة}:}؛ أَي: المَدْفُونَةُ حَيَّةً، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَتْ لأَحَدِهِمْ بِنْتٌ دَفَنَهَا حَيَّةً؛ مَخَافَةَ العَارِ أَو الحَاجَةِ. يُوَبِّخُ قَاتِلُهَا؛ لأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَتْهُ.
كان أهل الجاهليّة يدسّون البنت في التّراب كراهيةً للبنات، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أيّ ذنبٍ قتلت؛ ليكون ذلك تهديداً لقاتلها؛ فإنّه إذا سئل المظلوم فما ظنّ الظّالم إذاً؟. وقيل : سألت أي طالبت بدمها , وبه قال ابن عباس وآخرون .
قال ابن عبّاسٍ: أطفال المشركين في الجنّة، فمن زعم أنّهم في النّار فقد كذب، يقول اللّه عزّ وجلّ: {وإذا الموءودة سئلت (8) بأيّ ذنبٍ قتلت}. قال ابن عبّاسٍ: هي المدفونة.
عن خليفة بن حصينٍ قال: قدم قيس بن عاصمٍ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه إنّي وأدت اثنتي عشرة ابنةً لي في الجاهليّة أو ثلاث عشرة. قال: ((أعتق عددهنّ نسماً)). قال: فأعتق عددهنّ نسماً، فلمّا كان في العام المقبل جاء بمائة ناقةٍ فقال: يا رسول اللّه هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين. قال عليّ بن أبي طالبٍ: فكنّا نريحها ونسمّيها القيسيّة).
{بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ومنَ المعلومِ أنَّها ليسَ لهَا ذنبٌ، ففي هذا توبيخٌ وتقريعٌ لقاتليهَا.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) )
قال الضّحّاك: أعطي كلّ إنسانٍ صحيفته بيمينه أو بشماله.
وقال قتادة: يابن آدم تملي فيها، ثمّ تطوى، ثمّ تنشر عليك يوم القيامة، فنظر رجلٌ ماذا يملي في صحيفته.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) )
مجاهدٌ: اجتذبت.
وقال السّدّيّ: كشفت.
وقال الضّحّاك: تنكشط فتذهب . أي: أُزيلتْ:- كما قالَ تعالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ}. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}. {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) )
قال السّدّيّ: أحميت.
وقال قتادة: أوقدت. قال: وإنّما يسعّرها غضب اللّه وخطايا بني آدم.

-تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) )
قال الضّحّاك وأبو مالكٍ والرّبيع بن خثيمٍ أي: قرّبت إلى أهلها وَأُدْنِيَتْ مِنْهُمْ وهم المتقينَ.

-تفسير قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) )
هذا هو الجواب، أي: إذا وقعت هذه الأمور حينئذٍ تعلم كلّ نفسٍ ما عملت وأحضر ذلك لها، كما قال تعالى: {يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً}. وقال تعالى: {ينبّأ الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: لمّا نزلت: {إذا الشّمس كوّرت}. قال عمر لمّا بلغ: {علمت نفسٌ ما أحضرت}. قال: لهذا أجري الحديث.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ}أي: كلُّ نفسٍ؛ لإتيانهَا في سياقِ الشرطِ.
{مَا أَحْضَرَتْ}أي: ما حضرَ لديهَا منَ الأعمالِ [التي قدمتهَا] كمَا قالَ تعالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً}.
وهذهِ الأوصافُ التي وصفَ اللهُ بهَا يومَ القيامةِ، منَ الأوصافِ التي تنزعجُ لهَا القلوبُ، وتشتدُّ من أجلِهَا الكروبُ، وترتعدُ الفرائصُ، وتعمُّ المخاوفُ، وتحثُّ أولي الألبابِ للاستعدادِ لذلكَ اليومِ، وتزجرهُمْ عنْ كلِّ ما يوجبُ اللومَ، ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: (منْ أرادَ أنْ ينظرَ ليومِ القيامةِ كأنَّهُ رأيُ عينٍ، فليتدبرْ سورةَ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}.

-تفسير قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) )
روى مسلمٌ في صحيحه والنّسائيّ في تفسيره عند هذه الآية، من حديث عمرو بن حريثٍ قال: صلّيت خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الصّبح فسمعته يقرأ: {فلا أقسم بالخنّس (15) الجوار الكنّس (16) واللّيل إذا عسعس (17) والصّبح إذا تنفّس}.
ورواه النّسائيّ عن عليٍّ: {فلا أقسم بالخنّس}. قال: هي النّجوم تخنس بالنّهار وتظهر باللّيل.
وقال ابن جريرٍ: عن بكر بن عبد اللّه في قوله: {فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس}. قال: هي النّجوم الدّراريّ التي تجري تستقبل المشرق. وهيَ النجومُ السبعةُ السيارةُ: (الشمسُ)، و(القمر)، و(الزهرة)، و(المشتري)، و(المريخ)، و(زحلُ)، و(عطاردُ)، فهذهِ السبعةُ لها سيرانِ:
-سيرٌ إلى جهةِ المغربِ معَ باقي الكواكبِ والأفلاكِ.
- وسيرٌ معاكسٌ لهذَا منْ جهةِ المشرقِ تختصُّ بهِ هذهِ السبعةُ دونَ غيرهَا.
فأقسمَ اللهُ بهَا في حالِ خنوسِهَا أي: تأخرِهَا، وفي حالِ جريانِهَا، وفي حالِ كنوسها
أي: استتارهَا بالنهارِ، ويحتملُ أنَّ المرادَ بها جميعُ النجومِ الكواكبُ السيارةُ وغيرهَا
وقال بعض الأئمّة: إنّما قيل للنّجوم: الخنّس. أي: في حال طلوعها، ثمّ هي جوارٍ في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها: كنّسٌ. من قول العرب: أوى الظّبي إلى كناسه إذا تغيّب فيه.
وقال الأعمش عن إبراهيم قال: قال عبد اللّه: {فلا أقسم بالخنّس}. قال: بقر الوحش وكذا روى يونس ، عن ابن عبّاسٍ: {الجوار الكنّس} قال: البقر تكنس إلى الظّلّ. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: هي الظّباء. وكذا قال سعيدٌ أيضاً ومجاهدٌ والضّحّاك.
وقال أبو الشّعثاء جابر بن زيدٍ: هي الظّباء والبقر.
وتوقّف ابن جريرٍ في المراد بقوله: {الخنّس الجوار الكنّس}. هل هو النّجوم أوالظّباء وبقر الوحش؟ قال: ويحتمل أن يكون الجميع مراداً.
{الْجَوَارِ}: تَجْرِي فِي أَفْلاكِهَا.
{الْكُنَّسِ}: تَكْنِسُ فِي وَقْتِ غُرُوبِهَا خَلْفَ الأُفُقِ، وَالكُنَّسُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِنَاسِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ الوَحْشُ.

-تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) )
فيه قولان:

أحدهما: إقباله بظلامه، قال مجاهدٌ: أظلم. وقال سعيد بن جبيرٍ: إذا نشأ. وقال الحسن البصريّ: إذا غشي النّاس. وكذا قال عطيّة العوفيّ.
الثاني : وقال عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {إذا عسعس}: إذا أدبر. وكذا قال مجاهدٌ وقتادة والضّحّاك.
وكذا قال زيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن: {إذا عسعس}. أي: إذا ذهب فتولّى.
وقد اختار ابن جريرٍ أنّ المراد بقوله: {إذا عسعس}: إذا أدبر، قال: لقوله: {والصّبح إذا تنفس}. أي: أضاء.
وعند ابن كثير أنّ المراد بقوله: {عسعس}. إذا أقبل، وإن كان يصحّ استعماله في الإدبار أيضاً، لكنّ الإقبال ههنا أنسب كأنّه أقسم تعالى باللّيل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال: {واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى}. وقال: {والضّحى واللّيل إذا سجى}. وقال: {فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكناً}. وغير ذلك من الآيات.
وقال كثيرٌ من علماء الأصول وبه قال ابن سعدي والأشقر: إنّ لفظة: {عسعس}. تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك فعلى هذا يصحّ أن يراد كلٌّ منهما .. واللّه أعلم.

-تفسير قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) )
قال الضّحّاك: إذا طلع.
وقال قتادة: إذا أضاء وأقبل. وقال سعيد بن جبيرٍ: إذا نشأ. وهو المرويّ عن عليٍّ رضي اللّه عنه.
وقال ابن جريرٍ: يعني: وضوء النّهار إذا أقبل وتبيّن.
أي: بانتْ علائمُ الصبحِ، وانشقَّ النورُ شيئاً فشيئاً حتَّى يستكملَ وتطلعَ الشمسُ.

-تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) )
يعني: إنّ هذا القرآن لتبليغ رسولٍ كريمٍ .. أي: ملكٍ شريفٍ حسن الخلق بهيّ المنظر، وهو جبريل عليه الصّلاة والسّلام. قاله ابن عبّاسٍ والشّعبيّ وميمون بن مهران والحسن وقتادة والضّحّاك والرّبيع بن أنسٍ وغيرهم.

(وهذهِ آياتٌ عظامٌ، أقسمَ اللهُ بها على علوِّ سندِ القرآنِ وجلالتِهِ، وحفظِهِ منْ كلِّ شيطانٍ رجيمٍ، فقالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}وهوَ جبريلُ عليهِ السلامُ، نزَلَ بهِ منَ اللهِ تعالَى، كمَا قالَ تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}

-تفسير قوله تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) )
{ذي قوّةٍ} على ما أمرهُ اللهُ بهِ، ومنْ قوتِهِ أنَّهُ قلَبَ ديارَ قومِ لوطٍ بهم فأهلكَهمْ، كقوله: {علّمه شديد القوى ذو مرّةٍ}. أي: شديد الخلق شديد البطش والفعل، {عند ذي العرش مكينٍ}. أي: له مكانةٌ عند اللّه عزّ وجلّ ومنزلةٌ رفيعةٌ، قال أبو صالحٍ في قوله: {عند ذي العرش مكينٍ}. قال: جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نورٍ بغير إذنٍ.
ووصفه اللهُ بالكريمِ لكرمِ أخلاقِهِ، وكثرةِ خصالهِ الحميدةِ، فإنَّهُ أفضلُ الملائكةِ، وأعظمهُمْ رتبةً عندَ ربِّهِ.

-تفسير قوله تعالى: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) )
{مطاعٍ ثمّ}. أي: له وجاهةٌ، وهو مسموع القول مطاعٌ في الملأ الأعلى.
قال قتادة: {مطاعٍ ثمّ}. أي: في السّماوات، يعني: ليس هو من أفناء الملائكة، بل هو من السّادة والأشراف، معتنًى به، انتخب لهذه الرّسالة العظيمة.
وقوله: {أمينٍ} صفةٌ لجبريل بالأمانة، وهذا عظيمٌ جدًّا أنّ الرّبّ عزّ وجلّ يزكّي عبده ورسوله الملكيّ جبريل.
وهذا يدلُّ على شرفِ القرآنِ عندَ اللهِ تعالى، فإنَّهُ بُعثَ بهِ هذا الملكُ الكريمُ، الموصوفُ بتلكَ الصفاتِ الكاملةِ.
والعادةُ أن الملوكَ لا ترسلُ الكريمَ عليهَا إلاَّ في أهمِّ المهمَّاتِ، وأشرفِ الرسائلِ.

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) )
لمَّا ذكرَ فضلَ الرسولِ الملكيِّ الذي جاءَ بالقرآنِ، ذكرَ فضلَ الرسولِ البشريِّ الذي نزلَ عليهِ القرآنُ،ودعَا إليهِ الناسَ، فقالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} وهوَ محمدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ {بِمَجْنُونٍ} كمَا يقولهُ أعداؤهُ المكذبونَ برسالتهِ، المتقولونَ عليهِ منَ الأقوالِ، التي يريدونَ أنْ يُطفؤوا بهَا ما جاءَ بهِ ما شاؤوا وقدرُوا عليهِ، بلْ هوَ أكملُ الناسِ عقلاً، وأجزلُهمْ رأياً، وأصدقهمْ لهجةً.
وَذَكَرَهُ بِوَصْفِ الصُّحْبَةِ للإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِأَمْرِهِ وَبِأَنَّهُ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ.

-تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) )
يعني: ولقد رأى محمّدٌ جبريل الذي يأتيه بالرّسالة عن اللّه عزّ وجلّ على الصورة التي خلقه اللّه عليها، له ستّمائة جناحٍ، {بالأفق المبين}. أي: البيّن، وهي الرّؤية الأولى الّتي كانت بالبطحاء وهي المذكورة في قوله: {علّمه شديد القوى ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى}. والدّليل عليه أنّ المراد بذلك جبريل عليه السّلام، والظّاهر واللّه أعلم أنّ هذه السّورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنّه لم يذكر فيها إلاّ هذه الرّؤية وهي الأولى.
وأمّا الثّانية وهي المذكورة في قوله: {ولقد رآه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى إذ يغشى السّدرة ما يغشى}. فتلك إنّما ذكرت في سورة (النّجم) وقد نزلت بعد (الإسراء) ).

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) )
أي: وما محمّدٌ على ما أنزله اللّه إليه بظنينٍ، أي: بمتّهمٍ، ومنهم من قرأ ذلك بالضّاد، أي: ببخيلٍ، بل يبذله لكلّ أحدٍ.
قال سفيان بن عيينة: (ظنينٌ) و(ضنينٌ) سواءٌ، أي: ما هو بكاذبٍ، وما هو بفاجرٍ،
والظّنين: المتّهم، والضّنين: البخيل.
وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله اللّه على محمّدٍ فما ضنّ به على النّاس - وكذا قال عكرمة وابن زيدٍ وغير واحدٍ- بل بلّغه ونشره وبذله لكلّ من أراده. واختار ابن جريرٍ قراءة الضّاد.
قلت: وكلاهما متواترٌ ومعناه صحيحٌ كما تقدّم.

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) )
لمَّا ذكرَ جلالةَ كتابِهِ وفضله بذكرِ الرسولينِ الكريمينِ، اللذين وصلَ إلى الناسِ على أيديهمَا، وأثنى اللهُ عليهما بما أثنَى، دفعَ عنهُ كلَّ آفةٍ ونقصٍ مما يقدحُ في صدقهِ، فقالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}أي: في غايةِ البعدِ عن اللهِ وعن قربِهِ .فلا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال: {وما تنزّلت به الشّياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السّمع لمعزولون}

-تفسير قوله تعالى: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) )
أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقًّا من اللّه عزّ وجلّ، كما قال الصدّيق رضي اللّه عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والرّكاكة فقال: ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ واللّه إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ. أي: من إلهٍ، وقال قتادة: {فأين تذهبون}. أي: عن كتاب اللّه وعن طاعته.
قال الأشقر : أي طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبْيَنَ منْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ؟

-تفسير قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) )
يتذكرونَ بهِ ربهمْ، وما لَهُ منْ صفاتِ الكمالِ، وما ينزَّهُ عنهُ من النقائصِ والرذائلِ ، ويتذكرونَ بهِ الأوامرَ والنواهيَ وحكمهَا، ويتذكرونَ بهِ الأحكامَ القدريةَ والشرعيةَ والجزائيةَ، وبالجملةِ، يتذكرونَ بهِ مصالحَ الدارينِ، وينالونَ بالعملِ بهِ السعادتينِ).

-تفسير قوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) )
أي: من أراد الهداية والاستقامة عَلَى الْحَقِّ وَالإِيمَانِ والطاعةِ فعليه بهذا القرآن؛ فإنّه منجاةٌ له وهدايةٌ، ولا هداية فيما سواه.

-تفسير قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) )
أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضلّ، بل ذلك كلّه تابعٌ لمشيئة اللّه عزّ وجلّ ربّ العالمين.
قال سفيان الثّوريّ، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى: لمّا نزلت هذه الآية: {لمن شاء منكم أن يستقيم}. قال أبو جهلٍ: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل اللّه: {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين}.
وفي هذهِ الآيةِ وأمثالِهَا، ردٌّ على فرقتي القدريةِ النفاةِ، والقدريةِ المجبرةِ كمَا تقدَّمَ مثلها.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 15 ذو القعدة 1435هـ/9-09-2014م, 06:47 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير سورة الانفطار
مكان نزول السورة : الانفطار.
فضائل السورة: -ك-
عن جابرٍ قال: قام معاذٌ فصلّى العشاء الآخرة فطوّل فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أفتّانٌ يا معاذ؟ أفتّانٌ يا معاذ؟ أين كنت عن: {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و {الضّحى}، و{إذا السّماء انفطرت}؟))
وأصل الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين، ولكنّ ذكر {إذا السّماء انفطرت} من أفراد النّسائيّ.

تفسير قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)) –ك, س, ش-
{إذا السّماء انفطرت}. أي: انشقّت لِنُزُولِ الْمَلائِكَةِ مِنْهَا، كما قال: {السّماء منفطرٌ به}

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)) – ك , س , ش-
{وإذا الكواكب انتثرت}. أي: تساقطت متفرقة وانتثرتْ نجومُهَا، وزالَ جمالُهَا.

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)) –ك, س , ش-
فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَصَارَتْ بَحْراً وَاحِداً وَاخْتَلَطَ العَذْبُ مِنْهَا بالمالحِ، وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)) –ك, س, ش-
وَأُخْرِجَ المَوْتَى الَّذِينَ هُمْ فِيهَا ، وحشرُوا للموقفِ بينَ يديِ اللهِ للجزاءِ على الأعمالِ.

تفسير قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) –ك, س , ش-
عَلِمَتْ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ مَا قَدَّمَتْ منْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ،وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ.
فحينئذٍ ينكشفُ الغطاءُ، ويزولُ ما كانَ خفيّاً، وتعلمُ كلُّ نفسٍ ما معهَا منَ الأرباحِ والخسرانِ، هنالكَ يعضُّ الظالمُ على يديهِ إذا رأى أعمالهُ باطلةً، وميزانهُ قدْ خفَّ، والمظالمُ قدْ تداعتْ إليهِ، والسيئاتُ قدْ حضرتْ لديهِ، وأيقنَ بالشقاءِ الأبديِّ والعذابِ السرمديِّ.
ويفوزُ المتقونَ، المقدِّمونَ لصالحِ الأعمالِ بالفوزِ العظيمِ، والنعيمِ المقيمِ، والسلامةِ منْ عذابِ الجحيمِ.

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)) -ك, س , ش-
هذا الاستفاهم للتهديد والعتاب , والمعنى في هذه الآية: ما غرّك يابن آدم بربّك الكريم، أي: العظيم، حتّى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق؟! أتهاوناً منكَ في حقوقهِ، أمِ احتقاراً منكَ لعذابهِ؟ أمْ عدمَ إيمانٍ منكَ بجزائهِ؟
جاء في الحديث: ((يقول اللّه تعالى يوم القيامة: ابن آدم ما غرّك بي؟ ماذا أجبت المرسلين؟))
ورد عن ابن عمر أنه عندما قرأ هذه الآية: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}.قال: غرّه -واللّه- جهله.
وأتى باسمه {الكريم}؛ لينبّه على أنّه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال السّوء.
وحكى البغويّ عن الكلبيّ ومقاتلٍ أنّهما قالا: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريقٍ ضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يعاقب في الحالة الرّاهنة؛ فأنزل اللّه: {ما غرّك بربّك الكريم}.


تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)) –ك , س ,ش-
أي: خلقك من نطفة ولم تك شيئا فجعلك سويًّا مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال, فهلْ يليقُ بكَ أنْ تكفرَ نعمةَ المنعمِ، أو تجحدَ إحسانَ المحسنِ؟
عن بسر بن جحاشٍ القرشيّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصق يوماً في كفّه فوضع عليها أصبعه ثمّ قال: ((قال اللّه عزّ وجلّ: ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيدٌ، فجمعت ومنعت، حتّى إذا بلغت التّراقي قلت: أتصدّق وأنّى أوان الصّدقة)).

تفسير قوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)) -ك , س , ش-
أَيْ: رَكَّبَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَهَا من الصُّوَرِ المختلفةِ، وَأَنْتَ لَمْ تَخْتَرْ صُورَةَ نَفْسِكَ
قال مجاهدٌ: في أيّ شبه أبٍ أو أمٍّ أو خالٍ أو عمٍّ.
في الصّحيحين عن أبي هريرة أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه، إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: ((هل لك من إبلٍ؟)). قال: نعم. قال: ((فما ألوانها؟)) قال: حمرٌ. قال: ((فهل فيها من أورق؟)) قال: نعم. قال: ((فأنّى أتاها ذلك؟)) قال: عسى أن يكون نزعه عرقٌ. قال: ((وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ)).
وقد قال عكرمة في قوله: {في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك}. إن شاء في صورة قردٍ، وإن شاء في صورة خنزيرٍ.
وكذا قال أبو صالحٍ: إن شاء في صورة كلبٍ، وإن شاء في صورة حمارٍ، وإن شاء في صورة خنزيرٍ.
وقال قتادة: {في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك}. قال: قادرٌ واللّه ربّنا على ذلك.
ومعنى هذا القول عند هؤلاء أنّ اللّه عزّ وجلّ قادرٌ على خلق النّطفة على شكلٍ قبيحٍ من الحيوانات المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكلٍ حسنٍ مستقيمٍ معتدلٍ تامٍّ حسن المنظر والهيئة.

استخلاص المسائل التفسيرية:
-معنى الآيات إجمالًا.
-معنى (انفطرت , انتثرت , البحار فجرت , بعثرت )
-معنى (علمت نفس ماقدمت وأخرت)
-فيمن نزلت (ماغرك برك الكريم)
-نوع الاستفهام في قوله (ياأيها الإنسان ماغرك بربك الكريم)
-تحديد صفة (الكريم) من بين الصفات.
-الأقوال في قوله (في أي صورة ماشاء ركبك)

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 15 ذو القعدة 1435هـ/9-09-2014م, 06:59 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}

المسائل:

-معنى الآيات إجمالًا.
-معنى (انفطرت , انتثرت , البحار فجرت , بعثرت )
-معنى (علمت نفس ماقدمت وأخرت)
-فيمن نزلت (ماغرك برك الكريم)
-نوع الاستفهام في قوله (ياأيها الإنسان ماغرك بربك الكريم)
-تحديد صفة (الكريم) من بين الصفات.
-الأقوال في قوله (في أي صورة ماشاء ركبك).

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 15 ذو القعدة 1435هـ/9-09-2014م, 07:36 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}

-استخلاص المسائل التفسيرية من التفاسير الثلاثة –ابن كثير والسعدي والأشقر- :

-تفسير إجمالي للآيات.
-سبب ابتداء الآية بقوله (كلا) .
-معنى ( يوم الدين , الحافظين , الكرام الكاتبين )
-تعريف : الأبرار , الفجّار , ومصير كل واحد منهما .
-سبب تكرار (وما أدراك ما يوم الدين ).
-معنى (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ).

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 15 ذو القعدة 1435هـ/9-09-2014م, 07:42 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تفسير قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)) –ك , س , ش-
{كَلاَّ}: للرَّدْعِ وَالزَّجْرِ عَن الاغترارِ بِكَرَمِ اللَّهِ وَجَعْلِهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْكُفْرِ بِهِ.
{بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}: وَهُوَ الْجَزَاءُ، أَوْ بِدِينِ الإِسْلامِ .
أي: معَ هذا الوعظِ والتذكيرِ، لا تزالونَ مستمرينَ على التكذيبِ بالجزاءِ.

تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11))) –ك , س , ش-
يعني: وإنّ عليكم لملائكةً حفظةً كراماً فلا تقابلوهم بالقبائح فإنّهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا سفيان ومسعرٌ، عن علقمة بن مرثدٍ، عن مجاهدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أكرموا الكرام الكاتبين الّذين لا يفارقونكم إلاّ عند إحدى حالتين: الجنابة والغائط، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائطٍ أو ببعيره، أو ليستره أخوه)).


تفسير قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)) –ك, س , ش-
يقول: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بيومِ الدِّينِ، وَمَلائِكَةُ اللَّهِ مُوَكَّلُونَ بِكُم، يَكْتُبُونَ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى تُحَاسَبُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)) –ك, س , ش-
يخبر تعالى عمّا يصير الأبرار إليه من النّعيم , وهم: القائمونَ بحقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادهِ، الملازمونَ للبرِّ، في أعمالِ القلوبِ وأعمالِ الجوارحِ، فهؤلاءِ جزاؤهم النعيمُ في القلبِ والروحِ والبدنِ، في دارِ الدنيا البرزخِ و دارِ القرار.
عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّما سمّاهم اللّه الأبرار؛ لأنّهم برّوا الآباء والأبناء))

تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)) –ك, س , ش-
وذكر ما يصير إليه الفجّار من الجحيم والعذاب المقيم الذي يكون لهم يوم القيامة والحساب والجزاء الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، يَلْزَمُونَهَا مُقَاسِينَ لِوَهَجِهَا وَحَرِّهَا يَوْمَئِذٍ ، والفجار هم : الذينَ قصَّرُوا في حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادهِ، الذينَ فجرتْ قلوبهم، ففجرتْ أعمالُهمْ .

تفسير قوله تعالى: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)) –ك , س, ش-
أي: لا يفقارونها ولا يغيبون عن العذاب ساعةً واحدةً بل ملازمون لها فلا يخفّف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الرّاحة، ولو يوماً واحداً , بَلْ هُمْ فِيهَا أَبَدَ الآبِدِينَ.

تفسير قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)) –ك,س , ش-
تعظيمٌ لشأن يوم القيامة, ففي هذا تهويلٌ لذلكَ اليومِ الشديدِ الذي يحيرُ الأذهانَ.
ثمّ أكّده وكَرَّرَهُ تَعْظِيماً لِقَدْرِهِ وَتَفْخِيماً لِشَأْنِهِ، وَتَهْوِيلاً لأَمْرِهِ بقوله: {ثمّ ما أدراك ما يوم الدّين}


تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)) –ك , س, ش-
أي: لا يقدر واحدٌ على نفع أحدٍ ولا خلاصه ممّا هو فيه إلاّ أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى، ويذكر ههنا حديث: ((يا بني هاشمٍ أنقذوا أنفسكم من النّار لا أملك لكم من اللّه شيئاً)).
ولهذا قال: {والأمر يومئذٍ للّه}. كقوله: {لمن الملك اليوم للّه الواحد القّهّار}. وكقوله: {الملك يومئذٍ الحقّ للرّحمن}. وكقوله: {مالك يوم الدّين}
فهوَ الذي يفصلُ بينَ العبادِ، ويأخذُ للمظلومِ حقَّهُ من ظالمِهِ.
قال قتادة: {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ للّه}. والأمر واللّه اليوم للّه، ولكنّه يومئذٍ لا ينازعه أحدٌ.



-استخلاص المسائل التفسيرية من التفاسير الثلاثة –ابن كثير والسعدي والأشقر- :
-تفسير إجمالي للآيات.
-سبب ابتداء الآية بقوله (كلا) .
-معنى ( يوم الدين , الحافظين , الكرام الكاتبين )
-تعريف : الأبرار , الفجّار , ومصير كل واحد منهما .
-سبب تكرار (وما أدراك ما يوم الدين ).
-معنى (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ).

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 16 ذو القعدة 1435هـ/10-09-2014م, 08:30 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تلخيص تفسير سورة المطففين

نزول السورة : -ك- مدنيّةٌ .

أسباب نزول السورة: -ك , ش-
قال النّسائيّ وابن ماجه: عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا قدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلاً؛ فأنزل اللّه: {ويلٌ للمطفّفين}. فحسّنوا الكيل بعد ذلك.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن هلال بن طلقٍ، قال: بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن هيئةً وأوفاه كيلاً، أهل مكّة والمدينة؟ قال: حقّ لهم. أما سمعت اللّه يقول: {ويلٌ للمطفّفين}.
وقال ابن جريرٍ: عن عبد اللّه قال: قال له رجلٌ: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ أهل المدينة ليوفون الكيل.
قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال اللّه: {ويلٌ للمطفّفين}. حتّى بلغ: {يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.

تفسير قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6}.

تفسير قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)) –ك , س , ش -
ويل : كلمةُ عذابٍ ووعيدٍ.
التَّطْفِيفُ: الأَخْذُ فِي الكَيْلِ أَو الوزنِ شَيْئاً طَفِيفاً؛ أَيْ: نَزْراً حَقِيراً، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ المُقَلِّلُ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَن الْحَقِّ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. وَرُبَّمَا كَانَ لأَحَدِهِمْ صَاعَانِ يَكِيلُ لِلنَّاسِ بِأَحَدِهِمَا، وَيَكْتَالُ لِنَفْسِهِ بالآخَرِ ؛ ولهذا فسّر تعالى المطفّفين الّذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله: {الّذين إذا اكتالوا على النّاس} .


تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)) –ك , س , ش-
يَعْنِي: الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لأَنْفُسِهِم اسْتَوْفَوْا فِي الكيلِ والوزنِ.

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) –ك , س , ش-
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ}أي: إذا أعطوا الناسَ حقَّهمْ الذي للناسِ عليهم بكيلٍ أو وزنٍ يخسرون : أي: ينقصون، إما بمكيالٍ وميزانٍ ناقصينِ، أو بعدمِ ملءِ المكيالِ والميزانِ، أو نحوَ ذلكَ، فهذا سرقةٌ الناّسِ، وعدمُ إنصافٍ منهمْ.
وقد أمر اللّه تعالى بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}
وقال: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها}
وقال: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. وأهلك اللّه قوم شعيبٍ وذمّهم على ما كانوا يبخسون النّاس في المكيال والميزان
وإذا كانَ هذا الوعيدُ على الذينَ يبخسونَ الناسَ بالمكيالِ والميزانِ، فالذي يأخذُ أموالهمْ قهراً أو سرقةً، أولى بهذا الوعيدِ منَ المطففينَ.
ودلتِ الآيةُ الكريمةُ، على أنَّ الإنسانَ كما يأخذُ من الناسِ الذي لهُ، يجبُ عليهِ أنْ يعطيهمْ كلَّ ما لهمْ منَ الأموالِ والمعاملاتِ، بلْ يدخلُ في الحججُ والمقالاتُ، فإنَّهُ كما أنَّ المتناظرينِ قدْ جرتِ العادةُ أنَّ كلَّ واحدٍ يحرصُ على ما لهُ منَ الحججِ، فيجبُ عليهِ أيضاً أن يبيِّنَ ما لخصمهِ منَ الحججِ ، وأنْ ينظرَ في أدلةِ خصمهِ كما ينظرُ في أدلتهِ هوَ، وفي هذا الموضعِ يعرفُ إنصافُ الإنسانِ من تعصبهِ واعتسافهِ، وتواضعهُ من كبرهِ، وعقلهُ من سفههِ، نسألُ اللهَ التوفيقَ لكلِّ خيرٍ.
-المسائل اللغوية :
والأحسن أن يجعل (كالوا) و(وزنوا) متعدّياً، ويكون (هم) في محلّ نصبٍ، ومنهم من يجعلها ضميراً مؤكّداً للمستتر في قوله: (كالوا) و(وزنوا)، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما متقاربٌ.


تفسير قوله تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5))
ثمّ قال اللّه متوعّداً لهم ومتعجَّبًا من حالهم وإقامتهم على ما همْ عليهِ: {ألا يظنّ أولئك أنّهم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ}. أي: أما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السّرائر والضّمائر في يومٍ عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب من خسر فيه أدخل ناراً حاميةً؟
الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لاَ يُخْطِرُونَ بِبَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ فَمَسْؤُولُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ، فَهَلاَّ ظَنُّوهُ حَتَّى يَتَدَبَّرُوا فِيهِ وَيَبْحَثُوا عَنْهُ، وَيَتْرُكُوا مَا يَخْشَوْنَ منْ عَاقِبَتِهِ.
{لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لِمَا فِيهِ من الأُمُورِ العِظَامِ، مِن الْبَعْثِ والحسابِ والعقابِ، ودخولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ.


تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))
أي: يوم يقومون حفاةً عراةً غرلاً في موقفٍ صعبٍ حرجٍ ضيّقٍ ضنكٍ على المجرم، ويغشاهم من أمر اللّه ما تعجز القوى والحواسّ عنه وفي هذا دَلالَةً عَلَى عِظَمِ ذَنْبِ التَّطْفِيفِ وَمَزِيدِ إِثْمِهِ وَفَظَاعَةِ عِقَابِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ منْ خِيَانَةِ الأمانةِ وَأَكْلِ حَقِّ الغيرِ.

-الأحاديث الواردة في معنى الآية :
قال الإمام مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: (({يوم يقوم النّاس لربّ العالمين} حتّى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)). رواه البخاريّ.
ولفظ الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، أخبرنا ابن إسحاق، عن نافعٍ، عن ابن عمر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: (({يوم يقوم النّاس لربّ العالمين}: لعظمة الرّحمن عزّ وجلّ يوم القيامة حتّى إنّ العرق ليلجم الرّجال إلى أنصاف آذانهم))
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: عن المقداد، يعني ابن الأسود الكنديّ، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ((إذا كان يوم القيامة أدنيت الشّمس من العباد حتّى تكون قدر ميلٍ أو ميلين)) قال: ((فتصهرهم الشّمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، ومنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً)).
وفي حديثٍ: أنّهم يقومون سبعين سنةً لا يتكلّمون، وقيل: يقومون ثلاثمائة سنةٍ. وقيل: يقومون أربعين ألف سنةٍ، ويقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنةٍ، كما في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة مرفوعاً: ((في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ)).
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لبشيرٍ الغفاريّ: ((كيف أنت صانعٌ في يومٍ يقوم النّاس فيه ثلاثمائة سنةٍ لربّ العالمين من أيّام الدّنيا، لا يأتيهم فيه خبرٌ من السّماء ولا يؤمر فيهم بأمرٍ؟)). قال بشيرٌ: المستعان اللّه. قال: ((فإذا أويت إلى فراشك فتعوّذ باللّه من كرب يوم القيامة وسوء الحساب)).
وفي سنن أبي داود أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يتعوّذ باللّه من ضيق المقام يوم القيامة.
وعن ابن مسعودٍ، يقومون أربعين سنةً رافعي رؤوسهم إلى السّماء، لا يكلّمهم أحدٌ، قد ألجم العرق برّهم وفاجرهم. وعن ابن عمر: يقومون مائة سنةٍ. رواهما ابن جريرٍ.
وفي سنن أبي داود والنّسائيّ وابن ماجه من حديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفتتح قيام اللّيل؛ يكبّر عشراً، ويحمد عشراً، ويسبّح عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: ((اللّهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني)). ويتعوّذ من ضيق المقام يوم القيامة.



تفسير قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8))
{كلا} يقول: حقًّا {إنّ كتاب الفجّار لفي سجّينٍ}. أي:إن الفُجَّارِ منْ أنواعِ الكفرةِ والمنافقينَ، والفاسقينَ وَمِنْهُم الْمُطَفِّفُونَ مصيرهم ومأواهم لفي سجّينٍ؛ فعّيلٌ، من السّجن وهو الضّيق، كما يقال: فسّيقٌ وشرّيبٌ وخمّيرٌ وسكّيرٌ. ونحو ذلك.
ولهذا عظّم أمره فقال: {وما أدراك ما سجّينٌ } أي: هو أمرٌ عظيمٌ، وسجنٌ مقيمٌ، وعذابٌ أليمٌ.
و)سجين (ضدُّ (عليين) الذي هوَ محلُّ كتابِ الأبرارِ، كما سيأتي.
ثمّ قد قال قائلون: هي تحت الأرض السّابعة. وقد تقدّم في حديث البراء بن عازبٍ في حديثه الطّويل: يقول اللّه عزّ وجلّ في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجّينٍ. وسجّينٌ هي تحت الأرض السّابعة.
وقيل: صخرةٌ تحت السّابعة خضراء.
وقيل: بئرٌ في جهنّم. قد روى ابن جريرٍ في ذلك حديثاً غريباً منكراً لا يصحّ.
والصّحيح أنّ سجّيناً مأخوذٌ من السّجن وهو الضّيق، فإنّ المخلوقات كلّ ما تسافل منها ضاق، وكلّ ما تعالى منها اتّسع، فإنّ الأفلاك السّبعة كلّ واحدٍ منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون، كلّ واحدةٍ أوسع من التي دونها حتّى ينتهي السّفول المطلق والمحلّ الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السّابعة، ولمّا كان مصير الفجّار إلى جهنّم وهي أسفل السّافلين، كما قال تعالى: {ثمّ رددناه أسفل سافلين إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}. وقال ههنا: {كلاّ إنّ كتاب الفجّار لفي سجّينٍ وما أدراك ما سجينٌ}
وهو يجمع الضّيق والسّفول كما قال: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيّقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً}


تفسير قوله تعالى: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9))
وقوله: {كتابٌ مرقومٌ}. ليس تفسيراً لقوله: {وما أدراك ما سجّينٌ}. وإنّما هو تفسيرٌ لما كتب لهم من المصير إلى سجّينٍ، أي: كتابٌ مذكورٌ فيه أعمالهمُ الخبيثةُ وهو مرقومٌ مكتوبٌ مفروغٌ منه، لا يزاد فيه أحدٌ، ولا ينقص منه أحدٌ، قاله محمّد بن كعبٍ القرظيّ.
وقيل: ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي رُصِدَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ كِتَابٌ مَسْطُورٌ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ لأعمالِ الشَّرِّ الصَّادِرِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ. وَقِيلَ: سِجِّينٌ هِيَ فِي الأَصْلِ سِجِّيلٌ، مُشْتَقٌّ من السِّجِلِّ؛ وَهُوَ الْكِتَابُ.]


تفسير قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)) –ك , ش-
أي: إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم اللّه من السّجن والعذاب المهين، وقد تقدّم الكلام على قوله: {ويلٌ}. بما أغنى عن إعادته، وأنّ المراد من ذلك الهلاك والدّمار كما يقال: ويلٌ لفلانٍ.
وكما جاء في المسند والسّنن من رواية بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((ويلٌ للّذي يحدّث فيكذب ليضحك النّاس ويلٌ له ويلٌ له))


تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)) –ك , س-
ثمّ قال تعالى مفسّراً للمكذّبين الفجّار الكفرة: {الّذين يكذّبون بيوم الدّين}. أي: لا يصدّقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره
يَوْمِ الدِّينِ هو يومَ الجزاءِ، يومَ يدينُ اللهُ فيهِ الناسَ بأعمالِهمْ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12))
أَيْ:فَاجِرٍ جَائِرٍ، مُتَجَاوِزٍ فِي الإثمِ، مُنْهَمِكٍ فِي أَسْبَابِهِ.


تفسير قوله تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13))
أي: إذا سمع كلام اللّه من الرّسول يكذّب به، ويظنّ به ظنّ السّوء فيعتقد أنّه مفتعلٌ مجموعٌ من كتب الأوائل وأخبارِ الأممِ الغابرينَ، ليسَ منْ عندِ اللهِ تكبُّراً وعناداً.كما قال: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين}. وقال تعالى: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً}
وأمَّا منْ أنصفَ، وكانَ مقصودهُ الحقُّ المبينُ، فإنَّهُ لا يكذبُ بيومِ الدينِ؛ لأنَّ اللهَ قدْ أقامَ عليهِ من الأدلةِ القاطعةِ، والبراهينِ الساطعةِ، ما يجعلهُ حقَّ اليقينِ، وصارَ لقلوبهمْ مثلَ الشمسِ للأبصارِ، بخلافِ من رانَ على قلبهِ كسبهُ، وغطتهُ معاصيهِ، فإنَّهُ محجوبٌ عن الحقِّ، ولهذا جوزيَ على ذلكَ، بأنْ حُجبَ عن اللهِ، كمَا حُجبَ قلبهُ في الدنيا عنْ آياتِ اللهِ.


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14))
أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا، أنّ هذا القرآن أساطير الأوّلين، بل هو كلام اللّه ووحيه وتنزيله على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وإنّما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرّين الّذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذّنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. والرّين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقرّبين.
قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ وَيَسْوَدَّ مِنَ الذُّنوبِ، والطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهُوَ أَشَدُّ من الرَّيْنِ.
وروي عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّ العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}))


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15((
أي: لهم يوم القيامة منزل ونزلٌ سجّينٌ، ثمّ هم مع ذلك محجوبون عن رؤية ربّه وخالقهم لا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُونَ, فَكَمَا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ.
-المسائل العقدية :
قال الإمام أبو عبد اللّه الشّافعيّ: وفي هذه الآية دليلٌ على أنّ المؤمنين يرونه عزّ وجلّ يومئذٍ. وهذا الذي قاله الإمام الشّافعيّ رحمه اللّه في غاية الحسن، وهو استدلالٌ بمفهوم هذه الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظرةٌ}. وكما دلّت على ذلك الأحاديث الصّحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربّهم عزّ وجلّ في الدّار الآخرة رؤيةً بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة.
وقد قال ابن جريرٍ: عن الحسن في قوله: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون}. قال: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثمّ يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كلّ يومٍ غدوةً وعشيّةً. أو كلاماً هذا معناه.


تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16))
أي: ثمّ هم مع هذهِ العقوبةِ البليغةِ و هذا الحرمان عن رؤية الرّحمن فهم دَاخِلُو النَّارِ وَمُلازِمُوهَا غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَصِلِيُّ الْجَحِيمِ أَشَدُّ مِنَ الإِهَانَةِ وَحِرْمَانِ الكَرامةِ.


تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17))
أَيْ: تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ؛ تَبْكِيتاً وَتَوْبِيخاً وتصغيرًا وتحقيرًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوهُ وَذُوقُوهُ
فذكر لهمْ ثلاثة أنواعٍ منَ العذابِ:
-عذابَ الجحيم.
-وعذابَ التوبيخِ واللوم.
-وعذابَ الحجابِ منْ ربِّ العالمين، المتضمنُ لسخطهِ وغضبهِ عليهم، وهوَ أعظمُ عليهمْ من عذابِ النارِ.
-من هداية الآيات:
ودلَّ مفهومُ الآيةِ،علَى أنَّ المؤمنينَ يرون ربَّهمْ يومَ القيامةِ وفي الجنةِ، ويتلذذونَ بالنظرِ إليهِ أعظمَ منْ سائرِ اللذاتِ، ويبتهجونَ بخطابهِ، ويفرحونَ بقربهِ، كما ذكرَ اللهُ ذلكَ في عدَّةِ آياتٍ منَ القرآنِ، وتواترَ فيه النقلُ عنْ رسولِ اللهِ.
وفي هذهِ الآياتِ، التحذيرُ منَ الذنوبِ، فإنهَّا ترينُ على القلبِ وتغطيهِ شيئاً فشيئاً، حتى ينطمسَ نورُهُ، وتموتَ بصيرتهُ، فتنقلبَ عليهِ الحقائقُ، فيرى الباطلَ حقّاً، والحقَّ باطلاً، وهذا منْ بعضِ عقوباتِ الذنوبِ.

تفسير قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18))
لما ذكرَ أنَّ كتابَ الفجارِ في أسفلِ الأمكنةِ وأضيقِها، ذكرَ أنَّ كتابَ الأبرارِ في أعلاها وأوسعِهَا، وأفسحِها فهم بخلاف الفجّار، {لفي علّيّين}. أي: مصيرهم إلى علّيّين، وهو بخلاف سجّينٍ.
سأل ابن عبّاسٍ كعباً وأنا حاضرٌ عن: {سجّينٍ} قال: هي الأرض السّابعة، وفيها أرواح الكفّار. وسأله عن: {علّيّين}. فقال: هي السّماء السّابعة، وفيها أرواح المؤمنين. وهكذا قال غير واحدٍ إنّها السّماء السّابعة.
قال ابن عبّاسٍ في قوله: {كلاّ إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين}. يعني الجنّة وفي رواية العوفيّ عنه: أعمالهم في السّماء عند اللّه. وكذا قال الضّحّاك
وَالأبرارُ: هُم المُطِيعُونَ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19))
وقال قتادة: علّيّون: ساق العرش اليمنى.
وقال غيره: {علّيّون}: عند سدرة المنتهى.
والظّاهر أنّ {علّيّين} مأخوذٌ من العلوّ، وكلّما علا الشّيء وارتفع عظم واتّسع.
ولهذا قال اللّه تعالى معظّماً أمره ومفخّماً شأنه: {وما أدراك ما علّيّون}
قال ابن سعدي : عليّون : اسمٌ لأعلى الجنةِ، فلمَّا ذكرَ كتابهَم، ذكرَ أنهم في نعيمٍ، وهو اسمٌ جامعٌ لنعيمِ القلبِ والروحِ والبدنِ

تفسير قوله تعالى: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)) –ش-
أَي: الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ أَسْمَاؤُهُم كِتَابٌ مَسْطُورٌ.


تفسير قوله تعالى: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21))
وهم الملائكة، قاله قتادة.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: يشهده من كلّ سماءٍ مقرّبوها
والْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ المَرْقُومَ وَيَرَوْنَهُ، وَقِيلَ: يَشْهَدُونَ بِمَا فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزاد ابن سعدي : وأرواحِ الأنبياءِ والصِّدِّيقين والشهداءِ، ويُنوِّه اللهُ بذكرِهم في الملأِ الأعلى.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)) –ك, ش-
أي إِنَّ أَهْلَ الطاعةِ يوم القيامة لفي تَنَعُّمٍ عَظِيمٍ لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ وجنّاتٍ فيها فضلٌ عميمٌ.


تفسير قوله تعالى: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23))
{على الأرائك}: وهي السّرر المزينةِ بالفرشِ الحسانِ. وَلا تُطْلَقُ الأَرِيكَةُ عَلَى السَّرِيرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي حَجَلَةٍ؛ وَهِيَ الْكِلَّةُ.
{ينظرون}. قيل: معناه: ينظرون في ملكهم وما أعطاهم اللّه من الخير والفضل الّذي لا ينقضي ولا يبيد.
وقيل معناه: {على الأرائك ينظرون} إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا مقابلٌ لما وصف به أولئك الفجّار: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون}. فذكر عن هؤلاء أنّهم يباحون النّظر إلى اللّه عزّ وجلّ، وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدّم في حديث ابن عمر: ((إنّ أدنى أهل الجنّة منزلةً لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنةٍ، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإنّ أعلاهم لمن ينظر إلى اللّه في اليوم مرّتين))


تفسير قوله تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24))
أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النّعيم، أي: صفة التّرافة والحشمة والسّرور والدّعة والرّياسة، ممّا هم فيه من النّعيم العظيم, فإنَّ توالي اللذةِ والسرورِ، يكسبُ الوجهَ نوراً وحسناً وبهجةً.


تفسير قوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25))
أي: يسقون من خمرٍ من الجنّة، والرّحيق من أسماء الخمر، قاله ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن وقتادة وابن زيدٍ.
الرَّحِيقُ مِنَ الْخَمْرِ: مَا لا غِشَّ فِيهِ وَلا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، وهو منْ أطيبِ ما يكونُ منَ الأشربةِ وألذِّها .
وَالمَخْتُومُ: الَّذِي لَهُ خِتَامٌ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ منْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يُفَكَّ خَتْمُهُ للأَبْرَارِ.
عن أبي سعيدٍ الخدريّ، أراه قد رفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((أيّما مؤمنٍ سقى مؤمناً شربةً على ظمأٍ سقاه اللّه من الرّحيق المختوم. وأيّما مؤمنٍ أطعم مؤمناً على جوعٍ أطعمه اللّه من ثمار الجنّة، وأيّما مؤمنٍ كسا مؤمناً ثوباً على عريٍ كساه اللّه من خضر الجنّة))


تفسير قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26))
وقال ابن مسعودٍ في قوله: {ختامه مسكٌ}. أي: خلطه مسكٌ.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: طيّب اللّه لهم الخمر، فكان آخر شيءٍ جعل فيها مسكٌ ختم بمسكٍ. وكذا قال قتادة والضّحّاك.
وقال إبراهيم والحسن: {ختامه مسكٌ}. أي: عاقبته مسكٌ.
وقال ابن جريرٍ: عن أبي الدّرداء: {ختامه مسكٌ}. قال: شرابٌ أبيض مثل الفضّة يختمون به شرابهم، ولو أنّ رجلاً من أهل الدّنيا أدخل أصبعه فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روحٍ إلاّ وجد طيبها.
وقال ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ: {ختامه مسكٌ}. قال: طيبه مسكٌ.
قال ابن سعدي :يحتملُ أنَّ المرادَ مختومٌ عنْ أن يداخلَه شيءٌ ينقصُ لذتَهُ، أو يفسدُ طعمَهُ، وذلكَ الختامُ الذي ختمَ به مسكٌ.
ويحتملُ أنَّ المرادَ أنَّهُ يكونُ في آخرِ الإناءِ، الذي يشربونَ منه الرحيقَ حثالةٌ، وهي المسكُ الأذفرُ، فهذا الكدرُ منهُ، الذي جرتِ العادةُ في الدنيا أنَّه يراقُ، يكونُ في الجنةِ بهذهِ المثابةِ
وقوله: { وَفِي ذَلِكَ}النعيمِ المقيمِ، الذي لا يعلمُ مقدارَهُ وحسنَهُ إلا اللهُ، {فليتنافس المتنافسون}. أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباه ويكاثر وليتسابقوا في المبادرةِ إليه والأعمالِ الموصلةِ إليه، فهذا أولى ما بذلتْ فيه نفائسُ الأنفاس، وأحرى ما تزاحمتْ للوصولِ إليه فُحُولُ الرجالِ ؛ كقوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون}
وَالتَّنَافُسُ: التَّشَاجُرُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّنَازُعُ فِيهِ، فَيُرِيدُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ، وَيَنْفَسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ أَيْ: يَضِنُّ بِهِ.


تفسير قوله تعالى: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27))
أي: ومزاج هذا الرّحيق الموصوف من تسنيمٍ. أي: من شرابٍ يقال له: تسنيمٌ. وهو أشرف شراب أهل الجنّة وأعلاه، قاله أبو صالحٍ والضّحّاك.
ولهذا قال: {عيناً يشرب بها المقرّبون}


تفسير قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)) –ك , ش-
أي: يشربها المقرّبون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، قاله ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ ومسروقٌ وقتادة وغيرهم.


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29))
لمَّا ذكرَ تعالى جزاءَ المجرمينَ وجزاء المؤمنينَ، و ما بينهما من التفاوتِ العظيمِ، أخبرَ أنَّ المجرمينَ -وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ-كانوا في الدنيا يسخرونَ بالمؤمنينَ، ويستهزؤونَ بهمْ، ويضحكونَ منهمْ، احتقاراً لهم وازدراءً، ومعَ هذا تراهُمْ مطمئنينَ، لا يخطرُ الخوفُ على بالِهم.


تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30))
مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الإشارةُ بالجُفُونِ والحواجبِ، يُعَيِّرُونَهُمْ بِالإِسْلامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ.
وإذا مرّوا بالمؤمنين يتغامزون عليهم، أي: محتقرين لهم.


تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31))
أي: وإذا انقلب - أي: رجع - هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين، أي: مسرورينَ مغتبطينَ، وهذا من أعظمِ ما يكونُ من الاغترارِ، أنهَّم جمعوا بينَ غاية الإساءةِ والأمنِ في الدنيا، حتى كأنهَّمْ قدْ جاءهُمْ كتابٌ منَ اللهِ وعهدٌ، أنهَّم منْ أهلِ السعادةِ، وقدْ حكمُوا لأنفسهمْ أنهَّمْ أهلُ الهدى، وأنَّ المؤمنينَ ضالونَ، افتراءً على اللهِ، وتجرؤاً على القولِ عليه بلا علم.


تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32))
أي: لكونهم على غير دينهم فهم ضالون فِي اتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّداً، وَتَمَسُّكِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الحَاضِرَ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33))

أي: وما بعث هؤلاء المجرمون وكلاءَ وحافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم، ولا كلّفوا بهم، حتىَّ يحرصوا على رميِهم بالضلالِ، وما هذا منْهم ألا تعنُّتٌ وعنادٌ وتلاعبٌ، ليسَ له مستندٌ ولا برهانٌ, فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم؟
كما قال تعالى: {اخسؤوا فيها ولا تكلّمون إنّه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الرّاحمين فاتّخذتموهم سخريًّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون}.



تفسير قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34))
{فاليوم}. يعني: يوم القيامة، {الّذين آمنوا من الكفّار يضحكون}. أي: في مقابلة ما ضحك بهم أولئك فكانَ جزاؤُهم في الآخرةِ منْ جنسِ عملِهم.
فيضحك المؤمنين حينَ يرون الكفار في غمراتِ العذابِ يتقلبونَ أَذِلاَّءَ مَغْلُوبِينَ ، وقد ذهبَ عنْهم ما كانُوا يفترونَ, كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا.


تفسير قوله تعالى: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35))
أي: إلى إلى ما أعدَّ اللهُ لهم من النعيمِ وينظرون إلى اللّه عزّ وجلّ في مقابلة من زعم فيهم أنّهم ضالّون وليسوا بضالّين، بل هم من أولياء اللّه المقرّبين ينظرون إلى ربّهم في دار كرامته
وقيل ينظرون أَعْدَاءِ اللَّهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَالمُؤْمِنُونَ مُتَنَعِّمُونَ عَلَى الأَرَائِكِ.


تفسير قوله تعالى: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36))
أي: هل جوزي الكفّار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتّنقّص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمّه وأكمله.
فكما ضحكُوا في الدنيا من المؤمنينَ ورموهُم بالضلالِ، ضحكَ المؤمنونَ منْهم في الآخرةِ، ورأوهم في العذابِ والنكالِ، الذي هو عقوبةُ الغيِّ والضلالِ.
نعم، ثوِّبُوا ما كانُوا يفعلونَ، عدلاً من الله وحكمة، والله عليمٌ حكيمٌ.


ملاحظة :
فيما سبق وفيما يلي عندما لا أذكر الرموز عند تفسير الآية فهذا يعني أن جميع التفاسير تعرضت لنفس المعنى ونفس العناصر , لكني أحاول أن أجمع بينهم أو أختار أكثرهم وضوحًا واختصارًا , وعندما أذكر أحد الرمزين فهذا يعني أني لم أجد في التفسير الثالث كلامًا عن تفسير الآية أو معناها

هذا وماكان من خطأ فمن نفسي والشيطان وماكان من صواب فمن الله وحده , والله أسأل المعونة والسداد.
بانتظار تصويبكم وملاحظاتكم.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 17 ذو القعدة 1435هـ/11-09-2014م, 07:45 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تلخيص تفسير سورة الانشقاق


مكان نزول السورة : مكية
فضائل السورة : -ك , ش -
عن أبي رافعٍ قال: صلّيت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: {إذا السّماء انشقّت}؛ فسجد، فقلت له، قال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم فلا أزال أسجد بها حتّى ألقاه.
عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في: {إذا السّماء انشقّت}، و{اقرأ باسم ربّك الّذي خلق}.


تفسير قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}


تفسير قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
)
يقولُ تعالَى مبيِّناً لما يكونُ في يومِ القيامةِ منْ تغيُّرِ الأجرامِ العظامِ:{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} أي: انفطرتْ وتمايزَ بعضُهَا منْ بعضٍ، وانتثرتْ نجومُهَا، وخُسفَ بشمسِهَا وقمرهَا.
انْشِقَاقُهَا منْ عَلامَاتِ الْقِيَامَةِ .

تفسير قوله تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2))
{وأذنت لربّها}. أي: استمعت لربّها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، {وحقّت}. أي: وحقّ لها أن تطيع أمره وَتَنْقَادَ وَتَسْمَعَ ؛ لأنّه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كلّ شيءٍ وذلّ له كلّ شيءٍ.

تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3))
أي: رجفتْ وارتجتْ، ونسفتْ عليها جبالُهَا، ودكَّ ما عليها من بناءٍ ومعلمٍ، فسويتْ، ومدَّها اللهُ تعالَى مدَّ الأديمِ، حتى صارتْ واسعةً جدّاً، تسعُ أهلَ الموقفِ على كثرتهِمْ، فتصيرُ قاعاً صفصفاً لا ترى فيهِ عوجاً ولا أمتاً.
عن عليّ بن الحسين، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إذا كان يوم القيامة مدّ اللّه الأرض مدّ الأديم حتّى لا يكون لبشرٍ من النّاس إلاّ موضع قدميه، فأكون أوّل من يدعى، وجبريل عن يمين الرّحمن، واللّه ما رآه قبلها، فأقول: ياربّ، إنّ هذا أخبرني أنّك أرسلته إليّ. فيقول اللّه عزّ وجلّ: صدق. ثمّ أشفع فأقول: ياربّ، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. قال: وهو المقام المحمود)).


تفسير قوله تعالى: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4))
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} : من الكنوزِ والأمواتِ وَطَرَحَتْهُمْ إِلَى ظَهْرِهَا.
{وَتَخَلَّتْ}: تَبَرَّأَتْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ إِلَى اللَّهِ؛ لِيُنْفُذَ فِيهِمْ أَمْرُهُ ، فإنَّهُ ينفخُ في الصورِ، فتخرُجُ الأمواتُ من الأجداثِ إلى وجهِ الأرضِ، وتخرِجُ الأرضُ كنوزَهَا، حتَّى تكونَ كالأسطوانِ العظيمِ، يشاهدهُ الخلقُ، ويتحسرونَ على ما همْ فيه يتنافسونَ.


تفسير قوله تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5))
تفسيرها كما تقدم.


تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}


تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6))
{يا أيّها الإنسان} الْمُرَادُ جِنْسُ الإِنْسَانِ، فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ.
{إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً} أي: ساعٍ إلى ربّك سعياً وعاملٌ بأوامرِه ونواهِيه، ومتقربٌ إليه إما بالخيرِ وإما بالشرِّ ، {فملاقيه}. ثمّ إنّك ستلقى ما عملت من خيرٍ أو شرٍّ، ، فلا تعدمُ منه جزاءً بالفضلِ إنْ كنت سعيداً، أو بالعدلِ إنْ كنت شقيّاً .
ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطّيالسيّ عن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((قال جبريل: يا محمّد، عش ما شئت؛ فإنّك ميّتٌ، وأحبب من شئت، فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه)).
ومن النّاس من يعيد الضّمير على قوله: {ربّك} أي: فملاقٍ ربّك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. وعلى هذا فكلا القولين متلازمٌ.
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً}. يقول: تعمل عملاً تلقى اللّه به، خيراً كان أو شرًّا.
وقال قتادة: {يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً}. إنّ كدحك يابن آدم لضعيفٌ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة اللّه فليفعل، ولا قوّة إلاّ باللّه.

تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)) –س, ش-
وهمْ المُؤْمِنُونَ أهلُ السعادةِ , يُعْطَوْنَ الصُّحُفَ الَّتِي فِيهَا بَيَانُ مَا لَهُمْ من الْحَسَنَاتِ بِأَيْمَانِهِمْ


تفسير قوله تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8))
أي: سهلاً بلا تعسيرٍ، وهوَ العرضُ اليسيرُ على اللهِ، فيقرِّرُه اللهُ بذنوبهِ، حتىَّ إذا ظنَّ العبدُ أنَّهُ قدْ هلكَ، قالَ اللهُ لهُ:(إنِّي قدْ سترتهُا عليكَ في الدنيا، فأنا أسترهَا لكَ اليومَ)
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، أخبرنا أيّوب، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((من نوقش الحساب عذّب)). قالت: فقلت: أليس اللّه قال: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً}؟ قال: ((ليس ذاك بالحساب، ولكنّ ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذّب((
عن عائشة قالت: من نوقش الحساب - أو: من حوسب - عذّب. قال: ثمّ قالت: إنّما الحساب اليسير عرضٌ على اللّه عزّ وجلّ، وهو يراهم.
عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في بعض صلاته: ((اللّهمّ حاسبني حساباً يسيراً)). فلمّا انصرف قلت: يا رسول اللّه ما الحساب اليسير؟ قال: ((أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنّه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذٍ هلك)).


تفسير قوله تعالى: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9))
أي: ويرجع بَعْدَ الْحِسَابِ اليَسِيرِ إلى أهله في الجنّة، قاله قتادة والضّحّاك.
{مسروراً}. أي: فرحاً مغتبطاً بما أعطاه اللّه عزّ وجلّ؛ لأنه نجا منَ العذابِ وفازَ بالثوابِ.
وقد روى الطّبرانيّ عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ((إنّكم تعملون أعمالاً لا تعرف، ويوشك العازب أن يثوب إلى أهله، فمسرورٌ ومكظومٌ))


تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10))
أي: بشماله من وراء ظهره، تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك ؛ لأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ، وتَكُونُ يَدُهُ اليُسْرَى خَلْفَهُ.


تفسير قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11))
أي: إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ قَالَ: يَا وَيْلاهُ! يَا ثُبُورَاهُ! وَالثُّبُورُ: الْهَلاكُ , والخسار


تفسير قوله تعالى: (وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)) –س , ش-
أي: : يَدْخُلُهَا وَيُقَاسِي حَرَّ نَارِهَا وَشِدَّتَهَا فتحيطُ به السعيرُ منْ كلِّ جانبٍ، ويقلبُ على عذابهَا وذلكَ لأنَّهُ في الدنيا كان في أهله مسرورًا.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13))
أي: فرحاً لا يفكّر في العواقب ولا يخطرُ البعثُ على باله، ولا يخاف ممّا أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطّويل.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)) –ك , ش-
أي: كان يعتقد أنّه لا يرجع إلى اللّه، ولا يعيده بعد موته، قاله ابن عبّاسٍ وقتادة وغيرهما.
والحور: هو الرّجوع
والْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ السرورِ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ لا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَلا يُبْعَثُ للحِسَابِ والعِقَابِ.


تفسير قوله تعالى: (بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15))

يعني: بلى سيعيده اللّه كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرّها؛ فإنّه كان به بصيراً بِهِ وَبِأَعْمَالِهِ عَالِماً لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ .


تفسير قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }


تفسير قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16))
الخلاف في معنى الشفق: -البياض , الحمرة , النهار كله-
روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وغيرهم أنّهم قالوا: الشّفق: الحمرة.
وقال عبد الرّزّاق عن أبي هريرة قال: الشّفق: البياض.
فالشّفق هو حمرة الأفق؛ إمّا قبل طلوع الشّمس، كما قاله مجاهدٌ، وإمّا بعد غروبها كما هو معروفٌ عند أهل اللّغة.
قال الخليل بن أحمد: الشّفق: الحمرة من غروب الشّمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشّفق.
وفي صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)).
ففي هذا كلّه دليلٌ على أنّ الشّفق هو الحمرة من الغروب إلى وقت العشاء، ولكن صحّ عن مجاهدٍ أنّه قال في هذه الآية: {فلا أقسم بالشّفق}: هو النّهار كلّه.
وفي روايةٍ عنه أيضاً أنّه قال: الشّفق: الشّمس. رواهما ابن أبي حاتمٍ، وإنّما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق}


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)) -جمع : أقسم بالضياء والظلام , ماجمع من نجم ودابة -
أي: جمع، كأنّه أقسم بالضّياء والظّلام.
وقال ابن جريرٍ: أقسم اللّه بالنّهار مدبراً، وباللّيل مقبلاً.
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن وقتادة: {وما وسق}: وما جمع.
قال قتادة: وما جمع من نجمٍ ودابّةٍ.
وقال عكرمة: {واللّيل وما وسق}. يقول: ما ساق من ظلمةٍ، إذا كان اللّيل ذهب كلّ شيءٍ إلى مأواه.


تفسير قوله تعالى: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18))
قال ابن عبّاسٍ: إذا اجتمع واستوى. وكذا قال عكرمة ومجاهدٌ وغيرهم.
وقال الحسن: إذا اجتمع، إذا امتلأ . نوراً بإبدارهِ، وذلكَ أحسنُ مَا يكونُ وأكثرُ منافعَ.
وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مُنْتَصَفِ الشَّهْرِ القَمَرِيِّ.
وقال قتادة: إذا استدار. ومعنى كلامهم: أنّه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً للّيل وما وسق.


تفسير قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19))
-الأقوال في معنى (لتركبن طبقًا عن طبق): -حالا عن حال , سماء عن سماء , منزلا عن منزل -
القول الأول: عن ابن عبّاسٍ: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}: حالاً بعد حالٍ، قال: هذا نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم. هكذا رواه البخاريّ بهذا اللّفظ، وهو محتملٌ أن يكون ابن عبّاسٍ أسند هذا التّفسير عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، كأنّه قال: سمعت هذا من نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم، فيكون قوله: نبيّكم مرفوعاً على الفاعليّة من قال، وهو الأظهر واللّه أعلم.
كما قال أنسٌ: ((لا يأتي عامٌ إلاّ والّذي بعده شرٌّ منه)). سمعته من نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال ابن جريرٍ: عن مجاهدٍ أنّ ابن عبّاسٍ كان يقول: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}. قال: يعني نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم، يقول: حالاً بعد حالٍ. هذا لفظه.
ويؤيّد هذا المعنى قراءة عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعامّة أهل مكّة والكوفة: (لتركبنّ) بفتح التّاء والباء.
القول الثاني : وقال ابن أبي حاتمٍ: عن الشّعبيّ: (لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ). قال: لتركبنّ يا محمّد، سماءً بعد سماءٍ.
قلت: يعنون ليلة الإسراء.
القول الثالث: وقال أبو إسحاق والسّدّيّ عن رجلٍ، عن ابن عبّاسٍ: {طبقاً عن طبقٍ}: منزلاً على منزلٍ. وكذا رواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ مثله، وزاد: ويقال: أمراً بعد أمرٍ وحالاً بعد حالٍ.
وقال السّدّيّ نفسه: {لتركبنّ طبقاً عن طبقٍ}: أعمال من قبلكم منزلاً عن منزلٍ.
قلت: كأنّه أراد معنى الحديث الصّحيح: ((لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتّى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه)). قالوا: يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: ((فمن؟)). وهذا محتملٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ((إنّ ابن آدم لفي غفلةٍ ممّا خلق له، إنّ اللّه إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقيًّا أو سعيداً. ثمّ يرتفع ذلك الملك، ويبعث اللّه إليه ملكاً فيحفظه حتّى يدرك، ثمّ يرتفع ذلك الملك، ثمّ يوكّل اللّه به ملكين يكتبان حسناته وسيّئاته، فإذا حضره الموت ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا دخل قبره ردّ الرّوح في جسده، ثمّ ارتفع ملك الموت وجاءه ملكا القبر فامتحناه ثمّ يرتفعان، فإذا قامت السّاعة انحطّ عليه ملك الحسنات وملك السّيّئات، فانتشطا كتاباً معقوداً في عنقه ثمّ حضرا معه، واحداً سائقاً وآخر شهيداً، ثمّ قال عزّ وجلّ: {لقد كنت في غفلةٍ من هذا}))
ثمّ قال ابن جريرٍ بعدما حكى أقوال النّاس في هذه الآية من القرّاء والمفسّرين: والصّواب من التّأويل قول من قال: لتركبنّ أنت يا محمّد، حالاً بعد حالٍ وأمراً بعد أمرٍ من الشّدائد، والمراد بذلك وإن كان الخطاب موجّهاً إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جميع النّاس أنّهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً.


تفسير قوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20))
أي: فماذا يمنعهم من الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الرّحمن وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً.


تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21))
أَيْ: أَيُّ مَانِعٍ لَهُمْ منْ سُجُودِهِمْ وَخُضُوعِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟! وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ, الْمَعْرُوفِ بِسُجُودِ التلاوةِ.


تفسير قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22))
أي: من سجيّتهم التّكذيب والعناد والمخالفة للحقّ بعدما تبينَ، فلا يستغربُ عدمُ إيمانهمْ وعدمُ انقيادهمْ للقرآنِ، فإنَّ المكذبَ بالحقِّ عناداً، لا حيلةَ فيه


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23))
قال مجاهدٌ وقتادة: يكتمون في صدورهم فاللهُ يعلمُ سرَّهمْ وجهرهمْ، وسيجازيهمْ بأعمالهمْ، ولهذا قالَ:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.


تفسير قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24))
أي: فأخبرهم يا محمّد، بأنّ اللّه عزّ وجلّ قد أعدّ لهم عذاباً أليماً ,الْكَلامُ خارجٌ مَخْرَجَ التَّهَكُّمِ بِهِم.
وسميت البشارةُ بشارةً، لأنَّهَا تؤثرُ في البشرةِ سروراً أو غمّاً.فهذهِ حالُ أكثرِ الناسِ، التكذيبُ بالقرآنِ، وعدمُ الإيمانِ.


تفسير قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25))

هذا استثناءٌ منقطعٌ، لكنّ الّذين آمنوا، أي: بقلوبهم وعملوا الصّالحات بجوارحهم، {لهم أجرٌ}. أي: في الدّار الآخرة.
-الخلاف في معنى{غير ممنونٍ}:
القول الأول: قال ابن عبّاسٍ: غير منقوصٍ. وقال مجاهدٌ والضّحّاك: غير محسوبٍ.
وحاصل قولهما أنّه غير مقطوعٍ، كما قال تعالى: {عطاءً غير مجذوذٍ}.
القول الثاني: وقال بعضهم: غير ممنونٍ عليهم. وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحدٍ؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ له المنّة على أهل الجنّة في كلّ حالٍ وآنٍ ولحظةٍ، وإنّما دخلوها بفضله ورحمته، لا بأعمالهم، فله عليهم المنّة دائماً سرمداً، والحمد للّه وحده أبداً؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النّفس، {وآخر دعواهم أن الحمد للّه ربّ العالمين}

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 17 ذو القعدة 1435هـ/11-09-2014م, 08:40 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

تلخيص تفسير سورة البروج




نزول السورة
:وهي مكّيّةٌ

فضائل السورة
عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسّماء ذات البروج، والسّماء والطّارق.
عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر أن يقرأ بالسّماوات في العشاء. تفرّد به أحمد.

تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}


تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1))
يقسم تعالى بالسّماء وبروجها، وهي النّجوم العظام كما تقدّم بيان ذلك في قوله: {تبارك الّذي جعل في السّماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً}
-الخلاف في معنى البروج: -النجوم , البروج التي فيها الحرس , قصور في السماء , الخلق الحسن , منازل الشمس والقمر -
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والضّحّاك والحسن وقتادة والسّدّيّ: {البروج}: النّجوم.
وعن مجاهدٍ أيضاً: البروج التي فيها الحرس.
وقال يحيى بن رافعٍ: البروج: قصورٌ في السّماء.
وقال المنهال بن عمرٍو: {والسّماء ذات البروج}: الخلق الحسن.
واختار ابن جريرٍ أنّها منازل الشّمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً، تسير الشّمس في كلّ واحدٍ منها شهراً، ويسير القمر في كلّ واحدٍ يومين وثلثاً، فذلك ثمانيةٌ وعشرون منزلةً، ويستتر ليلتين.
وبه قال السعدي والأشقر رحمهم الله.


تفسير قوله تعالى: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3))
اختلف المفسّرون في ذلك:

وقد قال ابن أبي حاتمٍ: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (({واليوم الموعود}: يوم القيامة، {وشاهدٍ}: يوم الجمعة، وما طلعت شمسٌ ولا غربت على يومٍ أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعةٌ لا يوافيها عبدٌ مسلمٌ يسأل اللّه فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه، ولا يستعيذ فيها من شرٍّ إلاّ أعاذه، {ومشهودٍ}: يوم عرفة))وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهو أشبه. والموعود يوم القيامة.
وقال الإمام أحمد: عن أبي هريرة، أمّا عليٌّ فرفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأمّا يونس فلم يعد أبا هريرة، أنّه قال في هذه الآية: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: يعني: الشّاهد: يوم الجمعة، ويومٌ مشهودٌ: يوم القيامة.
عن أبي مالكٍ الأشعريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((اليوم الموعود: يوم القيامة، وإنّ الشّاهد: يوم الجمعة، وإنّ المشهود: يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره اللّه لنا))
وقال مجاهدٌ وعكرمة والضّحّاك: الشّاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة.
وعن عكرمة أيضاً: الشّاهد: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، والمشهود: يوم الجمعة. وقال عليّ بن أبي طلحة: عن ابن عبّاسٍ: الشّاهد: اللّه، والمشهود: يوم القيامة.
عن ابن عبّاسٍ: {وشاهدٍ ومشهودٍ}. قال: الشّاهد: الإنسان، والمشهود: يوم الجمعة. هكذا رواه ابن أبي حاتمٍ.
عن أبي الدّرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أكثروا عليّ من الصّلاة يوم الجمعة؛ فإنّه يومٌ مشهودٌ تشهده الملائكة)).
وقال: الأكثرون على أنّ الشّاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة
قالَ السعدي : {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}وشملَ هذا كلَّ منِ اتصفَ بهذا الوصفِ أي: مُبصِر ومُبْصَر، وحاضِر ومحضورٍ، وراءٍ ومَرئي.
والمقسمُ عليهِ، ما تضمنهُ هذا القسمُ من آياتِ اللهِ الباهرةِ، وحكمهِ الظاهرةِ، ورحمتهِ الواسعةِ، وقيلَ: إنَّ المقسمَ عليهِ قولهُ:{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}
قال الأشقر: الْمُرَادُ بالشَّاهِدِ: مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الخلائقِ، وَالْمُرَادُ بالمَشْهُودِ: مَا يَشْهَدُ بِهِ الشَّاهِدُونَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، مِن الجرائمِ الفظيعةِ الَّتِي فَعَلُوهَا بالشهودِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ الآتِي ذِكْرُهَا، وَاللَّهُ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ أَيْضاً كَمَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ.وَقِيلَ: الشاهدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ فِيهِ، والمشهودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، يَشْهَدُ النَّاسُ فِيهِ مَوْسِمَ الْحَجِّ، وَتَحْضُرُهُ الْمَلائِكَة.


تفسير قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4))
أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه أخاديد، وهي الحفير في الأرض، وهذا خبرٌ عن قومٍ من الكفّار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين باللّه عزّ وجلّ فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأجّجوا فيه ناراً وأعدّوا لهم وقوداً يسعّرونها به، ثمّ أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها.
ولهذا قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود (4) النّار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعودٌ (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهودٌ}. أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين

وقد اختلف أهل التّفسير في أهل هذه القصّة من هم؟
القول الأول:
فعن عليٍّ رضي اللّه عنه أنّهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم؛ فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدودٍ فقذف فيه من أنكر عليه منهم. واستمرّ فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
القول الثاني: وعنه أنّهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم فغلب مؤمنوهم على كفّارهم، ثمّ اقتتلوا فغلب الكفّار المؤمنين فخدّوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها، وعنه أنّهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم حبشيٌّ.
القول الثالث: وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {قتل أصحاب الأخدود النّار ذات الوقود}. قال: ناسٌ من بني إسرائيل خدّوا أخدوداً في الأرض ثمّ أوقدوا فيه ناراً ثمّ أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساءً، فعرضوا عليها، وزعموا أنّه دانيال وأصحابه. وهكذا قال الضّحّاك بن مزاحمٍ، وقيل غير ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن صهيبٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ فلمّا كبر السّاحر قال للملك: إنّي قد كبرت سنّي، وحضر أجلي فادفع إليّ غلاماً لأعلّمه السّحر. فدفع إليه غلاماً، فكان يعلّمه السّحر، وكان بين السّاحر وبين الملك راهبٌ، فأتى الغلام على الرّاهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى السّاحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الرّاهب. فقال: إذا أراد السّاحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني السّاحر.
قال: فبينما هو ذات يومٍ إذ أتى على دابّةٍ فظيعةٍ عظيمةٍ قد حبست النّاس فلا يستطيعون أن يجوزوا؛ فقال: اليوم أعلم أمر الرّاهب أحبّ إلى اللّه أم أمر السّاحر.
قال: فأخذ حجراً فقال: اللّهمّ، إن كان أمر الرّاهب أحبّ إليك وأرضى من أمر السّاحر فاقتل هذه الدّابّة حتّى يجوز النّاس. ورماها فقتلها ومضى النّاس، فأخبر الرّاهب بذلك فقال: أي بنيّ أنت أفضل منّي، وأنت ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ. فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليسٌ فعمي فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: اشفني ولك ما ههنا أجمع. فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنّما يشفي اللّه عزّ وجلّ، فإن آمنت به دعوت اللّه فشفاك. فآمن فدعا اللّه فشفاه، ثمّ أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس؛ فقال له الملك: يا فلان من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربّي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربّي وربّك اللّه. قال: ولك ربٌّ غيري؟! قال: نعم، ربّي وربّك اللّه.
فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الغلام فبعث إليه؛ فقال: أي بنيّ بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء! قال: ما أشفي أحداً، إنّما يشفي اللّه عزّ وجلّ. قال: أنا؟ قال: لا. قال: أولك ربٌّ غيري؟! قال: ربّي وربّك اللّه. فأخذه أيضاً بالعذاب، فلم يزل به حتّى دلّ على الرّاهب، فأتي بالرّاهب؛ فقال: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتّى وقع شقّاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك. فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتّى وقع شقّاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفرٍ إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلاّ فدهدهوه.
فذهبوا به فلمّا علوا به الجبل قال: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمّس حتّى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه. فبعث به مع نفرٍ في قرقورٍ فقال: إذا لجّجتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلاّ فغرّقوه في البحر .. فلجّجوا به البحر؛ فقال الغلام: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتّى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم اللّه تعالى. ثمّ قال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلاّ فإنّك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع النّاس في صعيدٍ واحدٍ ثمّ تصلبني على جذعٍ وتأخذ سهماً من كنانتي، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام. فإنّك إن فعلت ذلك قتلتني.
ففعل ووضع السّهم في كبد قوسه ثمّ رماه وقال: بسم اللّه ربّ الغلام. فوقع السّهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السّهم ومات؛ فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر. فقد -واللّه- نزل بك، قد آمن النّاس كلّهم. فأمر بأفواه السّكك فخدّت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النّيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلاّ فاقتحموه فيها. قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأةٌ بابن لها ترضعه، فكأنّها تقاعست أن تقع في النّار؛ فقال الصّبيّ: اصبري يا أمّاه، فإنّك على الحقّ((.

وهكذا رواه مسلمٌ في آخر الصّحيح عن هدبة بن خالدٍ، عن حمّاد بن سلمة به نحوه.


تفسير قوله تعالى: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5))
الوقود: الحَطَبُ الَّذِي تُوقَدُ بِهِ


تفسير قوله تعالى: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6))
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}
؛ أَيْ: لُعِنُوا حِينَ أَحْدَقُوا بِالنَّارِ قَاعِدِينَ عَلَى الكَرَاسِيِّ عِنْدَ الأُخدودِ
وهذا من أعظمِ ما يكونُ منَ التجبُّرِ وقساوةِ القلبِ، لأنَّهمْ جمعوا بينَ الكفرِ بآياتِ اللهِ ومعاندتِها، ومحاربةِ أهلهَا وتعذيبهمْ بهذا العذابِ، الذي تنفطرُ منهُ القلوبُ، وحضورهمْ إياهمْ عندَ إلقائهمْ فيهَا، والحالُ أنَّهمْ ما نقموا منَ المؤمنينَ إلا خصلةً يُمدحونَ عليهَا، وبها سعادتهمْ، وهيَ أنَّهمْ كانوا يؤمنونَ باللهِ العزيزِ الحميدِ أي: الذي لهُ العزةُ التي قهرَ بهَا كلَّ شيءٍ، وهو حميدٌ في أقوالهِ وأوصافهِ وأفعالهِ.


تفسير قوله تعالى: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7))
{وهم}أَي: الَّذِينَ خَدُّوا الأُخْدُودَ، وَهُم الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ، {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ؛ لِيَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، يَشْهَدُونَ بِمَا فَعَلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8))
أي: وما كان لهم عندهم ذنبٌ إلاّ إيمانهم باللّه العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفّار به، فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثيرٍ من النّاس.


تفسير قوله تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9))
{الّذي له ملك السّماوات والأرض}. من تمام الصّفة أنّه المالك لجميع السّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما.
{واللّه على كلّ شيءٍ شهيدٌ}. أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السّماوات والأرض، ولا تخفى عليه خافيةٌ , أفلا خافَ هؤلاءِ المتمردونَ على اللهِ، أنْ يبطشَ بهمُ العزيزُ المقتدرُ، أو مَا علمُوا أنَّهمْ جميعهمْ مماليكُ للهِ، ليسَ لأحدٍ على أحدٍ سلطةٌ، منْ دونِ إذنِ المالكِ؟ أو خفيَ عليهمْ أنَّ اللهَ محيطٌ بأعمالهمْ، مجازٍ لهمْ على فعالهمْ؟ كلاَّ إنَّ الكافرَ في غرورٍ، والظالمَ في جهلٍ وعمى عنْ سواءِ السبيلِ.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10))
{إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات}. أي: حرّقوا. قاله ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة والضّحّاك وابن أبزى، {ثمّ لم يتوبوا}. أي: لم يقلعوا عمّا فعلوا ويندموا على ما أسلفوا،
{فلهم عذاب جهنّم ولهم عذاب الحريق}. وذلك أنّ الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصريّ: انظروا إلى هذا الكرم والجود! قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التّوبة والمغفرة.



تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11))
ولما ذكرَ عقوبةَ الظالمينَ، يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهمْ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهمْ وَمِنْهُم الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى نَارِ الأُخْدُودِ، وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يَرْتَدُّوا، أنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار بخلاف ما أعدّ لأعدائه من الحريق والجحيم؛ ولهذا قال: {ذلك الفوز الكبير}


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12))
أي: إنّ بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذّبوا رسله وخالفوا أمره لشديدٌ عظيمٌ قويٌّ؛ فإنّه تعالى ذو القوّة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب.
فإذا أخذ الظّالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيزٍ مقتدرٍ .


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13))
أي: من قوّته وقدرته التّامّة يبدئ الخلق ثمّ يعيده كما بدأه بلا ممانعٍ ولا مدافع


تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14))
أي: يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ولو كان الذّنب من أيّ شيءٍ كان، ويعفو عنِ السيئاتِ لمنِ استغفرهُ وأنابَ
و{الودود} قال ابن عبّاسٍ وغيره: هو الحبيب
لذي يحبهُ أحبابهُ محبةً لا يشبهُهَا شيءٌ، فكَما أنَّهُ لا يشابههُ شيءٌ في صفاتِ الجلال والجمالِ، والمعاني والأفعالِ، فمحبتهُ في قلوبِ خواصِّ خلقهِ، التابعةِ لذلكَ، لا يشبهُهَا شيءٌ منْ أنواعِ المحابِّ، ولهذا كانتْ أصلَ العبوديةِ، وهيَ المحبةُ التي تتقدَّمُ جميعَ المحابِّ وتغلِبُهَا، وإنْ لم يكنْ غيرُهَا تبعاً لها كانتْ عذاباً على أهلهَا، وهوَ تعالى الودودُ، الوادُّ لأحبابهِ، كمَا قالَ تعالَى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} والمودةُ: هيَ المحبةُ الصافيةُ، وفي هذا سرٌّ لطيفٌ، حيثُ قرنَ الودودُ بالغفورِ،ليدلَّ ذلكَ على أنَّ أهلَ الذنوبِ إذا تابُوا إلى اللهِ وأنابُوا، غفرَ لهمْ ذنوبهمْ وأحبَّهمْ، فلا يقالُ: بلْ تغفرُ ذنوبهمْ، ولا يرجعُ إليهمُ الودُّ، كما قالهُ بعضُ الغالطينَ.
بلِ اللهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ حينَ يتوبُ، منْ رجلٍ لهُ راحلةٌ، عليهَا طعامُهُ وشرابهُ وما يصلحهُ، فأضلَّهَا في أرضِ فلاةٍ مهلكةٍ، فأيسَ منهَا، فاضطجع في ظلِّ شجرةٍ ينتظرُ الموتَ، فبينمَا هوَ على تلكَ الحالِ، إذا راحلتُه على رأسهِ، فأخذَ بخطامِهَا، فاللهُ أعظمُ فرحاً بتوبةِ العبدِ من هذا براحلتهِ، وهذا أعظمُ فرحٍ يقدَّرُ.
فللهِ الحمدُ والثناءُ، وصفوُ الودادِ، ما أعظمَ برَّهُ، وأكثرَ خيرَهُ، وأغزرَ إحسانَهُ، وأوسعَ امتنانهُ!!


تفسير قوله تعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15 ))
{ذو العرش}. أي: صاحب العرش المعظّم العالي على جميع الخلائق،الذي منْ عظمتهِ، أنَّهُ وسعَ السماواتِ والأرضَ والكرسيَّ، فهي بالنسبةِ إلى العرشِ كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاةٍ، بالنسبةِ لسائرِ الأرضِ، وخصَّ اللهُ العرشَ بالذكرِ، لعظمتِهِ، ولأنَّهُ أخصُّ المخلوقاتِ بالقربِ منهُ تعالَى.
والمجيد فيه قراءتان: الرّفع على أنّه صفةٌ للرّبّ عزّ وجلّ، والجرّ على أنّه صفةٌ للعرش، وكلاهما معنًى صحيحٌ.


تفسير قوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16))
أي: مهما أراد فعله لا معقّب لحكمه ولا يسأل عمّا يفعل لعظمته وقهره وحكمته وعدله كما روّينا عن أبي بكرٍ الصّدّيق أنّه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطّبيب؟ قال: نعم. قالوا: فما قال لك؟ قال: قال لي: إنّي فعّالٌ لما أريد.


تفسير قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17))
ثمَّ ذكرَ منْ أفعالهِ الدالةِ على صدقِ ما جاءتْ بهِ رسلُهُ، فقالَ:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: هل بلغك ما أحلّ اللّه بهم من البأس وأنزل عليهم من النّقمة التي لم يردّها عنهم أحدٌ؟ .
وهذا تقريرٌ لقوله: {إنّ بطش ربّك لشديدٌ}. أي: إذا أخذ الظّالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيزٍ مقتدرٍ.
قال ابن أبي حاتمٍ: عن عمرو بن ميمونٍ قال: مرّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على امرأةٍ تقرأ: {هل أتاك حديث الجنود}. فقام يسمع؛ فقال: ((نعم، قد جاءني))


تفسير قوله تعالى: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18))
الْمُرَادُ بِحَدِيثِهِمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ من الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ


تفسير قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19))
أي: هم في شكٍّ وريبٍ وكفرٍ وعنادٍ.
أي: لا يزالونَ مستمرينَ على التكذيبِ والعنادِ، لا تنفعُ فيهمُ الآياتُ، ولا تُجدي لديهمُ العظاتُ


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20))
أي: هو قادرٌ عليهم قاهرٌ لا يفوتونه ولا يعجزونه
أي: قدْ أحاطَ بهمْ علماً وقدرةً، كقولهِ:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ففيهِ الوعيدُ الشديدُ للكافرينَ، مِنْ عقوبةِ مَنْ همْ في قبضتهِ، وتحتَ تدبيرهِ


تفسير قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21))
أي: عظيمٌ كريمٌ وسيعُ المعاني عظيمُهَا، كثيرُ الخيرِ والعلمِ , أَيْ: مُتَنَاهٍ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَمِ والبَرَكةِ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ شِعْرٌ وَكَهَانَةٌ وَسِحْرٌ.


تفسير قوله تعالى: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22))
أي: هو في الملأ الأعلى محفوظٌ من الزّيادة والنّقص والتّحريف والتّبديل. ، ومحفوظٌ مِنَ الشياطينِ، وهوَ اللوحُ المحفوظُ الذي قدْ أثبتَ اللهُ فيهِ كلَّ شيءٍ.
وهذا يدلُّ على جلالةِ القرآنِ وجزالتهِ، ورفعةِ قدرهِ عندَ اللهِ تعالى.
وقال الحسن البصريّ: إنّ هذا القرآن المجيد عند اللّه في لوحٍ محفوظٍ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه.
وقد روى البغويّ ، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ في صدر اللّوح: لا إله إلاّ اللّه وحده، دينه الإسلام، ومحمّدٌ عبده ورسوله، فمن آمن باللّه وصدّق بوعده واتّبع رسوله أدخله الجنّة.
قال: واللّوح لوحٌ من درّةٍ بيضاء، طوله ما بين السّماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدّرّ والياقوت، ودفّتاه ياقوتةٌ حمراء، وقلمه نورٌ، وكلامه معقودٌ بالعرش، وأصله في حجر ملكٍ.
قال مقاتلٌ: اللّوح المحفوظ عن يمين العرش.
وقال الطّبرانيّ: عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّ اللّه خلق لوحاً محفوظاً من درّةٍ بيضاء، صفحاتها من ياقوتةٍ حمراء، قلمه نورٌ، وكتابه نورٌ، للّه فيه في كلّ يومٍ ستّون وثلاثمائة لحظةٍ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء))

رد مع اقتباس
  #21  
قديم 17 ذو القعدة 1435هـ/11-09-2014م, 09:04 AM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
افتراضي

سورة الطارق:


نزول السورة :وهي مكية


فضائل السورة:
عن عبد الرّحمن بن خالد بن أبي جبلٍ العدوانيّ، عن أبيه، أنّه أبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مشرق ثقيفٍ، وهو قائمٌ على قوسٍ أو عصًا حين أتاهم يبتغي عندهم النّصر، فسمعته يقول: (({والسّماء والطّارق})). حتّى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهليّة وأنا مشركٌ، ثمّ قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيفٌ، فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرّجل؟ فقرأتها عليهم؛ فقال من معهم من قريشٍ: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنّا نعلم ما يقول حقًّا لاتّبعناه.
عن جابرٍ قال: صلّى معاذٌ المغرب فقرأ البقرة والنّساء؛ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أفتّانٌ أنت يا معاذ؟! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسّماء والطّارق، والشّمس وضحاها، ونحو هذا؟)).

تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)}


تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1))
يقسم تعالى بالسّماء وما جعل فيها من الكواكب النّيّرة؛ ولهذا قال: {والسّماء والطّارق}


تفسير قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2 ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3))
ثم قال: {وما أدراك ما الطّارق}. ثمّ فسّره بقوله: {النّجم الثّاقب}.
قال قتادة وغيره: إنّما سمّي النّجم طارقاً؛ لأنّه إنّما يرى باللّيل ويختفي بالنّهار. ويؤيّده ما جاء في الحديث الصّحيح: (نهى أن يطرق الرّجل أهله طروقاً). أي: يأتيهم فجأةً باللّيل، وفي الحديث الآخر المشتمل على الدّعاء: ((إلاّ طارقاً يطرق بخيرٍ يا رحمن))
قال ابن عبّاسٍ: المضيء. وقال السّدّيّ: يثقب الشّياطين إذا أرسل عليها. وقال عكرمة: هو مضيءٌ محرقٌ للشّيطان
والصحيحُ أنَّهُ اسمُ جنسٍ يشملُ سائرَ النجومِ الثواقبِ.
وقدْ قيلَ:إنَّهُ (زُحلُ) الذي يخرقُ السماواتِ السبعِ وينفذُ فيها، فيرى منهَا.
وسُمِّيَ طارقاً،لأنَّهُ يطرقُ ليلاً


تفسير قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4))
والمقسَمُ عليهِ قولهُ:{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يحفظُ عليهَا أعمالَهَا الصالحةَ والسيئةَ، وستجازى بعملِهَا المحفوظِ عليهَا
وقيل: كلّ نفسٍ عليها من اللّه حافظٌ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: {له معقّباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه}. الآية
وَهُم الْحَفَظَةُ من الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ عَلَيْهَا عَمَلَهَا وَقَوْلَهَا وَفِعْلَهَا، وَيُحْصُونَ مَا تَكْسِبُ منْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالحَافِظُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وحِفْظُ الْمَلائِكَةِ مِنْ حِفْظِهِ؛ لأَنَّهُ بِأَمْرِهِ.


تفسير قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5))
تنبيهٌ للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشادٌ له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأنّ من قدر على البداءة فهو قادرٌ على الإعادة بطريق الأولى؛ كما قال: {وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه


تفسير قوله تعالى: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6((
يعني المنيّ، يخرج دفقاً من الرّجل ومن المرأة، فيتولّد منهما الولد بإذن اللّه عزّ وجلّ.
ولهذا قال: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب}


تفسير قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7))
يعني: صلب الرّجل وترائب المرأة، وهو صدرها.
قال شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب}: صلب الرّجل وترائب المرأة، أصفر رقيقٌ لا يكون الولد إلاّ منهما. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ وعكرمة وقتادة والسّدّيّ وغيرهم.
وقال الليث بن معمر بن أبي حبيبة المدنيّ، أنّه بلغه في قول اللّه عزّ وجلّ: {يخرج من بين الصّلب والتّرائب}. قال: هو عصارة القلب، من هناك يكون الولد.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8))
فيه قولان:
أحدهما:
على رجع هذا الماء الدّافق إلى مقرّه الذي خرج منه لقادرٌ على ذلك. قاله مجاهدٌ وعكرمة وغيرهما.
والقول الثّاني: إنّه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماءٍ دافقٍ. أي: إعادته وبعثه إلى الدّار الآخرة، لقادرٌ؛ لأنّ من قدر على البدأة قدر على الإعادة.
وقد ذكر اللّه عزّ وجلّ هذا الدّليل في القرآن في غير ما موضعٍ، وهذا القول قال به الضّحّاك واختاره ابن جريرٍ؛ ولهذا قال: {يوم تبلى السّرائر}


تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9))
أي: يوم القيامة تبلى فيه السّرائر، أي: تظهر وتبدى ويبقى السّرّ علانيةً والمكنون مشهوراً، وقد ثبت في الصّحيحين عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((يرفع لكلّ غادرٍ لواءٌ عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلانٍ
أَيْ: يُرْجِعُهُ يَوْمَ تُبْلَى السرائرُ؛ أَيْ: تُخْتَبَرُ وَتُعْرَفُ، وَالسَّرَائِرُ: مَا يُسَرُّ فِي الْقُلُوبِ من العقائدِ والنِّيَّاتِ وَغَيْرِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْحَسَنُ مِنْهَا من الْقَبِيحِ


تفسير قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10))
{فما له} أي: الإنسان يوم القيامة {من قوّةٍ}. أي: في نفسه، {ولا ناصرٍ}. أي: من خارج منه، أي: لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب اللّه، ولا يستطيع له أحدٌ ذلك.
فهذا القسمُ على حالةِ العاملينَ وقتَ عملهمْ وعندَ جزائهمْ


تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}

تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11))
ثمَّ أقسمَ قسماً ثانياً على صحةِ القرآنِ،فقالَ:{وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}
قال ابن عبّاسٍ: الرّجع: المطر. وعنه: هو السّحاب فيه المطر. وعنه: {والسّماء ذات الرّجع}: تمطر ثمّ تمطر.
وقال قتادة: ترجع رزق العباد كلّ عامٍ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم.
وقال ابن زيدٍ: ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا


تفسير قوله تعالى: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12))
قال ابن عبّاسٍ: هو انصداعها عن النّبات، وكذا قال سعيد بن جبيرٍ وعكرمة وأبو مالكٍ والضّحّاك والحسن وقتادة والسّدّيّ وغير واحدٍ
وتنصدعُ الأرضُ للنباتِ والثِّمارِ وَالشَّجَرِ , فيعيشُ بذلكَ الآدميونَ والبهائمُ،


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13))
قال ابن عبّاسٍ: حقٌّ. وكذا قال غيره، وقال آخر: حكمٌ عدلٌ.
أي: حقٌّ وصدقٌ، بيِّنٌ واضحٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14))
أي: بل هو جدٌّ حقٌّ ,وهوَ القولُ الذي يفصلُ بينَ الطوائفِ والمقالاتِ، وتنفصلُ بهِ الخصوماتُ


تفسير قوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15))
أي: المكذبينَ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وللقرآنِ يمكرون بالنّاس في دعوتهم إلى خلاف القرآن ليدفعوا بكيدهمُ الحقَّ، ويؤيدوا الباطلَ.


تفسير قوله تعالى: (وَأَكِيدُ كَيْدًا (16))
أَيْ: أَسْتَدْرِجُهُمْ منْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُجَازِيهِمْ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ


تفسير قوله تعالى: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))
أي: أَخِّرْهُمْ وأنظرهم ولا تستعجل لهم،{أمهلهم رويداً}. أي: قليلاً، أي: وسترى ماذا أحلّ بهم من العذاب والنّكال والعقوبة والهلاك. كما قال تعالى: {نمتّعهم قليلاً ثمّ نضطرّهم إلى عذابٍ غليظٍ}.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 3 ذو الحجة 1435هـ/27-09-2014م, 11:37 PM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
Post من سورة الأعلى إلى سورة الفجر

تفسير سورة الأعلى
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر


أسماء السورة
سورة سبح -ك ، س-
سُورَةُ الأَعْلَى -ش-

مكان نزول السورة: -ك , س-

وهي مكّيّةٌ.
والدّليل على ذلك ما رواه البخاريّ: عن البراء بن عازبٍ قال: أوّل من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مصعب بن عميرٍ وابن أمّ مكتومٍ، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثمّ جاء عمّارٌ وبلالٌ وسعدٌ، ثمّ جاء عمر بن الخطّاب في عشرين، ثمّ جاء النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيءٍ فرحهم به، حتّى رأيت الولائد والصّبيان يقولون: هذا رسول اللّه قد جاء، فما جاء حتّى قرأت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. في سورٍ مثلها)

فضائل السورة: -ك-
-محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها :

وقال الإمام أحمد: عن عليٍّ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبّ هذه السورة: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. تفرّد به أحمد.
-الصلاة بـ(سبح اسم ربك الأعلى ) :
1-الوصاية بالصلاة به
ا: وثبت في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمعاذٍ: ((هلاّ صلّيت بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، {والشّمس وضحاها}، {واللّيل إذا يغشى})).
2-الصلاة بها في العيدين والجمعة : وقال الإمام أحمد: عن النّعمان بن بشيرٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ في العيدين بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}. وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعاً.
3-الصلاة بها في الوتر: وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبيّ بن كعبٍ وعبد اللّه بن عبّاسٍ وعبد الرّحمن بن أبزى وعائشة أمّ المؤمنين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ في الوتر بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{قل يا أيّها الكافرون}، و{قل هو اللّه أحدٌ}. زادت عائشة والمعوّذتين.
-ماتضمنته السورة في كونها من أذكار الصلاة :قال الإمام أحمد: عن عقبة بن عامرٍ الجهنيّ لمّا نزلت: {فسبّح باسم ربّك العظيم}. قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((اجعلوها في ركوعكم)). فلمّا نزلت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: ((اجعلوها في سجودكم)). ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن موسى بن أيّوب به.
5-الذكر الوارد عند قراءتها :
وقال الإمام أحمد: عن ابن عبّاسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا قرأ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: ((سبحان ربّي الأعلى)).

تفسير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) }


تفسير قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) )
معنى التسبيح :

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}؛ أَيْ: نَزِّهْهُ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ بِقَوْلِكَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى.
نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ, وَذِكْرُكَ إِيَّاهُ أنْ تَذْكُرَهُ إِلاَّ وَأَنْتَ خَاشِعٌ لَهُ مُعَظِّمٌ، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِمٌ.
-ما يتضمن الأمر بالتسبيح :
يأمرُ تعالى بتسبيحهِ المتضمن لذكرهِ وعبادتهِ، والخضوعِ لجلالهِ، والاستكانةِ لعظمتهِ، وأنْ يكونَ تسبيحاً يليقُ بعظمةِ اللهِ تعالى، بأنْ تذكرَ أسماؤهُ الحسنى العاليةُ على كلِّ اسمٍ بمعناها الحسنِ العظيمِ، وتذكرَ أفعالُه التي منها أنَّهُ خلقَ المخلوقاتِ فسواها.


تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) )
-معنى الآية :

-عامة لجميع المخلوقات: خلق الخليقة وسوّى كلّ مخلوقٍ في أحسن الهيئات . –ك-
-خاص بالإنسان : خَلَقَ الإِنْسَانَ مُسْتَوِياً، فَعَدَلَ قَامَتَهُ وَسَوَّى فَهْمَهُ وَهَيَّأَهُ للتَّكْلِيفِ. –ش-

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) )
معنى التقدير في الآية:

{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}؛ الْمَعْنَى: قَدَّرَ أَجْنَاسَ الأَشْيَاءِ، وَأَنْوَاعَهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا وَأَقْوَالَهَا وَآجَالَهَا.
معنى الهداية :
أي : هَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ، وَيَسَّرَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ، وَأَلْهَمَهُ إِلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَقَدَّرَ أَرْزَاقَ الْخَلْقِ وَأَقْوَاتَهُمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَايِشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْساً، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشاً، وَخَلَقَ المنافعَ فِي الأَشْيَاءِ، وَهَدَى الإِنْسَانَ لِوَجْهِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهَا). [زبدة قال مجاهدٌ: هدى الإنسان للشّقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها.
-وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن موسى أنّه قال لفرعون: {ربّنا الّذي أعطى كلّ شيءٍ خلقه ثمّ هدى}. أي: قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه، كما سبق في صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((إنّ اللّه قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء)) .
-نوع الهداية وارتباط الآية بما بعدها :
وهذه الهدايةُ العامةُ،التي مضمونهُا أنهُ هدى كلَّ مخلوقٍ لمصلحتهِ، وتذكرَ فيها نعمهُ الدنيويةُ، ولهذا قالَ فيهَا: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}.


تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) )
معنى الآية:

{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي: أنزلَ منَ السماءِ ماءً فأنبتَ بهِ أنواعَ النباتِ والعشبِ الكثيرِ، فرتعَ فيهَا الناسُ والبهائمُ وكلُّ حيوانٍ.


تفسير قوله تعالى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) )
معنى الآية والمقصد منها :

أي: جعلَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ, غُثَاءً أي :هشيماً رميماً، أَحْوَى؛ أَيْ: أَسْوَدَ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الكَلَأَ إِذَا يَبِسَ اسْوَدَّ ويذكرَ فيها نعمَهُ الدينيةَ، ولهذا امتنَّ اللهُ بأصِلِها ومنشئِها، وهوَ القرآنُ.
قال ابن عبّاسٍ: هشيماً متغيّراً. وعن مجاهدٍ وقتادة وابن زيدٍ نحوه.
قال ابن جريرٍ:
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أنّ ذلك من المؤخّر الذي معناه التقديم، وأنّ معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السّواد، فجعله غثاءً بعد ذلك. ثم قال ابن جريرٍ: وهذا وإن كان محتملاً إلاّ أنّه غير صوابٍ؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل.

تفسير قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) )
-سبب النزول :

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بالوَحْيِ لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ منْ آخِرِ الآيَةِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوَّلِهَا؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا؛ فَنَزَلَتْ: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى}, فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ.
كاف الخطاب عائدة إلى : {سنقرئك}. أي: يا محمد، {فلا تنسى}.
أي: سنحفظُ ما أوحينا إليكَ منَ الكتابِ، ونوعيهِ قلبكَ، فلا تنسى منهُ شيئاً.
المقصد من الآية: وهذا إخبارٌ بشارةٌ كبيرةٌ منَ اللهِ لعبدهِ ورسولِه محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ، ووعدٌ منه له بأنّه سيقرئه قراءةً لا ينساها.


تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) )
-معنى الاستثناء (إلا ما شاء الله)

قال قتادة: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا ينسى شيئاً إلاّ ما شاء اللّه.
مما اقتضتْ حكمتُهُ أنْ ينسيكَهُ لمصلحةٍ بالغةٍ.
وقيل: المراد بقوله: {فلا تنسى} طلبٌ، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النّسخ، أي: لا تنسى ما نقرئك إلاّ ما يشاء اللّه رفعه، فلا عليك أن تتركه.
-معنى {إنه يعلم الجهر وما يخفى }:
أي: يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ، فيعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ.
وقيل: يعلمُ ما يصلحُ عبادهُ أي: فلذلكَ يَشرعُ ما أرادَ، ويحكمُ بما يريدُ.

تفسير قوله تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) )
-معنى الآية:

قيل: نسهّل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرّع لك شرعاً سهلاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
وقيل: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ عَمَلَ الْجَنَّةِ، وَنُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْمَلَ بِهِ، أَوْ نُوَفِّقُكَ للطَّرِيقَةِ اليُسْرَى فِي الدِّينِ والدنيا، فِي كُلِّ أَمْرٍ منْ أمورِهِمَا الَّتِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ.
-ماتقتضيه الآية : وهذه أيضاً بشارةٌ كبيرةٌ، أنَّ اللهَ ييسرُ رسولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في جميعِ أمورِه ويجعلُ شرعَهُ ودينَهُ يسراً.

تفسير قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) )
{فَذَكِّرْ} بشرعِ اللهِ وآياتهِ {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي: ما دامتِ الذكرى مقبولةً، والموعظةُ مسموعةً، سواءٌ حصلَ منَ الذكرى جميعُ المقصودِ أو بعضُهُ.
فَأَمَّا مَنْ ذُكِّرَ وَبُيِّنَ لَهُ الْحَقُّ بِجَلاءٍ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَأَصَرَّ عَلَى العِصيانِ فَلا حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيرِهِ، وَهَذَا فِي تكريرِ الدعوةِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ الأَوَّلُ فَعَامٌّ.
-ما تقتضيه الآية من الآداب:
ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي اللّه عنه: ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان فتنةً لبعضهم، وقال: حدّث الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب اللّه ورسوله؟!؟.
-ومفهومُ الآيةِ أنَّهُ إنْ لمْ تنفعِ الذكرى، بأنْ كانَ التذكيرُ يزيدُ في الشَّرِّ، أو ينقصُ منَ الخِير، لمْ تكنِ الذكرى مأموراً بها، بل منهيّاً عنها.
فالذكرى ينقسمُ الناسُ فيها قسمينِ:
-منتفعونَ.
-وغيرُ منتفعينَ.
وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات التالية .


تفسير قوله تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) )
-معنى الآية وسبب انتفاعه بالذكرى:

أي: سيتّعظ بما تبلّغه يا محمد، من قلبه يخشى اللّه ويعلم أنّه ملاقيه وهو المنتفع بالذكرى.
فقد ذكرَه بقولِهِ: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} اللهَ تعالى، فإنَّ خشيةَ اللهِ تعالى، وعِلْمَهُ بأنْ سيجازيهِ على أعمالهِ، توجبُ للعبدِ الانكفافَ عن المعاصي والسعيَ في الخيراتِ.



تفسير قوله تعالى: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}


تفسير قوله تعالى: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) )
-معنى الآية وسبب عدم انتفاعه بالذكرى:

أَيْ: وَيَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَيَبْعُدُ عَنْهَا الأَشْقَى من الْكُفَّارِ؛ لإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَانْهِمَاكِهِ فِي مَعَاصِيهِ , وهو غير المنتفع بالذكرى وذكره بقولهِ: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي النارُ الموقدةُ، التي تطلعُ على الأفئدةِ.

تفسير قوله تعالى: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) )
-النار الكبرى والنار الصغرى:

أَي:النار العَظِيمَةَ الفَظِيعَةَ، وَالنارُ الصُّغْرَى: نَارُ الدُّنْيَا

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13) )
أي: لا يموت فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياةً تنفعه، بل هي مضرّةٌ عليه؛ لأنّ بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النّكال.
-الأحاديث والآيات الموافقة لهذه الآية:
وقال أحمد أيضاً: عن أبي سعيدٍ الخدريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس- أو كما قال- تصيبهم النّار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم - فيميتهم إماتةً، حتّى إذا صاروا فحماً أذن في الشّفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فنبتوا على أنهار الجنّة؛ فيقال: يا أهل الجنّة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبّة تكون في حميل السّيل)). قال: فقال رجلٌ من القوم حينئذٍ: كأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان بالبادية.
وقد قال اللّه إخباراً عن أهل النّار: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربّك قال إنّكم ماكثون}. وقال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفّف عنهم من عذابها}. إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.

تفسير قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) )
-الأقوال في معنى (تزكى):

1-طهّر نفسه من الأخلاق الرّذيلة وتابع ما أنزل اللّه على الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.
2-وقد قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {قد أفلح من تزكّى}. قال: ((من شهد أن لا إله إلاّ اللّه، وخلع الأنداد وشهد أنّي رسول اللّه)) .
3-وقال قتادة في هذه الآية: {قد أفلح من تزكّى * وذكر اسم ربّه فصلّى}: زكّى ماله وأرضى خالقه.
4-{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} أي: قدْ فازَ وربحَ منْ طهَّرَ نفسهُ ونقَّاهَا منَ الشركِ والظلمِ ومساوئِ الأخلاقِ.

-مناقشة من قال بأن المراد بالتزكية هنا تزكية الأموال:
وأمَّا منْ فسَّرَ قولهُ: {تَزَكَّى} بمعنى أخرجَ زكاةَ الفطرِ {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أنَّهُ صلاةُ العيد، فإنَّهُ وإنْ كانَ داخلاً في اللفظِ وبعضِ جزئياتهِ، فليسَ هو المعنى وحدهُ.


تفسير قوله تعالى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) )
-الأقوال في معنى (وذكر اسم ربه فصلى):

1-أي: أقام الصّلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان اللّه وطاعةً لأمر اللّه وامتثالاً لشرع اللّه.
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بِلِسَانِهِ، {فَصَلَّى}؛ أَيْ: فَأَقَامَ الصلواتِ الخَمْسَ.
وكذا قال ابن عبّاسٍ: إنّ المراد بذلك الصلوات الخمس. واختاره ابن جريرٍ.
2-اتصفَ بذكرِ اللهِ، وانصبغَ بهِ قلبهُ، فأوجبَ لهُ ذلكَ العملَ بما يرضي اللهَ، خصوصاً الصلاةَ، التي هيَ ميزانُ الإيمانِ، فهذا معنى الآيةِ الكريمةِ.
3-وَقِيلَ: تَذَكَّرَ مَوْقِفَهُ وَمعادَهُ فَعَبَدَهُ.
4- وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالتَّزَكِّي فِي الآيَةِ الأُولَى زَكَاةُ الفطرِ، وَالْمُرَادُ بالصلاةِ صَلاةُ العيدِ.


تفسير قوله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) )
أي: لا يفْعَلُونَ ذَلِكَ، بل يقدّمونها على أمر الآخرة، ويبدّونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم.


تفسير قوله تعالى: (وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) )
أي: ثواب اللّه في الدار الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى؛ فإنّ الدنيا دنيّةٌ فانيةٌ، والآخرة شريفةٌ باقيةٌ، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟! ويهتمّ بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!
-ماورد من الأحاديث والآثار مايوافق معنى الآية:
1-قال الإمام أحمد: عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له)).
2-وقال ابن جريرٍ: عن عرفجة الثّقفيّ قال: استقرأت ابن مسعودٍ: {سبّح اسم ربّك الأعلى}، فلمّا بلغ: {بل تؤثرون الحياة الدّنيا} ترك القراءة وأقبل على أصحابه، فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة. فسكت القوم؛ فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنّا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنّا الآخرة فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل.
وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبارٌ عن الجنس من حيث هو، واللّه أعلم.
3-وقد قال الإمام أحمد: عن أبي موسى الأشعريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)). تفرّد به أحمد.
4-قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالآخِرَةُ منْ ذَهَبٍ يَبْقَى، وَالدُّنْيَا منْ خَزَفٍ يَفْنَى؟!
-ما يورثه حب الدنيا:
فحبُّ الدنيا وإيثارُهَا على الآخرةِ رأسُ كلِّ خطيئةٍ.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) )
-على ماذا تعود الإشارة بقوله (إن هذا لفي الصحف الأولى)/

1-عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت {إنّ هذا لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. قال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((كان كلّ هذا - أو: كان هذا - في صحف إبراهيم وموسى)).
عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {سبّح اسم ربّك الأعلى}. قال: كلّها في صحف إبراهيم وموسى. فلمّا نزلت: {وإبراهيم الّذي وفّى}. قال: وفّى {ألاّ تزر وازرةٌ وزر أخرى}. يعني: أنّ هذه الآية كقوله تعالى في سورة النّجم: {أم لم ينبّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى ألاّ تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى وأنّ إلّى ربّك المنتهى} .. الآيات إلى آخرهنّ.
2-واختار ابن جريرٍ أنّ المراد بقوله: {إنّ هذا}. إشارةٌ إلى قوله: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خيرٌ وأبقى}. ثم قال تعالى: {إنّ هذا}. أي: مضمون هذا الكلام {لفي الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. وهذا الذي اختاره حسنٌ قويٌّ، وقد روي عن قتادة وابن زيدٍ نحوه. واللّه أعلم.


تفسير قوله تعالى: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) )
اللذين هما أشرفُ المرسلينَ، سوى النبيِّ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
-ماتضمنته الآية :
تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى مِنَ الدُّنْيَا , فهذهِ أوامرُ في كلِّ شريعةٍ، لكونِهَا عائدةً إلى مصالحِ الدارينِ، وهيَ مصالحُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.


مقدمات تفسير سورة الغاشية
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر



أسماء السورة : سورة الغاشية.

مكان نزول السورة: مكية.

فضائل السورة
قد تقدّم عن النّعمان بن بشيرٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بـ{سبّح اسم ربّك الأعلى}، و"الغاشية" في صلاة العيد ويوم الجمعة.
وقال الإمام مالكٌ: سأل الضّحّاك بن قيسٍ , النّعمان بن بشيرٍ: بم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: {هل أتاك حديث الغاشية}.

تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) }

تفسير قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1))
-ماتضمنته السورة من المواضيع:

يذكرُ تعالى أحوالَ يومِ القيامةِ وما فيها من الأهوالِ الطامَّةِ، وأنَّها تغشى الخلائقَ بشدائدها، فيجازونَ بأعمالهمْ، ويتميزونَ فريقينِ: فريقاً في الجنةِ، وفريقاً في السعيرِ
-المخاطب في الآية الرسول صلى الله عليه وسلم .
-معنى الغاشية وسبب التسمية بذلك:
الغاشية من أسماء يوم القيامة، قاله ابن عبّاسٍ وقتادة وابن زيدٍ؛ لأنّها تغشى النّاس وتعمّهم بأهوالها وأحداثها.
عن عمرو بن ميمونٍ، قال: مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على امرأةٍ تقرأ: {هل أتاك حديث الغاشية}. فقام يستمع ويقول: ((نعم، قد جاءني))}

تفسير قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2))
معنى الآية :

أيْ: إِنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ فقالَ في أهلِ النارِ: وُجُوهُهُمْ ذَلِيلَةٌ خاضِعَةٌ؛ لِمَا هِيَ فِيهِ من الْعَذَابِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وُجُوهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الخُصوصِ.خاشعة : ذليلةٌ، قاله قتادة. وقال ابن عبّاسٍ: تخشع، ولا ينفعها عملها.

تفسير قوله تعالى: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3))
أي: قد عملت عملاً كثيراً، ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة ناراً حاميةً.
-ذكر المراد بهذا الوصف:
1- عاملة ناصبة في الدنيا :

عن أبي عمران الجونيّ يقول: مرّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه بدير راهبٍ، قال: فناداه، يا راهب، يا راهب. فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: {عاملةٌ ناصبةٌ تصلى ناراً حاميةً}. فذاك الذي أبكاني.
وقال البخاريّ: قال ابن عبّاسٍ: {عاملةٌ ناصبةٌ}: النّصارى.
ولكنَّهُ لما عدمَ شرطهُ وهوَ الإيمانُ، صارَ يومَ القيامةِ هباءً منثوراً، وهذا الاحتمالُ وإنْ كانَ صحيحاً منْ حيثُ المعنى، فلا يدلُّ عليهِ سياقُ الكلامِ، بلِ الصوابُ المقطوعُ بهِ هو الاحتمالُ الثاني:
-لأنَّهُ قيدَهُ بالظرفِ، وهوَ يومُ القيامةِ.
-ولأنَّ المقصودَ هنا بيانُ وصفِ أهلِ النارِ عموماً، وذلكَ الاحتمالُ جزءٌ قليلٌ منْ أهلِ النارِ بالنسبةِ إلى أهلهَا.
-ولأنَّ الكلامَ في بيانِ حالِ الناسِ عندَ غشيانِ الغاشيةِ، فليسَ فيه تعرضٌ لأحوالهم في الدنيا
2-عاملة ناصبة في الآخرة :
تاعبةٌ في العذابِ، تُجرُّ على وجوههَا، وتغشى وجوههم النارُ.
3-عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة :
وعن عكرمة والسّدّيّ: {عاملةٌ} في الدّنيا بالمعاصي، {ناصبةٌ} في النار بالعذاب والأغلال, تُجرُّ على وجوههَا، وتغشى وجوههم النارُ.


تفسير قوله تعالى: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4))
قال ابن عبّاسٍ والحسن وقتادة: {تصلى ناراً حاميةً}. أي: حارّةً شديدة الحر, تُحيطُ بهمْ من كلِّ مكانٍ.


تفسير قوله تعالى: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5))
أَيْ: يَشْرَبُونَ منْ مَائِهَا، وَالْمَاءُ الآنِي: هُوَ المُتَنَاهِي فِي الحَرّ .
1- قد انتهى حرّها وغليانها، قاله ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والحسن والسّدّيّ
2-حارةٍ شديدةِ الحرارةِ {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}


تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6))
-الاختلاف في طعام أهل النار:

1-قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: شجرٌ من نارٍ. وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الزّقّوم.
2-وعنه أنّها الحجارة.
3-هُوَ نَوْعٌ من الشوكِ يقال له الشبرق , وبه قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة.
قال قتادة: قريشٌ تسمّيه في الرّبيع الشّبرق، وفي الصّيف الضّريع. وهو سمٌّ
قال عكرمة: وهو شجرةٌ ذات شوكٍ، لاطئةٌ بالأرض.
عن قتادة: {ليس لهم طعامٌ إلاّ من ضريعٍ}: من شرّ الطّعام وأبشعه وأخبثه


تفسير قوله تعالى: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7))
وذلكَ أنَّ المقصودَ مِنَ الطعامِ أحدُ أمرينِ:

-إمَّا أنْ يسدَّ جوعَ صاحبهِ ويزيلَ عنهُ ألمَهُ.
-وإمَّا أنْ يسمنَ بدنَهُ من الهزالِ.
وهذا الطعامُ ليسَ فيهِ شيءٌ منْ هذينِ الأمرينِ، فلا يحصل به مقصودٌ، ولا يندفع به محذورٌ بلْ هوَ طعامٌ في غايةِ المرارةِ والنتنِ والخسةِ، نسألُ اللهَ العافيةَ



تفسير قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)}


تفسير قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8))
-علاقة الآية بما قبلها:

لمّا ذكر حال الأشقياء ثنّى بذكر السّعداء؛
-صفة وجوه أهل الجنة وسبب وصفها بذلك:
فقال: {وجوهٌ يومئذٍ}. أي: يوم القيامة {ناعمةٌ}. أي: يعرف النّعيم فيها، فنضرتْ أبدانُهُمْ، واستنارتْ وجوهُهُمْ، وسرُّوا غايةَ السُّرورِ , وإنما حصل لها ذلك بسعيها ولِمَا شَاهَدُوهُ منْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ.


تفسير قوله تعالى: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9))
{لِسَعْيِهَا} الذي قدمتهُ في الدنيا منَ الأعمالِ الصالحةِ، والإحسانِ إلى عبادِ اللهِ، {رَاضِيَةً} إذْ وجدتْ ثوابَهُ مدخراً مضاعفاً، فحمدتْ عقباهُ، وحصلَ لها كلُّ مَا تتمناهُ , لأَنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتْ من الأجْرِ مَا أَرْضَاهَا.
وقال سفيان: {لسعيها راضيةٌ}: قد رضيت عملها.


تفسير قوله تعالى: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10))
{فِي جَنَّةٍ} جامعةٍ لأنواعِ النعيمِ كلهَا، {عَالِيَةٍ} في محلهَا ومنازلِهَا، فمحلّهَا في أعلى عليينَ، ومنازلُهَا مساكنُ عاليةٌ، لها غرفٌ ومنْ فوقِ الغرفِ غرفٌ مبنيةٌ يشرفونَ منهَا على مَا أعدَّ اللهُ لهمْ من الكرامةِ.


تفسير قوله تعالى: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11))
أي: لا يسمع في الجنّة التي هم فيها كلمة لغوٍ وباطلٍ، فضلاً عن الكلامِ المحرمِ، بلْ كلامُهُمْ كلامٌ حسنٌ مشتملٌ على ذكرِ اللهِ تعالَى، وذكرِ نعمهِ المتواترةِ عليهمْ، و الآدابِ المستحسنةِ بينَ المتعاشرينَ، الذي يسرُّ القلوبَ، ويشرحُ الصدورَ ، كما قال: {لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً}. وقال: {لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ}. وقال: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً}


تفسير قوله تعالى: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12))
أي: سارحةٌ، وهذه نكرةٌ في سياق الإثبات، وليس المراد بها عيناً واحدةً، وإنّما هذا جنسٌ، يعني: فيهَا العيونُ الجاريةُ التي يفجرونَهَا ويصرفونَها كيفَ شاؤوا وأنَّى أرادوا
عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أنهار الجنّة تفجّر من تحت تلال - أو من تحت جبال – المسك.


تفسير قوله تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13))
والسررُ: جمعُ سريرٍ، وهي المجالسُ المرتفعةُ في ذاتها، وبمَا عليهَا من الفرشِ اللينةِ الوطيئةِ.
قالوا: فإذا أراد وليّ اللّه أن يجلس على تلك السّرر العالية تواضعت له.


تفسير قوله تعالى: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14))
أوانٍ ممتلئةٌ منْ أنواعِ الأشربةِ اللذيذةِ، قدْ وضعتْ بينَ أيديهمْ، وأعدتْ لهمْ، وصارتْ تحتَ طلبهمْ واختيارهمْ، يطوفُ بهَا عليهمُ الوِلدانُ المخلدونَ .


تفسير قوله تعالى: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15))
قال ابن عبّاسٍ: النّمارق: الوسائد. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحّاك والسّدّيّ والثّوريّ وغيرهم.
أي: وسائدُ مِنَ الحريرِ والإستبرقِ وغيرهمَا ممَا لا يعلمهُ إلا اللهُ، قدْ صفتْ للجلوسِ والاتكاءِ عليهَا، وقدْ أريحوا عنْ أنْ يضعوهَا، ويَصُفُّوهَا بأنفسهمْ


تفسير قوله تعالى: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16))
قال ابن عبّاسٍ: الزّرابيّ: البسط الحسانُ. وكذا قال الضحّاك وغير واحدٍ.
ومعنى {مبثوثةٌ}. مملوءةٌ بهَا مجالسهمْ منْ كلِّ جانبٍ أي: ههنا وههنا لمن أراد الجلوس عليها.
عن كريبٌ أنّه سمع أسامة بن زيدٍ يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((ألا هل من مشمّرٍ للجنّة؟ فإنّ الجنّة لا خطر لها، هي وربّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطّردٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناء جميلةٌ، وحللٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٌ وخضرةٌ وحبرةٌ ونعمةٌ في محلّةٍ عاليةٍ بهيّةٍ)). قالوا: نعم، يا رسول اللّه نحن المشمّرون لها. قال: ((قولوا إن شاء اللّه)). قال القوم: إن شاء اللّه.



تفسير قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}

تفسير قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17))
يقولُ تعالَى حثّاً للذينَ لا يصدقونَ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ولغيرهمْ منَ الناسِ، آمراً لهم بالنظر إلى مخلوقاته الدّالّة على قدرته وعظمته: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}؛ فإنّها خلقٌ عجيبٌ، وتركيبها غريبٌ؛ فإنّها في غاية القوّة والشّدّة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها.
-سبب تخصيص وذكر الإبل من بين سائر المخلوقات:
ونبّهوا بذلك؛ لأنّ العرب غالب دوابّهم كانت الإبل.
وكان شريحٌ القاضي يقول: اخرجوا بنا حتّى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.


تفسير قوله تعالى: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18))
أي: كيف رفعها اللّه عزّ وجلّ عن الأرض هذا الرّفع العظيم بِلا عَمَدٍ، عَلَى وَجْهٍ لا يَنَالُهُ الفَهْمُ وَلا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ ، كما قال تعالى: {أفلم ينظروا إلى السّماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروجٍ}


تفسير قوله تعالى: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19))
أي: جعلت منصوبةً قائمةً ثابتةً راسيةً؛ لئلاّ تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.


تفسير قوله تعالى: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20))
مُدَّتْ مدّاً واسعاً، وسهلتْ غايةَ التسهيلِ، ليستقرَّ الخلائقُ على ظهرِهَا، ويتمكنُوا منْ حرثِهَا وغراسِهَا، والبنيانِ فيهَا، وسلوكِ الطرقِ الموصلةِ إلى أنواعِ المقاصدِ فيهَا.
واعلمْ أنَّ تسطيحَهَا لا ينافي أنَّهَا كرةٌ مستديرةٌ،قدْ أحاطتِ الأفلاكَ فيهَا منْ جميعِ جوانبهَا، كمَا دلَّ على ذلكَ النقلُ والعقلُ والحسُّ والمشاهدةُ، كمَا هوَ مذكورٌ معروفٌ عندَ أكثرِ الناسِ، خصوصاً في هذهِ الأزمنةِ، التي وقفَ الناسُ على أكثرِ أرجائِهَا بمَا أعطاهمُ اللهُ مِنَ الأسبابِ المقربةِ للبعيدِ، فإنَّ التسطيح إنَّمَا ينافي كرويةَ الجسمِ الصغيرِ جدّاً، الذي لو سطحَ لمْ يبقَ لهُ استدارةٌ تذكرُ. وأمَّا جسمُ الأرضِ الذي هوَ في غايةِ الكبرِ والسعةِ، فيكونُ كرويّاً مسطّحاً، ولا يتنافى الأمرانِ، كمَا يعرفُ ذلكَ أربابُ الخبرةِ.

-تخصيصه في الحث للتفكر بما سبق من المخلوقات:
نبّه البدويّ على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكبٌ عليه، والسّماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته، على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنّه الرّبّ العظيم الخالق المتصرّف المالك، وأنّه الإله الذي لا يستحقّ العبادة سواه. وهكذا أقسم "ضمامٌ" في سؤاله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كما رواه الإمام أحمد حيث قال:
عن أنسٍ قال: كنّا نهينا أن نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ، فكان يعجبنا أن يجيء الرّجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجلٌ من أهل البادية فقال: يا محمّد، إنّه أتانا رسولك فزعم لنا أنّك تزعم أنّ اللّه أرسلك. قال: ((صدق)). قال: فمن خلق السّماء؟ قال: ((اللّه)). قال: فمن خلق الأرض؟ قال: ((اللّه)). قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: ((اللّه)). قال: فبالذي خلق السّماء والأرض ونصب هذه الجبال آللّه أرسلك؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا خمس صلواتٍ في يومنا وليلتنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك آللّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا زكاةً في أموالنا. قال: ((صدق)). قال: فبالذي أرسلك آللّه أمرك بهذا؟ قال: ((نعم)). قال: وزعم رسولك أنّ علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: ((صدق)). قال: ثمّ ولّى فقال: والذي بعثك بالحقّ لا أزيد عليهنّ شيئاً ولا أنقص منهنّ شيئاً؛ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((إن صدق ليدخلنّ الجنّة)).

تفسير قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) )
أي: فذكّر يا محمّد النّاس بما أرسلت به إليهم وعِظهمْ، وأنذرهمْ وبشِّرهمْ، فإنَّكَ مبعوثٌ لدعوةِ الخلقِ إلى اللهِ وتذكيرهمْ ، فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
عن جابرٍ قال: قال صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على اللّه عزّ وجلّ)). ثمّ قرأ {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ * لست عليهم بمسيطرٍ}.


تفسير قوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22))
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وغيرهما: لست عليهم بجبّارٍ.
وقال ابن زيدٍ: لست بالذي تكرههم على الإيمان.
فإنَّكَ مبعوثٌ لدعوةِ الخلقِ إلى اللهِ وتذكيرهمْ، ولمْ تبعثْ مسيطراً عليهمْ، مسلّطاً موكَّلاً بأعمالهمْ، فإذا قمتَ بمَا عليكَ، فلا عليكَ بعدَ ذلكَ لومٌ، كقولهِ تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.


تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23))
أي: لكن من تولّى عن الطاعة والعمل بأركانه وكفر بالحقّ بجنانه ولسانه، وهذه كقوله: {فلا صدّق ولا صلّى ولكن كذّب وتولّى}


تفسير قوله تعالى: (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24))
أي: الشديدَ الدائمَ , وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
عن عليّ بن خالدٍ، أنّ أبا أمامة الباهليّ مرّ على خالد بن يزيد بن معاوية فسأله عن ألين كلمةٍ سمعها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ((ألا كلّكم يدخل الجنّة إلاّ من شرد على اللّه شراد البعير على أهله)).
تفرّد بإخراجه الإمام أحمد.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25))
مرجعهم بَعْدَ الْمَوْتِ ومنقلبهم , وجمعهمْ في يومِ القيامةِ .


تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26))
أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ بعد رجوعهم إلى الله في البعث.



مقدمات تفسير سورة الفجر
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر


أسماء السورة: سورة الفجر.

نزول السورة: مكية

فضائل السورة:
عن جابرٍ، قال: صلّى معاذٌ صلاةً فجاء رجلٌ فصلّى معه فطوّل، فصلّى في ناحية المسجد ثمّ انصرف، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: منافقٌ.
فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأل الفتى فقال: يا رسول الله، جئت أصلّي معه فطوّل عليّ، فانصرفت وصلّيت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((أفتّانٌ يا معاذ؟ أين أنت من {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {الفجر} و {اللّيل إذا يغشى}؟)).


{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}.


تفسير قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ (1))
الظاهرُ أنَّ المقسمَ بهِ هو المقسمُ عليهِ،وذلكَ جائزٌ مستعملٌ، إذا كانَ أمراً ظاهراً مُهِمّاً، وهوَ كذلكَ في هذا الموضعِ.
-المراد بالفجر وسبب الإقسام به :
1- المعنى العام : أمّا الفجر فمعروفٌ، وهو الصّبح. قاله عليٌّ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وعكرمة والسّدّيّ.
فأقسمَ تعالى بالفجرِ،الذي هوَ آخرُ الليلِ ومقدمةُ النهارِ، لمَا في إدبارِ الليلِ وإقبالِ النهارِ من الآياتِ الدالةِ على كمالِ قدرةِ اللهِ تعالَى، وأنَّهُ وحدهُ المدبّرُ لجميعِ الأمورِ، الذي لا تنبغي العبادةُ إلا لهُ.
ويقعُ في الفجرِ صلاةٌ فاضلةٌ معظمةٌ، يحسنُ أنْ يقسمَ اللهُ بهَا، ولهذا أقسمَ بعدهُ بالَّليالي العشرِ.

2- وعن مسروقٍ ومحمّد بن كعبٍ: المراد به فجر يوم النحر خاصّةً، وهو خاتمة الليالي العشر.
-المراد بالفجر جميع النهار أو الإقسام بصلاة الفجر:
أ- وقيل: المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده. كما قاله عكرمة.
ب-وقيل: المراد به جميع النهار. وهو روايةٌ عن ابن عبّاسٍ.


تفسير قوله تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
واللّيالي العشر المراد بها :

1-عشر ذي الحجّة، كما قاله ابن عبّاسٍ وابن الزّبير ومجاهدٌ وغير واحدٍ من السّلف والخلف.
وقد ثبت في صحيح البخاريّ عن ابن عبّاسٍ مرفوعاً: ((ما من أيّامٍ العمل الصّالح أحبّ إلى الله فيهنّ من هذه الأيّام)). يعني: عشر ذي الحجّة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجلاً خرج بنفسه وماله ثمّ لم يرجع من ذلك بشيءٍ)).
2-وقيل: المراد بذلك العشر الأول من المحرّم.حكاه أبو جعفر بن جريرٍ، ولم يعزه إلى أحدٍ.
3-وقد روى أبو كدينة، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {وليالٍ عشرٍ} قال: هو العشر الأول من رمضان.
4-العشر الأواخر من رمضان : وفي ليالي عشرِ رمضانَ ليلةُ القدرِ، التي هيَ خيرٌ منْ ألفِ شهرٍ، وفي نهارِهَا صيامُ آخرِ رمضانَ الذي هوَ ركنٌ منْ أركانِ الإسلامِ.

والصّحيح هو القول الأوّل؛ فإنَّها ليالٍ مشتملةٌ على أيامٍ فاضلةٍ، ويقعُ فيهَا منَ العباداتِ والقرباتِ ما لا يقعُ في غيرهَا.
عن جابرٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((إنّ العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشّفع يوم النّحر))
وفي أيامِ عشرِ ذي الحجةِ: الوقوفُ بعرفةَ،الذي يغفرُ اللهُ فيهِ لعبادهِ مغفرةً يحزنُ لهَا الشيطانُ، فما رُئِيَ الشيطانُ أحقرَ ولا أدحرَ منهُ في يومِ عرفةَ، لمَا يرى مِنْ تنزُّلِ الأملاكِ والرحمةِ منَ اللهِ لعبادِهِ، ويقعُ فيهَا كثيرٌ من أفعالِ الحجِّ والعمرةِ، وهذه أشياءُ معظمةٌ، مستحقةٌ لأنْ يقسمَ اللهُ بهَا.


تفسير قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3))
-ذكر الخلاف في معنى الآية:

1-قد تقدّم في هذا الحديث أنّ الوتر يوم عرفة؛ لكونه التّاسع، وأنّ الشّفع يوم النّحر؛ لكونه العاشر. وقاله ابن عبّاسٍ وعكرمة والضّحّاك أيضاً.
2- الشّفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى.
3-قولٌ ثالثٌ: الشفع قول الله عزّ وجلّ: {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه}، والوتر قوله: {ومن تأخّر فلا إثم عليه}.
يقول ابن الزّبير : الشفع: أوسط أيام التشريق، والوتر: آخر أيام التشريق.
عن جابرٍ، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الشّفع اليومان، والوتر الثّالث)).
هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ، وهو مخالفٌ لما تقدّم من اللّفظ في رواية أحمد والنّسائيّ وابن أبي حاتمٍ، وما رواه هو أيضاً.والله أعلم.
4-قولٌ رابعٌ: الخلق كلّهم شفعٌ ووترٌ، أقسم تعالى بخلقه.
5-قولٌ خامسٌ : {والشّفع والوتر} قال: الله وترٌ واحدٌ وأنتم شفعٌ.
الشّفع: الزّوج، والوتر: الله عزّ وجلّ.
عن مجاهدٍ قوله: {والشّفع والوتر}: كلّ شيءٍ خلقه الله شفعٌ، السماء والأرض، والبرّ والبحر، والجنّ والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا.
ونحا مجاهدٌ في هذا ما ذكروه في قوله تعالى: {ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون} أي: لتعلموا أنّ خالق الأزواج واحدٌ.
6-قولٌ سادسٌ: {والشّفع والوتر} هو العدد؛ منه شفعٌ ومنه وترٌ.
7-قولٌ سابعٌ في الآية الكريمة: هي الصلاة؛ منها شفعٌ كالرّباعيّة والثّنائيّة، ومنها وترٌ كالمغرب؛ فإنها ثلاثٌ، وهي وتر النهار. وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجّد من الليل.


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4))
1-إذا غاب وأدبر : قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: أي: إذا ذهب.
وقال عبد الله بن الزّبير: {واللّيل إذا يسر} حتى يذهب بعضه بعضاً.
وقال مجاهدٌ وأبو العالية وقتادة ومالكٌ، عن زيد بن أسلم وابن زيدٍ: {واللّيل إذا يسر}: إذا سار.وهذا يمكن على حمله على ما قال ابن عبّاسٍ، أي: ذهب.
2- إذا أتى وأقبل: ويحتمل أن يكون المراد: إذا سار، أي: أقبل، وقد يقال: إن هذا أنسب؛ لأنه في مقابلة قوله: {والفجر}؛ فإنّ الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل، فإذا حمل قوله: {واللّيل إذا يسر} على إقباله كان قسماً بإقبال الليل وإدبار النهار، وبالعكس: {واللّيل إذا عسعس والصّبح إذا تنفّس}.
وكذا قال الضّحّاك: {واللّيل إذا يسر} أي: يجري.
وقال عكرمة: {واللّيل إذا يسر} يعني: ليلة جمعٍ.


تفسير قوله تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5))
{هَلْ فِي ذَلِكَ} المذكورِ {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي: عقلٍ؟ نعمْ، بعضُ ذلكَ يكفي , فَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ وَلُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ منْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ .
-سبب تسمية العقل حجرا:
وإنما سمّي العقل حجراً؛ لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه حجر البيت؛ لأنه يمنع الطائف من اللّصوق بجداره الشاميّ، ومنه حجر اليمامة، وحجر الحاكم على فلانٍ إذا منعه التصرّف، {ويقولون حجراً محجوراً}، كلّ هذا من قبيلٍ واحدٍ ومعنًى متقاربٍ.
-نوع القسم:
وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حجٍّ وصلاةٍ، وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرّب بها إليه عباده المتّقون، المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه، الخاشعون لوجهه الكريم .


تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6))
-علاقة الآية بما قبلها:

ولمّا ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ} وهؤلاء كانوا متمرّدين عتاةً جبّارين، خارجين عن طاعته، مكذّبين لرسله، جاحدين لكتبه، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمّرهم وجعلهم أحاديث وعبراً فقال: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ إرم ذات العماد}
أي {أَلَمْ تَرَ} بقلبكَ وبصيرتكَ كيفَ فُعِلَ بهذهِ الأمم الطاغية.
-المراد بقوم عاد وسبب ذكرهم:
وهؤلاء عادٌ الأولى، وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوحٍ. قاله ابن إسحاق، وهم الذي بعث فيهم رسوله هوداً عليه السلام، فكذّبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم، وأهلكهم {بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ سخّرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ فهل ترى لهم من باقيةٍ}. وقد ذكر الله قصّتهم في القرآن في غير ما موضعٍ؛ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون , وَيُقَالُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ: عَادٌ الأُخْرَى.


تفسير قوله تعالى: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7))
عطف بيانٍ؛ زيادة تعريفٍ بهم
-المراد بإرم:
قال مجاهدٌ: إرم أمّةٌ قديمةٌ. يعني: عاداً الأولى.
قال قتادة بن دعامة والسّدّيّ: إنّ إرم بيت مملكة عادٍ. وهذا قولٌ حسنٌ جيّدٌ قويٌّ.
-سبب تسميتهم بـ{ذات العماد}:
وقوله : {ذات العماد}؛ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشّعر التي ترفع بالأعمدة الشّداد، وقد كانوا أشدّ الناس في زمانهم خلقةً وأقواهم بطشاً.
وقال مجاهدٌ وقتادة والكلبيّ في قوله: {ذات العماد}: كانوا أهل عمودٍ، لا يقيمون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: إنما قيل لهم: {ذات العماد} لطولهم. واختار الأوّل ابن جريرٍ، وردّ الثاني فأصاب.
قلت: فعلى كلّ قولٍ، سواءٌ كانت العماد أبنيةً بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحاً يقاتلون به، أو طول الواحد منهم - فهم قبيلةٌ وأمّةٌ من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضعٍ، المقرونون بثمود، كما ههنا. والله أعلم.
ومن زعم أنّ المراد بقوله: {إرم ذات العماد} مدينةٌ إما دمشق، كما روي عن سعيد بن المسيّب وعكرمة، أو إسكندريّة كما روي عن القرظيّ، أو غيرهما - ففيه نظرٌ؛ فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا: {ألم تر كيف فعل ربّك بعادٍ إرم ذات العماد} إن جعل ذلك بدلاً أو عطف بيانٍ؛ فإنه لا يتّسق الكلام حينئذٍ، ثمّ المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعادٍ، وما أحلّ الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أنّ المراد الإخبار عن مدينةٍ أو إقليمٍ.
وإنما نبّهت على هذا لئلا يغترّ بكثيرٍ ممّا ذكره جماعةٌ من المفسّرين عند هذه الآية من ذكر مدينةٍ يقال لها: إرم ذات العماد مبنيةٌ بلبن الذهب والفضّة، قصورها ودورها وبساتينها، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحةٌ، وثمارها ساقطةٌ، ودورها لا أنيس بها، وسورها وأبوابها تصفر، ليس بها داعٍ ولا مجيبٌ، وأنّها تنتقل؛ فتارةً تكون بأرض الشام، وتارةً باليمن، وتارةً بالعراق، وتارةً بغير ذلك من البلاد.
فإنّ هذا كلّه من خرافات الإسرائيليّين من وضع بعض زنادقتهم؛ ليختبروا بذلك القول عقول الجهلة من الناس إن صدّقهم في جميع ذلك.


-سبب ذكرهم:
ولهذا ذكّرهم هودٌ بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربّهم الذي خلقهم، فقال: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطةً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}
وقال تعالى: {فأمّا عادٌ فاستكبروا في الأرض بغير الحقّ وقالوا من أشدّ منّا قوّةً أولم يروا أنّ الله الّذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّةً}،


تفسير قوله تعالى: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8))
-عود الضمير في قوله (مثلها):

1-أعاد ابن زيدٍ الضمير على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عمداً بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد.
2-أمّا قتادة وابن جريرٍ فأعاد الضمير على القبيلة؛ أي: لم يخلق مثل تلك القبيلةِ في الطُّولِ والشِّدَّةِ وَالقُوَّةِ في البلاد، يعني: في زمانهم. وهذا القول هو الصواب.
وقول ابن زيدٍ ومن ذهب مذهبه ضعيفٌ؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: {لم يخلق مثلها في البلاد}


تفسير قوله تعالى: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9))
يعني: يقطّعون الصخر بالوادي.
قال ابن عبّاسٍ: ينحتونها ويخرقونها، وكذا قال مجاهدٌ وقتادة والضحّاك وابن زيدٍ، ومنه يقال: (مجتابي النّمار) إذا خرقوها، واجتاب الثوب إذا فتحه، ومنه الجيب أيضاً، وقال الله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين}.
وقال ابن إسحاق: كانوا عرباً، وكان منزلهم بوادي القرى , نحتُوا بقوتهمُ الصخورَ، فاتخذوها مساكن.



تفسير قوله تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10))
-الأقوال في معنى (ذي الأوتاد)

1-عن ابن عبّاسٍ: الأوتاد: الجنود الذين يشدّون له أمر وثبتوا ملكهُ، كما تُثبتُ الأوتادُ ما يرادُ إمساكهُ بهَا .
2-ويقال: كان فرعون يوتّد أيديهم وأرجلهم في أوتادٍ من حديدٍ، يعلّقهم بها. وكذا قال مجاهدٌ: كان يوتّد الناس بالأوتاد. وهكذا قال سعيد بن جبيرٍ والحسن والسّدّيّ.
قال السدّيّ: كان يربط الرّجل في كلّ قائمةٍ من قوائمه في وتدٍ، ثمّ يرسل عليه صخرةً عظيمةً فتشدخه.
وقال قتادة: بلغنا أنه كان له مطالّ وملاعب يلعب له تحتها من أوتادٍ وحبالٍ.
3-وقال ثابتٌ البنانيّ، عن أبي رافعٍ: قيل لفرعون: {ذي الأوتاد}؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتادٍ، ثمّ جعل على ظهرها رحًى عظيمةً حتى ماتت
4-وَهِيَ الأهرامُ الَّتِي بَنَاهَا الفَرَاعِنَةُ؛ لِتَكُونَ قُبُوراً لَهُمْ، وَسَخَّرُوا فِي بِنَائِهَا شُعُوبَهُمْ.


تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11))
هذا الوصفُ عائدٌ إلى عادٍ وثمودَ وفرعونَ ومَنْ تبعهمْ، فإنَّهم طغوا في بلادِ اللهِ، وآذوا عبادَ اللهِ، في دينهمْ ودنياهمْ،أي: تمرّدوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذيّة للناس


تفسير قوله تعالى: (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12))
المراد بالفساد في الآية : وهو العملُ بالكفرِ وشُعبِهِ، منْ جميعِ أجناسِ المعاصي، وسعَوا في محاربةِ الرسلِ وصدِّ الناسِ عن سبيلِ اللهِ، فلمَّا بلغُوا منَ العتوِّ ما هوَ موجبٌ لهلاكهمْ أرسلَ اللهُ عليهمْ منْ عذابهِ ذنوباً وسوطَ عذابٍ.


تفسير قوله تعالى: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13))
أي: أنزل عليهم رجزاً من السماء، وأحلّ بهم عقوبةً لا يردّها عن القوم المجرمين.
وهوَ العملُ بالكفرِ وشُعبِهِ، منْ جميعِ أجناسِ المعاصي، وسعَوا في محاربةِ الرسلِ وصدِّ الناسِ عن سبيلِ اللهِ، فلمَّا بلغُوا منَ العتوِّ ما هوَ موجبٌ لهلاكهمْ أرسلَ اللهُ عليهمْ منْ عذابهِ ذنوباً وسوطَ عذابٍ.
أَيْ: أَفْرَغَ عَلَيْهِمْ وَأَلْقَى عَلَى تِلْكَ الطوائفِ عَذَاباً، كَمَا يُقَالُ: صَبَبْتُ السوطَ عَلَى المُجْرِمِ؛أَيْ: جَلَدْتُهُ بِهِ جَلْداً شَدِيداً.


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14))
قال ابن عبّاسٍ: يسمع ويرى.
يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاًّ بسعيه في الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلّهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاًّ بما يستحقّه، وهو المنزّه عن الظّلم والجور.
وقيل لبالمرصاد لمنْ عصاهُ يمهلُهُ قليلاً، ثمَّ يأخذُهُ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعِبَادِ لا يَفُوتُهُ أَحَدٌ.



تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}


تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15))
-المعنى الإجمالي للآية:

يخبرُ تعالَى عنْ طبيعةِ الإنسانِ منْ حيثُ هوَ،وأنَّهُ جاهلٌ ظالمٌ، لا علمَ لهُ بالعواقبِ، يظنُ الحالةَ التي تقعُ فيهِ تستمرُ ولا تزولُ، ويظنُّ أنَّ إكرامَ اللهِ في الدنيا وإنعامَهُ عليه يدلُّ على كرامتهِ عندهُ وقربه منهُ.
-المعنى التفصيلي:
{فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ بالنِّعَمِ، {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ}؛ أَيْ: أَكْرَمَهُ بِالْمَالِ وَوَسَّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ في الدينا، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الكَرامةُ؛ فَرَحاً بِمَا نَالَ، وَسُرُوراً بِمَا أُعْطِيَ غَيْرَ شَاكِرٍ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلا خَاطِرٍ بِبَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ لَهُ مِنْ رَبِّهِ.


تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) )
-المعنى الإجمالي:

يخبرُ تعالَى عنْ طبيعةِ الإنسانِ منْ حيثُ هوَ،وأنَّهُ جاهلٌ ظالمٌ، لا علمَ لهُ بالعواقبِ، يظنُ الحالةَ التي تقعُ فيهِ تستمرُ ولا تزولُ، ويظنُّ أنَّ إكرامَ اللهِ في الدنيا وإنعامَهُ عليه يدلُّ على كرامتهِ عندهُ وقربه منهُ، وأنَّهُ إذا {قَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي: ضيَّقهُ، فصارَ بقدرِ قوتهِ لا يفضلُ منهُ، أن هذا إهانةٌ منَ اللهِ لهُ.
-المعنى التفصيلي:
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ
}؛أَي: اخْتَبَرَهُ وَامْتَحَنَهُ.
{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}؛ أَيْ: ضَيَّقَهُ وَلَمْ يُوَسِّعْهُ لَهُ، وَلا بَسَطَ لَهُ فِيهِ.
{فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}؛ أَيْ: أَوْلانِي هَوَاناً.
-الفرق بين المؤمن والكافر في قياس الأمور ومعرفة رضا الله من غضبه:
يقيس ذلك بحسب عطاء الله له في الدنيا وتوسيعه له في رزقه أو العكس وَهَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ الَّذِي لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ ؛ لأَنَّهُ لا كَرَامَةَ عِنْدَهُ إِلاَّ الدُّنْيَا والتَّوَسُّعُ فِي مَتَاعِهَا، وَلا إِهَانَةَ عِنْدَهُ إِلاَّ فَوْتُهَا وَعَدَمُ وُصُولِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ منْ زِينَتِهَا.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فالكرامةُ عِنْدَهُ أَنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ، وَيُوَفِّقَهُ لِعَمَلِ الآخِرَةِ، والإهانةُ عِنْدَهُ أَلاَّ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ للطَّاعَةِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ سَعَةُ الدُّنْيَا كَرَامَةً، وَلَيْسَ ضِيقُهَا إِهَانَةً، وَإِنَّمَا الغِنَى اخْتِبَارٌ للغَنِيِّ هَلْ يَشْكُرُ، وَالفَقْرُ اخْتِبَارٌ لَهُ هَلْ يَصْبِرُ.


تفسير قوله تعالى: (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17))
يقول تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق؛ ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرامٌ له، وليس كذلك، بل هو ابتلاءٌ وامتحانٌ، كما قال تعالى: {أيحسبون أنّما نمدّهم من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه، وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانةٌ له، قال الله: {كلاّ} رَدْعٌ للإنسانِ الْقَائِلِ فِي الحَالَتَيْنِ مَا قَالَ, وَزَجْرٌ لَهُ , أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا؛ فإنّ الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيّق على من يحبّ ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كلٍّ من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر.
وأيضاً فإنَّ وقوفَ همّةِ العبدِ عندَ مرادِ نفسهِ فقطْ، منْ ضعفِ الهمةِ، ولهذا لامَهمُ اللهُ على عدمِ اهتمامِهمْ بأحوالِ الخلقِ المحتاجينَ، فقالَ:{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الذي فقدَ أباهُ وكاسبَهُ، واحتاجَ إلى جبرِ خاطرهِ والإحسانِ إليهِ.
-وقوله: {بل لا تكرمون اليتيم} فيه أمرٌ بالإكرام له، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يحسن إليه، وشرّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يساء إليه)). ثمّ قال بأصبعه: ((أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا)).


تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18))
يعني:
لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحثّ بعضهم على بعضٍ في ذلك.
وذلكَ لأجلِ الشُّحِّ على الدنيا ومحبتهَا الشديدةِ المتمكنةِ مِنَ القلوبِ، ولهذا قالَ: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}

تفسير قوله تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19))
يعني: الميراث وهو المالَ المخلفَ .
وقيل: أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ،
{أكلاً لمًّا} أي: : أَكْلاً شَدِيداً من أيّ جهةٍ حصل لهم، من حلالٍ أو حرامٍ.


تفسير قوله تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20))
أي: كثيراً شديداً. زاد بعضهم: فاحشاً.
وهذا كقولهِ تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}وقوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}.


تفسير قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}

تفسير قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21))
يخبر تعالى عمّا يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة:
فقال: {كلاّ} أي: ليسَ ما أحببتمْ منَ الأموالِ، وتنافستمْ فيهِ منَ اللذاتِ، بباقٍ لكمْ،بلْ أمامكمْ يومٌ عظيمٌ، وهولٌ جسيمٌ، تُدكُّ فيهِ الأرضُ والجبالُ وما عليهَا حتى تُجعلَ قاعاً صفصفاً لا عوجَ فيهِ ولا أمت .
وقيل : مَا هكذا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ.
{إذا دكّت الأرض دكًّا دكًّا} الدَّكُّ: الكَسْرُ وَالدَّقُّ؛ زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكاً بَعْدَ تَحْرِيكٍ، أَوْ دُكَّتْ جِبَالُهَا حَتَّى اسْتَوَتْ.
والمعنى: وطئت ومهّدت وسوّيت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربّهم.


تفسير قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22))
{وجاء ربّك} يعني
: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيّد ولد آدم على الإطلاق: محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحداً بعد واحدٍ، فكلّهم يقول: لست بصاحب ذاكم. حتى تنتهي النّوبة إلى محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم فيقول: ((أنا لها، أنا لها)). فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفّعه الله تعالى في ذلك.
وهي أوّل الشفاعات، وهي المقام المحمود، كما تقدّم في بيانه، وفي سورة (سبحان). فيجيء الربّ تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً. كلُّ سماءٍ يجيءُ ملائكتهَا صفّاً، يحيطونَ بمنْ دونهمْ منَ الخلقِ، وهذهِ الصفوفُ صفوفُ خضوعٍ وذلٍّ للملكِ الجبارِ.


تفسير قوله تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23))
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}
تقودُهَا الملائكةُ بالسلاسلِ , عن عبد الله - هو ابن مسعودٍ - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((يؤتى بجهنّم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ، مع كلّ زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرّونها)).
فإذا وقعتْ هذهِ الأمورُ فـ {يومئذٍ يتذكّر الإنسان} أي: عمله، وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه.
{وأنّى له الذّكرى} أي: وكيف تنفعه الذكرى, فقدْ فاتَ أوانُهَا، وذهبَ زمانُهَا


تفسير قوله تعالى: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24))
يقول متحسِّراً على ما فرَّطَ في جنبِ الله ونادمًا على ما كان سلف منه من المعاصي - إن كان عاصياً - ويودّ لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعاً.
عن محمد بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لو أنّ عبداً خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه ردّ إلى الدنيا؛ كيما يزداد من الأجر والثواب.
{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} الدائمةِ الباقيةِ، عملاً صالحاً، كمَا قالَ تعالَى:{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ الحياةَ التي ينبغي السعيُ في أصلهَا وكمالهَا، وفي تتميمِ لذّاتهَا، هيَ الحياةُ في دارِ القرارِ، فإنَّهَا دارُ الخلدِ والبقاءِ.


تفسير قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25))
أي: ليس أحدٌ أشدّ عذاباً من تعذيب الله من عصاه وأهملَ ذلكَ اليومَ ونسيَ العملَ لهُ.


تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26))
أي: وليس أحدٌ أشدّ قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربّهم عزّ وجلّ. هذا في حقّ المجرمين من الخلائق والظالمين , فإنَّهمْ يقرنونَ بسلاسلٍ منْ نارٍ، ويسحبونَ على وجوههمْ في الحميمِ، ثمَّ في النارِ يسجرونَ، فهذا جزاءُ المجرمينَ.


تفسير قوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27))
وأمَّا مَنْ اطمأنَ إلى اللهِ وآمنَ بهِ وصدقَ رسلهُ، فيقالُ لهُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إلى ذكرِ اللهِ، الساكنةُ حبِّهِ، لمُوقِنَةُ بالإيمانِ وَتَوْحِيدِ اللَّهِ، لا يُخَالِطُهَا شَكٌّ وَلا يَعْتَرِيهَا رَيْبٌ، قَدْ رَضِيَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ مَا أَخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهَا، فَتَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُطْمَئِنَّةً؛لأَنَّهَا قَدْ بُشِّرَتْ بالجَنَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ


تفسير قوله تعالى: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)))
{ارْجِعِي} إلى جواره وثوابه، وما أعدّ لعباده في جنّته.
{إِلَى رَبِّكِ} الذي ربّاكِ بنعمتهِ، وأسدى عليكِ منْ إحسانهِ ما صرتِ بهِ منْ أوليائهِ وأحبابهِ .
{راضيةً} أي: في نفسها بالثَّوَابِ الَّذِي أَعْطَاها.
{مرضيّةً} أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها


تفسير قوله تعالى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29))
أي: فِي زُمْرَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ، وَكُونِي مِنْ جُمْلَتِهِمْ .


تفسير قوله تعالى: (وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))
مَعَهُمْ؛ أَيْ: فَتِلْكَ هِيَ الكرامةُ، لا كَرَامَةَ سِوَاهَا.
وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضاً، كما أنّ الملائكة يبشّرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك ههنا.

فيمن نزلت الآية: -ك-
ثمّ اختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية:

1- فروى الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: نزلت في عثمان بن عفّان.
2-وعن بريدة بن الحصيب: نزلت في حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه.
3-وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: يقال للأرواح المطمئنّة يوم القيامة: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك} يعني: صاحبك، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا {راضيةً مرضيّةً}.
4-عن ابن عبّاسٍ في قوله: {يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّةً} قال: نزلت وأبو بكرٍ جالسٌ، فقال رسول الله: ((ما أحسن هذا!)) فقال: ((أما إنّه سيقال لك هذا)).

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 4 ذو الحجة 1435هـ/28-09-2014م, 05:09 PM
تماضر تماضر غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 521
Post من سورة البلد إلى الضحى

تفسير سورة البلد
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر



أسماء السورة
سورة البلد.
سُورَةِ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ.

نزول السورة: مكية .


تفسير قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) }

تفسير قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1))
هذا قسمٌ من الله عزّ وجلّ بمكّة أمّ القرى في حال كون الساكن فيها حلالاً؛ لينبّه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
عن ابن عبّاسٍ: {لا أقسم بهذا البلد} يعني: مكّة.
والْمَعْنَى: أُقْسِمُ بالبلدِ الحرامِ، وَهُوَ مَكَّةُ؛ وَذَلِكَ لِيُنَبِّهَ عَلَى كَرَامَةِ أُمِّ القُرَى وَشَرَفِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَنَّ فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَهِيَ بلدُ إِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَبِهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ.


تفسير قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) )
-المراد بالآية:

1-قال: أنت يا محمد يحلّ لك أن تقاتل به.
وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، وأبي صالحٍ، وعطيّة، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وابن زيدٍ.
2-وقال مجاهدٌ: ما أصبت فيه فهو حلالٌ لك.
وقال قتادة: {وأنت حلٌّ بهذا البلد} قال: أنت به من غير حرجٍ، ولا إثمٍ.
3-وقال الحسن البصريّ: أحلّها الله له ساعةً من نهارٍ. وهذا المعنى الذي قالوه قد ورد به الحديث المتّفق على صحّته: ((إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السّماوات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، وإنّما أحلّت لي ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب)).
وفي لفظٍ: ((فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله فقولوا: إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم))
4-وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أُقْسِمُ بِهَذَا البلدِ الَّذِي أَنْتَ مُقِيمٌ بِهِ؛ تَشْرِيفاً لَكَ وَتَعْظِيماً لِقَدْرِكَ؛ لأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِقَامَتِكَ فِيهِ عَظِيماً شَرِيفاً.


تفسير قوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3))
-الخلاف في معنى الآية:

1-عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ووالدٍ وما ولد}: الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.
2-وقال عكرمة: الوالد: العاقر، وما ولد: الذي يلد. رواه ابن أبي حاتمٍ.
3-وقال مجاهد وغيره: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهدٌ وأصحابه حسنٌ قويٌّ؛ لأنه تعالى لمّا أقسم بأمّ القرى، وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.
4-وقال أبو عمران الجونيّ: هو إبراهيم وذرّيته. رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، واختار ابن جريرٍ أنه عامٌّ في كلّ والدٍ وولده. وهو محتملٌ أيضاً


تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) )
والمقسمُ عليهِ قولهُ{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}
-الخلاف في معنى (كبد):

1-والكبد: الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويًّا مستقيماً، كقوله: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الّذي خلقك فسوّاك فعدلك}، وكقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ}.
3-وقال ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {في كبدٍ} قال: في شدّة خلقٍ، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه.
وقال مجاهدٌ: {في كبدٍ}: نطفةً، ثمّ علقةً، ثمّ مضغةً، يتكبّد في الخلق.
قال مجاهدٌ: وهو كقوله: {حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً}. وأرضعته كرهاً، ومعيشته كرهٌ، فهو يكابد ذلك.
وقال سعيد بن جبيرٍ: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} في شدّةٍ وطلب معيشةٍ.
يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
4-وقال ابن زيدٍ: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} قال: آدم خلق في السماء، فسمّي ذلك الكبد.
واختار ابن جريرٍ أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقّها.
يحتملُ أنَّ المرادَ بذلكَ:
ما يكابدهُ ويقاسيهِ منَ الشدائدِ في الدنيا، وفي البرزخِ، ويومَ يقومُ الأشهادُ، وأنَّهُ ينبغي لهُ أنْ يسعى في عملٍ يريحهُ منْ هذهِ الشدائدِ، ويوجبُ لهُ الفرحَ والسرورَ الدائمَ.
وإنْ لمْ يفعلْ، فإنَّهُ لا يزالُ يكابِدُ العذابَ الشديدَ أبد الآبادِ.


تفسير قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) )
1-قال الحسن البصريّ: يعني: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} يأخذ ماله.
2-وقال قتادة: {أيحسب أن لن يقدر عليه أحدٌ} قال: ابن آدم يظنّ أن لن يسأل عن هذا المال؛ من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟.
3-أَيْ: أَيَظُنُّ ابْنُ آدَمَ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَلا يَنْتَقِمَ مِنْهُ أَحَدٌ مَهْمَا اقْتَرَفَ مِنَ السَّـيِّئَاتِ، حَتَّى وَلا رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ.


تفسير قوله تعالى: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) )
أي: يقول ابن آدم: أنفقت مالاً لبداً، أي: كثيراً بعضهُ فوقَ بعضٍ لا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ.
-سبب تسميته الإنفاقَ في الشهواتِ والمعاصي إهلاكاً:
لأنَّهُ لا ينتفعُ المنفقُ بمَا أنفقَ، ولا يعودُ عليهِ منْ إنفاقِهِ إلا الندمُ والخسارُ والتعبُ والقلةُ، لا كمنْ أنفقَ في مرضاةِ اللهِ في سبيلِ الخيرِ، فإنَّ هذا قدْ تاجرَ معَ اللهِ، وربحَ أضعافَ أضعافِ ما أنفقَ.


تفسير قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) )
قالَ الله متوعداً هذا الذي يفتخرُ بمَا أنفقَ في الشهواتِ: {أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي: أيحسبُ في فعلهِ هذا، أنَّ اللهَ لا يراهُ ويحاسبهُ على الصغيرِ والكبيرِ؟
بلْ قدْ رآهُ اللهُ، وحفظَ عليهِ أعمالهُ، ووكلَ بهِ الكرامَ الكاتبينَ، لكلِّ ما عملهُ منْ خيرٍ وشر.
قال مجاهدٌ: أيحسب أن لم يره الله عزّ وجلّ، وكذا قال غيره من السلف.


تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8))
ثمَّ قررهُ بنعمهِ، فقالَ: {أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} للجمالِ والبصرِ والنطقِ، وغيرِ ذلكَ منَ المنافعِ الضروريةِ فيهَا، فهذهِ نعمُ الدنيا.


تفسير قوله تعالى: (وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9))
أي: ينطق به فيعبّر عمّا في ضميره، {وشفتين} يستر بهما ثغره ويستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالاً لوجهه وفمه.



تفسير قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))
الخلاف في معنى النجدين:

1-طريقي الخيرِ والشرِّ، بيَّنَّا لهُ الهدى منَ الضلالِ، والرّشدَ منَ الغيِّ.
عن عبد الله - هو ابن مسعودٍ-: {وهديناه النّجدين} قال: الخير والشرّ
وقال ابن جريرٍ: عن أبي رجاءٍ، قال: سمعت الحسن يقول: {وهديناه النّجدين} قال: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: ((يا أيّها النّاس إنّهما النّجدان؛ نجد الخير، ونجد الشّرّ، فما جعل نجد الشّرّ أحبّ إليكم من نجد الخير؟)).
2-عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وهديناه النّجدين} قال: الثّديين.
والصواب القول الأوّل.
ونظير هذه الآية قوله: {إنّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}
فهذهِ المننُ الجزيلةُ، تقتضي مِنَ العبدِ أنْ يقومَ بحقوقِ اللهِ،ويشكرَ اللهَ على نعمهِ، وأنْ لا يستعينَ بهَا على معاصيهِ، ولكنَّ هذا الإنسانَ لمْ يفعلْ ذلكَ




تفسير قوله تعالى: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}


تفسير قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) )
-الخلاف في معنى الآية:

1-عن ابن عمر في قوله: {فلا اقتحم العقبة} قال: جبلٌ في جهنّم آزلٌ.
2-وقال كعب الأحبار: {فلا اقتحم العقبة} هو سبعون درجةً في جهنّم.
3-وقال الحسن البصريّ: {فلا اقتحم العقبة} قال: عقبةٌ في جهنّم.
وقال قتادة: إنها عقبةٌ قحمةٌ شديدةٌ، فاقتحموها بطاعة الله تعالى.
أي: لم يقتحمهَا ويعبر عليهَا، لأنَّهُ متبعٌ لشهواتهِ.وهذهِ العقبةُ شديدةٌ عليهِ
4-أي فَهَلاَّ نَشِطَ وَاخْتَرَقَ المَوَانِعَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ؛ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ.



تفسير قوله تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13))
قال ابن زيدٍ: {فلا اقتحم العقبة} أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير، ثمّ بيّنها فقال تعالى: {وما أدراك ما العقبة فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ}
عن أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكلّ إربٍ منها إرباً من النّار، حتّى إنّه ليعتق باليد اليد، وبالرّجل الرّجل، وبالفرج الفرج)).
عن أبي نجيحٍ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ((أيّما مسلمٍ أعتق رجلاً مسلماً فإنّ الله جاعلٌ وقاء كلّ عظمٍ من عظامه عظماً من عظام محرّره من النّار، وأيّما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً فإنّ الله جاعلٌ وقاء كلّ عظمٍ من عظامها عظماً من عظامها من النّار)).
عن عمرو بن عبسة، أنه حدّثهم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((من بنى مسجداً ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتاً في الجنّة، ومن أعتق نفساً مسلمةً كانت فديته من جهنّم، ومن شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)).


تفسير قوله تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14))
قال ابن عبّاسٍ: ذي مجاعةٍ. والسّغب: هو الجوع. أي: مجاعةٍ شديدةٍ، بأنْ يطعمَ وقتَ الحاجةِ أشدَّ الناسِ حاجةً.


تفسير قوله تعالى: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15))
{يتيماً} أي: أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً {ذا مقربةٍ} أي: ذا قرابةٍ منه.
أي: جامعاً بينَ كونهِ يتيماً، فقيراً ذا قرابة
عن سلمان بن عامرٍ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((الصّدقة على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرّحم اثنتان: صدقةٌ وصلةٌ)). وقد رواه التّرمذيّ والنّسائيّ، وهذا إسنادٌ صحيحٌ.


تفسير قوله تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16))
أي: فقيراً مدقعاً لاصقاً بالتراب، وهو الدّقعاء أيضاً.
قال ابن عبّاسٍ: {ذا متربةٍ} هو المطروح في الطريق، الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب.
وفي روايةٍ: وهو الذي لصق بالدّقعاء؛ من الفقر والحاجة، ليس له شيءٌ.
قال ابن أبي حاتمٍ: يعني: الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عبّاسٍ، وسعيدٌ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان: هو ذو العيال. وكلّ هذه قريبة المعنى.
فَمَنْ أَطْعَمَ من هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ فِي أَيَّامِ المجاعاتِ الَّتِي تُذْهِلُ الإِنْسَانَ إِلاَّ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ منْ حِرْصِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَنَفْعِ عِبَادِهِ، فَهُوَ حَرِيٌّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين.


تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17))
{ثمّ كان من الّذين آمنوا} أي: ثمّ هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمنٌ بقلبه، محتسبٌ ثواب ذلك عند الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكوراً}.
وقال: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ} الآية.
وهم الذين آمنُوا بقلوبهمْ بما يجبُ الإيمانُ بهِ، وعملُوا الصالحاتِ بجوارحهمْ مِنْ كلِّ قولٍ وفعلٍ واجبٍ أو مستحبٍّ
.وقوله: {وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة} أي: كان من المؤمنين العاملين صالحاً، المتواصين بالصبر على أذى الناس، والصبر على طاعةِ اللهِ وعنْ معصيتهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلمةِ بأنْ يحثَّ بعضهم بعضاً على الانقيادِ لذلكَ، والإتيانِ بهِ كاملاً منشرحاً بهِ الصدرُ، مطمئنةً بهِ النفسُ
وتواصوا على الرحمة بالناس، منْ إعطاءِ محتاجهمْ، وتعليمِ جاهلهمِ، والقيامِ بمَا يحتاجونَ إليهِ منْ جميعِ الوجوهِ، ومساعدتهمْ على المصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ، وأنْ يحبَّ لهمْ ما يحبُّ لنفسهِ، ويكرهَ لهم ما يكرهُ لنفسهِ كما جاء في الحديث: ((الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء)). وفي الحديث الآخر: ((لا يرحم الله من لا يرحم النّاس)).


تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18))
أولئك المتصفون بالصفات السابقة هم أصحاب الميمنة وهي الجنة ؛ لأنَّهمْ أدوا ما أمرَ اللهُ بهِ منْ حقوقهِ وحقوقِ عبادهِ، وتركوا مَا نهوا عنهُ، وهذا عنوانُ السعادةِ وعلامتُهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ من النَّعِيمِ، وَفَصَّلَ ذَلِكَ عَلَى التمامِ وَالكمالِ فِي سُورَةِ الوَاقِعَةِ .


تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19))
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} بأنْ نبذوا هذهِ الأمورَ وراءَ ظهورهمْ، فلمْ يصدقوا باللهِ، ، ولا عملوا صالحاً، ولا رحموا عبادَ اللهِ {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ} أي: أصحاب الشّمال, وَهِيَ النَّارُ المَشْؤُومَةُ. وَتَفْصِيلُ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لأَصْحَابِ الشِّمالِ مُبَيَّنٌ أَيْضاً فِي سُورَةِ الوَاقِعَةِ.



تفسير قوله تعالى: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) )
أي: مطبقةٌ عليهم، لا ضوء فيها، ولا فرج، فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها.
قال ابن عبّاسٍ: مغلقة الأبواب.
وقال أبو عمران الجونيّ: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكلّ جبّارٍ، وكلّ شيطانٍ، وكلّ من كان يخاف الناس في الدنيا شرّه، فأوثقوا بالحديد، ثمّ أمر بهم إلى جهنّم، ثمّ أوصدوها عليهم. أي: أطبقوها. قال: فلا والله لا تستقرّ أقدامهم على قرارٍ أبداً، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبداً، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نومٍ أبداً، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شرابٍ أبداً. رواه ابن أبي حاتمٍ.


تفسير سورة الشمس
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر



أسماء السورة
الشمس
سورة والشمس وضحاها.


نزول السورة: مكية.

فضائل السورة:
تقدّم حديث جابرٍ الذي في الصحيحين، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذٍ: ((هلاّ صلّيت بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {اللّيل إذا يغشى})) ). [


تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}

تفسير قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) )
أقسمَ اللهُ تعالى بهذهِ الآياتِ العظيمةِ، على النفسِ المفلحةِ، وغيرِهَا منَ النفوسِ الفاجرةِ، فقالَ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي: نورهَا ونفعهَا الصادرِ منهَا .
وقال قتادة: {وضحاها} النهار كلّه.
قال ابن جريرٍ: والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها؛ لأنّ ضوء الشمس الظاهر النهار.


تفسير قوله تعالى: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) )
قال مجاهدٌ: تبعها.
وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي البِيضِ، وَهِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَسِتَّ عَشْرَةَ، يَطْلُعُ فِيهَا القَمَرُ من المَشْرِقِ مُمْتَلِئاً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وقال قتادة: {إذا تلاها} ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال.
وقال ابن زيدٍ: هو يتلوها في النصف الأوّل من الشهر، ثمّ هي تتلوه، وهو يتقدّمها في النصف الأخير من الشهر.
وقال مالكٌ، عن زيد بن أسلم: {إذا تلاها} ليلة القدر


تفسير قوله تعالى: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) )
قال مجاهدٌ: أضاء.
وقال قتادة: {والنّهار إذا جلاّها}: إذا غشيها النهار.
-عود الضمير في جلاها:
1-جلى الشمس: وقال ابن جريرٍ: وكان بعض أهل العربيّة يتأوّل ذلك بمعنى: والنّهار إذا جلّى الظّلمة؛ لدلالة الكلام عليها.
2-جلى ماعلى وجه الأرض: قلت: ولو أنّ هذا القائل تأوّل ذلك بمعنى: {والنّهار إذا جلاّها} أي: البسيطة، أي: جلّى ما علَى وجهِ الأرضِ وأوضحهُ.لكان أولى، ولصحّ تأويله في قوله: {واللّيل إذا يغشاها} فكان أجود وأقوى. والله أعلم.
ولهذا قال مجاهدٌ: {والنّهار إذا جلاّها}: إنه كقوله: {والنّهار إذا تجلّى}.
وأمّا ابن جريرٍ فاختار عود الضمير في ذلك كلّه على الشمس؛ لجريان ذكرها.
وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ انْبِسَاطِ النَّهَارِ تَنْجَلِي تَمَامَ الانجلاءِ.


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4))
يعني: إذا يغشى الشمس حين تغيب فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهَا فتظلم الآفاق.
وقيل : أي: يغشى وجهَ الأرضِ، فيكونُ ما عليهَا مظلماً.

-ماتضمنته الآيتين السابقتين من الأدلة:
فتعاقبُ الظلمةِ والضياءِ،والشمسِ والقمرِ على هذا العالمِ بانتظامٍ وإتقانٍ، وقيامٍ لمصالحِ العبادِ، أكبرُ دليلٍ على أنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ المعبودُ وحدهُ، الذي كلُّ معبودٍ سواهُ فباطلُ.


تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5))
-نوع ما :

يحتمل أن تكون (ما) ههنا مصدريّةً بمعنى: والسماء وبنائها. فيكونُ الإقسامُ بالسماءِ وبنيانِهَا، الذي هوَ غايةُ ما يقدّرُ مِنْ الإحكامِ والإتقانِ والإحسانِ، ونحوُ ذلكَ وهو قول قتادة.
ويحتمل أن تكون بمعنى (من)، يعني: والسماء وبانيها. فيكونُ الإقسامُ بالسماءِ وبانيهَا، الذي هوَ الله تباركَ وتعالَى وهو قول مجاهدٍ.
وكلاهما متلازمٌ، والبناء هو الرفع، كقوله: {والسّماء بنيناها بأيدٍ} أي: بقوّةٍ {وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون}.
وهكذا قوله: {والأرض وما طحاها}.


تفسير قوله تعالى: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6))
الاختلاف في معنى طحاها:

1- عن ابن عبّاسٍ: {وما طحاها} أي: خلق فيها.
2- عن ابن عبّاسٍ: {طحاها} قسّمها.
3-وقال مجاهدٌ، وقتادة،وغيرهم: {طحاها}: بسطها، وهذا أشهر الأقوال، وعليه الأكثر من المفسّرين، وهو المعروف عند أهل اللّغة، قال الجوهريّ: طحوته مثل دحوته، أي: بسطته.


تفسير قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) )
يحتملُ أنَّ المرادَ:
1-نفسُ سائرِ المخلوقاتِ الحيوانيةِ، كمَا يؤيدُ هذا العمومُ.
2-أو الإقسامُ بنفسِ الإنسانِ المكلفِ، بدليلِ ما يأتي بعدَهُ.
والمعنى: أَنْشَأهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا، وَرَكَّبَ فِيهَا الرُّوحَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْقُوَى النَّفْسِيَّةَ الهَائِلَةَ، وَالإِدْرَاكَاتِ العَجِيبَةَ،وجعلها مستقيمةً على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدّين حنيفاً فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله}.
وقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: ((كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة بهيمةً جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء)). أخرجاه من رواية أبي هريرة.
وفي صحيح مسلمٍ من رواية عياض بن حمارٍ المجاشعيّ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((يقول الله عزّ وجلّ: إنّي خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم.
-ماتتضمنه النفس من الآيات :
فالنفسُ آيةٌ كبيرةٌ منْ آياتهِ التي حقيقةٌ بالإقسامِ بهَا، فإنَّهَا في غايةِ اللطفِ والخفةِ، سريعةِ التنقلِ والتغيرِ والتأثرِ والانفعالاتِ النفسيةِ، منَ الهمِّ، والإرادةِ، والقصدِ، والحبِّ، والبغضِ، وهيَ التي لولاهَا لكانَ البدنُ مجردَ تمثالٍ لا فائدةَ فيهِ، وتسويتهَا على هذا الوجهِ آيةٌ منْ آياتِ اللهِ العظيمةِ.


تفسير قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) –ك . ش-
أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدّر لها.
قال ابن عبّاسٍ: {فألهمها فجورها وتقواها} بيّن لها الخير والشرّ.
وروي أنّ رجلاً من مزينة - أو جهينة - أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون؟ أشيءٌ قضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أم شيءٌ ممّا يستقبلون ممّا أتاهم به نبيّهم وأكّدت به عليهم الحجّة؟
قال: ((بل شيءٌ قد قضي عليهم)) قال: ففيم نعمل؟ قال: ((من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيّئه لها، وتصديق ذلك في كتاب الله: {ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها})). رواه أحمد ومسلمٌ من حديث عزرة بن ثابتٍ به.


تفسير قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9))
يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكّى نفسه، أي: بطاعة الله وعلاّهَا بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ , - وطهّرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ونقاهَا منَ العيوبِ.
فَازَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وَظَفِرَ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا فَقَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن مَضْجَعِهِ، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ يَقُولُ: ((رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا ومولاها) وكقوله تعالى: {قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى}.


تفسير قوله تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) )
أي: دسسها، بمعنى: خَسِرَ مَنْ أَضَّلَهَا و أغواها وأخملها ووضع منها بخذلانه إيّاها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عزّ وجلّ.
وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكّى الله نفسه، وقد خاب من دسّى الله نفسه.
عن ابن عبّاسٍ، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ بهذه الآية: {ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها} وقف، ثمّ قال: ((اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها ومولاها، وخير من زكّاها)).



تفسير سورة الليل
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر



أسماء السورة: سورة الليل.

نزول السورة: مكية.

فضائل السورة:

تقدّم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ: ((فهلاّ صلّيت بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى} و {الشّمس وضحاها} و {اللّيل إذا يغشى}))



تفسير قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}.


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1))
هذا قسمٌ منَ اللهِ بالزمانِ الذي تقعُ فيهِ أفعالُ العبادِ على تفاوتِ أحوالهمْ، فقالَ:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}
أي: إذا غشي الخليقة بظلامه الخلقَ بظلامهِ، فيسكنُ كلٌّ إلى مأواهُ ومسكنهِ، ويستريحُ العبادُ منَ الكدِّ والتعبِ.


تفسير قوله تعالى: (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2))
{والنّهار إذا تجلّى} أي: للخلقِ بضيائه وإشراقه، فاستضاؤوا بنورهِ، وانتشروا في مصالحهم


تفسير قوله تعالى: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3))
إن كانتْ {مَا} موصولةً، كانَ إقساماً بنفسهِ الكريمةِ الموصوفةِ بأنَّهُ خالقُ الذكورِ والإناثِ.
-وإنْ كانتْ مصدريةً، كانَ قسماً بخلقِهِ للذكرِ والأنثى .
-وكمالِ حكمتهِ في ذلكَ أن خلقَ منْ كلِّ صنفٍ منَ الحيواناتِ التي يريدُ بقاءَهَا ذكراً وأنثى: ليبقى النوعُ ولا يضمحلَّ، وقادَ كلاًّ منهما إلى الآخرِ بسلسلةِ الشهوةِ، وجعلَ كلاًّ منهمَا مناسباً للآخرِ، فتباركَ اللهُ أحسنَ الخالقينَ.



تفسير قوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4))
ولمّا كان القسم بهذه الأشياء المتضادّة كان المقسم عليه أيضاً متضادًّا، ولهذا قال: {إنّ سعيكم لشتّى} أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادّةٌ أيضاً، ومتخالفةٌ؛ فمن فاعلٍ خيراً، ومن فاعلٍ شرًّا.
-سبب تفاوت الناس في الأعمال:
يتفاوت الناس في الأعمال بحسبِ تفاوتِ نفسِ الأعمالِ ومقدارهَا والنشاطِ فيهَا، وبحسبِ الغايةِ المقصودةِ بتلكَ الأعمالِ، هلْ هوَ وجهُ اللهِ الأعلى الباقي؟ فيبقى السعيُ لهُ ببقائهِ، وينتفعُ بهِ صاحبهُ، أمْ هيَ غايةٌ مضمحلةٌ فانيةٌ، فيبطلُ السعيُ ببطلانِهَا، ويضمحلُّ باضمحلالِهَا؟
وهكذا كلُّ عملٍ يقصدُ بهِ غيرُ وجهِ اللهِ تعالَى، بهذا الوصفِ، ولهذا فصَّلَ اللهُ تعالَى العاملينَ، ووصفَ أعمالَهمْ، فقال:{فَأَمَّا مَن أَعْطَى}.


تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) )
ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ، {وَاتَّقَى}ما نهيَ عنهُ، مِنَ المحرماتِ والمعاصي، على اختلافِ أجناسِهَا


تفسير قوله تعالى: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6))
-الخلاف في معنى الحسنى:

1-أي: بالمجازاة على ذلك. أي بالثّواب.
2-أي: بلا إله إلاّ الله , وما دلّتْ عليهِ، مِنْ جميعِ العقائدِ الدينيةِ، ومَا ترتبَ عليهَا منَ الجزاءِ الأخرويِّ.
3- أي: بما أنعم الله عليه.
4-قال: الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرّةً: وصدقة الفطر.
5- عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)).


تفسير قوله تعالى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7))
-معنى اليسرى:

1-قال ابن عبّاسٍ: يعني: للخير.
2-وقال زيد بن أسلم: يعني: للجنّة.
3-وقال بعض السّلف: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيّئة السيّئة بعدها.
أي: نسهلُ عليهِ أمرَهُ، ونجعلُهُ ميسراً لهُ كلُّ خيرٍ، ميسراً لهُ تركُ كلِّ شرٍّ، لأنَّهُ أتى بأسبابِ التيسيرِ، فيسرَ اللهُ لهُ ذلكَ

والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ دالّةٌ على أنّ الله عزّ وجلّ يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشرّ بالخذلان، وكلّ ذلك بقدرٍ مقدّرٍ.
عن عليّ بن أبي طالبٍ، قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازةٍ، فقال: ((ما منكم من أحدٍ إلاّ وقد كتب مقعده من الجنّة ومقعده من النّار)). فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتّكل؟ فقال: ((اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خلق له)). ثمّ قرأ: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى} إلى قوله: {للعسرى}.

فيمن نزلت هذه الآية: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ؛ اشْتَرَى سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا فِي أَيْدِي أَهْلِ مَكَّةَ، يُعَذِّبُونَهُمْ فِي اللَّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ.
عن عامر بن عبد الله بن الزّبير، قال: كان أبو بكرٍ رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكّة، فكان يعتق عجائز ونساءً إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بنيّ، أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنّك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك. فقال: أي أبت، إنما أريد - أظنّه قال - ما عند الله.
قال: فحدّثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه: {فأمّا من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى}.


تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8))
{وأما من بخل} أي: بما عنده وبخل بمَا أُمرَ بهِ، فتركَ الإنفاقَ الواجبَ والمستحبَّ، ولمْ تسمحْ نفسهُ بأداءِ مَا وجبَ للهِ، {واستغنى} أي: استغنى عن ربّه عزّ وجلّ فتركَ عبوديتهُ جانباً، ولم يَرَ نفسهُ مفتقرةً غايةَ الافتقارِ إلى ربِّهَا الذي لا نجاةَ لهَا ولا فوزَ ولا فلاحَ إلاَّ بأنْ يكونَ هوَ محبوبُهَا ومعبودهَا، الذي تقصدهُ وتتوجهُ إليهِ , فاسْتَغْنَى بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ نَعِيمِ الآخِرَةِ.


تفسير قوله تعالى: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9))
أي: بالجزاء في الدار الآخرة.
وقيل:كذب بمَا أوجبَ اللهُ على العبادِ التصديقَ بهِ مِنَ العقائدِ الحسنةِ


تفسير قوله تعالى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10))
أي: لطريق الشرّ، وللحالةِ العسرةِ، والخصالِ الذميمةِ، بأنْ يكونَ ميسراً للشر أينمَا كانَ، ومقيضاً لهُ أفعالُ المعاصي كما قال تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون} حَتَّى تَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ والصلاحِ، وَيَضْعُفَ عَنْ فِعْلِهَا فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إِلَى النَّارِ.
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ دالّةٌ على أنّ الله عزّ وجلّ يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشرّ بالخذلان، وكلّ ذلك بقدرٍ مقدّرٍ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11))
1- أي: إذا مات.
2- إذا تردّى في النار.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ}؛ أَيْ: لا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئاً مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ، {إِذَا تَرَدَّى}؛ أَيْ: هَلَكَ وَسَقَطَ فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْمَالَ الَّذِي يَتْرُكُهُ خَلْفَهُ لا أَجْرَ لَهُ فِيهِ مَا لَمْ يَتْرُكْهُ لِذُرِّيَّةٍ يَحْتَاجُونَهُ، أَمَّا مَا قَدَّمَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.


تفسير قوله تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}


تفسير قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12))
قال قتادة: {إنّ علينا للهدى} أي: نبيّن الحلال والحرام.
وقال غيره: من سلك طريق الهدى وصل إلى الله. وجعله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السّبيل}. حكاه ابن جريرٍ.
أي: إنَّ الهدى المستقيمَ طريقُهُ يوصلُ إلى اللهِ، ويدني منْ رضاهُ، وأمَّا الضلالُ فطرقٌ مسدودةٌ عنِ اللهِ، لا توصلُ صاحبهَا إلا للعذابِ الشديدِ.


تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13))

أي: الجميع ملكنا، وأنا المتصرّف فيهما , ليسَ لهُ فيهمَا مشاركٌ، فليرغب الراغبونَ إليهِ في الطلبِ، ولينقطعْ رجاؤهمْ عنِ المخلوقينَ.


تفسير قوله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14))
قال مجاهدٌ: أي: توهّج وتستعرُ وتتوقدُ.
عن أبي إسحاق: سمعت النّعمان بن بشيرٍ يخطب ويقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((إنّ أهون أهل النّار عذاباً رجلٌ توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)). رواه البخاريّ.


تفسير قوله تعالى: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15))
أي: لا يدخلها دخولاً تحيط به من جميع جوانبه إلاّ الأشقى.
هُوَ الْكَافِرُ،يَجِدُ صَلاَهَا،وَهُوَ حَرُّهَا


تفسير قوله تعالى: (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16))
{الّذي كذّب} أي: كَذَّبَ بقلبه بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ {وتولّى} أي: وَأَعْرَضَ عن العمل بجوارحه وأركانه.
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يدخل النّار إلاّ شقيٌّ)). قيل: ومن الشّقيّ؟ قال: ((الّذي لا يعمل بطاعةٍ، ولا يترك لله معصيةً)).


تفسير قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17))
أي: وسيزحزح عن النار التّقيّ النّقيّ الأتقى.
. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الأَتْقَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ؛ أَيْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَحُكْمُهَا عَامٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


تفسير قوله تعالى: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18))

أي: يصرف ماله في طاعة ربّه؛ ليزكّي نفسه وماله، وما وهبه الله من دينٍ ودنيا،
قاصداً بهِ وجهَ اللهِ تعالى، فدلَّ هذا على أنَّهُ إذا تضمنَ الإنفاقُ المستحبُّ تركَ واجبٍ، كدينٍ ونفقةٍ ونحوهمَا، فإنَّهُ غيرُ مشروعٍ، بلْ تكونُ عطيتُهُ مردودةً عندَ كثيرٍ منَ العلماءِ، لأنَّهُ لا يُتزكّى بفعلٍ مستحبٍّ يفوِّتُ الواجبَ.


تفسير قوله تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19))
أي: ليَس لأحدٍ منْ الخلقِ على هذا الأتقى نعمةٌ تجزى إلاَّ وقدْ كافأهُ بهَا، وربَّمَا بقيَ لهُ الفضلُ والمنةُ على الناسِ، فتمحَّضَ عبداً للهِ، لأنَّهُ رقيقُ إحسانِهِ وحدَهُ، وأمَّا منْ بقيَ عليهِ نعمةٌ للناسِ لم يجْزِهَا ويكافئْهَا، فإنَّهُ لا بدَّ أنْ يتركَ للناسِ، ويفعلَ لهمْ مَا ينقصُ .
وهذهِ الآيةُ،وإنْ كانتْ متناولةً لأبي بكرٍ الصديقِ رضيَ اللهُ عنهُ، بلْ قدْ قيلَ إنَّهَا نزلتْ في سببهِ، فإنَّهُ - رضيَ اللهُ عنهُ - ما لأحدٍ عندهُ منْ نعمةٍ تجزى، حتى ولا رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إلا نعمةَ الرسولِ التي لا يمكنُ جزاؤُهَا، وهيَ الدعوةِ إلى دينِ الإسلامِ، وتعليمِ الهدى ودينِ الحقِّ، فإنَّ للهِ ورسولهِ المنةُ على كلِّ أحدٍ، منةٌ لا يمكنُ لهَا جزاءٌ ولا مقابلةٌ، فإنَّهَا متناولةٌ لكلِّ منِ اتَّصفَ بهذا الوصفِ الفاضلِ، فلمْ يبقَ لأحدٍ عليهِ منَ الخلقِ نعمةٌ تجزى، فبقيتْ أعمالهُ خالصةً لوجهِ اللهِ تعالى.


تفسير قوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20))
أي: لا يُؤْتِي إِلاَّ لابْتِغَاءِ وَجْهِ رَبِّهِ، لا لِمُكَافَأَةِ نِعَمِهِ بل طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدّار الآخرة في روضات الجنّات.


تفسير قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21))
أي: ولسوف يرضى من اتّصف بهذه الصفات بمَا يعطيهِ اللهُ منْ أنواعِ الكراماتِ والمثوباتِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.





تفسير سورة الضحى
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر



أسماء السورة
:سورة الضحى.

نزول السورة: مكية.

أسباب نزول السورة: -ك-
عن الأسود بن قيسٍ سمع جندباً قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال المشركون: ودّع محمّدٌ. فأنزل الله تعالى: {والضّحى واللّيل إذا سجى ما ودّعك ربّك وما قلى}.
-وقد ذكر بعض السّلف، منهم ابن إسحاق، أنّ هذه السورة التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين تبدّى له في صورته التي هي خلقه الله عليها، ودنا إليه وتدلّى منهبطاً عليه، وهو بالأبطح {فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: قال له هذه: {والضّحى واللّيل إذا سجى}.




تفسير قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}


تفسير قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1))
أقسمَ تعالى بالنهارِ إذا انتشرَ ضياؤهُ بالضحى , والضُّحَى اسْمٌ لِوَقْتِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ.


تفسير قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2))
وأقسم سبحانه بالليلِ إذا سجى وادلهمَّتْ ظلمتهُ أي: سكن فأظلم وادلهمّ.
قَالَ الأَصْمَعِيُّ: سُجُوُّ اللَّيْلِ تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسَجَّى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ
-وذلك دليلٌ ظاهرٌ على قدرة خالق هذا وهذا، كما قال: {واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى} وقال: (فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكناً والشّمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم)).
.

تفسير قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3))
هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ,
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أي: مَا ترككَ منذُ اعتنى بكَ، ولا أهملكَ منذُ رباكَ ورعاكَ، بلْ لمْ يزلْ يربيكَ أحسنَ تربيةٍ، ويعليكَ درجةً بعدَ درجةٍ.
{وَمَا قَلا} كَ اللهُ أي: ما أبغضكَ منذُ أحبَّكَ.
-نفي الضد والنفي المحض:
فإنَّ نفيَ الضدِّ دليلٌ على ثبوتِ ضدِّهِ، والنفي المحضُ لا يكونُ مدحاً، إلاَّ إذا تضمنَ ثبوتَ كمالٍ.
-فهذهِ حالُ الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الماضيةُ والحاضرةُ، أكملُ حالٍ وأتمها، محبةُ اللهِ لهُ واستمرارهَا، وترقيتهُ في درجِ الكمالِ، ودوامُ اعتناءِ اللهِ بهِ.



تفسير قوله تعالى: (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4))
أي: كلُّ حالةٍ متأخرةٍ منْ أحوالكَ، فإنَّ لهَا الفضلُ على الحالةِ السابقةِ.
فلمْ يزلْ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يصعدُ في درجِ المعالي، ويمكنُ لهُ اللهُ دينهُ، وينصرُهُ على أعدائِهِ، ويسددُ لهُ أحوالهُ، حتى ماتَ، وقدْ وصلَ إلى حالٍ لا يصلُ إليهَا الأولونَ والآخرونَ، منَ الفضائلِ والنعمِ، وقرةِ العينِ، وسرورِ القلبِ.
وقيل : بمعنى وللدّار الآخرة خيرٌ لك من هذه الدار , هَذَا مَعَ مَا قَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ شَرَفِ النُّبُوَّةِ مَا يَصْغُرُ عِنْدَهُ كُلُّ شَرَفٍ، وَيَتَضَاءَلُ بالنسبةِ إِلَيْهِ كُلُّ مَكْرُمَةٍ فِي الدُّنْيَا.
-وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أزهد الناس في الدنيا، وأعظمهم لها اطّراحاً، كما هو معلومٌ بالضرورة من سيرته، ولمّا خيّر عليه السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها، ثمّ الجنّة، وبين الصّيرورة إلى الله عزّ وجلّ اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدّنيّة.
-عن عبد الله - هو ابن مسعودٍ - قال: اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصيرٍ فأثّر في جنبه، فلمّا استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ما لي وللدّنيا؟! ما أنا والدّنيا؟! إنّما مثلي ومثل الدّنيا كراكبٍ ظلّ تحت شجرةٍ ثمّ راح وتركها))


تفسير قوله تعالى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5))
أي: في الدار الآخرة يعطيه حتّى يرضيه في أمّته، من الشفاعة وفيما أعدّه له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر، الذي حافتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف، وطينه مسكٌ أذفر، كما سيأتي.
عن عليّ بن عبد الله بن عبّاسٍ، عن أبيه، قال: عرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هو مفتوحٌ على أمّته من بعده كنزاً كنزاً، فسرّ بذلك، فأنزل الله: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} فأعطاه في الجنّة ألف ألف قصرٍ، في كلّ قصرٍ ما ينبغي له من الأزواج والخدم، وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عبّاسٍ، ومثل هذا لا يقال إلاّ عن توقيفٍ.
وعن ابن عبّاسٍ: من رضى محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم ألاّ يدخل أحدٌ من أهل بيته النار.
وقال الحسن: يعني بذلك الشفاعة. وهكذا قال أبو جعفرٍ الباقر.


تفسير قوله تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}.


تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6))
ثمّ قال تعالى يعدّد نعمه على عبده ورسوله محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه: {ألم يجدك يتيماً فآوى} وذلك أن أباه توفّيّ وهو حملٌ في بطن أمّه. وقيل: بعد أن ولد عليه السلام ثمّ توفّيت أمّه آمنة بنت وهبٍ وله من العمر ستّ سنين.
فآواهُ اللهُ، وكفلهُ جدُّهُ عبدُ المطلبِ، ثمَّ لما ماتَ جدُّهُ كفّلهُ اللهُ عمَّهُ أبا طالبٍ، حتى أيدهُ اللهُ بنصرهِ وبالمؤمنينَ .
وبعد وفاة عمه اختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سنّته على الوجه الأتمّ الأكمل، فلمّا وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه، رضي الله عنهم أجمعين، وكلّ هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به


تفسير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7))
-الأقوال في معنى الآية:

1-وجدكَ لا تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ، فعلَّمكَ ما لمْ تكنْ تعلمُ، ووفّقكَ لأحسنِ الأعمالِ والأخلاقِ.
كقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} الآية.
2-ومنهم من قال: إنّ المراد بهذا أنّه عليه الصلاة والسلام ضلّ في شعاب مكّة، وهو صغيرٌ، ثمّ رجع.
3-وقيل: إنه ضلّ وهو مع عمّه في طريق الشام، وكان راكباً ناقةً في الليل، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخةً ذهب منها إلى الحبشة، ثمّ عدل بالراحلة إلى الطريق. حكاهما البغويّ.


تفسير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8))
أي: كنت فقيراً ذا عيالٍ، فأغناك الله عمّن سواه، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغنيّ الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال قتادة في قوله: {ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاًّ فهدى ووجدك عائلاً فأغنى} قال: كانت هذه منازل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعثه الله عزّ وجلّ. رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ.
-الأحاديث المفسرة لمعنى الغنى:
في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النّفس))
وفي صحيح مسلمٍ، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه))


تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9))
أي: كما كنت يتيماً فآواك الله، فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذلّه وتنهره وتهنه ولا تسيْء معاملةَ اليتيمِ، ولا يضقْ صدرُكَ عليهِ، ولا تَتَسَلَّطْ عَلَيْهِ بالظُّلْمِ لِضَعْفِهِ، بَلِ ادْفَعْ إِلَيْهِ حَقَّهُ و أكرمهُ، وأعطهِ مَا تيسرَ، واصنعْ بهِ كمَا تحبُّ أنْ يُصنعَ بولدكِ منْ بعدكِ , وَاذْكُرْ يُتْمَكَ.
قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرّحيم.
.وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْسِنُ إِلَى اليتيمِ وَيَبَرُّهُ وَيُوصِي بِاليَتَامَى.


تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10))
أي: وكما كنت ضالاًّ فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.
قال ابن إسحاق: {وأمّا السّائل فلا تنهر} أي: فلا تكن جبّاراً، ولا متكبّراً، ولا فحّاشاً، ولا فظًّا على الضعفاء من عباد الله , فلا يصدرْ منكَ إلى السائلِ كلامٌ يقتضي ردَّهُ عنْ مطلوبهِ، بنهرٍ وشراسةِ خلقٍ، بلْ أعطهِ ما تيسرَ عندكَ أو ردّهُ بمعروفٍ .
وقال قتادة: يعني: ردّ المسكين برحمةٍ ولينٍ.
-أنواع السائل:
وهذا يدخلُ فيهِ السائلُ للمالِ، والسائلُ للعلمِ،ولهذا كانَ المعلمُ مأموراً بحسنِ الخلقِ معَ المتعلمِ، ومباشرتهِ بالإكرامِ والتحننِ عليهِ، فإنَّ في ذلكَ معونةً لهُ على مقصدهِ، وإكراماً لمنْ كانَ يسعَى في نفعِ العبادِ والبلادِ.


تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))
-أي: وكما كنت عائلاً فقيراً فأغناك الله، فحدّث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور
النبويّ: ((واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك، قابليها، وأتمّها علينا)).
عن أبي نضرة، قال: كان المسلمون يرون أنّ من شكر النّعم أن يحدّث بها.
-المراد بالنعمة في الآية:
1-وقال مجاهدٌ: يعني: النّبوّة التي أعطاك ربّك.2- وفي روايةٍ عنه: القرآن.
3-وقال محمد بن إسحاق: ما جاءك من الله من نعمةٍ وكرامةٍ من النبوّة فحدّث فيها، واذكرها، وادع إليها. قال: فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر ما أنعم الله به عليه من النبوّة سرًّا إلى من يطمئنّ إليه من أهله، وافترضت عليه الصلاة فصلّى.

-ماجاء في شكر النعم من الأحاديث :
وقال أبو داود: عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((لا يشكر الله من لا يشكر النّاس)).
عن جابرٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ((من أبلى بلاءً فذكره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره)). تفرّد به أبو داود.

-ما يتضمنه التحدث بالنعم من الأمور :
فإنَّ التحدثَ بنعمةِ اللهِ داعٍ لشكرهَا، وموجبٌ لتحبيبِ القلوبِ إلى مَنْ أنعمَ بهَا، فإنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبةِ المحسنِ.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 19 ذو الحجة 1435هـ/13-10-2014م, 10:20 AM
هيئة التصحيح 3 هيئة التصحيح 3 غير متواجد حالياً
معهد آفاق التيسير
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 2,990
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة تماضر مشاهدة المشاركة
-الاستعاذة وما يتعلق بها من مسائل :
-الخلاف في موضع الاستعاذة:
[كذلك يوجد قولان آخران: الثالث: أنّ القارئ يتعوّذ بعد الفاتحة، والرابع: أن الاستعاذة تكون أوّلًا وآخرًا جمعًا بين الدّليلين]
القول الأول: قالت طائفة من القراءوغيرهم: نتعوّذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون)) النّحل: 98، 99
. ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة؛ وممّن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره ابن قلوقا عنه، وأبو حاتمٍ السّجستانيّ، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذليّ المغربيّ في كتاب " الكامل ".
وروي عن أبي هريرة -أيضا-وهو غريب.
القول الثاني : أن المشهور في موضع الاستعاذة في القراءة الذي عليه الجمهور : أنّ الاستعاذة لدفع الوسواس فيها، إنّما تكون قبل التّلاوة، ومعنى الآية عندهم:"فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم". النّحل: 98. أي: إذا أردت القراءة، كقوله:"إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" الآية..المائدة: 6. أي: إذا أردتم القيام.
والدّليل على ذلك من السنة الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك:
1- مارواه الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه اللّه: ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من اللّيل فاستفتح صلاته وكبّر قال:(سبحانك اللّهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك) ويقول:(لا إله إلّا اللّه) ثلاثًا، ثمّ يقول:(أعوذ باللّه السّميع العليم، من الشّيطان الرّجيم، من همزه ونفخه ونفثه). وقد رواه أهل السّنن الأربعة ,وهو أشهر حديث في هذا الباب.
2-عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».
قال عمرٌو: «وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر».أخرجه أبوداود وابن ماجه. [وأورد ابن كثير أيضا: حديثا رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعا، وحديثا رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم]
3-عن عديّ بن ثابتٍ، قال: قال سليمان بن صرد: استبّ رجلان عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ونحن عنده جلوسٌ، فأحدهما يسبّ صاحبه مغضبًا قد احمرّ وجهه، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم» فقالوا للرّجل: ألا تسمع ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟!، قال: إنّي لست بمجنونٍ .أخرجه البخاري. [هذا الحديث فيه بيان فضل الاستعاذة]
-حكم الاستعاذة : [حكم الاستعاذة أنها مستحبة لقول الجمهور، أما حكمها في الصلاة ففيها خمسة أقوال ذكرها ابن كثير، وهذا يُدرج ضمن أحكام الاستعاذة]
القول الأول: جمهور العلماء على أنّ الاستعاذة مستحبّةٌ ليست بمتحتّمةٍ يأثم تاركها.
القول الثاني: وحكى فخر الدّين عن عطاء بن أبي رباحٍ وجوبها في الصّلاة وخارجها كلّما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوّذ مرّةً واحدةً في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، واحتجّ فخر الدّين لعطاءٍ بظاهر الآية: {فاستعذ} وهو أمرٌ ظاهره الوجوب وبمواظبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عليها، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ، ولأنّ الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب.
القول الثالث: وقال بعضهم: كانت واجبةٌ على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دون أمّته.
وحكي عن مالكٍ أنّه لا يتعوّذ في المكتوبة ويتعوّذ لقيام شهر رمضان في أوّل ليلةٍ منه.
-الجهر والإسرار في الاستعاذة: [هذه تُدرج تحت أحكام الاستعاذة]
وقال الشافعي في الإملاء، يجهر بالتعوذ، وإن أسرّ فلا يضرّ، وقال في الأمّ بالتّخيير لأنّه أسرّ ابن عمر وجهر أبو هريرة،// واختلف قول الشّافعيّ فيما عدا الرّكعة الأولى: هل يستحبّ التّعوّذ فيها؟ على قولين، ورجّح عدم الاستحباب، واللّه أعلم. [هذه المسألة تُدرج تحت المسائل الفقهية؛ وتعنون كالتالي: حكم الاستعاذة فيما عدا الركعة الأولى]
-هل الاستعاذة في الصلاة للصلاة أم للقراءة ؟ [تُدرج تحت المسائل الفقهية]
القول الأول: ثمّ الاستعاذة في الصّلاة إنّما هي للتّلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ.
القول الثاني: وقال أبو يوسف: بل للصّلاة، فعلى هذا يتعوّذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوّذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة.
-ومن لطائف الاستعاذة؛ أنّها طهارةٌ للفم ممّا كان يتعاطاه من اللّغو والرّفث، وتطييبٌ له وتهيّؤٌ لتلاوة كلام اللّه وهي استعانةٌ باللّه واعترافٌ له بالقدرة وللعبد بالضّعف والعجز عن مقاومة هذا العدوّ المبين الباطنيّ الّذي لا يقدر على منعه ودفعه إلّا اللّه الّذي خلقه، ولا يقبل مصانعةً، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدوّ من نوع الإنسان كما دلّت على ذلك آيات القرآن في ثلاثٍ من المثاني، وقال تعالى:"إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربّك وكيلا".الإسراء:65. [تُدرج تحت: المسائل السلوكية]
-معنى الاستعاذة:
والاستعاذة:
هي الالتجاء إلى اللّه والالتصاق بجنابه من شرّ كلّ ذي شرٍّ، والعياذة تكون لدفع الشّرّ، واللّياذ يكون لطلب جلب الخير .
ومعنى أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، أي: أستجير بجناب اللّه من الشّيطان الرّجيم أن يضرّني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أمرت به، أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه؛ فإنّ الشّيطان لا يكفّه عن الإنسان إلّا اللّه؛ ولهذا أمر اللّه تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليردّه طبعه عمّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ لأنّه لا يقبل رشوةً ولا يؤثّر فيه جميلٌ؛ لأنّه شرّيرٌ بالطّبع ولا يكفّه عنك إلّا الّذي خلقه.
والشيطان في لغة العرب: مشتقٌّ من شطن إذا بعد، فهو بعيدٌ بطبعه عن طباع البشر، وبعيدٌ بفسقه عن كلّ خيرٍ. [ذكر الأقوال مرتبة مع بيان الراجح منها يجمع لكِ حسن العرض والتحرير، فانتبهي لذلك في الملخصات القادمة]
والشّيطان مشتقٌّ من البعد على الصّحيح؛ ولهذا يسمّون كلّ ما تمرّد من جنّيٍّ وإنسيٍّ وحيوانٍ شيطانًا، قال اللّه تعالى:((وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا)) الأنعام: 112.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:" يا أبا ذرٍّ، تعوّذ باللّه من شياطين الإنس والجنّ"، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال:"نعم".
وقيل: مشتقٌّ من شاط لأنّه مخلوقٌ من نارٍ، ومنهم من يقول: كلاهما صحيحٌ في المعنى، ولكنّ الأوّل أصحّ، وعليه يدلّ كلام العرب.
والرّجيم: فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، أي: أنّه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كلّه، كما قال تعالى:"ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين". الملك:5.[وكذلك فيه قول آخر في معنى رجيم: أنه بمعنى راجمٍ؛ لأنّه يرجم النّاس بالوساوس والرّبائث، والأشهر الأول]


-لم أجد حديثًا عن الاستعاذة في غير تفسير ابن كثير رحمه الله , هذا والله أسأل أن يغفر الزلل ويتجاوز عن الخلل , وأرجو موافاتي بالملاحظات على التلخيص بارك الله في الجميع.
تقييم التلخيص:
الشمول (شمول التلخيص على أهم المسائل التفسيرية): 30
من 30
الترتيب (ترتيب المسائل على الأبواب: التفسيرية ، الفقهية ، اللغوية ..):
15 من 20
التحرير: 18 من 20
حسن الصياغة (تلخيص ما ورد تحت المسائل بأسلوبك وقد تستعين بعبارات المفسر): 13 من 15
حسن العرض (حسن تنسيق وتنظيم التلخيص وتجنب الأخطاء الإملائية):
15 من 15
مجموع الدرجات: 91 من 100
أحسنتِ التلخيص بارك الله فيكِ، ونفع بكِ.
درجة المشاركة: ( 4/4
)


- تأمّل الإجابة النموذجية يظهر بعض ما فاتكِ من المسائل في التلخيص حتى يُتنبّه لنظائرها عند دراسة مسائل التفسير في الملخصات القادمة، مع جمع حسن العرض والتحرير.
اقتباس:
تلخيص (تفسير الاستعاذة)

المسائل التفسيرية
· الآيات التي ورد فيها الأمر بالاستعاذة من الشيطان
· الأحاديث الدّالة على استعاذته صلى الله عليه وسلم من الشيطان
· فضل الاستعاذة
· هل الاستعاذة من القرآن؟
· حكم الاستعاذة
· متى يتعوّذ للقراءة؟
· معنى الاستعاذة
· المراد بالهمز، والنفث، والنفخ
· معنى الشيطان
· ذكر ما جاء في تسمية من تمرد من الجن والإنس والحيوان شيطانا في اللغة والشرع
· معنى رجيم
أحكام الاستعاذة
· حكم الاستعاذة في الصلاة
· حكم الجهر بالاستعاذة في الصلاة
· صفة الاستعاذة
مسائل فقهية
· حكم الاستعاذة فيما عدا الركعة الأولى
· الاستعاذة في الصلاة هل هي للتلاوة أم للصلاة؟
مسائل سلوكية
· لطائف الاستعاذة.
· الفرق بين غلبة العدو البشري وغلبة العدو الباطني
· سبب أمر اللّه تعالى بمصانعة شيطان الإنس وأمره تعالى بالاستعاذة به من شيطان الجنّ.
· الآيات التي أمر تعالى فيها بمصانعة شيطان الإنس وأمر فيها بالاستعاذة به من شيطان الجن.
· الآيات الدّالة على شدة عداوة الشيطان لآدم عليه السلام وبنيه.



تلخيص (تفسير الاستعاذة)

المسائل التفسيرية
· الآيات التي ورد فيها الأمر بالاستعاذة من الشيطان.
قال اللّه تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه سميعٌ عليمٌ} [الأعراف: 200]
وقال تعالى: {وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين * وأعوذ بك ربّ أن يحضرون} [المؤمنون: 96 -98]
وقال تعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم} [فصّلت: 34 -36]
وقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم * إنّه ليس له سلطانٌ على الّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون}[النّحل: 98، 99].
· الأحاديث الدّالة على استعاذته صلى الله عليه وسلم من الشيطان.
1: عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من اللّيل فاستفتح صلاته وكبّر قال: «سبحانك اللّهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك». ويقول: «لا إله إلّا اللّه» ثلاثًا، ثمّ يقول: «أعوذ باللّه السّميع العليم، من الشّيطان الرّجيم، من همزه ونفخه ونفثه». رواه أحمد والأربعة وقال التّرمذيّ: (هو أشهر حديثٍ في هذا الباب.)
2: عن جبير بن مطعمٍ، قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين دخل في الصّلاة، قال: «اللّه أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد للّه كثيرًا، ثلاثًا، سبحان اللّه بكرةً وأصيلًا ثلاثًا، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان من همزه ونفخه ونفثه».
قال عمرٌو: «وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشّعر».) رواه أبو داود وابن ماجه.
3: عن ابن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم، وهمزه ونفخه ونفثه».قال: «همزه: الموتة، ونفثه: الشّعر، ونفخه: الكبر». رواه ابن ماجه.
4: عن أبي أمامة الباهليّ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قام إلى الصّلاة كبّر ثلاثًا، ثمّ قال: «لا إله إلّا اللّه» ثلاث مرّاتٍ، و «سبحان اللّه وبحمده»، ثلاث مرّاتٍ. ثمّ قال: «أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، من همزه ونفخه ونفثه».) رواه أحمد.
· فضل الاستعاذة
- من قالها ذهب عنه ما يجد من الغضب، رواه الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي والنسائي عن أبي بن كعب مرفوعا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن معاذ بن جبل مرفوعا، ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن سليمان بن صرد مرفوعا، أورده ابن كثير
- دفع الوسواس، ذكره ابن كثير.
· هل الاستعاذة من القرآن؟
أورد ابن كثير في ذلك أثرا رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في أن أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة وقال:«يا محمّد، استعذ». فقال: «أستعيذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم»، قال عبد اللّه: «وهي أوّل سورةٍ أنزلها اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، بلسان جبريل»، قال ابن كثير في هذا الأثر: غريبٌ، وإنّما ذكرناه ليعرف، فإنّ في إسناده ضعفًا وانقطاعًا، واللّه أعلم

· حكم الاستعاذة.
مستحبّةٌ ، وهو قول الجمهور، ذكره ابن كثير
· متى يتعوّذ للقراءة؟
فيها أقوال:
الأول: أنّ الاستعاذة إنّما تكون قبل التّلاوة، لدفع الوسواس فيها، ومعنى الآية عندهم: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم} أي: إذا أردت القراءة.
وهذا القول هو المشهور الذي عليه الجمهور، ذكره ابن كثير ورجحه لدلالة الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك.
الثاني: قالوا: نتعوّذ بعد القراءة، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم} ، وقالوا: ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة.
وهو قول: حمزة فيما ذكره ابن قلوقا عنه، وأبو حاتمٍ السّجستانيّ، وروي عن أبي هريرة، ذكره ابن كثير وقال: (وهو غريب).
وروي عن ابن سيرين، نقله فخر الدين وقال: وهو قول إبراهيم النّخعيّ وداود بن عليٍّ الأصبهانيّ الظّاهريّ، ذكره ابن كثير.
الثالث: أنّ القارئ يتعوّذ بعد الفاتحة، حكاه القرطبي عن مالك، واستغربه ابن العربي، ذكره ابن كثير..

الرابع: وهو الاستعاذة أوّلًا وآخرًا جمعًا بين الدّليلين، حكاه القرطبي ونقله فخر الدّين، ذكره ابن كثير
· معنى الاستعاذة.
هي الالتجاء إلى اللّه والالتصاق بجنابه من شرّ كلّ ذي شرٍّ.
ومعنى أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، أي: أستجير بجناب اللّه من الشّيطان الرّجيم أن يضرّني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أمرت به، أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه، قاله ابن كثير.
· المراد بالهمز، والنفث، والنفخ.
الهمز:فسرت بالموتة وهي الخنق
والنفخ: بالكبر
والنفث: بالشعر ، قاله عمرو وابن ماجه ، ذكره ابن كثير وقال: وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنّفخ بالكبر، والنّفث بالشّعر.
· معنى الشيطان.
فيه قولان:
الأول: قيل: مشتقٌّ من شطن إذا بعد، فهو بعيدٌ بطبعه عن طباع البشر، وبعيدٌ بفسقه عن كلّ خيرٍ.
الثاني: وقيل: مشتقٌّ من شاط لأنّه مخلوقٌ من نارٍ.
ومنهم من يقول: كلاهما صحيحٌ في المعنى.
ذكر هذه الأقوال ابن كثير وقال: ولكنّ الأوّل أصحّ، وعليه يدلّ كلام العرب.
· ذكر ما جاء في تسمية من تمرد من الجن والإنس والحيوان شيطانا في اللغة والشرع
العرب تقول: تشيطن فلانٌ إذا فعل فعل الشّيطان قاله سيبويه، ذكره ابن كثير وقال: ولهذا يسمّون كلّ ما تمرّد من جنّيٍّ وإنسيٍّ وحيوانٍ شيطانًا.
1: قال اللّه تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا} [الأنعام: 112].
2: عن أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا أبا ذرٍّ، تعوّذ باللّه من شياطين الإنس والجنّ»، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم». رواه أحمد
2: عن أبي ذرٍّ -أيضًا-قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يقطع الصّلاة المرأة والحمار والكلب الأسود». فقلت: يا رسول اللّه، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: «الكلب الأسود شيطانٌ». رواه مسلم
3: ركب عمر بن الخطاب برذونًا، فجعل يتبختر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلّا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: «ما حملتموني إلّا على شيطانٍ، ما نزلت عنه حتّى أنكرت نفسي». رواه ابن وهب عن أسلم، ذكره ابن كثير وقال: (إسناده صحيحٌ.)
· معنى رجيم.
فيه قولان:
قيل: الرّجيم: فعيلٌ بمعنى مفعولٍ، أي: أنّه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كلّه.
وقيل: رجيمٌ بمعنى راجمٍ؛ لأنّه يرجم النّاس بالوساوس والرّبائث.
ذكر هذه الأقوال ابن كثير وقال: والأوّل أشهر.


أحكام الاستعاذة
· حكم الاستعاذة في الصلاة.
فيها أقوال:
1: الجمهور على أنها مستحبة، ذكره ابن كثير.
2: واجبة في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، حكاه الرازي عن عطاء بن أبي رباح، واحتجّ له بظاهر قوله تعالى: {فاستعذ} قال: وهو أمرٌ ظاهره الوجوب، وبمواظبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عليها، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ، ولأنّ الاستعاذة أحوط، ذكره ابن كثير وقال: وهو أحد مسالك الوجوب.
3: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، وهو قول ابن سيرين، ذكره ابن كثير.
4: وقيل: كانت واجبةٌ على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دون أمّته.
5: وقيل: لا يتعوذ في المكتوبة،حكي ذلك عن مالك، وأنه كان يتعوّذ لقيام شهر رمضان في أوّل ليلةٍ منه ذكره ابن كثير.
· حكم الجهر بالاستعاذة في الصلاة.
للشافعي فيه قولان:
الأول: يجهر بالتعوذ وإن أسرّ فلا يضرّ، قاله في (الإملاء) ، ذكره ابن كثير.
الثاني: التخيير؛ لأنه أسرّ ابن عمر وجهر أبو هريرة، قاله في (الأم)، ذكره ابن كثير.
· صفة الاستعاذة.
جاءت على أكثر من صفة:
1: أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن سليمان بن صرد مرفوعا، ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي والنسائي عن أبي بن كعب مرفوعا، واختاره الشافعي وأبو حنيفة، ذكره ابن كثير.
2: وزاد بعضهم: (أعوذ بالله السميع العليم)
3: أن يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) رواه أحمد والأربعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، وقال الترمذي : (هذا أشهر حديث في الباب)، أورده ابن كثير.
4: أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي مرفوعا، أورده ابن كثير.
5: أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن معاذ بن جبل مرفوعا، أورده ابن كثير وقال: (وقال الترمذي: مرسل)
6: أن يقول:(اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعا، ورواه أبو داود وابن ماجه عن جبير بن مطعم مرفوعا دون لفظ (الرجيم)، أورده ابن كثير.
7: أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم) قاله الثوري والأوزاعي، ذكره ابن كثير.
8: أن يقول: (أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم) لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس ، ذكره ابن كثير وقال: (والأحاديث الصّحيحة، أولى بالاتّباع من هذا).

مسائل فقهية
· حكم الاستعاذة فيما عدا الركعة الأولى.
فيه قولان للشافعي:
الأول: الاستحباب، ذكره ابن كثير.
الثاني: عدم الاستحباب، وهو الراجح عنده، ذكره ابن كثير.
· الاستعاذة في الصلاة هل هي للصلاة أو للتلاوة؟
قيل: للتلاوة، هو قول أبي حنيفة محمد، ذكره ابن كثير.
وقيل: للصلاة، قاله أبو يوسف، وقال: فعلى هذا يتعوّذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوّذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، ذكره ابن كثير وقال: والجمهور بعدها قبل القراءة.

مسائل سلوكية
· لطائف الاستعاذة.
1: طهرة الفم وتطييب له، قاله ابن كثير.
2: تهيؤ لتلاوة كلام الله، قاله ابن كثير.
3: وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني، قاله ابن كثير.
· الفرق بين غلبة العدو البشري وغلبة العدو الباطني.
أن من قتله العدوّ البشريّ كان شهيدًا، ومن قتله العدوّ الباطنيّ كان طريدًا، ومن غلبه العدوّ الظّاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدوّ الباطن كان مفتونًا أو موزورًا، قاله ابن كثير
· سبب أمر اللّه تعالى بمصانعة شيطان الإنس وأمره تعالى بالاستعاذة به من شيطان الجنّ.
أمر اللّه تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليردّه طبعه عمّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ لأنّه لا يقبل رشوةً ولا يؤثّر فيه جميلٌ؛ لأنّه شرّيرٌ بالطّبع فلا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان، ولا يكفّه عنك إلّا الّذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آياتٍ من القرآن ، قاله ابن كثير
· الآيات التي أمر تعالى فيها بمصانعة شيطان الإنس وأمر فيها بالاستعاذة به من شيطان الجن.
قال ابن كثير: هذا المعنى في ثلاث آياتٍ من القرآن لا أعلم لهنّ رابعةً:
1: قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه سميعٌ عليمٌ} [الأعراف:199- 200]،
2: وقوله تعالى: {ادفع بالّتي هي أحسن السّيّئة نحن أعلم بما يصفون * وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين * وأعوذ بك ربّ أن يحضرون}[المؤمنون: 96 -98]،
3: وقوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ * وما يلقّاها إلا الّذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ * وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم}[فصّلت: 34 -36].
· الآيات الدّالة على شدة عداوة الشيطان لآدم عليه السلام وبنيه.
قال تعالى: {يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة}[الأعراف: 27]
وقال: {إنّ الشّيطان لكم عدوٌّ فاتّخذوه عدوًّا إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السّعير}[فاطرٍ: 6]
وقال: {أفتتّخذونه وذرّيّته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌّ بئس للظّالمين بدلا} [الكهف: 50]،
وقال الشيطان في قوله تعالى: {فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين}[ص: 82، 83].

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 5 محرم 1436هـ/28-10-2014م, 10:21 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة تماضر مشاهدة المشاركة
اسم السورة , ومكان نزولها:
سورة النّبأ , وقيل: سورة عمّ. وهي مكّيّةٌ

تفسير قوله: (عمّ يتسائلون) :
سبب نزول (عم يتسائلون) : -ك -
هذا القول أورده الأشقر وليس ابن كثير
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ):لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ والبَعثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَلا عَلَيْهِم الْقُرْآنَ - جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ، يَقُولُونَ: مَاذَا حَصَلَ لِمُحَمَّدٍ؟ وَمَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: -ك , س , ش -
عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً؟ ثمَّ بَيَّنَ ما يتساءلونَ عنهُ بِقَوْلِهِ:(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ).
الخلاف في معنى (عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون ) :
قال ابن كثير : عن أيّ شيءٍ يتساءلون؟ عن أمر القيامة،
وهو النّبأ العظيم. يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر, وقال به ابن سعدي رحمه الله .
قال قتادة وابن زيدٍ: النّبأ العظيم: البعث بعد الموت
. وقال مجاهدٌ: هو القرآنووافقه الأشقر فقال : هُوَ الْخَبَرُ الهائِلُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لأَنَّهُ يُنْبِئُ عَن التَّوْحِيدِ، وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَوُقُوعِ الْبَعْثِ والنُّشورِ.
. والأظهر الأوّل؛ لقوله:(الّذي هم فيه مختلفون) يعني: النّاس فيه على قولين؛ مؤمنٌ به وكافرٌ, وقال بعدها :( كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) أي: سيعلمونَ إذا نزلَ بهمُ العذابُ ما كانوا بهِ يكذبونَ، حين يُدَعُّون إلى نارِ جهنمَ دعّاً، ويقالُ لهمْ:(هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ).
وفسر الأشقر الآيات التالية حسب قوله في تفسير (النبأ العظيم) فقال:
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ؛ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ سِحْراً، وَبَعْضُهُمْ شِعْراً، وَبَعْضُهُمْ كَهَانَةً، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
(كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) أَيْ: لا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي شأنِ الْقُرْآنِ، فَهُوَ حَقٌّ، وَلِذَا سَيَعْلَمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ.
-مسائل لغوية :
-سبب تكرار (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ): -ش-

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ):رَدْعٌ لَهُمْ وَزَجْرٌ، ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ، فَقَالَ: (ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي التأكيدِ والتشديدِ فِي الوعيدِ.
بارك الله فيك أختي
اشتمل التلخيص على كثير من المسائل التي وردت في الآيات
غير أنها متداخلة وغير مرتبة
يجب أن نركز كثيرا أولا في استخلاص المسائل وحسن تسميتها ثم ترتيبها على علوم الآية، فيكون عندنا مسائل تفسيرية، لغوية، عقدية ...
وحتى نتقن استخلاص المسائل الواردة في الآية نقف جيدا مع الآية ونتأمل ألفاظها وتراكيبها وكلام المفسرين فيها
إليك نموذج للمسائل التي وردت في هذا الدرس:
سبب نزول الآيات:
المسائل التفسيرية:
معنى الاستفهام
مرجع الضمير في {يتساءلون}
الغرض من التساؤل
معنى النبأ العظيم
الأقوال في المراد بالنبأ العظيم
معنى الاختلاف في النبأ العظيم
معنى {كلا}
مفعول {سيعلمون}
فائدة التكرار في قوله تعالى: {كلا سيعلمون}

المسائل العقدية:
الإيمان بالبعث
الإيمان بالرسل
الإيمان بالقرآن

هذه المسائل كما ذكرت تظهر لك بتأمل ألفاظ الآية وتراكيبها وكلام المفسرين فيها، فالأمر يسير إن شاء الله
درجة الملخص: 2,5/4
ولك أن تعيديه وفقا للترتيب الذي اتفقنا عليه حتى تحوزي الدرجة كاملة إن شاء الله، والأهم أن تكوني أديت الطريقة الصحيحة
أرجو أن يفيدك هذا الموضوع:
مثبــت: فوائد وتنبيهات في طريقة تلخيص دروس التفسير
وفقك الله

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الطالبة, صفحة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:40 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir