سيرة التابعي طَاوس بن كيسَان الْيَمَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي
الحمد لله، الذي نحمده ونستعينه، ونعوذ به من سيئات أعمالنا، ونعوذ به من شرور أنفسنا، فمن يهديه الله عز وجل فلا يكن له مضل، ومن يضلله الله سبحانه وتعالى فلا يكن له هادي، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد خير الأنام، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
حديثنا اليوم عن الإمام العالم العابد الزاهد الفقيه المفسّر أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان، أصله من فارس، وولد في اليمن بعد عام الفتح، ومات سنة 106هـ، وله سبع وتسعون سنة.
هو من أكابر التابعين وعرف عنه التفقه في الدين ورواية للحديث، فقد روى عن: عائشة، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وابن عبّاس، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أصله ونسبه
قيل إنه من الفرس، قال الذهبي: (كان من أبناء الفرس الذين سيرهم كسرى إلى اليمن، من موالي بحير بن ريسان الحميري، وقيل: هو مولى لهمدان).
وأخبر ابن عبد الله بن طاووس أنه قال: (نحن من فارس، ليس لأحد علينا عقد ولاء، إلا أن كيسان نكح امرأة لآل الحميري، فهي أم طاووس). رواه البخاري في التاريخ الكبير.
وقال ابن حبّان: (طاووس بن كيسان الهمداني الخولاني أمه من أبناء فارس، أبوه من النمر بن قاسط)، والنمر بن قاسط من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، فيكون أصله من الفرس، ومولده ومنشأه في اليمن.
فالأكثر على أنّ أصله من الفرس لا من العرب، وولاؤه ولاء حلف ليس ولاء رقّ.
ونستفيد من ذلك أن أصل الفتى علمه وخلقه، فمع الاختلاف في أصله فهو من العلماء الورعين.
كنيته وأخباره
كنيته أبو عبد الرحمن، وهو من خيار التابعين وزهادهم، وكان متقشفا في العيش، كثير الذكر والعبادة، زاهداً فيما في أيدي الناس، وأخبر أنه كان عنده جرأة على وعظ الخلفاء والملوك، وكان يأبى القرب من الملوك والأمراء، قال ابن عيينة: متجنبو السلطان ثلاثة: أبو ذر، وطاووس، والثوري.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الألقاب: إن اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، وإنما لقب به لأنه كان طاوس القراء والمشهور أنه اسمه، عده أصحاب الطبقات من الطبقة الأولى من التابعين من أهل اليمن.
فماذا قالوا عنه؟
قالوا عن علمه:
· قال أبو حاتم بن حبان البستي: هو من عباد أهل اليمن ومن فقهائهم ومن سادات التابعين.
· وقال ابن شهاب الزهري: لو رأيت طاووسا علمت أنه لا يكذب.
· وقال جلال الدين السيوطي: أحد الأئمة الأعلام
· وقال حبيب بن أبي ثابت: قال لي طاووس: (إذا حدثتك الحديث فأثبتّه لك فلا تسألنَّ عنه أحدا).
· وقال حنظلة بن أبي سفيان: (ما رأيت عالما قط يقول لا أدري أكثر من طاووس). رواه ابن أبي خيثمة.
ونستفيد مما ذكر عن علمه أهمية الصدق في الحديث للعلماء وطلبة العلم.
وأما عن ورعه:
§ قال عبد الله بن عباس: إني لأظن طاووسا من أهل الجنة.
§ وقال عمرو بن دينار: ما فينا أحد أصدق لهجة منه، ومرة: ما رأيت أحدا قط مثله.
§ وقال محيي الدين النووي: اتفقوا على جلالته وفضيلته، ووفور علمه، وصلاحه، وحفظه، وتثبته
§ وقال حماد بن زيد: حدثنا سعيد بن أبي صدقة، قال: حدثنا قيس بن سعد، قال: (كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم). رواه ابن سعد وابن أبي خيثمة.
§ وقال حماد بن زيد: كنا عند عمرو بن دينار، ومعنا أيوب فذكر عمرو طاووسا فقال: (ما رأيت من الناس أحدا أعف عما في أيدي الناس من طاووس). رواه ابن أبي خيثمة.
§ وقال عبد الرزاق: أنبأنا داوود بن إبراهيم أنَّ الأسد حبس الناسَ ليلةً في طريق الحج، فدقَّ الناس بعضهم بعضا، فلما كان السَّحَرُ ذهب عنهم، فنزلَ الناسُ يميناً وشمالاً فألقوا أنفسهم فناموا وقام طاووس يصلّي؛ فقال رجل لطاووس: ألا تنام فإنَّك قد نصبت منذ الليلة؛ فقال طاوس: ومن ينام في السَّحَر؟!!). رواه الإمام أحمد في الزهد والبيهقي في شعب الإيمان.
§ وقال الحسن بن أبي الحصين العنبري: «مر طاوس برواس قد أخرج رأسا فغشي عليه» رواه أبو نعيم في الحلية. والروَّاس هو الذي يشوي الرؤوس ويبيعها.
§ وقال سفيان بن عيينة: حلف لنا إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة: قال: (وربّ هذه البَنيَّة ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاووسا). رواه أبو نعيم في الحلية.
§ وقال عمر بن شبة: حدثنا أبو عاصم، قال: زعم لي سفيان قال: جاء ابنٌ لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاووس فلم يلتفت إليه فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه، قال: «أردت أن يعلم أن لله عباداً يزهدون فيما في يديه» رواه أبو نعيم في الحلية.
§ وقال سفيان بن عيينة: (كان عمر بن عبد العزيز يقول لطاووس: هات أرفع حاجتك إلى أمير المؤمنين؛ فيقول: مالي إليه حاجة). رواه الإمام أحمد في الزهد وابن أبي خيثمة في تاريخه.
§ وقال عبد الرزاق قال: سمعت النعمان بن الزبير يحدث أن محمد بن يوسف أو أيوب بن يحي [وكانا أميرين على اليمن] بعث إلى طاوس بخمسمائة دينار وقال للرسول: إنْ أخذها منك فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك؛ فخرج بها حتى قدم على طاوس الجنَد؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها إليك الأمير.
- قال: (ما لي بها حاجة).
- قال: فأراده على قبضها فأبى، فغفل طاوس فرمى بها في كوة البيت ثم ذهب، فقال لهم: أخذها، فلبثوا حينا، ثم بلغهم عن طاوس شيء كرهوه.
- قال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا؛ فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به إليك الأمير.
- قال: (ما قبضت منه شيئا).
- فرجع الرسول فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق.
- فقيل: انظروا الرجل الذي ذهب بها فابعثوه إليه؛ فجاءه؛ فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن؟
- قال: هل قبضت منك شيئا؟
- قال: لا.
- قال: (فهل تدري أين وضعته؟)
- قال: نعم في تلك الكوَّة.
- قال: فأبصره حيث وضعته.
- قال: فمدَّ يده فإذا هو بالصرَّة قد نبت عليها العنكبوت
- قال: فأخذها فذهب بها إليهم) رواه الفسوي في المعرفة وأبو نعيم في الحلية.
§ وقال عبد الرزاق: أخبرني أبي قال: (كان طاوس يصلي في غداة باردة مغيمة فمر به محمد بن يوسف أو أيوب بن يحيى - وهو ساجد - في موكبه فأمر بساج أو طيلسان فطرح عليه فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله). رواه الإمام أحمد في الزهد، ومحمد بن يوسف هو أخو الحجاج بن يوسف، وكان والياً على اليمن.
§ وقال ليث بن أبي سليم: كنا نختلف إلى طاووس نسكت عنه فيحدثنا ونسأله فلا يحدثنا؛ قال: فقلنا له ذات يوم: يا أبا عبد الرحمن نسألك فلا تحدثنا، ونسكت عنك فتبدؤنا؟ قال: (تسألوني فلا تحضرني فيه نية؛ فتأمروني أن أملي على كاتبي شيئا بلا نية؟!). رواه ابن أبي خيثمة.
§ وقال عبد الله بن أبي صالح المكي: دخل علي طاووس يعودني؛ فقلت: يا أبا عبد الرحمن، ادع الله لي، فقال: (ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه). رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان.
ونستفيد مما ذكر في ورعه:
o أن نعف عما في أيدي الناس، وأن تكون الآخرة هي مرادنا ونسعى لها.
o الصلاة والدعاء في وقت السحر.
o تذكر جهنم وتذكر الآخرة.
o حسن معاملة الناس وإن كانوا من الفقراء.
o أن نزهد فيما عند الحكام ولا تغرنا الدنيا.
o أن نخشع في الصلاة.
o أن يكون طلب حوائجنا من الله عز وجل، وألا نتعلق بالأسباب.
o أن يدعوا الإنسان لنفسه ولغيره.
o استحضار النية في كل قول وعمل.
وكان يكثر من التقنع حتى لا يُعرف.
§ قال عبد الله بن حبيب: (ما رأيت طاوسا إلا مقنعاً). رواه ابن أبي شيبة في كتاب "الأدب".
§ قال خارجة بن مصعب: (كان طاووس يتقنع فإذا كان الليل حسر). رواه ابن سعد.
ونستفيد من ذلك الحذر من الرياء والسمعة.
وصايا طاووس وهيمحفوظة في كتب الزهد، منها:
له وصايا جليلة وهي في نفسها دروس وفوائد ومنها:
وصيته لابنه عبد الله، قال: (يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شيء غاية، وغاية المرء حسن خلقه). رواه أبو نعيم في الحلية.
قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس قال: «من تكن الدنيا هي نيته وأكبر همه يجعل الله فقره بين عينيه، وتفشَّى عليه ضيعته، ومن تكن الآخرة هي نيته وأكبر همه يجعل الله غناه في نفسه، ويجمع عليه ضيعته» رواه ابن المبارك في الزهد.
وقال ابن جريج: قال لي عطاء: قال لي طاووس بن كيسان: (يا عطاء! إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل عليها حجابه، وعليك بمن بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله، ووعدك أن يجيبك). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: ما وعظني أحد أحسن مما وعظني طاووس، كتب إلي: (استعن بأهل الخير يكن عملك خيرا كله، ولا تستعن بأهل الشر فيكن عملك شرا كله). رواه ابن مروان في المجالسة.
وقال سفيان بن عيينة: حدثنا ابن أبي نجيح قال: (رأيت طاووسا لقي أبي فسأله عن حديث، فرأيته يعقد بيده، كأنه يريد أن يحفظه، فقال له أبي: إنَّ لقمان قال: "إن من الصمت حكما، وقليل فاعله".
فقال له طاووس: "أي أبا نجيح، إنَّ من تكلم واتقى الله، خير ممن صمت واتقى الله".
قال: وقال له أبي: لو كان من طولك في قصري، خرج منا رجلان تامان. وكان طاووس طويلا، وكان أبو نجيح قصيراً). رواه أبو زرعة الدمشقي.
من مرويّاته في التفسير
1. قال عبد الملك بن ميسرة: سمعت طاوسا، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن قوله: {إلا المودة في القربى}؛ فقال سعيد بن جبير: "قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم"؛ فقال ابن عباس: عجلتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة» رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير.
2. وقال معمر بن راشد: أخبرنا عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لم أر شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود وابن جرير.
3. وروى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} قال: (هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يتعلل بيمينه، يقول الله: {أن تبروا وتتقوا} خير من أن تمضي على ما لا يصلح). رواه عبد الرزاق وابن جرير
4. وروى ابن جريج، عن طاووس، في قول الله جل وعز: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: (اليسير من كل شيء). رواه ابن جرير.
اساتذته
عن طاوس، قال: «أدركت خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه أبو نعيم في الحلية، ومنهم ابن عباس، وابن عمر.
طلابه
طلابه كثر ومنهم
مولده ووفاته
ولد في اليمن عام 33 هـ.
وتوفي حاجا بالمزدلفة أو بمنى، عام 106 هـ،وكان عمره 73.
وقال ابن شوذب: (شهدت جنازة طاووس بمكة سنة ست ومئة؛ فجعلنا نقول: رحمك الله أبا عبد الرحمن حج أربعين حجة).
وقال سيف بن سليمان: (مات طاوس بمكة قبل يوم التروية بيوم وكان هشام بن عبد الملك قد حج تلك السنة وهو خليفة سنة ست ومائة فصلى على طاووس وكان له يوم مات بضع وتسعون سنة).
المراجع
- تهذيب الأسماء واللغات
- الاعلام للزركلي
- تاريخ ابن أبي خيثمة
- الحلية
- طبقات بن سعد
- العلل للإمام أحمد
- طبقات الفقهاء / لأبو اسحاق
جزاكم الله خير وبوركتم