دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > البلاغة > عقود الجمان

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 صفر 1433هـ/22-01-2012م, 09:44 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خاتمة في السرقات الشعرية وما يتصل بها

خَاتِمَةٌ فِي السَّرِقَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَمَايَتَّصِلُ بِهَا

939 إِنْ قَائِلاَنِ اتَّفَقَا فِي الْغَرَضِ = عَلَى الْعُمُومِ فَكِلاَهُمَا ارْتُضِيْ
940 كَالْوَصْفِ بِالسَّخَاءِ وَالشَّجَاعَةِ = وَلاَ يُعَدُّ سِرْقَةً لِلْعَادَةِ
941 أَوْ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ كَاْلَمَجَازْ = وَهَيْئَةٍ تَخُصُّ مَنْ لِلْوَصْفِ حَازْ
942 كَوَصْفِهِ الْجَوَادَ بِالتَّهَلُّلِ = لِطَالِبٍ وَالْقَبْضِ لِلْمُبَخَّلِ
943 فَإِنْ يَكُنْ مُقَرَّرًا كَالْبَطَلِ = بِأَسَدٍ فَحُكْمُهُ كَالْأَوَّلِ
944 أَوْ لاَ فَفِيهِ السَّبْقُ كَالزِّيَادَةِ = قَدْ يُدَّعَى فَمِنْهُ ذُو غَرَابَةِ
945 فِي أَصْلِهِ وَمِنْهُ ذَو ابْتِذَالِ = أَغْرَبَهُ الْحُسْنُ فِي الاِسْتِعْمَالِ
946 فَسَمِّ بِالْإِبْدَاعِ مَا قَدِ اخْتُرِعْ = مِنَ الْمَعَانِي لَيْسَ قَبْلَهُ صُنِعْ
947 أَوْ سَمِّهِ سَلاَمَةَ اخْتِرَاعِ = وَذَلِكَ الشَّامِلُ لِلْأَنْوَاعِ
948 وَسَمِّ ذَا الشُّهْرَةِ مَعْ إِغْرَابِ = بِالطُّرْفَةِ النَّوَادِرِ الْإِغْرَابِ
949 وَالْأَخْذُ وَالسِّرْقَةُ ظَاهِرٌ وَلاَ = فَالظَّاهِرُ الْأَخْذُ لِمَعْنًى كَمَلاَ
950 مَعْ لَفْظِهِ أَوْ بَعْضِهِ أَوْ دُونَهُ = فَذَاكَ مَحْضُ سِرْقَةٍ يَدْعُونَهُ
951 بِالاِنْتِحَالِ النَّسْخِ لَيْسَ يُقْبَلُ = كَذَا إِذَا بِرِدْفِهِ قَدْ يُبْدَلُ
952 وَأَخْذُ بَعْضِ اللَّفْظِ بِالتَّغْيِيرِ سَمْ = إِغَارَةً وَالْمَسْخَ ثُمَّ ذَا قِسَمْ
953 فَإِنْ يَكُنْ أَبْلَغَ لاِخْتِصَاصِهِ = بِنُكْتَةٍ فَامْدَحْهُ فِي اقْتِصَاصِهِ
954 أَوْ دُونَهُ ذُمَّ وَإِنْ تَسَاوَيَا = أَبْعَدُ مِنْ ذَمٍّ وَفَضِّلْ بَادِيَا
955 أَوْ أَخَذَ الْمَعْنَى فَقَطْ فَإِلْمَامْ = وَالسَّلْخُ وَهْوَ ذُو الثَّلاَثِ الْأَقْسَامْ
956 وَغَيْرُ ذِي الظُّهُورِ كَالتَّشَابُهِ = فِي الْمَعْنَيَيْنِ حِينَ قَدْ أَتَى بِهِ
957 أَوْ لِمَحَلٍّ آخَرٍ قَدْ نَقَلاَ = أَوْ لِنَقِيضٍ أَوْ يَكُونُ أَشْمَلاَ
958 أَوْ أَخَذَ الْبَعْضَ وَزَادَ حُسْنَا = وَكُلُّ ذَا يُقْبَلُ حَيْثُ عَنَّا
959 بَلْ رُبَّمَا أَحْسَنَ فِي التَّصَرُّفِ = فَصَارَ كَالْمُبْدِعِ لاَ كَالْمُقْتَفِي
960 وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ فِي الْخَفَا = فَهْوَ إِلَى الْقَبُولِ أَقْرَبُ اقْتِفَا
961 هَذَا إِذَا يُعْلَمُ أَنَّ الثَّانِيْ = قَدِ اقْتَفَى الْأَوَّلَ فِي الْمَعَانِي
962 إِذْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَوَارُدِ = اَلْخَاطِرَيْنِ لاَ بِقَصْدٍ وَارِدِ
963 وَعِنْدَ فَقْدِ الْعِلْمِ قُلْ: "قَالَ كَذَا= وَغَيْرُهُ سَبَقَهُ"، أَوْ نَحْوَ ذَا


فَصْلٌ فِيمَا يَتَّصِلُ باِلسَّرِقَاتِ

964 مِنْ ذَاكَ الاِقْتِبَاسُ أَنْ يُضَمِّنَا = مِنَ الْقُرَانِ وَالْحَدِيثِ مَا عَنَى
965 عَلَى طَرِيقٍ لَيْسَ مِنْهُ مِثْلُ مَا = قَالَ الْحَرِيرِيُّ: (وَلَمَّا دَهَمَا
966 قُلْنَا جَمِيعًا شَاهَتِ الْوُجُوهُ = وَقَبُحَ اللُّكْعُ وَمَنْ يَرْجُوهُ)
967 فَمِنْهُ مَا لَمْ يُنْقَلِ الْمُقْتَبَسُ = عَنْ أَصْلِهِ وَمِنْهُ مَا قَدْ يُعْكَسُ
968 وَرُبَّمَا غُيِّرَ لِلْوَزْنِ فَلاَ = يَضُرُّهُ كَقَوْلِ بَعْضِ مَنْ خَلاَ:
969 "قَدْ كَانَمَا قَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَا = إِنَّا إِلَى الْإِلَهِ رَاجِعُونَا"
970 قُلْتُ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ = فَمَالِكٌ مُشَدِّدٌ فِي الْمَنْعِ
971 وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَنَا صَرَاحَةْ = لَكِنَّ يَحْيَى النَّوَوِيْ أَبَاحَهْ
972 فِي النَّثْرِ وَعْظًا دُونَ نَظْمٍ مُطْلَقَا = وَالشَّرَفُ الْمُقْرِئُ فِيهِ حَقَّقَا
973 جَوَازَهُ فِي الزُّهْدِ وَالْوَعْظِ وَفِي = مَدْحِ النَّبِيْ وَلَوْ بِنَظْمٍ فَاقْتُفِيْ
974 وَتَاجُنَا السُّبْكِيْ جَوَازَهُ نَصَرْ = إِذِ التَّمِيمِيُّ الْجَلِيلُ قَدْ شَعَرْ
975 وَقَدْ رَأَيْتُ الرَّافِعِيَّ اسْتَعْمَلَهْ = وَغَيْرَهُ مِنْ صُلَحَاءَ كَمَلَةْ
976 وَمِنْهُ تَضْمِينٌ بِأَنْ يُضَمِّنَا = مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ وَأَنْ يُبَيِّنَا
977 ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ عِنْدَ أُولِي = بَلاَغَةٍ وَالْحُسْنُ فِيهِ أَنْ يَلِيْ
978 لِنُكْتَةٍ لَيْسَتْ هُنَاكَ ثُمَّ لاَ = يَضُرُّ تَغْيِيٌر فَبَيْتٌ كَمَلاَ
979 سَمْ بِاسْتِعَانَةٍ وَلِلْمِصْرَاعِ = فَدُونَهُ بِالرَّفْوِ وَالْإِيدَاعِ
980 قُلْتَ: فَإِنْ مِنْ نَظْمِهِ قَدْ جَعَلَهْ = فَذَاكَ تَفْصِيلٌ بِصَادٍ مُهْمَلَةْ
981 وَمِنْهُ عَقْدٌ نَظْمُ نَثْرٍ لاَ عَلَى = طَرِيقِ الاِقْتِبَاسِ مِمَّا قَدْ خَلاَ
982 وَضِدُّهُ الْحَلُّ وَتَمْلِيحٌ بِأَنْ = لِقِصَّةٍ يُشِيرُ أَوْ شِعْرٍ يَعِنْ
983 قُلْتُ: كَذَا قَدَّمَ مِيمًا وَانْتُقِدْ= وَشِبْهُهُ الْعُنْوَانُ فَافْهَمْ مَا قُصِدْ


فَصْلٌ

984 وَيَنْبَغِي التَّأْنِيقُ فِي ابْتِدَاءِ = وَفِي تَخَلُّصٍ وَفِي انْتِهَاءِ
985 بِأَعْذَبِ اللَّفْظِ وَحُسْنِ النَّظْمِ = وَصِحَّةِ الْمَعْنَى وَطِبْقِ الْفَهْمِ
986 فَلْيَجْتَنِبْ فِي الْمَدْحِ مَا يُطَّيَّرُ = بِهِ وَمَا مِنْهُ الْمَقَامُ يَنْفِرُ
987 وَخَيْرُهُ مُنَاسِبٌ لِلْحَالِ = وَسَمِّهِ بَرَاعَةَ اسْتِهْلاَلِ
988 وَاعْنَ بِتَشْبِيبٍ يَجِيءُ فِي الْكَلاَمْ = قَبْلَ الشُّرُوعِ مَا يُمَهِّدُ الْمَرَامْ
989 وَرَاعِ فِي تَخَلُّصٍ لِلْمَقْصِدِ = مُلاَئِمًا لِمَا بِهِ قَدِ ابْتُدِيْ
990 وَرُبَّمَا إِلَى سِوَاهُ يُنْتَقَلْ = كَمَا رَأَى الْمُخَضْرَمُونَ وَالْأُوَلْ
991 وَالْحُسْنُ فَصْلُهُ بِـ"أَمَّا بَعْدُ" أَوْ = "هَذَا" كَمَا فِي ذِكْرِ صَادٍ قَدْ تَلَوْا
992 وَزَادَ فِي التِّبْيَانِ حُسْنَ الْمَطْلَبِ = بَعْدَ وَسِيلَةٍ أَتَى بِالطَّلَبِ
993 وَإِنْ يَجِئْ فِي الاِنْتِهَاءِ مُوذِنُ = بِخَتْمِهِ فَهْوَ الْبَلِيغُ الْأَحْسَنُ
994 وَسُوَرُ الْقُرْآنِ فِي ابْتِدَائِهَا = وَفِي خُلُوصِهَا وَفِي انْتِهَائِهَا
995 وَارِدَةٌ أَبْلَغَ وَجْهٍ وَأَجَلْ = وَكَيْفَ لاَ وَهْوَ كَلاَمُ اللهِ جَلْ
996 وَمَنْ لَهَا أَمْعَنَ فِي التَّأَمُّلِ = بَانَ لَهُ كُلُّ خَفِيٍّ وَجَلِيْ

  #2  
قديم 28 صفر 1433هـ/22-01-2012م, 10:13 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عقود الجمان للسيوطي


خاتمة في السرقات الشعرية وما يتصل بها

[إن قائلان اتفقا في الغرض = على العموم فكلاهما ارتضى
كالوصف بالسخاء والشجاعة = ولا يعد سرقة للعادة
أو في الدلالة عليه كالمجاز = وهيئة تخص من للوصف حاز
كوصفه الجواد بالتهلل = لطالب والقبض للمبخل
فإن يكن مقررا كالبطل = بأسد فحكمه كالأول
أولا ففيه السبق كالزيادة = قد يدعى فمنه ذو غرابة
في أصله ومنه ذو ابتذال = أغربه الحسن في الاستعمال
فسم بالإبداع ما قد اخترع = من المعاني ليس قبله صنع
أو سمة سلامة اختراع = وذلك الشامل للأنواع
وسم ذا الشهرة مع إغراب = بالطرفة النوادر الإغراب
والأخذ والسرقة ظاهر ولا = فالظاهر الأخذ لمعنى كملا
مع لفظه أو بعضه أو دونه = فذاك محض سرقة يدعونه
والانتحال النسخ ليس يقبل = كذا إذا بردفه قد يبدل
وأخذ بعض اللفظ بالتغيير سم = إغارة والمسخ ثم ذا قسم
فإن يكن أبلغ لاختصاصه = لنكته فامدحه لاقتصاصه
أو دونه ذم وإن تساويا = أبعد عن ذم وفضل باديا
أو أخذ المعنى فقط فالمام = والسلخ وهو ذو الثلاثة الأقسام
وغير ذي الظهر كالتشابه = في المعنيين حين قد أتى به
أو لمحل آخر قد نقلا = أو لنقيض أو يكون أشملا
أو أخذ البعض وزاد حسنا = وكل ذا يقبل حيث عنا
بل ربما أحسن في التصرف = فصار كالمبدع لا كالمقتفى
وكلمة كان أشد في الخفا = فهو إلى القبول أقرب اقتفا
هذا إذا يعلم أن الثاني = قد اقتفى الأول في المعاني
إذ جاز أن يكون من توارد = الخاطرين لا بفصد وارد
وعند فقد العلم قل قال كذا = وغيره سبقه أو نحو ذا]
هذه خاتمة للبديع فقط دون الفنين قبله كما صرح بذلك في الإيضاح يذكر فيها أشياء تعرض لها المصنفون في علم البديع مثل السرقات المقبولة والاقتباس والتضمين وبراعات الاستهلال والتخلص والانتهاء وما أشبه ذلك، فإذا اتفق القائلان فإن كان في الغرض على العموم كالوصف بالشجاعة والسخاء وحسن الوجه فلا يعد هذا الاتفاق سرقة ولا استعانة ولا أخذا ونحو ذلك لتقرر هذا الغرض العام في العقول والعادات واشتراك الناس فيه وإن كان الاتفاق على وجه الدلالة على الغرض كالمجاز والتشبيه والكناية وذكر هيئات تدل على الصفة لاختصاص تلك الهيئات بمن ثبتت له تلك الصفات كوصف الجواد بالنهار عند ورود قاصديه والبخيل بالعبوس عند ذلك، فإن اشترك الناس في معرفة ذلك الوجه لاستقراره في العقول والعادات كتشبيه الشجاع بالأسد والجواد بالبحر
[شرح عقود الجمان: 162]
فكالأول أيضًا لا يعد سرقة ولا أخذا وإن لم يشترك الناس في معرفته جاز أن يدعى فيه السبق والفاضل بالزيادة والنقص والكمال وعدمه وذلك ضربان: أحدهما خاص في نفسه غريب. والآخر عام تصرف فيه بما أخرجه من الابتذال إلى الغرابة كما مر في التشبيه والاستعارة فأما ما اخترع من المعاني ولم يسبق إليه فإنه يسمى بالإبداع كما بينته من زيادتي وهو بباء موحدة سماه بذلك الطيبي وغيره وسماه أهل البديعيات سلامة الاختراع ومنه قول ابن الرومي في تشبيه الرقابة
لم أنس لا أنس خبازا مررت به = يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة = وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة = في صفحة الماء يلقي فيه بالحجر
فهو من مخترعاته التي لم يسبق إليها وجعلوا الإبداع اسمًا لما اجتمع فيه عدة من أنواع البديع كقوله تعالى - وقيل يا أرض ابلعي ماءك الآية، فإن فيه المناسبة التامة بين أقلعي وابلعي والمطابقة بين الأرض والسماء والمجاز في ويا سماء والمراد مطر السماء الاستعارة في أقلعي والإشارة في وغيض الماء فإنه عبر به عن معان كثيرة والتمثيل في وقضى الأمر والإرداف في واستوت على الجودي والتعليل لأن غيض الماء علة الاستواء وصحة التقسيم إذا استوعب أقسام أحوال الماء حال نقصه والاحتراس في وقيل بعد للقوم الظالمين لئلا يظن أن الهلاك عم الظالم وغيره والمساواة لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها وحسن النسق لأنه تعالى قص القصة وعطف بعضها على بعض بحسن ترتيب وائتلاف المعنى لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها وإيجاز الحصر لأنه قص القصة مستوفية بأقصر عبارة ولتسهم لأن أول الآية فهم آخرها والانسجام وحسن البيان والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها والتهذيب ومجموع ذلك هو الإبداع. وأما أخذ المعنى المشهور مع التصرف بما يحسنه ويقربه فيسمى الإغراب والطرفة والنوادر كقول القاضي الفاضل:
تراءى ومرآة السماء صقيلة = فأثر فيها وجهه صورة البدر
فإن تشبيه الوجه بالبدر مشهور، ولكن زيادة هذه النادرة الغريبة أخرجته إلى حد الإغراب فقولي في النظم فسم بالإبداع البيت والبيتان بعده من زيادتي. وأما الأخذ والسرقة فضربان.
أحدهما ظاهر وهو أن يأخذ المعنى كله فإن كان بلفظه كله من غير تغيير فهو مذموم جدًا لأنه محض سرقة ويسمى نسخا أو انتحالا كما حكى أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده قول معن بن أوس:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته = على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه = إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال له معاوية لقد شعرت بعدي ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن فأنشده لاميته التي أولها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل = على أينا تعدو المنية أول
وفيها البيتان السابقان فقال معاوية لابن الزبير ما هذا يا أبا خبيب فقال هو أخي من الرضاعة وأنا أحق بشعره ومثله أن يبدل بالكلمات ما يرادفها كما قال المتنبي:
لبسن الوشى لا متجملات = ولكن كي يصن به الجمالا
فقال الصاحب:
لبسن برود الوشى لا لمتجمل = ولكن لصون الحسن بين برود
وإن كان مع تغيير وأخذ بعض اللفظ لا كله سمي إغارة ومسخا وهو أقسام لأنه إما أن يكون الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة كحسن السبك أو الاختصار أو الإيضاح أو زيادة معنى أو عذوبة
[شرح عقود الجمان: 163]
لفظ أو تمكين قافية أو تتميم نقص أو أدون أو مساويًا فالأول ممدوح كما قال بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته = وفاز بالطيبات الفانك اللهج
فقال سلم بعده:
من راقب الناس مات غما = وفاز باللذة الجسور
فأجاد السبك وأوجز، والثاني مذموم كما قال أبو تمام:
هيهات لا يأتي الزمان بمثله = إن الزمان بمثله لبخيل
فقال المتنبي بعده:
أعدي الزمان سخاؤه فسخا به = ولقد يكون به الزمان بخيلا
فبيت أبي تمام أجود سبكا لأن المتنبي احتاج إلى أن وضع يكون موضع كان.
والثالث أبعد من الذم والفضل للأول كما قال أبو تمام.
لو حار مرتاد المنية لم يجد = إلا الفراق على النفوس دليلا
وقال بعده المتنبي:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت = لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
فإنهما سواء، وإن كان الأخذ للمعنى فقط دون شيء من اللفظ سمى إلماما وسلخا لأنه ألم بالمعنى أي قصد إليه وسلخ اللفظ الذي هو كالجلد وألبسه غيره، وهو ينقسم إلى الثلاثة السابقة فالأبلغ كقول أبي تمام:
هو الصنع إن تعجل فخير وإن ترث = فللريث في بعض المواضع أنفع
وقول المتبني:
ومن الخير بطء سيبك عني = أسرع السحب في المسير الجهام
فإن الثاني أبلغ بزيادة التشبيه بالسحر والأدون كقول البحتري:
وإذا تألق في الندى كلامه المصقول خلت لسانه من عضبه
وقول المتنبي:
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت = على رءوسهم في الطعن خرصانا
فالأول أبلغ لما في التألق والصقالة من الاستعارة التخييلية فإنها للكلام كالأظفار للمنية ولزم منه تشبهي كلامه بالسيف وهو استعارة بالكناية والمساوى كقول الأعرابي:
ولم يك أكثر الفتيان مالا = ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقول أشجع:
وليس بأوسعهم في الغنى = ولكن معروفه أوسع
الضرب الثاني: أخذ غير ظاهر وهو أنواع. منها أن يتشابه المعنيان معنى الأول والثاني كقول جرير:
فلا يمنعك من أرب لحاهم = سواء ذو العمامة والخمار
وقول المتنبي:
ومن في كفه منهم قناة = كمن في كفه منهم خضاب
فكل من البيتين دل على عدم المبالاة بالرجال إلا أن الأول دل على مساواة النساء للرجال، والثاني على تشبيه الرجال بالنساء فهو معنى غير المعنى الأول، والأول أبلغ منه لما تقدم من أن التشابه أبلغ من التشبيه، ومنها أن ينقل المعنى إلى محل آخر ويسمى التوليد كقول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم = محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقول المتنبي:
يبس النجيع عليه وهو مجرد = من غمده فكأنما هو مغمد
نقل المعنى من القتلى والجرحى إلى السيف، ومنها أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول وسموه بالعكس والتبديل. قال الشيخ بهاء الدين، والأولى أن يسمى تخصيص المعنى المشهور
[شرح عقود الجمان: 164]
ونقله في كنز البراعة كقوله:
أجد الملامة في هواك لذيذة = حبا لذكرك فليلمني اللوم
وقول المتنبي:
أأحبه وأحب فيه ملامة = إن الملامة فيه من أعدائه
فإن الثاني نقيض الأول فإنه نفى حب الملامة بهمزة الإنكار، والأول صرح بحبها، ومثله في كنز البراعة بقوله:
وربما فات قوما جل أمرهم = من التأني وكان الحزم لو عجلوا
ومنها أن يكون معنى الثاني أشمل من الأول كقول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم = وجدت الناس كلهم غضابا
وقول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر = أن يجمع العالم في واحد
فالثاني أشمل لشموله للناس وغيرهم، ومنها أن يأخذ بعض المعنى ويزيده حسنا بإضافته إليه ما يحسنه كقول الأفوه:
وترى الطير على آثارنا = رأى عين ثقة أن ستمار
وقول أبي تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى = بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها = من الجيش إلا أنها لم تقاتل
فإن أبا تمام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه رأى عين الدال على قربها ولا قوله ثقة أن ستمار الدال على وثوق الطير بالميرة لاعتيادها ذلك. وهو مما يؤكد المقصود لكن زاد بقوله إلا أنها لم تقاتل وبقوله في الدماء نواهل وبإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش وبهذا يتم حسن قوله إلا أنها لم تقاتل لأنه لا يحسن الاستثناء إلا بعد أن تجعل مقيمة مع الرايات معدودة مع الجيش حتى كأنها من المقاتلين وكل هذه الأنواع من الضرب الثاني مقبولة لما فيها من نوع تفرق ويسمى ذلك حسن الاتباع، ومنها ما يخرجه حسن التصرف من قبيل الاتباع إلى حيز الابتداع ويسمى ذلك بالاحتذاء كمن يقطع من الأديم نعلا على قياس نعل صاحبه وكلما كان أشد في الخفاء كان أقرب إلى القبول هذا المذكور كله إذا علم أن الثاني أخذ من الأول بإقراره بذلك أو نحوه وإلا فلا يحكم بشيء من ذلك لجواز أن يكون الاتفاق في اللفظ أو المعنى من تبيل توارد الخواطر ومجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الآخذ كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في البيت الذي في معلقتيهما وهو:
وقوفا بها صحبي على مطيهم = يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقال طرفة وتجلد فلما تنافسا في ذلك أحضر طرفة خطوط أهل بلده في أي يوم نظم البيت فكان اليوم الذي نظما فيه واحدا وقد كنت قلت قصيدة مطلعها:
أما لهذا الهم من آخر = أما لهذا الكسر من جابر
أما لمن طال به حزنه = من عاضد بين الورى ناصر
فرأيتها بعد ذلك في التبيان وما كان من هذا النوع بأن لم يعلم أن الثاني أخذ من الأول يقال فيه قال فلان كذا وسبقه إليه فلان فقال كذا اتباعًا للصدق وسلامة من الحكم بغير علم:
فصل فيما يتصل بالسرقات
[من ذاك الاقتباس أن يضمنا = من القرآن والحديث ما عنى
على طريق ليس منه مثل ما = قال الحريري ولما دهما
[شرح عقود الجمان: 165]
قلنا جميعا شاهت الوجوه = وقبح اللكع ومن يرجوه
فمنه ما لم ينقل المقتبس = عن أصله ومنه ما قد يعكس
وربما غير للوزن فلا = يضره كقول بعض من خلا
قد كان ما خفت أن يكونا = إنا إلى الإله راجعونا
قلت وأما حكمه في الشرع = فما لك مشدد في المنع
وليس فيه عندنا صراحا = لكن يحي النووي أباحه
في النثر وعظا دون نظم مطلقا = والشرف المقرى فيه حققا
جوازه في الزهد والوعظ وفي = مدح النبي ولو بنظم فاقتفى
وتاجنا السبكي جوازه نصر = إذا التميمي الجليل قد شعر
وقد رأيت الرافعي استعمله = وغيره من صلحاء كمله]
يتصل بالسرقات الشعرية أشياء: منها الاقتباس وهو أن يضمن نثره أو شعره ما وقع في القرآن أو السنة موزونا لا على أنه منه: أي لأعلى وجه يشعر بأنه من القرآن أو السنة بأن يقال في أسناء الكلام قال الله تعالى أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلمفإن ذلك لا يكون حينئذ اقتباسا، ثم هو أقسام لأنه إما من القرآن أو الحديث في النظم أو النثر لم ينقل فيه المقتبس من معناه الأصلي أو نقل وبقى على لفظه أو غير يسيرا للوزن فإن ذلك لا يضره مثال ما اقتبس من القرآن في النظم قوله:
إن كنت أزمعت على هجرنا = من غير ما جرم فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا = فحسبنا الله ونعم الوكيل
وقال شيخنا الشهاب الحجازي الأديب:
يا أخا الرشد إذا جاءك ذو الد = ين كن في الحال من أصحابه
أو يعاند جاحد في ربنا = قل هو الرحمن آمنا به
وقلت:
أيها السائل قوما = ما لهم في الخير مذهب
اترك الناس جميعا = وإلى ربك فارغب
وقلت:
كم ذا رأيت الدهر من ملك = ذي صولة والدهر موقوت
أبدت لهم دنياهم غرورا = حتى إذا فرحا بما أوتوا
وقلت:
عاب إملائي الحديث رجال = قد سعوا في الضلال سعيا حثيثا
إنما ينكر الأماني قوم = لا يكادون يفقهون حديثا
وقلت:
اعبد الله ودع عنك = التواني بالجود
ومن الليل فسبحه = وأبار السجود
وقلت:
ابك على الذنب في حياة = أقم على نفشك الإغارة
تنج غدا من عذاب نار = وقودها الناس والحجارة
وقلت:
إذا قمت لله في أمره = ولم ترع خلا وملكا مجيزا
أثبت عليه ثوابا جزيلا = وينصرك الله نصرا عزيزا
وقلت:
لا تكن ظالما ولا ترض بالظلم = وأنكر بكل ما يستطاع
يوم يأتي الحساب ما لظلوم = من حميم ولا شفيع يطاع
وقلت:
أيها المعطون مالا وافرا = ثم لا تؤتوا ولا تصدقوا
[شرح عقود الجمان: 166]
إن تصلوا أو تصوموا أو تحجوا = لن تنالوا البر حتى تنفقوا
وقلت:
قد بلينا في عصرنا بقضاة = يظلمون الأنام ظلما عما
يأكلون التراث أكلا لما = ويحبون المال حبا جما
وقلت:
أول دنياك دبارا = وإذا ما رمت تقواه
فأقم وجهك للد = ين حنيفا فطرة الله
وقلت:
إذا كان عند المرء منا أمانة = وهم بجهل أن يخاون صحبه
فلا يتبع النفس الخبيثة وليعد = أمانته وليتق الله ربه
وقلت:
طوبى لأهل جنة طيبة = لا يبتغوا نقلا ولا تحويلا
دانية عليهم ظلالها = وذللت قطوفها تذليلا
وقلت:
وعد الله بإيجابة للسؤ = ل فسله وارج خيرا مليا
وإذا أبطأ الجواب فأيقن = إنه كان وعده مأتيا
ومثاله في النثر قول الحريري: فلم يك إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد وأغرب، وقول ابن نباتة في خطبته: فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون، ما لكن لا تشفقون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون، وقول عبد المؤمن الأصبهاني صاحب طباق الذهب: فمن عاين تلون الليل والنهار لا يغتر بدهره، ومن علم أن الثرى مضجعه لا يمزح على ظهره، فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض، أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض، ومثاله من الحديث في النظم قوله:
دم الشهيد يحكى = وردا بخد التركي
اللون لون دم = والريح ريح المسك
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الشهيد «يجاء به يوم القيامة وجرحه يدمي اللون لون الدم والريح ريح مسك» وقول أبي جعفر بن مالك الغرناطي:
لا تعاد الناس في أوطانهم = قلما يرى غريب الوطن
وإذا ما شئت عيشا بينهم = خالق الناس بخلق حسن
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي، ومثاله في النثر قول الحريري: فأنما الأعمال بالنيات وبها انعقاد العقائد الدينيات، وقوله أيضًا: شاهت الوجوه وقبح اللكع ومني رجوه، اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقد رمى الكفار بكف من حصباء وقال «شاهت الوجوه» رواه مسلم، وغال بما تقدم لم ينقل فيه المقتبس عن معناه، ومثال ما نقل قول ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحك = ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجتي = بواد غير ذي زرع
معناه في القرآن بواد لا ماء فيه ولا نبات، فنقله إلى جانب لا خير فيه ولا نفع وكل ما تقدم باق على لفظه، ومثاله ما غير يسيرا قول بعض المغاربة:
قد كان ما خفت أن يكونا = إنا إلى الله راجعونا
وقول شيخنا الشهاب الحجازي:
لا تدع اليتيم يوما وكن في = شأنه كله رءوفا رحيما
أرأيت الذي يكذب بالدين = فذلك الذي يدع اليتيما
وقولي:
أعوان أهل الظلم قد زلزلوا = ببأسهم قلب الكئيب الكليم
[شرح عقود الجمان: 167]
يا أيها الناس اتقوا ربكم = زلزلة الساعة شيء عظيم
وقول ابن عباد:
قال لي إن رقيبي = سيء الخلق فداره
قلت دعني وجهك = الجنة حفت بالمكاره
اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم «حفت الجنة بالمكاره» رواه مسلم. ثم نبهت من زيادتي على حكم الاقتباس شرعًا فإن ذلك أمر مهم. فأما المالكية فإنهم يبالغون في تحريمه ويشددون النكير على فاعله حتى إني أنشدت شيخنا قاضي القضاة محي الدين بن أبي القاسم الأنصاري عالم الحجاز قول شيخنا الشهاب الحجازي:
مات ابن موسى وهو بحر كامل = فهنا كم جمع الملائك مشترك
يأتيكم التابوت فيه سكينة = من ربكم وبقية مما ترك
وقلت له ما تقول في هذا. فقال لي: هذا كفر عندنا، وأما أهل مذهبنا فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء له قديما وحديثا، وفي حفظي من كتاب الشعر للشيخ علاء الدين بن العطار أنه نقل فيه عن شيخه الشيخ محي الدين النووي جواز الاقتباس في النثر في الخطب والوعظ ومنعه في النظم. وقال الشرف إسمعيل ابن المقرئ اليمني، وهو من شيوخ شيوخنا في شرح بديعيته ما كان منه في الخطب والوعظ ومدحه صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه ولو في النظم فهو مقبول وغيره مردود، وفي شرح بديعية ابن حجة الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود. والثاني ما كان في النزل والرسائل والقصص. والثالث على ضربين: أحدهما ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها لشكاية عماله إن إلينا إياهم ثم إن علينا حسابهم والآخر تضمين آية في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقوله:
أوحى إلى عشاقه طرفه = هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفه = لمثل ذا فليعمل العاملون
وذكر الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي من كبار الشافعية وأجلائهم أن من شعره قوله:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف = ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته = إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقال استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره فائدة فإنه جليل القدر والناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز، وقيل إن ذلك إنما يفعله من الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون ويثبون وثبة من لا يبالي، وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين، وقد فعل هذا وأسند عنه هذين البيتين الأستاذ الحافظ أبو القاسم بن عساكر. قلت ليس هذان البيتان من الاقتباس لتصريحه بقول الله تعالى، وتقدم أن ذلك خارج عنه، وأما أخوه الشيخ بهاء الدين فقال الورع اجتناب ذلك كله وأن ينزه عن مثله كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قلت رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاء نظما ونثرا منهم القاضي عياض فقد وقع له في الشفاء مواضع من ذلك، ومنهم الإمام أبو القاسم الرافعي من أجلاء أئمة مذهبنا علما ودينا فقال، وأنشده في أماليه ورواه عنه الأئمة الأجلاء:
[شرح عقود الجمان: 168]
الملك لله الذي عنت الوجو = ه له وذلت عنده الأرباب
متفردا بالملك والسلطان قد = خسر الدين تجاذبوه وخابوا
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم = فسيعلمون غدا من الكذاب
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال أنشدنا أحمد بن محمد بن مزيد لنفسه:
سل الله من فضله واتقه = فإن التقي خير ما تكتسب
ومن يتق الله يجعل له = ويرزقه من حيث لا يحتسب
وقال شيخ الشيوخ الحموي:
إن دمعت عيني فمن أجلها = بكى على حال من لا بكى
أوقعني إنسانها في الهوى = ويا أيها الإنسان ما غرك
وقال الشيخ زين الدين ابن الوردي:
إنسان عيني كم سها وكم بكى = يا أيها الإنسان إنك كادح
وقال شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر:
خاض العواذل في حديث مدامعي = لما رأوا كالبحر سرعة سيره
فحبسته لأصون سر هواكم = حتى يخوصوا في حديث غيره
وقال أيضًا:
يا معشر التجار أموالكم = أدوا ركاتها ولا تكابروا
من قبل أن تصيبكم قارعة = لأنكم ألهاكم التكاثر
وذكر الشريف تقي الدين الحسيني أنه نظم قوله:
مجاز حقيقتها فاعبروا = ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف = تراه إذا زلزلت لم يكن
ثم توقف لكونه استعمل هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العبد ليسأله عن ذلك فأنشده إياهما، فقال له قل وما حسن كهف، فقال يا سيدي أفدتني وأفتيتني.
[ومنه تضمين بأن يضمنا = من شعر غيره وأن يبينا
ذلك إن لم يشتهر عند أولي = بلاغة والحسن فيه أن يلي
لنكتة ليست هناك ثم لا = يضر تغيير فبيت كملا
سم استعانة وللمصراع = فدونه بالرفو والإيداع
قلت فإن من نظمه قد جعله = فذاك تفصيل بصاد مهملة]
التضمين أن يضمن شعره شيئًا من شعر الغير مع التنبيه على أنه من شعر الغير إن لم يكن مشهورا عند البلغاء لئلا يتهم بالأخذ والسرقة وإلا فلا حاجة إليه، والأحسن في ذلك أن يزيد على الأصل نكتة لا توجد كالتورية والتشبيه في قوله:
إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها = تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قدها ومدامعي = مجر عوالينا ومجرى السوابق
فإن المصراعين الأخيرين مضمنان من قصيدة للمتنبي. وقال صاحبنا الشهاب المنصوري:
إليك اشتياقي يا كنافة زائدة = فما لي غنى عنك كلا ولا صبر
فلا زالت أكلي كل يوم وليلة = ولا زال منهلا بجرعائك القطر
[شرح عقود الجمان: 169]
ضمن المصراع الثاني من قوله:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا = ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ومما ورد فيه التنبيه قول الحريري:
على أني سأنشد عند بيعي = أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ضمن المصراع الثاني من بين العرجى وتمامه * ليوم كريهة وسداد ثغر * ولا يضر فيه تغيير يسير كقوله في يهودي به داء الثعلب متهكما:
أقول لمعشر غلطوا وغضوا = من الشيخ الرشيد وأنكروه
هو ابن جلا وطلاع الثنايا = متى يضع العمامة تعرفوه
غير من التكلم إلى الغيبة، وتضمين البيت كاملا يسمى استعانة لأنه استعان بشعر غيره والمصراع فما دونه يسمى رفوا وإيداعًا لأنه رفا شعره بشعر الغير وأودعه إياه. ثم نبهت من زيادتي على نوع بشبه التضمين هو التفصيل بصاد مهملة وهو أن يضمن شعره مصراعا من نظم له سابق، وحسنه التمهيد له والتوطئة، وصرفه عن ذلك المعنى الذي وضع له أولاً.
[ومنه عقد نظم نثر لا على = طريق الاقتباس مما قد خلا]
العقد أن ينظم نثرًا قرآنا أو حديثًا أو مثلاً أو غير ذلك لا على طريق الاقتباس بأن يقع تغيير كثير ويشير إلى أنه من القرآن أو الحديث وما أظن في جواز ذلك خلافًا فلا زالت الأئمة عليه فمن عقد القرآن قوله كما في الإيضاح:
أنلني بالذي استقرضت حظا = وأشهد معشرا قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا = عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول إذا تداينتم بدين = إلى أجل مسمى فاكتبوه
قلت بهذا يعلم أن بيتي أبي منصور السابقين عقد لا اقتباس، ومنه قول ابن النبيه في الملك الصالح:
دمياط طور ونار الحرب مؤنسة = وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
فاطرح عصاك تلقف كل ما صنعوا = ولا تخف ما حبال القوم حيات
ومن عقد الحديث قول أبي الحسن طاهر بن معوذ الأشبيلي ومن نسبه للشافعي فقد غلط:
عمدة الدين عندنا كلمات = أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما = ليس بعنيك واعملن بنيه
عقد حديث «إنما الأعمال بالنيات والحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات» الحديث رواهما الشيخان «وازهد في الدنيا بحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس بحبك الناس» رواه ابن ماجه «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» رواه الترمذي وقول شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر:
إن من يرحم أهل الأرض قد = آن أن يرحمه من في السما
فارحم الخلق جميعا إنما = يرحم الرحمن منا الرحما
وقوله:
من خير ما يتخذ الإنسان في = دنياه كيما يستقيم دينه
قلبا شكورا ولسانا ذاكرا = وزوجة صالحة تعينه
عقد حديث «ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر الآخرة» حسنه الترمذي. ومن عقد الأثر قول أبي العتاهية:
ما بال من أول نطفة = وجيفة آخره يفخر
[شرح عقود الجمان: 170]
عقد قول علي رضي الله تعالى عنه وما لابن آدم والتخر إنما أوله نطفة وآخره جيفة، ومن عقد المثل والحكمة قول أبي الطيب:
يراد من القلب نسيانكم = وتأبى الطباع على الناقل
عقد قول بعضهم روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع وقول الآخر:
ألم تر أن المرء تزري يمينه = فيقطعها عمدا ليسلم سائره
عقد قول حكيم وقد سئل لم قطعت أخاك وهو شقيقك. قال: إني لأقطع العضو النفيس من جسدي إذا فسد:
[وضده الحل وتلميح بأن = لقصة يشير أو شعر يعن
قلت كذا قدم ميما وانتقد = وشبهه العنوان فافهم ما قصد]
الحل ضد العقد فهو نثر النظم قال في الإيضاح وشرط كونه مقبولاً أمران: أن يكون سبكه مختارًا لا يتقاعد عن سبك أصله وأن يكون حسن الموقع مستقرًا في محله غير قلق كقول بعض المغاربة فإنه لما قبحت فعلاته وحنظلت نخلاته لم يزل سوء الظن يقتاده ويصدق توهمه الذي يعتاده حل قول أبي الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه = وصدق ما يعتاده من توهم
وقال آخر: العيادة سنة مأجورة ومكرمة مأثورة، ومع هذا فنحن المرضى ونحن العواد وكل وداد لا يدوم على ذلك فليس بوداد حل قول القائل:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم = وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
وأما التلميح فذكره في التلخيص بتقديم الميم على اللام كذا رأيته بخطه وهو غلط نبه عليه الشراح لأن ذلك من الملاحة وهو في باب التشبيه والاستعارة وأما الذي هنا فبتقديم اللام من لمحه إذا نظر إليه وهو أن يشير في الكلام إلى قصة أو شعر أو مثل من غير ذكره فالأول كقوله:
فردت علينا الشمس والليل راغم = بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
فوالله ما أدري أأحلام نائم = ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
وصف لحوقه بالأحبة المرتحلين وطلوع الشمس بوجه الحبيب من جانب الخدر في ظلمة الليل، ثم استعظم ذلك واستغرب وتجاهل تحيرا وقال أهذا حلم أراه في النوم أم كان في الركب يوشع فرد الشمس إشارة إلى قصة يوشع واستبقائه الشمس حين قاتل الجبارين يوم الجمعة وخاف أن تغيب فيدخل السبت فلا يحل له قتالهم فدعا الله تعالى فأوقفها له حتى فرغ وقول الآخر في مليح اسمه بدر:
يا بدر أهلك جاروا وعلموك التجري وقبحوا لك وصلى
وحسنوا لك هجري فليفعلوا ما أرادوا فإنهم أهل بدر
أشار إلى قوله صلى الله عليه وسلم في قصة حاطب وقد سأل عمر قتله «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». والثاني كقوله:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي = أرق وأحنى منك في ساعة الكرب
أشار إلى البيت المشهور وهو قوله:
المستجير بعمرو عند كربته = كالمستجير من الرمضاء بالنار
والثالث كقوله:
من غاب عنكم نسيتموه = وقلبه عندكم رهينة
[شرح عقود الجمان: 171]
أظنكم في الوفاء ممن = صحبته صحبة السفينة
ثم نبهت من زيادتي على نوع آخر يسمى العنوان وهو شبيه بالتلميح وهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو ذم أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانًا لأخبار متقدمة وقصص سالفة كقوله:
تثبت إن قولك كان زورا = أتى النعمان قبلك عن زياد
فأثر بين حي بني جلاح = لظى حرب وبين بني مصاد
أتى بعنوان يشير إلى قصة النابغة حين وشى به الواشون إلى النعمان فجر ذلك حروبا انطوت عليها قطعة من الدهر:
فصل
[وينبغي التأنيق في ابتداء = وفي تخلص وفي انتهاء
بأعذب اللفظ وحسن النظم = وصحة المعنى وطبق الفهم
فليتجنب في اللفظ ما يطير = به وما منه المقام ينفر
وخيره مناسب للحال = وسمه براعة استهلال
واعن بتشبيب يجيء في الكلام = قبل الشروع ما يمهد المرام]
ينبغي للمتكلم شاعرًا كان أو كاتبًا أن يتأنق في مواضع هي محل تشوف النفوس ويبالغ في تحسينيها بأعذب لفظ وأجزله وأرقه وأسلسله وأحسنه نظما وسبكا وأصحه معنى وأوضحه وأخلاه من التعقيد ومن التقديم والتأخير الملبس والذي لا يناسب. أحدها الابتداء لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محررًا أقبل السامع على الكلام ووعاه وإلا أعرض عنه، ولو كان الباقي في نهاية الحسن، ألا ترى إلى ابتداء امرئ القيس في تذكار الأحبة والمنازل * قفانبك من ذكري حبيب ومنزل*
فوقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد وقول الآخر في تهنئة بالبناء:
قصر عليه تحية وسلام = خلعت عليه جمالها الأيام
فيجب أن يجتنب ما يتطير به في المدح ويكره ما ينفر منه المقام كما أنشد ابن مقاتل الضرير الداعي العلوي * موعد أ؛بابك بالفرقة غد * فقال له الداعي بل موعد أحبابك يا ضرير ولك المثل السوء وأنشد جرير عبد الملك قصيدته التي أولها * أتصحو أم فؤادك غير صاح * فقال له عبد الملك بل فؤادك يا ابن الفاعلة * وأنشد ذو الرمة عبد الملك قصيدته التي أوّلها:
* ما بال عينك منها الماء ينكسب * وكان بعين عبد الملك رمص فهي تدمع أبدا. فقال له ما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة وأخرجه، وأنشد أبو النجم هشاما قوله في الشمس:
صفراء قد كادت ولم تقفل = كأنها في الأفق عين الأحول
وكان هشام أحول فأخرجه وأمر بحبسه، وأنشد البحتري يوسف بن محمد قصيدته التي أولها:
* لك الويل من ليل تقاصر آخره * فقال له بل لك الويل والحرب. ودخل إسحق بن إبراهيم الموصلي على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان فأنشده قصيدة مطلعها:
يا دار غيرك البلا ومحاكي = يا ليت شعري ما الذي أبلاكي
فتطير المعتصم من قبح هذا الابتداء وأمر بهدم القصر على الفور. ومن الابتداء الحسن نوع لطيف أخص منه وهو أحسنه وهو ما اشتمل على ما يناسب الحال المتكلم فيه ويشير إلى ما سبق
[شرح عقود الجمان: 172]
الكلام لأجله ويسمى ذلك براعة الاستهلال لأن المتكلم فهم غرضه من كلامه عند رفع صوته والاستهلال هو رفع الصوت كقوله في التهنئة:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا = وكوكب السعد في أفق العلا صعدا
وقوله في الرثاء:
هي الدنيا تقول بملء فيها = حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسامي = فقولي مضحك والفعل مبكي
وقول الآخر فيه:
حكم المنية في البرية جاري = ما هذه الدنيا بدار قرار
وقول شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر في مرثية شيخ الإسلام البلقيني رحمهما الله تعالى.
يا عين جودي لفقد البحر بالدرر = واذري الدموع ولا تبقى ولا تذر
وقوله الفقيه عمارة اليمني في العتب والشكوى:
إذا لم يسالمك الزمان فحارب = وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
وقول لسان الدين بن الخطيب في إظهار النصر:
الحق يعلو والأباطل تسفل = والله عن أحكامه لا يسئل
وقول البوصيري في المديح النبوي * أمن تذكر جيران بذي سلم * البيتين فإن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتشبب بذكر ذي سلم ورامة وسفح العقيق والعذيب وبارق وأكناف حاجر ونحوها ويجتنب التغزل في ثقل الردف ورقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار ونحو ذلك وقد ذكرت من زيادتي أنه لا بد من التشبيب وهو أن يقدم قنبل الشروع في الكلام ما يمهد المرام من نسيب أو غيره قال الواحدي وأصله ذكر أيام الشباب واللهو ويكون ذلك في ابتداء قصائد الشعر، ثم سمى ابتداء كل أمر تشبيبا وإن لم يكن في ذكر الشباب قال في التبيان وهو على وجوه منها التغزل قبل المدح قال المتنبي:
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم = أكل فصيح قال شعرا متيم
وقال الأندلسي إذا كانت القصيدة مدحا خالصا خير في افتتاحها بالغزل وتركه وإن تضمنت حادثة من الحوادث كهزيمة جيش ونصرته وفتح ونحو ذلك لم يجز افتتاحها به لأنه رقة محضة فبينه وبين هذه الحوادث مباينة. ومنها التثبت عن الخطاب الهائل تلطفا. قال الله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم بدأ بالعفو قبل العتب تطمينا لقلبه صلى الله عليه وسلم. ومنها التنبيه على إلقاء السمع للخطاب الخطير بألا ونحوها من حروف الاستفتاح.
[وراع في تخلص للمقصد = ملائما لما به قد ابتدى
وربما إلى سواه ينتقل = كما رأى المخضرمون والأول
والحسن فصله بأما بعد أو = هذا كما في ذكر صاد قد تلوا]
النوع الثاني: مما يتأنق فيه التخلص مما ابتدئ به الكلام من نسيب أو غيره كالأدب والفخر إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسًا رقيقًا دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما، وهذا النوع اعتنى به المتأخرون ووقع منه في القرآن ما يسكر العقول ويحير الأفهام فإنه تعالى في سورة الأعراف ذكر الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى وحكاية دعائه لنفسه ولأمته بقوله تعالى
[شرح عقود الجمان: 173]
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، وجوابه تعالى عنه ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين من حالهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ من صفاته الكريمة وفضائله العظيمة، وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم عليه السلام: ولا تخزني يوم يبعثون، فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلخ، وفي سورة القيامة نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن العجلة بقوله تعالى لا تحرك بك لتعجل به ثم تخلص بقوله سبحانه وتعالى كلا بل تحبون العاجلة وأما العرب المتقدمون والمخضرمون وهم من أدرك الجاهلية والإسلام ومن قاربهم فإنهم لم يعتنوا به ينتقلون بلا مناسبة، ويسمى الاقتضاب. نعم: لم يفتهم حسن التخلص كقول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان = ولكن الكريم على علاته هرم
ومن الاقتضاب قول أبي تمام:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا = جاورته الأبرار في الخلد شيبا
كل يوم تبدي صروف الليالي = خلقا من أبي سعيد غريبا
ومن الأول قوله:
تقول في قومس قومي وقد أخذت = منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا = فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص في أنه يشعر بشيء من الملاءمة كفصله بأما بعد، وهذا كقولك بعد الحمد لله. أما بعد فإن كذا وكذا فهو اقتضاب من جهة الانتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر من غير ملاءمة لكن يشبه التخلص من حيث لم يؤت بالكلام الآخر فجأة بعد قصد نوع من الربط على معنى مهما يكن من شيء بعد الحمد والثناء فإنه كان كذا وكذا وقوله تعالى هذا وإن للطاغين لشر مآب أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر فهو اقتضاب فيه نوع مناسبة ارتباط. قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو أحسن من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر.
[فائدة] قال ابن الأثير: الذي أجمع عليه المحققون وعلماء البيان أن فصل الخطاب هو. أما بعد لأن المتكلم يفتتح كلامه في أمر ذي شأن بذكر الله تعالى وتحميده فإذا أراد أن ينتقل إلى الغرض المسوق له فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله أما بعد اهـ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: أما بعد أخرجه الشيخان في قصة بريرة، واختلف في أول من نطق بها فروى الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول من قال أما بعد وهو فصل الخطاب».
[وزاد في التبيان حسن المطلب = بعد وسيلة أتى بالطلب]
هذا البيت من زيادتي، وهو الموضع الثالث مما يتأنق فيه، ويسمى براعة المطلب، وهو من مستخرجات الونجاني صاحب المعيار وذكره في التبيان. قال وحسنه أن يخرج إلى الغرض بعد تقدم الوسيلة كقوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني = حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما = كفاه من تعرضه الثناء
[شرح عقود الجمان: 174]
قال ومما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب قوله تعالى حكاية عن إبراهيم فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين إلى قوله تعالى رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين اهـ.
وأما أصحاب البديعيات ففسروه بأن يلوح الطالب بالطلب بألفاظ عذبة مهذبة تشعر بما في النفس دون كشف وتصريح وإلحاح مقترنة بتعظيم الممدوح كقول المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة = سكوتي بيان عندها وخطاب
وفرقوا بينه وبين الإدماج بأن يقدر هناك معنى ثم يدمج غرضه فيه ويوهم أنه لم يقصده، وهذا مقصور على الطلب وهو أيضًا فرق بينه وبين الكناية.
[وإن يجيء في الانتهاء مؤذن = بختمه فهو البليغ الأحسن]
هذا آخر المواضع التي يجب التأنق فيها لأنه آخر ما يعيه السامع ويرسم في الذهن فإن كان حسنا تلقاه السمع واستلذه وجبر ما وقع فيما سبقه من تقصير وإلا فبالعكس، وربما أنسى المحاسن الموردة فيما سبق، مثاله قوله:
وإني جدير إذ بلغتك بالمنى = وأنت بما أملت فيك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله = وإلا فإني عاذر وشكور
وأحسن الانتهاء ما آذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوف ألبتة كقوله:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله = وهذا دعاء للبرية شامل
[وسور القرآن في ابتدائها = وفي خلوصها وفي انتهائها
واردة أبلغ وجه وأجل = وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أمعن في التأمل = بان له كل خفي وجلي]
جميع سور القرآن في فواتحها وتخلصاتها وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها من الفصاحة والبلاغة كما يظهر ذلك بالتأمل كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور وحروف الهجاء والنداء في نحو يا أيها الناس وأعظم ذلك ما تضمنته الفاتحة التي هي مبدأ الكتاب من البراعة باحتوائها على العلوم الأربعة التي احتوى عليه القرآن وقامت بها الأديان، وهي علم الأصول ومداره على معرفة الله تعالى وصفاته، وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم، ومعرفة النبوّات وإليه الإشارة بأنعمت عليهم، ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة بمالك يوم الدين، وعلم العبادات، وإليه الإشارة باياك نعبد، وعلم السلوك وهو حمل النفس على الآداب الشرعية والانقياد لرب البرية، وإليه الإشارة بإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم، وعلم القصص وهو الإطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله تعالى وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فنبه سبحانه وتعالى في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة، وكذا ما حواه من التخلصات البليغة كما تقدمت الإشارة إليه خلاف قول بعض الناس إنه لم يأت في القرآن تخلص ولذا نبهت عليه هنا من زيادتي، وانظر إلى قوله تعالى ليس له دافع من الله ذي المعارج كيف تخلص من ذكر العذاب إلى صفاته عز وجل، وكذلك الخواتيم من الأدعية والوصايا والفرائض والمواعظ والوعد والوعيد والتبجيل والتعظيم والتحميد وغير ذلك وانظر إلى سورة الزلزلة كيف بدئت بأهوال القيامة وختمت بقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره -
[شرح عقود الجمان: 175]

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
خاتمة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir