المجموعة الثالثة:
1: تكلّم عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين".
وهذا الأثر من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يفصح عن عظيم مقام الصديق رضي الله عنه؛ فلقد كان من أحسن وأجل وأعظم ما فعله – رضي الله عنه - جمعه القرآن في مصحف واحد من أماكنه المتفرقة حتى يتمكن القارئ من حفظه كله.
وكان هذا بمشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنه هو الذي نبَّه لذلك لما استحرَّ القتل بالقراء يوم اليمامة حيث قُتل منهم يومئذٍ قريب من خمسمائة، فأشار على الصديق بأن يجمع القرآن لئلا يذهب منه شيء بسبب موت الحفاظ من الصحابة في مواطن القتال، فإذا كُتب وحُفظ صار ذلك محفوظاً فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته.
ولما كان هذا الأمر جليل القدر عظيم الشأن تثبت الصديق من الأمر وراجع فيه عمر بن الخطاب حتى شرح الله صدره له، فوافقه عليه.
أخرج الإمام البخاري بسنده عن زيد بن ثابت أنه قال: "أرسل إليَّ أبو بكر - مقتل أهل اليمامة – فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال: إن القتل استحرَّ بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان عليَّ أثقل مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز) حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم".
وكان من شدة توثقهم وتثبتهم – رضي الله عنهم – في جمع القرآن أن أبا بكر قال لعمر وزيد: "من جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه".
فاستوثقوا لكتاب الله أعظم الاستيثاق، وأدى الجميع الأمانة على أكمل وجه، وكانوا أحرص شيء على أداء الأمانات، وهذا من أعظم الأمانة؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرهم أن يبلغوا من وراءهم فقال: "بلغوا عني ولو آية"، وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب" صلوات الله وسلامه عليه.
فكان زيد بن ثابت يتتبع القرآن يجمعه من العسب واللخاف والأقتاب والرقاع والأكتاف والأضلاع وصدور الرجال، فتلقاه من هذا من عسيبه، ومن هذا من لخافه، ومن صدر هذا، ووجد آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فقبل منه لهذه الفضيلة، ثم إن أبيّ بن كعب أملاها عليهم مع أبي خزيمة، فلم يبق من القرآن شيء إلا وقد اُستوثق منه، ولم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد بلغوه إلينا.
فكان هذا العمل من أعظم المصالح الدينية وأكبرها، فرضي الله عن الصحابة الكرام؛ فلقد بلغوا أوفى البلاغ وأتمه.
2: بيّن معنى التغنّي بالقرآن.
ورد الأمر بالتغني بالقرآن في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن".
وأقوال أهل العلم في المراد بالتغني بالقرآن تدور بين معنيين رئيسين:
أحدهما: أن المراد بالتغني الاستغناء بالقرآن، ومتعلق الاستغناء يرجع إلى أحد شيئين:
الأول: الاستغناء بالقرآن عن الدنيا، الذي هو ضد الفقر، وإليه ذهب سفيان بن عيينة وأبو عبيد القاسم بن سلام.
الآخر: الاستغناء بالقرآن عمَّا عداه من أخبار الأمم الماضية، والاكتفاء به عن الاحتياج لغيره، وعليه يُحمل إيراد المصنف قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) في باب من لم يتغن بالقرآن.
المعنى الثاني: أن المراد بالتغني بالقرآن الجهر به والترنم وتحسين التلاوة والتحزين بها.
وممن قال بهذا القول: الإمام الشافعي نقله عنه المزني والربيع، وهو قول ابن وهب، واختيار ابن كثير.
واستدل أصحاب هذا القول بدلالة الحديث الصحيح المتقدم حيث خُصَّ الأنبياء فيه بالذكر، وإنما خُصُّوا لما يجتمع فيهم من طيب الصوت - لكمال خلقهم - وتمام الخشية.
واستدلوا بما ورد في الحديث الآخر الذي أخرجه ابن ماجه عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته".
واعتضدوا لصحة هذا القول بأنه المعنى اللغوي للتغني، وأنه لو كان المراد الاستغناء لقيل يتغانى به، ذكره الشافعي.
3: أيهما أفضل: القراءة من المصحف أم القراءة عن ظهر قلب؟
صرح كثير من أهل العلم بأن القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب، مستندين في ذلك إلى جملة من الأدلة منها ما يلي:
- أخرج الإمام أبو عبيد بسنده عن عبد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرأه ظهراً كفضل الفريضة على النافلة". إلا أنه ضعيف الإسناد لضعف بعض رواته.
- عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أديموا النظر في المصحف". رواه الإمام أبو عبيد.
- عن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه. رواه الإمام أبو عبيد.
- عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرؤوا وفسر لهم" رواه الإمام أبو عبيد وإسناده صحيح.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ".
- عن الأعمش عن خيثمة قال: دخلت على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف فقال: "هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة".
- أن القراءة من المصحف تشتمل على التلاوة وهي عبادة، وعلى النظر في المصحف وهو عبادة أيضاً – كما صرح به غير واحد من السلف – فكانت أعظم أجراً من القراءة عن ظهر قلب.
- أن السلف كانوا يكرهون أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في المصحف.
- أن القراءة في المصحف يؤمن معها من تعطيل المصاحف.
- أن القراءة في المصحف أثبت من حيث ما قد يقع لبعض الحفظة من نسيان أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير؛ فالاستثبات بالاستذكار من المصحف أولى، إذ الرجوع إليه أثبت من أفواه الرجال.
ويستثنى من هذا التفضيل حالة مخصوصة وهي تلقين القرآن؛ فإن الأحسن فيه أن يكون من فم الملقن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء، ولهذا قيل: لا تأخذ القرآن من مصحفي.
وهذا القول هو اختيار ابن كثير، وأجاب عن صنيع البخاري في إيراده حديث سهل بن سعد الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فما معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا وكذا لسور عددها، قال: "أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟" قال: نعم. قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن" تحت باب القراءة عن ظهر قلب وما تشعر به من تفضيل القراءة عن ظهر قلب بجوابين:
أحدهما: أن هذه قضية عين فيُحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة، فلا دلالة فيه على تفضيل القراءة عن ظهر قلب، إذ لو كان هذا لكان ذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته عن ظهر قلب أولى.
الآخر: أنه لا دلالة في الحديث على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل من التلاوة نظراً ولا عكسه، فإن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ليمكنه تعليمها لزوجته، فهو من باب تلقين القرآن لا تلاوته.
وتوسط بعض أهل العلم في المسألة فذهبوا إلى أن المدار على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة عن ظهر قلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف فهو أفضل، فإن استويا فالقراءة نظراً أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف، وإليه ذهب النووي وحمل عليه كلام السلف وفعلهم.