السلام عليكم ورحمة الله.
خرّج أقوال المفسّرين التالية ووجّهها:
1: قول ابن عباس في قوله عز وجل: {وله المثل الأعلى} قال: (يقول: ليس كمثله شيء).
أخرجه ابن جرير من طريق أبي صالح، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عبد الله بن صالح، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عنه.
التوجيه:
هذا القول مبناه أن معنى المثل هنا الصفة. ويستشهد له بقوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، وقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وقوله: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل}، أي: صفتهم.
قال ابن فتيبة: "...ومعنى المَثَل -ها هنا- معنى الصفة؛ أي: هذه صفته. وهي أعلى من كل صفة: إذ كانت لا تكون إلا له.
ومِثْل هذا -مما المَثَلُ فيه بمعنى الصفة- قوله في صفة أصحاب رسوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}؛ أي: صِفَتهم. وقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}؛ أي: صفتُها".
قال النحاس: "وحقيقته في اللغة وله الوصف الأعلى".
قال السمعاني: "وقوله: {وله المثل الأعلى} أي: الصفة الأعلى، والصفة الأعلى أنه لا شريك له وليس كمثله شيء، قاله ابن عباس".
قال البغوي: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أَيِ: الصِّفَةُ العليا {فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وقال السعدي: "{وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} وهو كل صفة كمال، والكمال من تلك الصفة والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر الجليل والعبادة منهم. فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه.
ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الأولى، فيقولون: كل صفة كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها على وجه لا يشاركه فيها أحد، وكل نقص في المخلوق ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى".
ورد هذا المبرد في المقتضب قال: "ومن قال: إنما معناه: صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن (مثل) لا يوضع فى موضع صفة إنما يقال: صفة زيد أنه ظريف، وأنه عاقل ويقال: مثل زيد مثل فلان وإنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت.
ورده أيضا أبو علي الفارسي قال: "تفسير المثل بالصفة غير معروف في كلام العرب، إنما معناه التمثيل، وتمثل بالشيء ضربه مثلا، والمثال المقدار وهو من الشبه"، نقل هذا عنه ابن سيده في المحكم.
قال ابن عطية: قالت فرقة: مَثَلُ في هذه الآية بمعنى صفة، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى. وهذا لا يضطر إليه، لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله مَثَلُ على بابه.
2: قول ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وادّكر بعد أمه} قال: بعد نسيان.
رواه ابن جرير من طريق عفان ومن طريق بهز بن أسد عن همام، عن قتادة، عن عكرمة، عنه.
التوجيه:
قال ابن جرير: "وذكر بعضهم أن العرب تقول من ذلك:"أمِهَ الرجل يأمَهُ أمَهًا"، إذا نسي".
قال الزجاج: "والأمهُ النسيَانُ، يقال: أمِهَ يَأمَهُ أمَهاً. هذا الصحيح بفتح الميم".
قال ابن فارس: "(أمه) وأما الهمزة والميم والهاء. فقد ذكروا في قول الله: (وادكر بعد أَمَه) على قراءة من قرأها كذلك، أنه النسيان، يقال: أمهت: إذا نسيت. وذا حرف واحد لا يقاس عليه.
فهذا القول مبني على قراءة (بَعْدَ أَمَةٍ) بفتح الألف، وتخفيف الميم وفتحها. ذكر ابن جرير أنها قد روي عن جماعة من المتقدمين من دون التعيين. ونسبها أبو القاسم الهذلي في الكامل لابن عباس ومجاهد، والقورسي، والإنطاكي عن أبي جعفر.
ونسبها أبو الفتح بن جني في "المحتسب" لابن عباس وابن عمر بخلاف وعكرمة ومجاهد بخلاف عنهما والضحاك وأبي رجاء وقتادة وشُبيل بن عَزْرَة الضُّبْعِي وربيعة بن عمرو وزيد بن علي.
قال مكي بن أبي طالب: "وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: "بعد أمه" بالهاء، وفتح الميم والتخفيف أي: بعد نسيان. وقرأ مجاهد: "بعد أمْهٍ" بإسكان الميم، وبالهاء: جعله مصدر أمة أمهاً: إذا نسي. وتأويلها كتأويل من فتح الميم. وأصل المصدر فتح الميم، ومن أسكن فللتخفيف".
ونسبها ابن البناء الدمياطي للحسن.
قال أبو الفتح بن جني: ""الأَمَهُ": النسيان، أَمِهَ الرجل يَأمَهُ أَمَهًا: أي نسي".
3: قول سالم الأفطس في قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} قال: (يخوفكم بأوليائه).
قال ابن جرير: حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن معبد، عن عتاب بن بشير مولى قريش، عن سالم الأفطس في قوله:"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه"، قال: يخوفكم بأوليائه.
التوجيه:
هذا القول مبني على أن في الآية حذفين:
الأول: حذف مفعول "يخوف"، فالتقدير: يخوفكم.
الثاني: حذف الجار من قوله تعالى {أَوْلِيَاءَهُ}، أي: بأوليائه. فَلَمَّا حُذِفَ الجار، صار منصوبا.
ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب، قال ابن عطية: "وفسرت قراءة الجماعة {يخوف أولياءه} قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه».
وذلك مثل قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا}، أي: لينذركم ببأس شَدِيد. قال الفراء: "البأس لا ينذر، وإنما ينذر به".
ويستشهد أيضا على جواز حذف الجار بقول الشاعر:
أَمرتك الْخَيْر فافعل مَا أمرت بِهِ ... فقد تركتك ذَا مَال وَذَا نسب
أي: أمرتك بالْخَير.
قال الألوسي: "وقرأ بعضهم: "يخوفكم بأوليائه"، وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين، وإليه ذهب الزجاج، وأبو علي الفارسي، وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: {فَلا تَخافُوهُمْ}، أي: فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم وَخافُونِ في مخالفة أمري..."
4: قول سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه)
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: (يحفظونه من أمر الله)، قال: الملائكة: الحفظة، وحفظهم إياه من أمر الله.
التوجيه:
هذا القول مبني على أن المراد بـ (المعقبات) ملائكة وبيان متعلق الجار والمجرور.
ويستدل للأول بما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم- وهو أعلم بكم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون".
أما متعلق الجار والمجرور فقد قال مكي بن أبي طالب: "ومن جعل (المعقبات) ملائكة كان قوله {من أمر الله} على وجهين:
أحدهما: أن تكون "من" بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه حتى يأتيه ما قدر عليه، فلا ينفع حفظهم إياه من قدر الله سبحانه إذا جاءهم، وهو قول ابن جبير". وعلى هذا يتعلق الجار والمجرور بـ "يحفظونه".
وتؤيد ذلك قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنهم- وعكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمد: "يحفظونه بأمر الله"، كما ذكره ابن جني في المحتسب.
وفي هذا قول آخر ذكره الزمخشري، قال: "إن قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} صفتان، أي بعد {مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}.
وتقدير الصفة الأولى، أي: أن هذه المعقبات {تحفظه}، وقوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} صفة ثانية، أي: يحفظونه؛ لأنه أمرهم بذلك، وكلفهم الحفظ وصيانته". قال الزمخشري: "إنه يؤيد لذلك قراءة: (يحفظونه بأمر الله) فهم مكَّلفون الحفظ بأمر اللَّه تعالى".
الثاني: أنه على التقديم والتأخير، تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه، وعلى هذا تكون "من" على بابها لبيان الجنس، فيتعلق الجار والمجرور بـ {معقبات}.
وهنا وجه ثالث، وهو: أنه على إضمار، فالتقدير: ذلك الحفظ من أمر الله، قال ابن الأنباري: "ويحسن الوقف على (يحفظونه) وتبتدئ: (من أمر الله) أي: ذلك الحفظ من أمر الله". يعني: حذف الاسم ويبقى خبره.
5: قول ابن عباس رضي الله عنهما في الكوثر: (هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه).
رواه البخاري وابن جرير الطبري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه.
التوجيه: هذا القول مبني على أن "الكوثر" صيغ على زنة "فوعل" المفيدة المبالغة.
قال ابن سيده في المحكم: والكوثر: الكثير من كل شيء.
قال ابن قتيبة في غريب القرآن: ...وأحسبه "فوعلا" من الكثرة. وكذلك يقال للغبار- إذا ارتفع وكثر-: كوثر، قال الهذليّ يذكر الحمار:
يحامي الحقيق إذا ما احتدمن ... حمحم في كوثر كالجلال
أي في غبار كثير كأنه جلال [السفينة أو الدوابّ] ....ه
قال الزمخشري: والكوثر: فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة.
قال الطاهر بن عاشور: ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى...ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي:
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
(ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
ه
وهذا القول لا يخالف ما ورد من السلف في المراد بالكوثر من أنه نهر في الجنة، أو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، أو القرآن، أو النبوة أو الإسلام. فقد روى ابن جرير الطبري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه".
قال ابن عطية: كوثر: بناء مبالغة من الكثرة، ولا مجال أن الذي أعطى الله محمدا عليه السلام من النبوة والحكمة والعلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها كأنه يقول في هذه الآية: إنَّا أَعْطيناك الحظ الأعظم، قال سعيد بن جبير: "النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه"، فنعم ما ذهب إليه ابن عباس، ونعم ما تمم ابن جبير رضي الله عنهم...