9/260 - وَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِن الرُّكُوعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(وَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ؛ أي: مُقَابِلَ (مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ.
(وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ) رَفَعَهُمَا.
(وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ) أي: أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ (مِن الرُّكُوعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَفِيه شَرْعِيَّةُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الْمَوَاضِعِ؛ أَمَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَتَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلاَمُ.
وَأَمَّا عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، إلاَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ. قُلْتُ: وَالْخِلاَفُ فِيهِ لِلْهَادَوِيَّةِ مُطْلَقاً فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلاَثَةِ؛ وَاسْتُدِلَّ لِلْهَادِي عليه السلامُ فِي الْبَحْرِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا لِي أَرَاكُمْ)) الْحَدِيثَ.
قُلْتُ: وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ والنَّسائِيُّ، وَلَفْظُهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلاَمَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ؟ مَا لِي أَرَى أَيْدِيَكُمْ كَأَذْنَابِ خَيْلِ شُمُسٍ؟! اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ)). انْتَهَى بِلَفْظِهِ.
وَهُوَ حَدِيثٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي إيمَائِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ عِنْدَ السَّلاَمِ، وَالْخُرُوجِ مِن الصَّلاَةِ, وَسَبَبُهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ)) فَهُوَ عَائِدٌ إلَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مِن الْإِيمَاءِ [إلَى كُلِّ حَرَكَةٍ](1) فِي الصَّلاَةِ؛ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلاَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرَكَاتٍ، وَسُكُونٍ ، وَذِكْرٍ للَّهِ.
قَالَ الْمَقْبَلِيُّ فِي الْمَنَارِ عَلَى كَلاَمِ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ: إنْ كَانَ هَذَا غَفْلَةً مِن الْإِمَامِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ أَبْعَدَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَهُوَ أَوْرَعُ وَأَرْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْإِكْثَارُ فِي هَذَا لَجَاجٌ مُجَرَّدٌ، وَأَمْرُ الرَّفْعِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ تُورَدَ لَهُ الْأَحَادِيثُ الْمُفْرَدَاتُ.
وَقَدْ كَثُرَتْ كَثْرَةً لاَ تُوَازَى، وَصَحَّتْ صِحَّةً لاَ تُمْنَعُ؛ وَلِذَا لَمْ يَقَعِ الْخِلاَفُ الْمُحَقَّقُ فِيهِ إلاَّ لِلْهَادِي فَقَطْ، فَهِيَ مِن النَّوَادِرِ الَّتِي تَقَعُ لِأَفْرَادِ الْعُلَمَاءِ مِثْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، مَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ لَهُ نَادِرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تُغْمَرَ فِي جَنْبِ فَضْلِهِ، وَتُجْتَنَبَ. انْتَهَى.
وَخَالَفَتِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا عَدَا الرَّفْعَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَبِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لاَ يَعُودُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَقَدْ سَاءَ حِفْظُهُ؛ وَلِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِرِوَايَةِ نَافِعٍ وَسَالِمٍ ابنَيِ ابنِ عُمَرَ لِذَلِكَ، وَهُمَا مُثْبِتَانِ، وَمُجَاهِدٌ نَافٍ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ، وَبِأَنَّ تَرْكَهُ لِذَلِكَ إذَا ثَبَتَ كَمَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ يَكُونُ مُبَيِّناً لِجَوَازِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَاجِباً، وَبِأَنَّ الثَّانِيَ -وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- لَمْ يَثْبُتْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ مُقَدَّمَةً عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا إثْبَاتٌ، وَذَلِكَ نَفْيٌ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ.
وَقَدْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ عَن الْحَسَنِ، وَحُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ، أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْحَسَنُ أَحَداً. وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا.
وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ كَلاَمِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ: وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ. قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فَقَدْ طَعَنَ فِي الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ:
10/261 - وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ.
(وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ) تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الرَّفْعِ إلاَّ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، بِخِلاَفِ حَدِيثِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ؛ فَفِيهِ إثْبَاتُ الرَّفْعِ فِي الثَّلاَثَةِ الْمَوَاضِعِ، كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.
وَلَفْظُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلاَةِ اعْتَدَلَ قَائِماً، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ" ، الْحَدِيثُ تَمَامُهُ: "ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ)). وَرَكَعَ ، ثُمَّ اعْتَدَلَ، ولَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)). وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَدَلَ حَتَّى رَجَعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلاً" الْحَدِيثَ.
فَأَفَادَ رَفْعَهُ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ يَدَيْهِ فِي الثَّلاَثَةِ الْمَوَاضِعِ، وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يُكَبِّرُ: الْحَدِيثَ؛ لِيُفِيدَ أَنَّ الِاسْتِدْلاَلَ بِهِ جَمِيعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ الرَّفْعُ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ:
11/262 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَكِنْ قَالَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ.
(وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ) أي: في الرَّفْعِ فِي الثَّلاَثَةِ الْمَوَاضِعِ.
(لَكِنْ قَالَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا) أي: الْيَدَيْنِ (فُرُوعَ أُذُنَيْهِ) أَطْرَافَهُمَا.
فَخَالَفَ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي حُمَيْدٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ، فذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّفَقاً عَلَيْهَا، وَجَمَعَ آخَرُونَ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: يُحَاذِي بِظَهْرِ كَفَّيْهِ المَنْكِبَيْنِ، وَبِأَطْرَافِ أَنَامِلِهِ الْأُذُنَيْنِ. وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ وَائِلٍ بِلَفْظِ: "حَتَّى كَانَتْ حِيَالَ مَنْكِبَيْهِ وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ" وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ.
(1) لعل الصواب: "لاَ إلى كلِّ حركةٍ". واللهُ أعلمُ.