دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > تفسير آيات أشكلت لابن تيمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 ربيع الثاني 1432هـ/19-03-2011م, 08:06 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي فصل في اسمه تعالى «القيُّوم»

فصل
في اسمه تعالى «القيُّوم»

وقد قرأ طائفة القيَّام والقيِّم وكلها مبالغات في القائم وزيادة.
[تفسير آيات أشكلت: 1/421]
قال الله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
فهو قائم بالقسط وهو العدل وقائم على كل نفس بما كسبت وقيامه بالقسط وعلى كل نفس يستلزم قدرته فدل هذا الاسم على أنه قادر وأنه عادل.
وسنبين أن عدله يستلزم الإحسان وأن كل ما يفعله فهو إحسان للعباد ونعمة عليهم ولهذا يقول عقيب ما يعدده من النعم على العباد:
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وآلاؤه هي نعمه وهي متضمنة لقدرته ومشيئته كما هي مستلزمة لرحمته وحكمته.
وأيضًا فلفظ القيَّام يقتضي شيئين القوة والثبات والاستقرار ويقتضي العدل والاستقامة فالقائم ضد الواقع كما أنه ضد الزائل والمستقيم ضد المعوج المنحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
[تفسير آيات أشكلت: 1/422]
إِذْ هَدَيْتَنَا} وقال {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
ومنه تقويم السهم والصف وهو تعديله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أقيموا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وكان يُقوِّمُ الصف يُقوِّمُ القِدْح.
ومنه الصراط المستقيم والاستقامة وهذا من هذا كما قال تعالى
[تفسير آيات أشكلت: 1/423]
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} من طريقة أهل التوراة.
وما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه الكتاب الذي قبله وإن كان ذلك يهدي إلى الصراط المستقيم لكن القرآن يهدي للتي هي أقوم ولهذا ذكر هذا بعد قوله {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ثم قال {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
ولما كان القيام بالأمور بطريقة القرآن يقتضي شيئين القوة والثبات مع العدل والاستقامة جاء الأمر بذلك في مثل قوله {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} و {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وقوله {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} يقتضي أنه يأتي بها تامة مستقيمة فإن الشاهد قد
[تفسير آيات أشكلت: 1/424]
يضعف عن أدائها وقد يحرفها فإذا أقامها كان ذلك لقوته واستقامته وكذلك إقامة الصلاة يقتضي إدامتها والمحافظة عليها باطنًا وظاهرًا وأن يأتي بها مستقيمة معتدلة.
ولما كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجل الجهاد قال {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإن الرجل قد يصلي ولا يقيم الصلاة لنقص طمأنينتها والسكينة فيها فلا تكون صلاته ثابتة مستقرة أو لنقص خضوعه لله وإخلاصه له فلا تكون معتدلة فإن رأس العدل عبادة الله وحده لا شريك له كما أن رأس الظلم هو الشرك إذ كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ولا أظلم ممن وضع العبادة في غير موضعها فعبد غير الله فعبادة الله أصل العدل والاستقامة.
قال تعالى {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فأمر بإقامة الوجه له عند كل مسجد وهو التوحيد وتوجيه الوجه إليه سبحانه فإن توجيهه إلى غيره زيغ.
[تفسير آيات أشكلت: 1/425]
وبالإخلاص يكون العبد قائمًا وبالشرك زائغًا كما قال {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} وقال {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} وإقامته توجيهه إلى الله وحده وهو أيضًا إسلامه فإن إسلام الوجه لله يقتضي إخضاعه له وإخلاصه له.
وفي القرآن إقامة الوجه وفيه توجيهه لله وإسلامه لله وتوجيهه وإسلامه هو إقامته وهو ضد إزاغته فلما كانت الصلاة تضمنت هذا وهذا وهو عبادته وحده وإخلاص الدين له وتوجيه الوجه إليه كما فيها هذا العدل فلا بد من هذا ولا بد من الطمأنينة فيها وهي إنما يكون مقامه بهذا أو هذا هو الخضوع فإن الخشوع يجمع معنيين:
أحدهما الذل والخضوع والتواضع.
والثاني السكون والثبات.
ومنه قوله تعالى {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وقوله {خَاشِعِينَ
[تفسير آيات أشكلت: 1/426]
مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} وهو الانخفاض والسكون.
ومنه خشوع الأرض وهو سكونها وانخفاضها فإذا أنزل عليها الماء اهتزت بدل السكون وربت بدل الانخفاض.
وقال {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} {قَوَّامِينَ لِلَّهِ} والقوَّام هو القيَّام فإن قيَّام وقيُّوم أصله قيْوَام وقيْوُوم ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت إحداهما بالأخرى لأن الياء أخف من الواو.
قال الفراء وأهل الحجاز يصرفون الفعَّال إلى الفيْعَال ويقولون
[تفسير آيات أشكلت: 1/427]
للصَّوَّاغ صَيَّاغ.
قلت هذا إذا أرادوا الصفة وهي ثبات المعنى للموصوف عدلوا عن فعَّال إلى فيْعَال كما في سائر الصفات المعدولة فإن من هذا قلت المضعف جوف عليه* والحروف المختلفة أبلغ من حرف واحد مُشدَّد وأما إذا أرادوا الفعل فهو كما قال تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ولم يقل قيَّامِين.
وقد قرأ طائفة من السلف {الحَيُّ القيَّام} ولم يقرأ أحد قط كونوا قيَّامين بالقسط لأن المقصود أمرهم أن يقوموا بالقسط والأمر طلب فعل يحدثه المأمور بخلاف الخبر عن الموصوف بأنه صيَّاغ فإنه خبر عن صفة ثابتة له ولهذا جاء في أسماء الله القيَّام ولم يجئ القوَّام قرأ عمر بن الخطاب وغير واحد {القيَّام} وقرأ طائفة {القيِّم} قال ابن الأنباري هي كذلك في مصحف ابن مسعود ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين ولك الحمد
[تفسير آيات أشكلت: 1/428]
أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن.
ولما كان لفظ القيَّام يتضمن القوة والثبات وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسه إقامته لغيره خص لفظ القوْم بالرجال دون النساء فلا تسمى النساء بانفرادهن قوْمًا ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا.
قال تعالى {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} فإنه قال {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}.
[تفسير آيات أشكلت: 1/429]
ومنه قول الناظم:
وَمَا أدرِي وَظني كلُّ ظن... أقوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ؟
ولما كان القيَّام يقتضي الثبات وهو ضد الزوال قال {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}.
وقال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات وهو خلقهما معتدلتين كما قال {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وقال {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}.
والعدل لازم في كل مخلوق ومأمور به كل أحد كما قد بسط في قوله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وكما في لفظ القيَّام من العدل سمي ما يساوي
[تفسير آيات أشكلت: 1/430]
المبيع قيمة عدل قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق شركًا له في عبدٍ وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قومَ عليه قيمة عَدْل لا وكس ولا شطط فأعطي شركاؤه وعتق عليه العبد.
وكذلك يسمى تعديل الحساب تقويمًا فإذا جمعت حركة الشمس والقمر وغيرهما السريعة والبطيئة وأحد يعدل ذلك سمي ذلك تعديلًا وتقويمًا ويسمى ما يكتب فيه ذلك تقويمًا كما يصنع بالمكان إذا أخذ مغله في إقباله وإدباره فإنه يوجد معدل ذلك وَيُقوَّم باعتبار ذلك.
ويقال قامت السوق إذا حصل فيها التبايع بالتراضي الذي هو أصل العدل ولا بد أن يبقى ذلك زمنًا ففي قيام السوق معنى العدل والثبات قال الشاعر أقامت سوق لأهل عشرين عامًا.
[تفسير آيات أشكلت: 1/431]
ومنه قوله تعالى {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي يقوم عليه كما يقوم القيِّم على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه.
والإقامة أبلغ من القيام فإن فيها زيادة الهمزة وزيادة كزيادة المعنى وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغ مما يدل عليه لفظ القيام.
والمقام بالمكان هي السكنى فيه واستيطانه والمقيم خلاف المسافر.
ولما كان اسمه القيُّوم يتناول هذا وهذا وهو قيوم السماوات والأرض ومقيم كل مخلوق من الأعيان والصفات دل ذلك على أن كل مخلوق له نصيب من القيام فهو قائم بالقيِّم الذي أقامه كما أن له قدرًا بالخلق فإن اسمه الخالق يقتضي الإبداع والتقدير فقال {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقال {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.
وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر دَلَّ ذلك على فساد قول من أثبت الجوهر
[تفسير آيات أشكلت: 1/432]
الفرد ومن قال العَرَض لا يبقى زمانين.
فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبتون شيئًا لا تتميز يمينه عن يساره ولا يعرف بالحس وهو ممتنع وجوده فإن وجود ما لا يتميز منه جانب عن جانب ممتنع وإنما يفرضونه في الذهن.
[تفسير آيات أشكلت: 1/433]
وعلى قولهم لا قدر له والله تعالى قد جعل لكل شيء قدرًا فما لا قدر له لم يُخلق بل هو ممتنع.
وما يفرضه أهل الهندسة من نقطة مجردة وخط مجرد وسطح مجرد هي أمور مقدرة في الأذهان واللسان لا توجد مجردة في الخارج بل لا توجد إلا نقطة معينة مثل نقطة الماء والحبر ونحو ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب.
وقوله تعالى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وقوله {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} والله سبحانه خالق الموجودات العينية ومعلم الصور الذهنية وأول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ومن الناس من يقول المعدوم شيء ثابت في الخارج وليس بمخلوق بل ثبوته قديم وآخرون يقولون الماهيات غير مجعولة وهؤلاء وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان فأخرجوا بعض مخلوقاته عن أن تكون مخلوقة له.
[تفسير آيات أشكلت: 1/434]
وتحقيق الأمر أن كل ما يقدر فإما أن يكون ثابتًا في الأعيان والموجود الخارج أو في العلم والوجود الذهني وهو سبحانه خالق هذا ومعلم هذا فلا يخرج شيء أصلًا عن تخليقه وتعليمه بل هو الذي خلق فسوى وقدَّرَ فهدى وقال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فهو خالق كل شيء وَقيُّومه وكل ما أقامه القيُّوم فله قيام.
والحركة وإن وجدت شيئًا فشيئًا فلا بد لها من لبث لا يتصور أن تعدم قبل أن تلبث زمنًا من الأزمان وقيُّوم السماوات هو الخالق الذي يبدعه ويجعل له ذلك القدر فجعل للأعيان قدرًا وللحركات قدرًا ولزمانها قدرًا وبعض ذلك يطابق بعضًا فإن الزمان مساوق للحركة والحركة هي مبدأ الأحداث.
قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية كما أن اختلاف الليل والنهار وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية وهو سبحانه فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهو فالق الإصباح وجاعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا.
[تفسير آيات أشكلت: 1/435]
فذكر أنه فالق الإصباح بعد ذكره فلق الحب والنوى فإنه بسبب فلقه الإصباح وجعل الليل والنهار يتم ما يخلقه وينمو ويحصل مصلحته ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجعلهما بحساب على وفق العدل في الحكمة لا يتقدم شيء على وقته ولا يتأخر شيء عن أجله وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت.
واستحالة الأجسام بعضها إلى بعض معلوم بالمشاهد وهو مما تطابق عليه أهل الطبائع والشرائع وأهل العادات والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وغيرهم.
وكذلك الفقهاء تكلموا في استحالة الطاهر إلى النجس واستحالة النجس إلى الطاهر وفي الماء والمائع إذا خالطته النجاسة هل يستحيل أم لا؟
والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كل ما شهد العباد أن الله يخلقه من سحاب ونبات ومطر وإنسان وحيوان فإن الله فيما زعموا يبدع تلك الأعيان والجواهر القائمة بأنفسها وإنما يحدث أعراضًا وهو تركيب الجواهر بعضها مع بعض ثم زعموا أن الجواهر إنما يعلم أنه خلقها بالاستدلال وهو أنها لا تخلو من الأعراض الحادثة وما لا يخلو إذن فهو حادث.
وعلى هذا اعتمدوا في خلق الله للعالم وفي إثبات الصانع وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين ثم التزموا لوازم من إنكار الصفات أو بعضها ومن إنكار الرؤية والقول بخلق القرآن وغير ذلك.
[تفسير آيات أشكلت: 1/436]
فتسلط عليهم السلف والأئمة وعلماء السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل والتضليل وتسلط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامهم بالتجهيل والتضليل وخالفوا الحس والعقل والشرع الذي هو خبر الصادق وهذه الثلاثة هي مدارك العلم عندهم وعند غيرهم كما ذكروا ذلك في أول كتبهم.
أما مخالفة الحس فقولهم إن الله لم يبدع عين الإنسان والحيوان ولا عين الثمار والمطر والسحاب وإنما أحدث تأليفًا وعلى قولهم تلك الجواهر التي كانت في بني آدم باقية بأعيانها في كل واحد من ولده ومعلوم أن هذا غير ممكن فإن مني الرجل الواحد لا يحتمل أن ينقسم أقسامًا بعدد كلِّ مَن وُلِدَ من الآدميين.
وكذلك عندهم أن كل بني الآدميين فيه جزء من بني نوح لأنه عندهم لم يبدع الله عينًا بل نفس مني الأب فيه الجواهر ركبها تركيبًا آخر وضم إليها جواهر أخر.
وأما مخالفة العقل فإثبات الجوهر الفرد إثبات شيء موجود لا يتميز منه شيء عن شيء فإذا وضع جوهر بين جوهرين فإن كان الذي يماس هذه الجانب فقد التقى الجوهران فإن كان غيره فقد ثبت الانقسام.
وأيضًا فنحن نشاهد الهواء يستحيل ماءً إذا وضع في الزجاج ونحوه ثلج صار عليه ماء يقطر ومعلوم أن الثلج لم ينقب الزجاج بل الهواء الذي أحاط به برد فاستحال ماءً كما يحيل الله سحابًا وماءً.
هذا مشهود يكون الإنسان على حيدٍ فيرى البخار قد صعد من البحار فانعقل سحابًا وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رأس الجبل وكذلك
[تفسير آيات أشكلت: 1/437]
الهواء يستحيل نارًا فإذا قرب ذبالة المصباح إلى النار أوقد مع أنه لم يخرج من تك النار شيء ولكن الهواء المحيط بالذبالة استحال نارًا لما سخن سخونة شديدة فالهواء يبرد فيستحيل ماءً ويسخن فيستحيل نارًا وكذلك ما يقدح النار.
قال تعالى {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} وقال {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} الآيات وقال تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}.
والعرب يقولون في كل شجر نار واستمْجَدَ المَرْخ والعَفار يأخذون عودين أخضرين يَحكون أحدهما بالآخر حتى يسخن فإن الحركة توجب السخونة والسخونة تحصل بالحركة وبالنار وبالشعاع فإذا سخن انقدح منه نار باستحالة بعض تلك الأجزاء نارًا وما كان هناك قبل هذا نار بل سبحانه يحدث النار عند باقية يعينها وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة فقوله خطأ بل المادة استحالت فخلق منها شيء آخر
[تفسير آيات أشكلت: 1/438]
والأولى هلكت وأعدمها الله على هذا الوجه كما أوجد ما خلق منها على هذا الوجه وقد بسط الكلام على هذا في موضع آخر.
والمقصود الكلام على اسمه القيُّوم والتنبيه على بعض ما دل عليه من المعارف والعلوم فهو سبحانه قيُّوم السماوات والأرض لو أخذته سنة أو نوم لهلكت السماوات والأرض والمخلوق ليس له من نفسه شيء بل الرب أبدع ذاته فلا قوام لذاته بدون الرب والمخلوق بذاته فقير إلى خالقه كما أن الخالق بذاته غني عن المخلوق فهو الأجَلُّ الصَّمَدُ والمخلوق لا يكون إلا فقيرًا إليه والخالق لا يكون إلا غنيًّا عن المخلوق وغناه من لوازم ذاته كما أن فقر المخلوق إلى خالقه من لوازم ذاته وهذا المعنى مما يتعلق بقول الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} تعلقًا قويًّا.
والناس يشهدون إحداثه لمخلوقات كثيرة وإفناءَه لمخلوقات كثيرة وهو سبحانه يحدث ما يحدثه من إرادة يحيلها ويعدمها إلى شيء آخر ويفني ما يفنيه بإحالته إلى شيء آخر كما يفني الميت بأن يصير ترابًا.
وعلى هذا تترتب مسائل المعاد فإن الكلام على النشأة الثانية فرع عن النشأة الأولى فمن لم يتصور الأولى فكيف يعلم الثانية؟!
قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
[تفسير آيات أشكلت: 1/439]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}.
فهؤلاء غلطوا في معرفة النشأة الأولى فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلط كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع.
وكان غلطهم لأنهم ظنوا أن الله يفني العالم كله ولا يبقى موجود إلا الله كما قالوا إنه لم يكن موجود إلا هو فقطعوا بعدم كل ما سوى الله ثم اختلفوا فقال الجهم إنه يفني العالم كله وأنه وإن أعاده فإنه يفني الجنة والنار فلا يبقى جنة ولا نار لأن ذلك يستلزم دوام الحوادث وذلك عند جهم ممتنع بنهاية وبداية في الماضي والمستقبل.
وقال الأكثرون منهم بل هو إذا أعدم العالم بالكلية فإنه يعيده ولا يفنيه ثانيًا بل الجنة باقية أبدًا وفي النار قولان وهؤلاء قطعوا بإفناء العالم وللنظار فيه ثلاثة أقوال:
أحدها القطع بإفنائه.
والثاني التوقف في ذلك وأنه جائز لكن لا يقطع بوجوده ولا عدمه.
والثالث القطع بأنه لا يفنيه وهذا هو الصحيح والقرآن يدل على أن
[تفسير آيات أشكلت: 1/440]
العالم يستحيل من حال إلى حال فتنشق السماء فتصير وردة كالدِّهان وَتسَيَّر الجبال وتبَسُّ بَسًّا وتدَك الأرض وتسجر البحار وتنكدر النجوم وتتناثر وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن لم يخبر بأنه يعدم كل شيء بل أخباره المستفيضة بأنه لا يعدم الموجودات.
فقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أخبر فيه بفناء من على الأرض فقط والفناء يراد به الموت ولا يراد به عدم ذواتهم فإن الناس إذا ماتوا صارت أرواحهم إلى حيث شاء الله من نعيم وعذاب وأبدانهم في القبور وغيرها منها البالي وهو الأكثر ومنها ما لا يبلى كأبدان الأنبياء والذي يبلى يبقى منه
[تفسير آيات أشكلت: 1/441]
عَجْبُ الذنب منه بدأ الخلق ومنه يركب.
فهؤلاء لما قالوا إنه يفنى جميع العالم وأن ذلك واقع وممكن احتاجوا إلى تلك الأقوال الفاسدة وإلا فالفناء الذي أخبر به القرآن هو كالفناء المشهود بالاستحالة إلى مادة كما كان الإحداث بالحق من مادة.
فاسمه سبحانه القيُّوم يقتضي الدوام والثبات والقوة ويقتضي الاعتدال والاستقامة وقد وصف نفسه بأنه قائم بالقسط وأنه على صراط مستقيم
[تفسير آيات أشكلت: 1/442]
ومنه قوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ومنه قامة الإنسان وهو اعتداله ومنه قيام الإنسان فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينة ومنه قول الشاعر:
أقِيْمِيْ أمَّ زنبَاع أقيْمِي... صُدُورَ العِيْس شطرَ بَني تمِيْم
فإنه أراد وجهي صدور العيس نحو بني تميم والعيس هي الإبل التي تركب ويحمل عليها ويقال الإبل العِيس جمع عيساء.
[تفسير آيات أشكلت: 1/443]


التوقيع :
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
في, فصل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir