وَلاَ تُدْفَعُ إِلَى هَاشِمِيٍّ ..........
قوله: «فصل» أي: في بيان موانع الزكاة.أي: موانع استحقاق من هو من أهل الزكاة فلا تصرف الزكاة إليه، أي: ما الذي يمنع من إعطائها له وهو من أهلها؟ هذا هو المراد بهذا الفصل، والأصل أن الأشياء لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها.فالقرابة ـ مثلاً ـ سبب من أسباب الإرث، إذا وجد مانع لاختلاف الدين امتنع الإرث، وهكذا أيضاً الوصف الذي يستحق به الإنسان الزكاة، فقد توجد موانع تمنع من إعطاء الزكاة.
قوله: «ولا تدفع إلى هاشمي» أي لا تدفع الزكاة.وقوله: «هاشمي» أي ذرية هاشم بن عبد مناف؛ لأنهم من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآل محمد أشرف الناس نسباً، ولشرفهم لا يعطون من الزكاة، لا احتقاراً لهم، بل إكراماً لهم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ـ رضي الله عنهم ـ حين سألاه الزكاة: «إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» ، فبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم الحكم والعلة.
الحكم أنها لا تحل لهم.
العلة أنها أوساخ الناس، وهم أكمل وأشرف من أن يتلقوا أوساخ الناس.فالزكاة من أي صنف كان أوساخ ذلك الصنف؛ لأن الزكاة تطهر، والطهور يتسخ بما يطهره؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}[التوبة: 103] .فإذا كان بين يديك إناء وسخ فغسلته بالماء صار الماء يحمل هذه الأوساخ؛ فلذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هي أوساخ الناس» .وهاشم منزلته بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجد الثاني، والأب الثالث.وأجاز بعض العلماء أن يعطى الهاشمي من الزكاة، إذا كان مجاهداً، أو غارماً لإصلاح ذات البين، أو مؤلفاً قلبه، وظاهر النصوص المنع؛ للعموم.واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل يصح دفع زكاة هاشمي لهاشمي؛ لقوله: «إنما هي أوساخ الناس» أي: الناس الذين سواهم أو لا؟قال بعض العلماء: إنه يصح أن تدفع زكاة الهاشمي لهاشمي مثله؛ لأنهما في الشرف سواء، فإذا كانا سواء فإنه لا يعد مثلبة، إذا أعطى زكاته نظيره.ولكن إذا نظرنا إلى عموم الأحاديث، وجدنا أنه لا فرق بين أن تكون زكاة هاشمي أو غيره؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوساخ الناس» والهاشميون من الناس فلا تحل لهم.لكن لو فرض أنه لا يوجد لإنقاذ حياة هؤلاء من الجوع إلا زكاة الهاشميين، فزكاة الهاشميين أولى من زكاة غير الهاشميين.وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يعطوا من الزكاة إذا لم يكن خمس؛ أو وجد ومنعوا منه.
والخمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:
الأول: لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء أو بيت المال.
الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب؛ لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.
الثالث: لليتامى.
الرابع: للمساكين.
الخامس: لابن السبيل.فإذا منعوا أو لم يوجد خمس، كما هو الشأن في وقتنا هذا فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.وأما صدقة التطوع فتدفع لبني هاشم وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن صدقة التطوع كمال، وليست أوساخ الناس، فيعطون من صدقة التطوع.
والقول الثاني: لا تحل لهم صدقة التطوع؛ لأن صدقة التطوع من أوساخ الناس؛ ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» ، والتطهير كما يحصل بالواجب يحصل بالمستحب وهذا القول مال إليه الشوكاني وجماعة من أهل العلم؛ لعموم الحديث.وبهذا نعرف أن بني هاشم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: من لا تحل له صدقة التطوع، ولا الزكاة الواجبة، وهو شخص واحد، وهو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم فهو لا يأكل الصدقة الواجبة ولا التطوع.
الثاني: البقية من بني هاشم يأكلون من صدقة التطوع، ولا يأكلون من الصدقة الواجبة.
وَمُطَّلِبيٍّ ........
قوله: «ومطلبي» .والمطلبيون المنتسبون إلى المطلب، والمطلب أخو هاشم وأبوهما عبد مناف، وله أربعة أولاد وهم هاشم، والمطلب، ونوفل، وعبد شمس.«بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي: في النصرة، حتى إن قريشاً لما حاصرت بني هاشم انضم إليهم بنو المطلب، وقصة المحاصرة في الشعب مشهورة في التاريخ، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما احتج عليه رجال من بني عبد شمس في إعطائه بني المطلب من الخمس ولم يعطهم: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» .وبناء على ذلك قال المؤلف: إنها لا تدفع الزكاة إلى بني المطلب؛ لا لأنهم من آل البيت، ولكن لأنهم مشاركون لآل البيت في الخمس فيستغنون بما يأخذون من الخمس عن الزكاة، وهذا التعليل يدل على أنهم إذا لم يكن خمس فهم يستحقون الزكاة قطعاً، ولا إشكال فيه، خلاف بني هاشم.إذاً بنو المطلب حكمهم في منع الزكاة حكم بني هاشم، وحكمهم في استحقاق الخمس كبني هاشم.وبنو عمهم النوفليون والعبشميون كانوا مع قريش على بني هاشم ولذا دعا عليهم أبو طالب في لاميته المشهورة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
=
عقوبة شر عاجلاً غير آجل
فليس لهؤلاء حق في الخمس، ولهم الأخذ من الزكاة.وهذا الذي مشى عليه المؤلف رواية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ والصحيح الرواية الأخرى ـ وهي المذهب ـ أنه يصح دفع الزكاة إلى بني المطلب؛ لأنهم ليسوا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولعموم الأدلة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}...} [التوبة: 60] فيدخل فيهم بنو المطلب.
ويجاب عن تشريكهم في الخمس بأنه مبني على المناصرة والمؤازرة بخلاف الزكاة، فإنهم لما آزروا بني هاشم وناصروهم أعطوا جزاءً لفضلهم من الخمس، أما الزكاة فهي شيء آخر.
وَمَوَالِيهِمَا ........
قوله: «ومواليهما» أي: عتقائهم، أي: العبيد الذين أعتقهم بنو هاشم، أو أعتقهم بنو المطلب، فلا تدفع الزكاة إليهم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن مولى القوم منهم» .فإذا قلنا: بدفع الزكاة لبني المطلب جاز دفع الزكاة إلى مواليهم.إذا قال قائل: هل هؤلاء موجودون؟ أعني بني هاشم والمطلب؟قلنا: نعم موجودون، وقد ذكروا أن مِنْ أثبت الناس نسباً لبني هاشم، ملوك اليمن الأئمة، الذين انتهى ملكهم بثورة الجمهوريين عليهم قريباً، فهم منذ أكثر من ألف سنة متولون على اليمن، ونسبهم مشهور معروف بأنهم من بني هاشم.ويوجد ناس كثيرون أيضاً ينتمون إلى بني هاشم، فمن قال: أنا من بني هاشم! قلنا: لا تحل لك الزكاة؛ لأنك من آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَلاَ إِلَى فَقِيرَةٍ تَحْتَ غَنِيٍّ مُنْفِقٍ .......
قوله: «ولا إلى فقيرة تحت غني منفق» .
«فقيرة» هذه صفة لموصوف محذوف، التقدير امرأة فقيرة.واشترط المؤلف شرطين هما:
الأول: أن تكون تحت غني.
الثاني: أن يكون منفقاً باذلاً للنفقة، فلا تدفع إليها؛ لأنها في الحقيقة غير فقيرة، إذ إن زوجها الذي ينفق عليها قد استغنت به، فإن كانت تحت فقير، فتحل لها، وتحل لزوجها؛ لأن الوصف منطبق عليها، وإذا كانت تحت غني، لكنه من أبخل الناس فتعطى من الزكاة؛ لأنها فقيرة، ولم تستغن بزوجها، فتدخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}..}.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون لها: طالبي الزوج وارفعيه إلى المحكمة؟
قلنا: لا نقول لها ذلك؛ لأن هذا يترتب عليه مشاكل، فقد يفضي إلى أن يطلقها، وهذا ضرر عليها، ودفع حاجتها لدفع هذا الضرر لا شك أنه مما جاءت به الشريعة.
وَلاَ إِلَى فَرْعِهِ وأصْلِهِ .........
قوله: «ولا إلى فرعه وأصله» .
فرعه: من كان هو أصلاً له.
وأصله: من كان هو فرعاً له.
فالأصل هم الآباء، والأمهات، وإن علوا.والفرع هم الأبناء، والبنات، وإن نزلوا، سواء كانوا وارثين أم غير وارثين.وعلى هذا فلا يدفع زكاته إلى جدته لا من قبل أبيه ولا من قبل أمه، ولا إلى بنته ولا بنت ابنه، ولا بنت ابنته؛ لأن كل هؤلاء أصول وفروع، والمؤلف ـ رحمه الله ـ لم يقيد الأصل والفرع.أي: لم يقل إلى فرعه الوارث، أو أصله الوارث، فيشمل الوارث وغير الوارث؛ لأن الأصل والفرع تجب النفقة لهما بكل حال إذا كانوا فقراء وهو غني، سواء كانوا وارثين أم غير وارثين.وقال شيخ الإسلام: يجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم.
ويقال: استحقاق الزكاة مقيد بوصف كالفقر، والمسكنة، والعمالة، فكل من انطبق عليه هذا الوصف فهو من أهل الزكاة.ومن ادعى خروجه فعليه الدليل، وليس في المسألة دليل، ولهذا فالقول الراجح الصحيح، أنه يجوز أن يدفع الزكاة لأصله وفرعه ما لم يدفع بها واجباً عليه، فإن وجبت نفقتهم عليه، فلا يجوز أن يدفع لهم الزكاة؛ لأن ذلك يعني أنه أسقط النفقة عن نفسه.وعلى هذا فإذا كان له جد وأب كلاهما فقير، لكن الأب يتسع ماله للإنفاق عليه فهو ينفق عليه، فهنا لا يجوز أن يعطي والده الزكاة.
والجد لا يتسع ماله للإنفاق عليه وهو فقير، فيجوز أن يعطيه منها.
مثال آخر: عنده أم وجدة فهو ينفق على الأم، ولكن لا يتسع ماله للإنفاق على الجدة، فيجوز أن يعطيها من الزكاة.والمذهب لا يجوز، فتأخذ الزكاة من غيره، وهذا ضعيف جداً؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصدقة على ذي القرابة صدقة وصلة» وأنا الآن لا أسقط عن نفسي واجباً حتى يقال: إني حميت نفسي.
مثال آخر: لو كان غنياً ينفق على أبيه، وأبوه مستغن، إما بنفسه، أو بإنفاق ولده، لكن عليه دين يستطيع الولد أن يؤدي الدين عنه، لكن يقول: أنا أؤدي الدين من زكاتي.فيجوز؛ لأنه لا يجب على الابن وفاء دين أبيه، اللهم إلا إذا كان هذا الدين بسبب النفقة، أي: أن الأب يحتاج، ويشتري في ذمته فلحقه الدين لشراء مؤونته، ففي هذه الحال نقول: لا تقض دين أبيك من زكاتك؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يضيق الإنسان على أبيه، حتى يستدين للنفقة، ثم يقول: أبي عليه دين فأقضي دينه من زكاتي، فيجوز أن يقضي الدين عن أبيه، أو أمه، أو ابنه وابنته، بشرط ألا يكون هذا الدين استدانة لنفقة واجبة على الابن، فإن كان لنفقة واجبة فلا يجوز.
وَلاَ إِلَى عَبْدٍ وَزَوْجٍ .........
قوله: «ولا إلى عبد وزوج» .أي: لا تدفع الزكاة إلى العبد؛ لأن العبد إذا أعطيناه الزكاة انتقل ملك الزكاة فوراً إلى سيده، فإن مال العبد ملك لسيده، فلا يجوز أن نعطي العبد؛ لأنه لا يملك وملكه لسيده، والله يقول: {لِلْفُقَرَاءِ}.ويستثنى من هذا المكاتب، وقد سبق أن المكاتب من أهل الزكاة داخل في قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فيعطى المكاتب ما يقضي به دين الكتابة.ولكن هل المكاتب عبد؟
الجواب: نعم هو عبد، فيعطى ليعتق، والمكاتبة أن يشتري العبد نفسه من سيده بثمن مؤجل، فيعطى هذا العبد الذي اشترى نفسه من سيده ما يوفي سيده ليعتق، فهو قبل أن يؤدي عبد، ولهذا جاء في الحديث «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» .واستثنى بعض العلماء ما إذا كان العبد عاملاً على الزكاة، فإنه يعطى على عمالته كما لو كان أجيراً، ومعلوم أنه يصح أن يستأجر العبد من سيده، فيصح أن يجعل عاملاً على الزكاة بإذن سيده.إذاً يستثنى من ذلك مسألتان:
الأولى: المكاتب.
الثانية: العامل؛ لأنه كأجير، والعبد يجوز أن يستأجر بإذن سيده.
وقوله: «وزوج» فلا يصح أن تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها، لقوة الصلة بينهما، فيشبه الأصل مع الفرع، لكن هذا التعليل عليل.والصواب جواز دفع الزكاة إلى الزوج إذا كان من أهل الزكاة.
مثال ذلك: امرأة موظفة وعندها مال وزوجها فقير محتاج، إما أنه مدين، أو أنه ينفق على أولاده، أو ما أشبه ذلك، فللزوجة أن تؤدي زكاتها إليه.
وقولنا أو أنه ينفق على أولاده، المراد بأولاده من غيرها؛ لأن أولاده منها إذا كان أبوهم فقيراً، يلزمها أن تنفق عليهم؛ لأنهم أولادها، لكن إذا كان له أولاد من غيرها وهو فقير، فللزوجة أن تعطيه زكاتها وربما يستدل لذلك بحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «حث على الصدقة، فقال ابن مسعود لزوجته: أعطيني وأولادي أنا أحق من تصدقت عليه».فقالت: لا حتى أسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدق عبد الله، زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» فيمكن أن نقول: قوله: «من تصدقت عليهم» يشمل الفريضة والنافلة.وعلى كل حال إن كان في الحديث دليل فهو خير، وإن قيل هو خاص بصدقة التطوع، فإننا نقول في تقرير دفع الزكاة إلى الزوج: الزوج فقير ففيه الوصف الذي يستحق به من الزكاة، فأين الدليل على المنع؟ لأنه إذا وجد السبب ثبت الحكم، إلا بدليل، وليس هناك دليل لا من القرآن ولا من السنة، على أن المرأة لا تدفع زكاتها لزوجها، وهذه قاعدة: «الأصل فيمن ينطبق عليه وصف الاستحقاق أنه مستحق، وتجزئ الزكاة إليه إلا بدليل» ولا نعلم مانعاً من ذلك إلا مَنْ كان إذا أعطاها له أسقط عن نفسه بذلك واجباً.
مسألة: هل يجوز أن يعطي الزوج زوجته من زكاته؟
الجواب: أنها تجزئ الزكاة إذا دفعها إلى زوجته على ما اخترناه، أما على المذهب فلا يجزئ أن يدفع الزوج زكاته إلى زوجته لقوة الصلة والرابطة.
ولكن القول الراجح يجوز بشرط ألا يسقط به حقاً واجباً عليه؛ فإذا أعطاها من زكاته للنفقة لتشتري ثوباً أو طعاماً، فإن ذلك لا يجزئ، وإن أعطاها لقضاء دين عليها فإن ذلك يجزئ؛ لأن قضاء الدين عن زوجته لا يلزمه.
وَإِنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ ظَنَّهُ غَيْرَ أَهْلٍ فَبَانَ أهْلاً، أوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يُجْزِهِ،........
قوله: «وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه» لأنه حين دفعها يعتقد أنها وضعت في غير موضعها؛ ولأنه متلاعب؛ إذْ كيف يعطي زكاته لشخص يظنه غنياً ثم تبين أنه فقير؟! فلا تجزئه.
وقوله: «أو بالعكس» أي: أعطاها لمن ظن أنه أهل فبان غير أهل فلا تجزئه أيضاً؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر لا بما في ظنه.
مثاله: أعطى رجلاً يظنه غارماً فبان أنه غير غارم، فإنها لا تجزئ؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر، أي: بالواقع، والواقع أنه غير أهل.
مثال آخر: أعطاها لشخص يظنه ابن سبيل فتبين أنه غير ابن سبيل فإنها لا تجزئه.
مثال آخر: أعطاها لقريب يظن أنها تجزئه فتبين أنه لا يجزئه إعطاء هذا القريب؛ لوجوب الإنفاق عليه.
إِلاَّ لِغَنِيٍّ ظَنَّهُ فَقِيراً فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ. ...........
قوله: «إلا لغني ظنه فقيراً فإنه يجزئه» . هذا مستثنى من قوله: «أو بالعكس» .
مثل: رجل جاء يسأل؛ وعليه علامة الفقر فأعطيته من الزكاة فجاءني شخص فقال: ماذا أعطيته؟ قلت: زكاة، قال: هذا أغنى منك، فتجزئ؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، ومثل ذلك الذين يسألون في المدارس والمساجد ثم نعطيهم بناء على الظاهر.والدليل على ذلك: قصة الرجل الذي تصدق ليلة من الليالي فخرج بصدقته فدفعها إلى شخص فأصبح الناس يتحدثون: تصدق اليلة على غني، فقال: الحمد لله على غني ـ يرى أنها مصيبة ـ ثم خرج مرة أخرى فتصدق على بغي ـ زانية ـ فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي، فقال: الحمد لله؛ على غني وبغي، ثم خرج مرة ثالثة فتصدق فوقعت الصدقة في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على غني وبغي وسارق، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت؛ أما الغني فلعله يتذكر ويتصدق، وأما البغي فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يكتفي بما أعطيته عن السرقة.فهذا الرجل نيته طيبة، ولحسن نيته وقعت صدقته في محلها، وصارت مفيدة مقبولة عند الله، ونافعة لمن تصدق عليهم، فيؤخذ منه أنه إذا تصدق على فقير فبان غنياً أنها تجزئه.وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه إذا دفعها إلى من يظن أنه أهل بعد التحري، فبان أنه غير أهل فإنها تجزئه؛ حتى في غير مسألة الغني؛ أي: عموماً؛ لأنه اتقى الله ما استطاع لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] والعبرة في العبادات بما في ظن المكلف بخلاف المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر، ويصعب أن نقول له: إن زكاتك لم تقبل مع أنه اجتهد، والمجتهد إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.وهذا القول أقرب إلى الصواب أنه إذا دفع إلى من يظنه أهلاً مع الاجتهاد والتحري فتبين أنه غير أهل فزكاته مجزئة؛ لأنه لما ثبت أنها مجزئة إذا أعطاها لغني ظنه فقيراً، فيقاس عليه بقية الأصناف.
مسألة: إذا جاءك سائل يسأل الزكاة، ورأيته جلداً قوياً، فهل تعطيه أم لا؟
الجواب: نقول: عظه أولاً، وقل: إن شئت أعطيتك ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الرجلين اللذين أتيا إليه يسألانه من الصدقة فرآهما جلدين، وقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» .
فإن قال قائل: أحوال الناس اليوم فسدت، فإنك لو وعظته بهذا الكلام لم يتعظ فما الجواب؟
الجواب: أن لنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة فنعظه بما وعظه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أصر ونحن لا نعلم خلاف ما يدعي، فإننا نعطيه، أما إذا أصر على السؤال، ونحن نعلم خلاف ما يدعي فإننا لا نعطيه.