القارئ:
الحمدُ للهِ وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أصاب عمر أرضا بخيبر , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه , فما تأمرني به ؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) , قال: فتصدق غير أنه لا يُباع أصلها ولا يوهب ولا يورث , قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل و الضيف , لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقا غير متمول فيه . وفي لفظ: غير متأفل .
الشيخ:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد .
هذا حديث يتعلق بالوقف , الوقْف هو تحبيس الأصل وتسبيلُ المنفعةِ, ويكون في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها , فهو من أفضل القربات .
في هذا الحديثِ أنَّ عمرَرضي الله عنه اشترى هذه الأرض وأعجبته ؛ لكونها ذات غلة ، وذات منفعة, وأحبَّ أن يقدمها لآخرته ، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بها , ولكن صدقة لا تباع ولا تبدل ولا تنقل ، بل ينتفع بها مع بقاء عينها ، ولا تجري فيها سهام المواريث ولا يتصرف فيها المالك تصرفا في ملكه المطلق ، بل ينتفع بها مع بقاء أصلها ويتصدق بغلتها , وهذا هو شأن الوقف , جعل غلتها في كل شيء ينفع في الآخرة , جعلها في الفقراء , يعني يُتصدق به على الفقراء والمستضعفين ؛ لأنهم مستحقون وفيهم الأجر لسدِّ حاجتهم ، وكذلك المساكين وهم أخف أمرا من الفقراءِ ، الفقراءُ هم الذين دخلهم أقل من النصف ، والمساكين غالبا دخلهم أكثر من النصف ودون الكل ، والجميع يحتاجون إلى تمام الكفاية ، كذلك ابن السبيل المسافر المنقطع به الذي لم يجد ما يوصله إلى بلدِه ولو كان له في بلده مال ، لكنْ سافر وطال سفره , نفد ما معه أو سُرقت نفقته ، أو طال سفره ولم يكن يظنُّ أنه يطول ، أو ظن أنه يجد ما يرجع به إلى أهله فلم يجد فأصبح منقطعا , ويقالُ له:ابن السبيل ؛ لأن السبيل هي الطريق ، وهو كأنه لملازمته لها ابنا لها . وكذلك الضيف الذي ينزل على أهل القرية له حق الإكرام , أن يقروه , جائزته يومه وليلته . وهكذا أيضا الوجوه العامة الخيرية يصرف فيه الوقف .
فهذا مصرف وقْف عمر أنه جعله في هؤلاء , وكأنه يفضل الأقارب من الفقراء والمساكين ؛ لأن لهم زيادة حق , والصدقة عليهم تسمى صدقة وصلة, ورد في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:((صدقتك على المسكين صدقة , وعلى ذي القربىاثنتان: صدقة ، وصلة)) فلذلك جعل عمر فيها حقا لذوي القربى .
هذا هو مصرف الصدقة , فتكون في غلةِ الشيءِ الذي يمكن استغلاله مع بقاء عينه ، فإذا كان الوقف أرضا تُغل يعني تزرع مثلا ويحصل من زرعها ما يزيد على نفقتها ، فهذا الزائدُ هو الذي يصرف للفقراء والأقارب والمعوزين ، و إذا كان فيها شجر كنخل وعنب ورمان وتين وما أشبهه مما له ثمر ينتفع به يُؤكل أو يباع أو نحو ذلك فثمرته تصرف إما بعد بيعها وإما قبله للمعوزين والمحتاجين , ويكون لصاحبها الذي أوقفها أجر بقدر ما انتُفع بها .
وإذا كان الوقف مثلا دارا جعلها مسكنا , مسكنا للمستضعفين أو غيرهم , صدق عليها أنها وقف , قد ثبت أن الزبير رضي الله عنه أوقف دارا وجعلها للمردودة من بناته يقول: المطلقة من بناته تسكن في هذه الدار ولا تورث ولا تباع .
وكذلك إذا جعل الإنسان دارا موقوفة للمحتاج من أولاده ، أو أولاد أولاده , ذو الحاجة الشديدة ، فهذا ايضا من الوقف الذي ينتفع به مع بقاء عينه ويكون للموقف أجر وهو المراد بالصدقة الجارية , يقول النبيصلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية , أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له)) فبدأ بالصدقة الجارية ، وهي مثل ما ذكرنا , فالدار التي تؤجر ويتصدق بأجرتها صدقة جارية , والأرض التي فيها شجر مثلا أو لها أجرة ، أو فيها ثمرة ، أو نحو ذلك- يتصدق بثمرها وغلتها , هذه صدقة جارية ، وكذلك الأعيان التي ينتفع بها تعتبر أيضا صدقة جارية ، ولو لم يكن فيها غلة ، ولكن ينتفع بها .
فالمساجد مثلا التي يُتعبَّد فيها , إذا بنى الإنسان مسجدا فإنه يعتبر صدقة جارية , وكذلك جيمع المنافع التي يرتفق بها تعتبر من الصدقات الجارية ، فمثلا فُرُش المساجد يرتفق بها المصلون تعتبر من الأوقاف الجارية النافعة , ومكيفاتها مثلا ومرواحها وأنوارها ، ونحو ذلك من الصدقات الجارية .
وهكذا الكتب التي ينتفع بها من الصدقات الجارية ؛ وذلك لأنها باقية ينتفع بها من يقرأ فيها ، أو يسمع منها ، أو نحو ذلك مع بقاء عينها ، فلذلك اعتبرت من الأعمال الخيرية التي يجري أجرها لمن سبلها .
ويقال كذلك في كل الأشياء التي يمكن أن ينتفع بها .كانوا في قديم الزمان يوقفون الأجهزة التي ينتفع بها في المنافع العامة أو الخاصة , فيوقف مثلا الإنسان الأسلحة التي يقاتَل بها في سبيل الله ويرجو بذلك الأجر من الله ، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه , يقول فيه النبيصلى الله عليه وسلم لما قيل أنه منع الزكاة قال:((إنكم تظلمون خالدا ؛ إنه قد حبَّس عتاده)) ، وفي رواية:((وأعبده وسلاحه في سبيل الله)), كان عنده أسلحة قالوا له: أعطنا زكاة هذه الدروع وزكاة هذه الرماح وزكاة هذه السيوف وزكاة هذه الخناجر ونحوها , فامتنع وقال: هذه في سبيل الله , إذا غزونا أعطيت كل سيف أو كل رمح أو كل قوس مَن يقاتل به , فتصبح كأنها غير مملوكة له , ولو كانت في بيته ، فلذلك كان يريد أجرها , فهذه مما ينتفع بها مع بقاء عينها .
كذلك أيضا كانوا يوقفون العتاد لمن يحج إذا كان عاجزا عن الحج ، فيركبونه على الفرس مثلا أو على الراحلة كالناقة الراحلة من الإبل أو نحوها , يقولون: هذه الراحلة هذا البعير مسبل للمجاهدين أو للحجاج ، وكذلك هذا الرحل , الرحال التي كانوا يجعلونها على ظهور الإبل الركائب يسبلونها أيضا لمن ينتفع بها .
وكذلك أيضا الأشياء التي يحتاج إليها في البلد كانوا يوقفونها ، ولا تزال , لا يزال موجودا في هذه البلد أشياء موقوفة ، وإن كان قد قلَّ الانتفاع بها , فيوجد عن القدامى من أهل البلد يوجد عندهم مثلا قدورٌ مسبَّلة لمن يطبخ فيها مثلا، أو أرحية لمن يطحن عليها وهي موقوفة ، أو أسلحة لمن يحتاج إليها ، أو ما أشبه ذلك , فهذه من الأوقاف .
وتجدد أشياء أيضا وقامت مقامها وأصبح يمكن إيقافها ويمكن تسبيلها ، فمثلا بدل ما كانوا يوقفون القربة أصبحوا يوقفون البرادات ونحوها , تقوم مقامها في كونها يحصل بها تبريد المياه لمن يشرب بدل ما يشرب ماء حارا ، كذلك بدل ما كانوا يوقفون المراوح اليدوية أصبحوا يوقفونها كهربائية مراوح كهربائية أو مكيفات أو ما أشبهها , يحصل بها الكفاية ويحصل لمن أوقفها الأجر ، والأجهزة كلها أصبحت فيها أجر .
...ويحصل لمن أوقفها الأجر ، والأجهزة كلها أصبحت فيها أجر حتى مثلا هذه الطاولة التي أوقفها له أجر مثلا , وهذا الجهاز هذه الأجهرة المكبرة ونحوها الذي أوقفها له أجر ، وهذه الفرش في هذه المساجد وهذه الأنوار ونحوها الذي أوقفها يحتسب بذلك الأجر , يجري عليه أجرها مادام ينتفع بها .
المدارس الخيرية التي يدرس فيها القرآن ونحوه ، وكذلك فيها المصاحف والرسائل ونحوها لا شك أيضا أن فيها أجر؛ حيث أنه ينتفع بها , ويلحق بذلك بالرسائل ونحوها , الأشرطة الإسلامية إذا سبلها الإنسان اعتبر له أجر ما دام ينتفع بها,وهكذا يقال .
نقول: هذا الوقف يسمى وقفا منجزا , ليس له أن يرجع فيه ؛ وذلك لأنه أخرجه لله , وإذا أخرجه فإنه يخرج من ملكيَّتِه , سمعنا في آثار عمر أنه قال: غير أنه لا يباع أصلُها , فإذن لا يجوز الرجوع فيها متى أوقفها , لو أن مثلا إنسانا أوقف مكيفات في مسجد ثم إن ذلك المسجد هُدم وألغي لطريق مثلا طرقه أو حاجة إلى توسعة أو نحو ذلك , فهذه الأدوات التي فيه تنقل في مسجد آخر , فليس له أن يرجع في مكيفاته ولا في نوافذه , ولا في فرشه ، ولا في أبوابه ، ولا في مكبره أو الأشياء التي تبرع بها ، لا يجوز له أن يعود فيها ؛ وذلك لأنه أخرجها لله ، فتُصرف إما للوكالة التي تولى ذلك وهي في هذه الأزمنة وزارة الأوقاف ، فإنها التي تتولى غِلال الأوقاف: أشجارا أو عقارا أو ما أشبه ذلك , وإمَّا أن ينقل إلى مسجد آخر أو مرتفق آخر يُنتفع بها , ولا يجوز لصاحبها أن يتملكها .
الإنسان مثلا إذا قال: أُشهدكم أن بيتي هذا وقفٌ منجز , ولكن أسكن فيه ما دمت حيا ، أو يسكن فيه المحتاج من ولدي ، ثم بعد ذلك بدا له أن يعود فيه وأن يبيعه , نقول: لا يجوز لك أن ترجع فيه , لا يجوز لك أن تبيعه ، ولا أن تتملكه؛ لأن كل ما كان وقفا خرج عن ملكية الواقف وأصبح ملكا للمنتفعين به ، أو ليس بملك لأحد ، ولكن غلته لمن ينتفع به ، أو لمن جعل له ، أو يصرف لمن يستحقه .
يجوز أن يتأكدأن يجعل على الوقف ناظر ، الناظر هو الوكيل , إذا كان الوقف مثلا عقارا احتاج إلى ناظر , هذا الناظر هو الذي يؤجره ، وهو الذي يقبض الأجرة , وهو الذي مثلا يستغله ، وهو الذي يعمر منه وهى وما فسدويصلحه ، وهو الذي يصلحه إذا خرب , إذا كان جهازا من الأجهزة يحتاج إلى إصلاح فلابد أن يكون له ناظرا ، هذه الناظر قد يلقى مشقة وتعبا , فلذلك يستحق أن يجعل له جزء من الغلة , فعمر رضي الله عنه في هذا الأثر ذكر أن الذي يليه يجوز له أن يأكل ، ويجوز له أن يطعم صديقه ، أو يطعم زواره ، ولكنَّه لا يتمول منه مالا إنما يأكل منه بقدر نفقته ، أو بقدر تعبه وعمله , وإذا زاره أصدقاؤه أو نحوهم أطعمهم من غلة هذا , من ثمرة هذا الشجر , من فاكهته مثلا , من خضرته ، أو ما أشبهها .
أما أن يتخذ منه مالا فلا , فإذا لم يجدْ إلا بأجرة جاز , جاز أن يقول مثلا: لك من غلته ثلاثة في المائة مثلا أو خمسة في المائة أو ما أشبه ذلك على أن تصلح ما وهى منه , إذا تصدعت حيطانه تصلحها مثلا , إذا وهى سقفه تتعاهده , إذا خربت مثلا أدواته تصلحها أو ما أشبه ذلك , فإذن غالبا أنه بحاجة إلى من يقوم عليه .
فالحاصل أن الذي يوقف هذه الأوقاف يريد بذلك استمرار الأجر ، يأتيه أجرها بعد موته ، ويستمر العمل الصالح له وهو ميت حيث يُنتفع بهذه الأدوات أوبهذه الغلات ، أو ما أشبهها , ويدعو له أيضا الذين ينتفعون بذلك ويترحمون عليه، فيحصل بذلك على أجر , فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم كلُّهم أو أكثرهم جعلوا أوقافا وأحباسا , وعرفت بأحباسهم في مكة وفي المدينة وفي البصرة والكوفة وفي غيرها من المدن والقرى , واستمر الانتفاع بها أزمانا عديدة إلى أن اضمحلت المنفعة بها أو تلاشت وقلَّت , فعند ذلك نقلت إلى غيرها , ولا يزال هناك أوقاف تعرف بأوقاف كذا وكذا , وقد تُجعل في جهة خاصة كأن يقال مثلا: هذا البيت وقْف على هذا المسجد يُعمر به ، أو نحو ذلك ، أو تابع له كوقف على من يصل به ، أو من يؤذن فيه ، أو ما أشبه ذلك ، أو يقال: وقف على الكعبة كالذي يوقف أمواله (غير مسموع) الكعبة ، أو على المسجد الحرام وهي أوقاف كثيرة , أو في شيء خاص كانوا يوقفون مثلا على الأدوات التي يحتاج إليها تابعة للمسجد كمياه الشرب أو مياه الطهارة والوضوء , إما أبارا يحفرونها أو مياها يجرونها لمن يتطهروا في هذا المسجد ، أو ما أشبه ذلك , كل ذلك يلتمسون به بقاء الأجر واستمراره بعد الوفاة .