مجلس مذاكرة القسم الثالث من تفسير سورة النساء
(من الآية 19 إلى الآية 30)
المجموعة الأولى:
س1: فصّل القول في معنى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
اختلف أهل العلم من المفسرين في معنى المحصنات إلى أقوال:
الأول: ذوات الأزواج: وهو قول ابن عباس,وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.ذكره ابن عطية, وابن الجوزي, وابن كثير.
قول ابن عباس أخرجه ابن جرير في تفسيره, من طرق عن ابن عبّاسٍ، قال: «كلّ ذات زوجٍ إتيانها زنًا، إلاّ ما سبيت».
وقول ابن زيد أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن ونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال: «كلّ امرأةٍ محصنةٍ لها زوجٌ فهي محرّمةٌ إلاّ ما ملكت يمينك من السّبي وهي محصنةٌ لها زوجٌ، فلا تحرم عليك به. قال: كان أبي يقول ذلك ».
الثاني: هنّ كلّ ذات زوجٍ من النّساء حرامٌ على غير أزواجهنّ، إلاّ أن تكون مملوكةً اشتراها مشترٍ من مولاها فتحلّ لمشتريها، ويبطل بيع سيّدها إيّاها النّكاح بينها وبين زوجها ».وهو قول عبد الله بن مسعود, وإبراهيم, وابن المسيب. ذكره ابن عطية وابن الجوزي.
قول عبد الله أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن أبو السّائب، سلم بن جنادة قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم عن عبد اللّه، في قوله: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال: «كلّ ذات زوجٍ عليك حرامٌ إلاّ أن تشتريها، أو ما ملكت يمينك».
وقول إبراهيم أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن المثنّى قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن مغيرة عن إبراهيم: «أنّه سئل عن الأمة تباع ولها زوجٌ قال: كان عبد اللّه يقول: بيعها طلاقها »، ويتلو هذه الآية: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم}.
وقول ابن المسيب أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن ابن المسيّب، قوله: {والمحصنات من النّساء} قال: « هنّ ذوات الأزواج، حرّم اللّه نكاحهنّ إلاّ ما ملكت يمينك، فبيعها طلاقها ».
الثالث: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وابن عباس, وأبي العالية، ومجاهد، وعبيدة. ذكره ابن عطية , وابن الجوزي, وابن كثير.
قول عبيدة أخرجه ابن جرير في تفسيره من طرق, عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قول اللّه، تعالى: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال:« أربعٌ».
وقول عمر بن الخطاب أخرجه ابن جرير عن عبيدة بمثل السابق.
وقول ابن عباس أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد، قال: حدّثنا عتّاب بن بشيرٍ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {والمحصنات} قال: «العفيفة العاقلة من مسلمةٍ، أو من أهل الكتاب».
وقول مجاهد أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن بعض أصحابه، عن مجاهدٍ: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال: «العفائف».
وقول أبو العالية أخرجه ابن جرير في تفسيره, عن القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن أبي العالية، قال: «يقول: انكحوا ما طاب لكم من النّساء: مثنى، وثلاث، ورباع، ثمّ حرّم ما حرّم من النّسب والصّهر، ثمّ قال: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال: فرجع إلى أوّل السّورة إلى أربعٍ، فقال: هنّ حرامٌ أيضًا، إلاّ بصداقٍ وبينّةٍ وشهودٍ».
الرابع: «المحصنات في هذا الموضع ذوات الأزواج غير أنّ الّذي حرّم اللّه منهنّ في هذه الآية الزّنا بهنّ، وأباحهنّ بقوله: {إلاّ ما ملكت أيمانكم} بالنّكاح أو الملك». وهو قول مجاهد, وابن عباس, ومكحول وإبراهيم.
قول ابن عباس أخرجه ابن جرير في تفسيره من طرق عنه, عن ابن عبّاسٍ: قوله: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال: «كلّ ذات زوجٍ عليكم حرامٌ، إلاّ الأربع اللاّتي ينكحن بالبيّنة والمهر».
وقول مجاهد أخرجه ابن جرير في تفسيره من طرق عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى: {والمحصنات} قال: «نهى عن الزّنى».
وقول مكحول وإبراهيم أخرجهما ابن جرير في تفسيره بنحو قول ابن عباس.
الخامس: هن نساء أهل الكتاب. وهو قول أبي مجلز وأخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا عيسى بن عبيدٍ، عن أيّوب بن أبي العوجاء، عن أبي مجلزٍ، في قوله: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} قال:«نساء أهل الكتاب».
السادس: الحرائر. وهو قول سليمان بن عزرة وأخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن بشّارٍ، قال: حدّثني حمّاد بن مسعدة قال: حدّثنا سليمان بن عزرة في قوله: {والمحصنات من النّساء} قال:«الحرائر».
الدراسة:
اختلف أهل العلم من المفسرين في معنى الآية إلى عدة أقوال, فمنهم من قال أنهم ذوات الأزواج واستدل على ذلك بسبب نزول الآية عن أبي سعيدٍ الخدريّ: « أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم حنينٍ بعث جيشًا إلى أوطاسٍ، فلقوا عدوًّا، فأصابوا سبايا لهنّ أزواجٌ من المشركين، فكان المسلمون يتأثّمون من غشيانهنّ »، فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} أي هنّ حلالٌ لكم إذا ما انقضت عددهنّ.
ومنهم من قال أنها ذوات الأزواج وقد حرم نكاحها إلا الأمة إذا باعها؛ فبيعها طلاقها وتتزوج, واستدلوا بآثار عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وغيرهم, قالوا:«بيعها طلاقها».
ورد ابن جرير, ابن كثير هذا القول وذكر أن جمهور أهل العلم على أن بيع الأمة ليس طلاق, واستدل بحديث بريرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها بين الفسخ وبين البقاء فاختارت الفسخ, ولو كان مجرد البيع طلاق لم يكن ليخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم دل ذلك على بقاء النكاح, وأن المراد المسبيات فقط.
ومنهم من قال أن المراد هن العفائف, وأنهن حرام إلا ما ملكت يمينك منهن بصداق وشهود إلى أربع نساء, قال ابن عطية: وقال قوم: المحصنات في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، إلّا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين.
ومنهم من قال أن المراد من المحصنات هن ذوات الأزواج, وأن المراد هنا هو الزنا بهن, فنهى الله عن الزنا إلا ملك اليمين بنكاح أو ملك.
ومنهم من قال هن الحرائر من النساء, قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: والمحصنات: هن الحرائر، ويكون إلّا ما ملكت أيمانكم معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا.
ومنهم من قال هن نساء أهل الكتاب.
ومعنى المحصنات كما ذكر ابن جرير فقال: المحصنات فإنّهنّ جمع محصنةٍ، وهي الّتي قد منع فرجها بزوجٍ، يقال منه: أحصن الرّجل امرأته فهو يحصنها إحصانًا وحصنت هي فهي تحصن حصانةً: إذا عفّت، وهي حاصنٌ من النّساء: عفيفةٌ، كما قال العجّاج:.
وحاصنٍ من حاصناتٍ ملس ........ عن الأذى ومن قراف الوقس
ويقال أيضًا إذا هي عفّت وحفظت فرجها من الفجور: قد أحصنت فرجها فهي محصنةٌ، كما قال جلّ ثناؤه: {ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها} بمعنى: حفظته من الرّيبة ومنعته من الفجور. وإنّما قيل لحصون المدائن والقرى حصونٌ لمنعها من أرادها وأهلها، وحفظها ما وراءها ممّن بغاها من أعدائها، ولذلك قيل للدّرع: درعٌ حصينةٌ.
وذكر أيضا أن أصل الإحصان: هو المنع والحفظ, فلما كان ذلك كذلك فالممنوعات من النساء حرام إلا ما ملك اليمين, وأن الإحصان يكون بالحرية, وبالإسلام, وبالزوج, فوجب أن تكون المحصنة حرام علينا بأي وجه من وجوه الإحصان, إلا ملك اليمين فقد أباحه الله لنا بشراء أو بنكاح, ثم قال: فالّذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحًا من الحرائر الأربع سوى اللّواتي حرّمن علينا بالنّسب والصّهر، ومن الإماء ما سبينا من العدوّ سوى اللّواتي وافق معناهنّ معنى ما حرّم علينا من الحرائر بالنّسب والصّهر، فإنّهنّ والحرائر فيما يحلّ ويحرم بذلك المعنى متّفقات المعاني، وسوى اللّواتي سبيناهنّ من أهل الكتابين ولهنّ أزواجٌ، فإنّ السّباء يحلّهنّ لمن سباهنّ بعد الاستبراء، وبعد إخراج حقّ اللّه تبارك وتعالى الّذي جعله لأهل الخمس منهنّ.
ورد ابن جرير على من استدل بسبب نزول الآية, وأنها نزلت في سبايا أوطاس, وأن المراد ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهنّ, فقال: فإن اعتلّ معتلٌّ منهم بحديث أبي سعيدٍ الخدريّ أنّ هذه الآية نزلت في سبايا أوطاسٍ، قيل له: إنّ سبايا أوطاسٍ لم يوطأن بالملك والسّباء دون الإسلام، وذلك أنّهنّ كنّ مشركاتٍ من عبدة الأوثان، وقد قامت الحجّة بأنّ نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام، وإنّهنّ إذا أسلمن فرّق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج، سبايا كنّ أو مهاجراتٍ، غير أنّه إذا كنّ سبايا حللن إذا هنّ أسلمن بالاستبراء. فلا حجّة لمحتجٍّ في أنّ المحصنات اللاّتي عناهنّ بقوله: {والمحصنات من النّساء} ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهنّ بخبر أبي سعيدٍ الخدريّ في أنّ ذلك نزل في سبايا أوطاسٍ، لأنّه وإن كان فيهنّ نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهنّ بالسّباء خاصّةً دون غيره من المعاني الّتي ذكرنا، مع أنّ الآية تنزل في معنًى فتعمّ ما نزلت به فيه وغيره، فيلزم حكمها جميع ما عمّته لما قد بيّنّا من القول في العموم والخصوص في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الأحكام.
فبذلك يتبين أن ابن جرير يجمع بين هذه الأقوال, وذكر أن الآية تعم هذه الأقوال جميعها مستخدما قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
س2: من خلال دراستك لدورة أصول التفسير البياني وتفسير سورة النساء؛ بيِّن معنى الاستثناء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}
ذكر في معنى الاستثناء أقوال:
الأول: أنه استثناء منقطع؛ لأن التجارة ليست من أكل الأموال بالباطل. ذكره ابن عطية وقطع بذلك, ونقل الإجماع على ذلك الواحدي في البسيط, فقال: وأجمعوا على أن هذا استثناء منقطع؛ لأن التجارة عن تراض ليست من أكل المال بالباطل.
و ذكر المعنى ابن عاشور فقال: لكن كون التجارة غير منهي عنه. وموقع المنقطع هنا بين جار على الطريقة العربية، إذ ليس يلزم في الاستدراك شمول الكلام السابق للشيء المستدرك ولا يفيد الاستدراك حصرا، ولذلك فهو مقتضى الحال.
وذكر السمين الحلبي وجهين لهذا الاستثناء:
1 - أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها، سواء فَسَّرت الباطل بغير عوض أو بغير طريق شرعي.
2 - أن المستثنى كون، والكونُ ليس مالاً من الأموالِ.
الثاني: أنه استثناء متصل. وهو قول ضعيف.
قال السمين الحلبي: والثاني: أنه متصلٌ، واعتلَّ صاحب هذا القول بأن المعنى: لا تأكلوها بسببٍ إلاَّ أَنْ تكونَ تجارةً. قال أبو البقاء: «وهو ضعيف، لأنه قال:» بالباطل «، والتجارةُ ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذفُ مضاف تقديره: إلا في حال كونِها تجارةً أو في وقت كونِها تجارةً» .
وقال ابن عاشور: ويجوز أن يجعل قيد الباطل في حالة الاستثناء ملغى، فيكون استثناء من أكل الأموال ويكون متصلا، وهو يقتضي أن الاستثناء قد حصر إباحة أكل الأموال في التجارة، وليس كذلك.
والله أعلم