دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع ( المجموعة الأولى)

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 5 صفر 1441هـ/4-10-2019م, 09:20 PM
إنشاد راجح إنشاد راجح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2016
المشاركات: 732
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس أداء التطبيق الخامس من تطبيقات دورة مهارات التفسير:

إعراب {إن هذان لساحران}

نوع المسألة ومنهجية البحث:
1. هذه المسألة تفسيرية لغوية تتعلق بالإعراب واللغة، والقراءات وربما ( رسم المصحف)، ولذلك فإنّ البحث في كتب المرتبة الخامسة سيكون في كتب القراءات وحروف المعاني والكتب التي اعتنت بذكر لغات العرب.

2. بدأت بالنقل عن الكتب التي تعنى بجمع أقوال السلف في التفسير، ثم بحثت في كل مرتبة من المراتب التي هى مظنة المسألة.
3. بدأت بجمع النقول أولا من جمهرة التفاسير
( وهي النقول التي لوّنت أسماء قائليها باللون الأزرق)، ثمّ أضفت إليها النقول التي تحصلت عليها من المكتبة الشاملة والباحث القرآني ولوّنت أسماء قائليها باللون الأحمر.

4. النقول التي تحصّلت لي في هذه المسألة:
أ: من التفاسير التي تنقل أقوال السلف: جامع البيان لابن جرير، والكشف والبيان للثعلبي، والهدايةلمكي بن أبي طالب، والنكت والعيون للماوردي، والمحرر الوجيز لابن عطية، وزاد المسير لابن الجوزي،وأحكام القرآن للقرطبي، وتفسير ابن كثير.
وقد وجدت فيها جميعا ذكرا للمسألة وكلاما مستفيضا فنقلته.

ب: ومن كتب المرتبة الأولى: معاني القرآن للفراء، ومجاز القرآن لأبي عبيدة، ومعاني القرآن للأخفش الأوسط، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ومعاني القرآن للزجاج، ومعاني القرآن للنحاس، ولم أجد لهذه المسألة ذكرا في تفسير يحيى بن سلام.، فعرجت على تفسير ابن أبي زمنين وهو مختصر لتفسير يحيى بن سلام، فنقلت ما فيه.

ج: ومن كتب المرتبة الثانية: وقفت على المراجع المذكورة في هذه المرتبة فلم أجد فيها بغيتي ماعدا تفسير المشكل من غريب القرآن لمكي بن أبي طالب فنقلت ما فيه.

د: ومن كتب المرتبة الثالثة: لم يكن البحث سهلا لعدم معرفة بأسماء الكتب التي هى مظنة البحث، واكتفيت بما تحصل لي من نقول في المراتب الأخرى.

هـ: ومن كتب المرتبة الرابعة: الكشاف للزمخشري، وحاشية الطيبي على الكشاف، والبحر المحيط لأبي حيان، والدر المصون للسمين الحلبي، والتحرير والتنوير لابن عاشور، وقد وجدت فيها كلها ذكرا للمسألة، فنقلت ما وجدت.

و: ومن كتب المرتبة الخامسة: استعنت بما وجدت في جمهرة العلوم وقد كان كافيا ، فنقلت ما وجدته في مغني اللبيب، ووجوه القرآن والجني الداني، وما ذكره الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة.

ولم يتسنى لي الوقوف على الكتب التي اعتنت بلغات العرب.

أولاً: التعرّف على أقوال السلف في المسألة:
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} قالوا: إن هذان لساحران يعنون بقولهم: إن هذان موسى وهارون، لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
-
كما حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما} يعنون موسى وهارون صلّى اللّه عليهما.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: {إن هذان لساحران} فقرأته عامّة قرّاء الأمصار: ( إنّ هذان ) بتشديد إنّ وبالألف في هذان، وقالوا: قرأنا ذلك كذلك اتباعا لخط المصحف.
واختلف أهل العربية في وجه ذلك إذا قرئ كذلك فكان بعض أهل العربيّة من أهل البصرة يقول: " إن " خفيفةٌ في معنى ثقيلةٍ، وهي لغة لقومٍ يرفعون بها، ويدخلون اللاّم ليفرّقوا بينها وبين الّتي تكون في معنى ما.
وقال بعض نحويّي الكوفة: ذلك على وجهين: أحدهما على لغة بني الحارث بن كعبٍ ومن جاورهم، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف. وقال: أنشدني رجلٌ من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعبٍ:
فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى = مساغًا لناباه الشّجاع لصّمما
قال: وحكي عنه أيضًا: هذا خطّ يدا أخي أعرفه، قال: وذلك وإن كان قليلاً أقيس، لأنّ العرب قالوا: مسلمون، فجعلوا الواو تابعةً للضّمّة، لأنّها لا تعرب، ثمّ قالوا رأيت المسلمين، فجعلوا الياء تابعةً لكسرة الميم، قالوا: فلمّا رأوا الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها، وثبت مفتوحًا، تركوا الألف تتبعه، فقالوا: رجلان في كلّ حالٍ. قال: وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرّجلين، في الرّفع والنّصب والخفض، وهما اثنان، إلاّ بني كنانة، فإنّهم يقولون: رأيت كلي الرّجلين، ومررت بكلي الرّجلين، وهي قبيحة قليلة مضوا على القياس.
قال: والوجه الآخر أن تقول: وجدت الألف من هذا دعامةً، وليست بلام " فعلى " فلمّا بنيت زدت عليها نونًا، ثمّ تركت الألف ثابتةً على حالها لا تزول فى كلّ حالٍ، كما قالت العرب الّذي، ثمّ زادوا نونًا تدلّ على الجمع، فقالوا: الّذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه. قال: وكنانه يقولوا: الذّون.
وقال آخر منهم: ذلك من الجزم المرسل، ولو نصب لخرج إلى الانبساط.
-
وحدّثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى، قال: قال أبو عمرٍو وعيسى بن عمر ويونس، إن هذين لساحران في اللّفظ، وكتب " هذان " كما يزيدون وينقصون فى الكتاب، واللّفظ صوابٌ
قال: وزعم أبو الخطّاب أنّه سمع قومًا من بني كنانة وغيرهم، يرفعون الاثنين في موضع الجرّ والنّصب قال: وقال بشر بن هلالٍ: إن بمعنى الابتداء والإيجاب. ألا ترى أنّها تعمل فيما يليها، ولا تعمل فيما بعد الّذي بعدها، فترفع الخبر ولا تنصبه، كما تنصب الاسم، فكان مجاز " إن هذان لساحران " مجاز كلامين، مخرجه: إنّه: إي نعم، ثمّ قلت: هذان ساحران، ألا ترى أنّهم يرفعون المشترك كقول ضابئٍ:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله = فإنّي وقيّارٌ بها لغريب
وقوله:
إنّ السّيوف غدوّها ورواحها = تركت هوازن مثل قرن الأعضب
قال: ويقول بعضهم: إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النّبيّ، فيرفعون على شركة الابتداء، ولا يعملون فيه إنّ. قال: وقد سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون: إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك. قال: وقرأها قومٌ على تخفيف نون إنّ وإسكانها. قال: ويجوز، لأنّهم قد أدخلوا اللاّم في الابتداء وهي فصلٌ، قال:
أمّ الحليس لعجوزٌ شهربه
قال: وزعم قومٌ أنّه لا يجوز، لأنّه إذا خفّف نون " إنّ " فلا بدّ له من أن يدخل " إلاّ " فيقول: إن هذا إلاّ ساحران.
قال أبو جعفرٍ: والصّواب من القراءة في ذلك عندنا: " إنّ " بتشديد نونها، وهذان بالألف لإجماع الحجّة من القرّاء عليه، وأنّه كذلك هو في خطّ المصحف. ووجهه إذا قرئ كذلك مشابهته الّذين إذ زادوا على الّذي النّون، وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حالةٍ واحدةٍ، فكذلك {إن هذان} زيدت على هذا نونٌ وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حالٍ واحدةٍ، وهي لغة الحارث بن كعبٍ، وخثعمٍ، وزبيدٍ، ومن وليهم من قبائل اليمن.[جامع البيان: 16/97-104]

قال أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427هـ):
وقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «4» وقال بعض النحويين: هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ «5» وقيل: نصب على فعل، تقديره: اعني المقيمين، على معنى: أذكر النازلين وهم الطيبون.
وقال قوم: موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم: معناه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ومن الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقيل معناه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وإلى الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقال بعضهم: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ.
ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون.
قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ «1» إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «2» .

قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قرأ عبد الله: واسرّوا النجوى إن هذان ساحران(٦)بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام، وقرأ ابن كثير وحفص إِنْ بكسر الالف وجزم النون هذانِ بالألف على معنى ما هذان إلّا ساحران، نظيره: قوله وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ(٧)(٨)قال الشاعر:
ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة الرّحمن(٩)
يعني ما قتلت إلّا مسلما، يدل على صحة هذه القراءة قراءة أبي بن كعب: إن ذان إلّا ساحران(١٠)، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء(١١) : إن هذين لساحران بالياء على الأصل، قال أبو عمرو: واني لأستحي من الله أن أقرأ إنّ هذان، وقرأ الباقون: إنّ بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه، فقال قوم بما أخبرنا أبو بكر بن عبدوس وعبد الله بن حامد قالا:
حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا محمد بن الجهم السمري قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء لكِنِ الرَّاسِخُونَ(١٢)وَالْمُقِيمِينَ(١٣)وعن قوله في المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ(١٤)وعن قوله إِنْ هذانِ لَساحِرانِ(١٥)فقالت: يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب.
وقال عثمان بن عفان: إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم.
وقال أبان: قرئت هذه الآية عند عثمان فقال: لحن وخطأ، فقيل له: ألم تغيّره فقال:
دعوه فإنّه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا، وقال آخرون: هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.
قال الفرّاء: أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه.
وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى ... مساغا لناباه الشجاع لصمما(١٦)
ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه. وقال الشاعر:
تزوّد منّا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم(١٧)
أراد بين أذنيه. وقال آخر:
أي قلوص راكب نراها ... طاروا علاهنّ فطر علاها(١٨)
أي عليهن وعليها. وقال آخر:
إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها(١٩)
وروي أنّ أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرّمه فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وصاحبها، يعني نعم. وقال الشاعر:
بكرت عليّ عواذلي يلحينني وألومهنّه ... ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه(٢٠)
أي نعم، وقال الفرّاء: وفيه وجه آخر: وهو أن يقول: وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال، كما قالت العرب: الذي ثمّ زادوا نونا يدلّ على الجمع فقالوا:
الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول: اللّذون. [كشف والبيان عن تفسير القرآن: 16/97-104]

قال مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ)
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾.أي: قالت السحرة في سرهم وتناجيهم: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
وفي حرف ابن مسعود "إن هذان إلا ساحران": أي: ما هذان يخفف "إن" يجعلها بمعنى ما.
ومن شدد "إن" ورفع "هذان"، فقد خرج العلماء فيها سبعة أقوال: فالأول: أن يكون بمعنى نعم. حكى سيبويه أن "إن" تأتي بمعنى أجل. واختار هذا القول المبرد وإسماعيل القاضي والزجاج وعلي بن سليمان.
واستبعد الزجاج قراءة أبي عمرو "إن هذين" لمخالفتها للمصحف.
وقال علي بن أبي طالب: لا أحصي كم سمعت رسول الله ﷺ على منبره يقول: إن الحمدُ لله نحمده ونستعينه، يعني يرفع الحمد يجعل "إن" بمعنى "أجل". ومعنى: أجل: نعم. ثم يقول: أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي سعيد بن إبان بن العاصي. وكذلك كانت خطباء الجاهلية تفتتح خطبها بـ "نعم"، وكذلك وقعت في أشعارها. قال الشاعر:
قالت غدرت، فقلت: إن وربما ∗∗∗ نال العُلي وشقى الخليل الغادر
وقال ابن قيس الرقيات:
بكرت على عواذ لي ∗∗∗ يلحينني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك ∗∗∗ وقد كبرت فقلت إنه
وأنشد ثعلب:
ليت شعري هل للمحب شفاء ∗∗∗ من جوى حبهن إن اللقاء.
أي: نعم.
فهذا قول حسن لولا دخول اللام في الخبر.
وقد قيل: إن اللام يراد بها التقديم، وهو أيضاً بعيد، إنما يجوز التقديم في اللام وهي مؤخرة في الشعر.
لكن الزجاج قال: التقدير: نعم هذان لهما ساحران. فتكون اللام داخلة على الابتداء في المعنى، كما قال: أم الحليس لعجوز شهربة.
وقيل: إن اللام يراد بها التقديم.
وقيل: هي في موضعها، و "لعجوز" مبتدأ، وشهربة الخبر، والجملة خبر عن اللام.
والقول الثاني: ما حكاه أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء أنها لغة لبني الحارث بن كعب، يقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، وأنشدوا.
- فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ∗∗∗ مساغاً لنا باه الشجاع لصمماً
وأنشدوا أيضاً:
- تزود منا بين أذناه طعنة على ∗∗∗ رأسه تلقى العظام من الفم.
وحكى أبو الخطاب أنها لغة لبني كنانة.
وحكى غيره أنها لغة خثعم. وهذا القول قول، حسن، لا نطعن فيه لثقة الناقلين لهذه اللغة، وتواتر نقلهم واتفاقهم على ذلك، وقد نقلها أبو زيد، وكان سيبويه إذا قال حدثني من أثق به، فإياه يعني.
ورواه الأخفش، وهو ممن روى عنه سيبويه، وقول سيبويه في ألف التثنية أنها حرف الأعراب، يدل على أن حكمها لا تتغير عن لفظها، كما لا تتغير الدال من زيد، فجاءت في هذه الآية على الأصل، كما جاء "استحوذ" على الأصل.
والقول الثالث: قاله الفراء. قال: الألف في "هذان" دعامة، ليست بلام الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت "الذي" ثم زدت عليه نوناً، ولم أغيرها، فقلت "الذين" في الرفع والنصب والجر.
والقول الرابع: يحكى عن بعض الكوفيين أن الألف في هذان مشبهة بألف يفعلان، فلم تغير كما لا يغير ألف يفعلان.
والقول الخامس: حكاه الزجاج. قال: القدماء يقولون: الهاء مضمرة ها هنا، والمعنى: أنه هذان لساحران، ويعترض هذا القول دخول اللام في الخبر.
والقول السادس: قاله ابن كيسان، قال: سألني إسماعيل ابن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي، أنه لما كان يقال هذا في موضع الرفع والنصب والجر، وكانت التثنية يجب ألا تغير، أجريت التثنية مجرى الواحد. فقال إسماعيل: ما أحسن هذا، لو تقدمك أحد بالقول به، حتى تؤنس به. فقلت: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم.
والقول السابع: حكاه أبو عمرو وغيره، أنه من غلط الكاتب.
روي أن عثمان وعائشة رضي الله عنهما قالا: إن في الكتاب غلطاً ستقيمه العرب بألسنتها.
وعنهما: إن في الكتاب لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا القول قد طعن فيه، لأن أصحاب النبي ﷺ قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين، فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط.
فأما من خفف "إن" فإنه رفع ما بعدها، لنقصها عن وزن الفعل ويجوز أن يكون أعملها مخففة على الثقيلة، كما يعمل الفعل محذوفاً عمله وهو غير محذوف، إلا أنه أتى بـ "هذان"، على الوجوه التي ذكرنا، فأتى بالألف في النصب.
فأما من شدد نون "هذان"، فإنه جعل التشديد عوضاً مما حذف من هذا في التثنية.
وعن الكسائي والفراء في: "إن هذان" قولان تركنا ذكرهما لبعد تأويلهما في ذلك. [الهداية إلى بلوغ النهاية : 7/4657- 4663]
قال أبو الحسن علي بن محمد البغدادي،الماوردي (ت: 450هـ)
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ هَذِهِ قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو وهي مُوافِقَةٌ لِلْإعْرابِ مُخالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ.
وَقَرَأ الأكْثَرُونَ: إنْ هَذانَ السّاحِرانِ، فَوافَقُوا المُصْحَفَ فِيها، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَشْدِيدِ إنَّ فَخَفَّفَها ابْنُ كَثِيرٍ وحَفْصٌ فَسَلِما بِتَخْفِيفِ إنَّ مِن مُخالَفَةِ المُصْحَفِ ومِن فَسادِ الإعْرابِ، ويَكُونُ مَعْناها: ما هَذانِ إلّا ساحِرانِ.
وَقَرَأ أُبَيٌّ: إنَّ ذانِ إلّا ساحِرانِ، وقَرَأ باقِي القُرّاءِ بِالتَّشْدِيدِ: إنَّ هَذانَ لَساحِرانِ.
فَوافَقُوا المُصْحَفَ وخالَفُوا ظاهِرَ الإعْرابِ.
واخْتَلَفَ مَن قَرَأ بِذَلِكَ في إعْرابِهِ عَلى أرْبَعَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ هَذا عَلى لُغَةِ بِلْحارِثِ بْنِ كَعْبٍ وكِنانَةَ بْنِ زَيْدٍ يَجْعَلُونَ رَفْعَ الإثْنَيْنِ ونَصْبَهُ وخَفْضَهُ بِالألِفِ، ويُنْشِدُونَ:
فَأطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولَوْ رَأى ∗∗∗ مَساغًا لِناباهُ الشُّجاعِ لَصَمَّما
والوَجْهُ الثّانِي: لا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ القُرْآنُ عَلى ما اعْتَلَّ مِنَ اللُّغاتِ ويُعْدَلُ بِهِ عَنْ أفْصَحِها وأصَحِّها، ولَكِنْ في (إنَّ) هاءٌ مُضْمَرَةٌ تَقْدِيرُها إنَّهُ هَذانِ لَساحِرانِ، وهو قَوْلُ مُتَقَدِّمِي النَّحْوِيِّينَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ بَنى (هَذانِ) عَلى بِناءٍ لا يَتَغَيَّرُ في الإعْرابِ كَما بَنى الَّذِينَ عَلى هَذِهِ الصِّيغَةِ في النَّصْبِ والرَّفْعِ.
الرّابِعُ: أنَّ (إنَّ) المُشَدَّدَةَ في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى نَعَمْ، كَما قالَ رَجُلٌ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: لَعَنَ اللَّهُ ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ، فَقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إنَّ وصاحِبَها.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقُيّاتِ
بَكى العَواذِلُ في الصَّبا ∗∗∗ حِ يَلُمْنُنِي وألُومُهُنَّهْ ∗∗∗ ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا ∗∗∗ كَ وقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ أيْ نَعَمْ. [النكت والعيون:3/411]

قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {إن هذان لساحران} الآية. قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "إن" مشددة النون "هذان" بألف ونون مخففة للتثنية، وقرأ أبو عمرو وحده: "إن هذين لساحران"، وقرأ ابن كثير: "إن هذان لساحران" بتخفيف نون "إن" وتشديد نون "هذان لسحران"، وقرأ حفص عن عاصم: "إن" خفيفة "هذان" خفيفة أيضا "لساحران". وقرأت فرقة: "إن هذان إلا ساحران"، وقرأت فرقة: "إن ذان لساحران"، وقرأت فرقة: "ما هذان إلا ساحران"، وقرأت فرقة: "إن هذان" بتشديد النون من "هذان".
فأما القراءة الأولى، فقالت فرقة: "إن" بمعنى: نعم، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: إن الحمد لله برفع "الحمد"، وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: "إن وراكبها" حين قال له الرجل: لعن الله ناقة حملتني إليك، ويدخل في هذا التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الابتداء، وهو مما يجوز في الشعر، ومنه قول الشاعر:
أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبه

وذهبت فرقة إلى أن هذه الآية بلغة بني الحارث بن كعب، وهو إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض، فمن ذلك قول الشاعر:
زود منها بين أذناه طعنة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
وقول الآخر:
أطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشجاع لصمها

وتعزى هذه اللغة لكنانة، وتعزى لخثعم، وقال الفراء: الألف في "هذان" دعامة وليست بمجلوبة للتثنية، وإنما هي ألف "هذا" تركت في حال التثنية، كما نقول: "الذي" ثم في الجمع نزيد نونا وتترك الياء في حال النصب والرفع والخفض، وقال الزجاج: في الكلام ضمير تقديره: إنه هذان لساحران.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر، وقال بعض النحاة: ألف "هذان" مشبهة هنا بألف تفعلان، وقال ابن كيسان: لما كان "هذا" بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته هنا كذلك. وقالت جماعة - منهم عائشة رضي الله عنها - وأبو عمرو -: هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من "إن".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه الأقوال معترضة، إلا ما قيل من أنها لغة، و"إن" بمعنى: أجل ونعم، أو "إن" في الكلام ضمير.
وأما من قرأ: "إن" خفيفة، فهي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم، ويقول الفراء: هي بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا" ووجه سائر القراءات بين.
وعبر كثير من المفسرين عن "الطريقة" بـ "السادة"، وأنما يراد أهل العقل والسن والحجى، وحكي أن العرب تقول: "فلان طريقة قومه"، أي: سيدهم، والأظهر في الطريقة هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي عليها، و"المثلى" تأنيث أمثل، أي: الفاضلة الحسنة). [المحرر الوجيز: 6/108]


قال ابن الجوزي ( ت: 597هــ ) :واخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ تَعالى
: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾، فَقَرَأ أبُو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ: ( إنَّ هَذَيْنَ ) عَلى إعْمالِ ( إنَّ )، وقالَ: إنِّي لَأسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أنْ أقْرَأ ( إنَّ هَذانِ ) . وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ( إنْ ) خَفِيفَةً ( هَذانِّ ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: ( إنْ ) خَفِيفَةً ( هَذانِ ) خَفِيفَةً أيْضًا. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ( إنَّ ) بِالتَّشْدِيدِ ( هاذانِ ) بِألِفٍ ونُونٍ خَفِيفَةٍ. فَأمّا قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو فاحْتِجاجُهُ في مُخالَفَةِ المُصْحَفِ بِما رُوِيَ عَنْ عُثْمانَ وعائِشَةَ، أنَّ هَذا مِن غَلَطِ الكاتِبِ عَلى ما حَكَيْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ في سُورَةِ [ النِّساءِ: ١٦٢ ] . وأمّا قِراءَةُ عاصِمٍ فَمَعْناها: ما هَذانِ إلّا ساحِرانِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ [ الشُّعَراء: ١٨٦ ]؛ أيْ: ما نَظُنُّكَ إلّا مِنَ الكاذِبِينَ، وأنْشَدُوا في ذَلِكَ:
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا ∗∗∗ حَلَّتْ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ المُتَعَمِّدِ
أيْ: ما قَتَلْتَ إلّا مُسْلِمًا. قالَ الزَّجّاجُ: ويَشْهَدُ لِهَذِهِ القِراءَةِ ما رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أنَّهُ قَرَأ: ( ما هَذانِ إلّا ساحِرانِ )، ورُوِيَ عَنْهُ: ( إنْ هَذانِ إلّا ساحِرانِ )، ورُوِيَتْ عَنِ الخَلِيلِ: ( إنْ هَذانِ ) بِالتَّخْفِيفِ، والإجْماعُ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ أعْلَمَ بِالنَّحْوِ مِنَ الخَلِيلِ. فَأمّا قِراءَةُ الأكْثَرِينَ بِتَشْدِيدِ ( إنْ ) وإثْباتِ الألِفِ في قَوْلِهِ: ( هَذانِ )، فَرَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: هي لُغَةُ بَلْحارِثِ بْنِ كَعْبٍ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هي لُغَةٌ لِبَنِي الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ وافَقَتْها لُغَةُ قُرَيْشٍ. قالَ الزَّجّاجُ: وحَكى أبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي الخَطّابِ، وهو رَأْسٌ مِن رُؤُوسِ الرُّواةِ: أنَّها لُغَةٌ لِكِنانَةَ، يَجْعَلُونَ ألِفَ الِاثْنَيْنِ في الرَّفْعِ والنَّصْبِ والخَفْضِ عَلى لَفْظٍ واحِدٍ، يَقُولُونَ: أتانِي الزَّيْدانِ، ورَأيْتُ الزَّيْدانِ، ومَرَرْتُ بِالزَّيْدانِ، وأنْشَدُوا:
فَأطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولَوْ رَأى ∗∗∗ مَساغًا لَناباهُ الشُّجاعُ لَصَمَّما
وَيَقُولُ هَؤُلاءِ: ضَرَبْتُهُ بَيْنَ أُذُناهُ. وقالَ النَّحْوِيُّونَ القُدَماءُ: هاهُنا هاءٌ مُضْمَرَةٌ، المَعْنى: إنَّهُ هَذانِ لَساحِرانِ. وقالُوا أيْضًا: إنَّ مَعْنى ( إنْ ): نَعَمْ هَذانِ لَساحِرانِ، ويُنْشِدُونَ:
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا ∗∗∗ كَ وقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ
قالَ الزَّجّاجُ: والَّذِي عِنْدِي وكُنْتُ عَرَضْتُهُ عَلى عالِمِنا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، وعَلى إسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَبِلاهُ وذَكَرا أنَّهُ أجْوَدُ ما سَمِعْناهُ في هَذا، وهو أنَّ ( إنْ ) قَدْ وقَعَتْ مَوْقِعَ ( نَعَمْ )، والمَعْنى: نَعَمْ هَذانِ لَهُما السّاحِرانِ، ويَلِي هَذا في الجَوْدَةِ مَذْهَبُ بَنِي كِنانَةَ، وأسْتَحْسِنُ هَذِهِ القِراءَةَ؛ لِأنَّها مَذْهَبُ أكْثَرِ القُرّاءِ وبِها يُقْرَأُ، وأسْتَحْسِنُ قِراءَةَ عاصِمٍ والخَلِيلِ؛ لِأنَّهُما إمامانِ ولِأنَّهُما وافَقا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ في المَعْنى، ولا أُجِيزُ قِراءَةَ أبِي عَمْرٍو لِخِلافِ المُصْحَفِ. وحَكى ابْنُ الأنْبارِيِّ عَنِ الفَرّاءِ، قالَ: ألِفُ ( هَذانِ ) هي ألِفُ ( هَذا )، والنُّونُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الواحِدِ والتَّثْنِيَةِ، كَما فَرَّقَتْ نُونُ ( الَّذِينَ ) بَيْنَ الواحِدِ والجَمْعِ. [زاد المسير: 3/164]

قال شمس الدين القرطبي (ت: 671هـ)
قوله تعالى: (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [٢٠: ٦٣] قرأ أبو عمرو "إِنَّ هَذَيْنَ لَسَاحِرَانِ". وَرُوِيَتْ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمِنَ الْقُرَّاءِ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَعَاصِمُ الْجَحْدَرِيُّ، فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُوَافِقَةٌ لِلْإِعْرَابِ مُخَالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ: فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ" إِنْ هذانِ [٢٠: ٦٣] "بِتَخْفِيفِ" إِنْ" "لَساحِرانِ" وَابْنُ كَثِيرٍ يُشَدِّدُ نُونَ "هَذَانَ". وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ سَلِمَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُصْحَفِ وَمِنْ فَسَادِ الْإِعْرَابِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَا هَذَانَ إِلَّا سَاحِرَانِ. وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ: "إِنَّ هَذَانِ" بِتَشْدِيدِ "إِنَّ"" لَساحِرانِ [٢٠: ٦٣] "فَوَافَقُوا الْمُصْحَفَ وَخَالَفُوا الْإِعْرَابَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذِهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ قَدْ رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ" إِنْ هَذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ "وَقَالَ الْكِسَائِيُّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ:" إِنْ هَذَانِ سَاحِرَانِ "بِغَيْرِ لَامٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي حَرْفِ أُبَيٍّ" إِنْ ذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ" فَهَذِهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ أُخْرَى تُحْمَلُ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا أَنَّهَا جَائِزٌ أَنْ يُقْرَأَ بِهَا لِمُخَالَفَتِهَا الْمُصْحَفَ. قُلْتُ: وَلِلْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي آخِرِ كِتَابِ الرَّدِّ لَهُ، وَالنَّحَّاسُ فِي إِعْرَابِهِ، وَالْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَغَيْرُهُمْ أَدْخَلَ كَلَامَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَقَدْ خَطَّأَهَا قَوْمٌ حَتَّى قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ الله [تعالى(٢)أَنْ أَقْرَأَ" إِنْ هذانِ [٢٠: ٦٣]". وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى "لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ"(٣)ثُمَّ قَالَ: "وَالْمُقِيمِينَ"(٤)وَفِي "الْمَائِدَةِ" ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾(٥) [المائدة: ٦٩]وَ" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [٢٠: ٦٣] "فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذَا خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ ابن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الْمُصْحَفِ لَحْنٌ وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ: لَحْنٌ وَخَطَأٌ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَلَا تُغَيِّرُوهُ؟ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ حلالا ولا يحلل حرما. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأَقْوَالِ السِّتَّةِ: أَنَّهَا لُغَةُ بنى الحرث بْنِ كَعْبٍ وَزُبَيْدٍ وَخَثْعَمَ. وَكِنَانَةَ بْنِ زَيْدٍ يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف، يَقُولُونَ: جَاءَ الزَّيْدَانِ وَرَأَيْتُ الزَّيْدَانِ وَمَرَرْتُ بِالزَّيْدَانِ، ومنه قوله تعالى:" وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [١٠: ١٦]" [يونس: ١٦]عَلَى مَا تَقَدَّمَ(٦). وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ(٧) - قَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا(٨)
وَيَقُولُونَ: كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عَلَاهُ، بمعنى يديه وعليه، قال شاعرهم:(٩)
تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إِلَى هابي التراب عقيم
وَقَالَ آخَرُ:(١٠)
طَارُوا عَلَاهُنَّ فَطِرْ عَلَاهَا
أَيْ عَلَيْهِنَّ وَعَلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُ:(١١)
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا
أَيْ إن أبا أبيها وغايتها. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ مَعْرُوفَةً، وَقَدْ حَكَاهَا مَنْ يُرْتَضَى بِعِلْمِهِ وَأَمَانَتِهِ، مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: إِذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ فَإِنَّمَا يَعْنِينِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ الْأَخْفَشُ وَهُوَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ اللُّغَةِ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بْنِ كَعْبٍ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّ هَذِهِ لُغَةُ بَنِي كِنَانَةَ. الْمَهْدَوِيُّ: وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةٌ لِخَثْعَمَ. قَالَ النَّحَّاسُ وَمِنْ أَبْيَنِ مَا فِي هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا ثَنَّيْتَ الْوَاحِدَ زِدْتَ عَلَيْهِ زَائِدَتَيْنِ، الْأُولَى مِنْهُمَا حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ وَهُوَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ، يُوجِبُ أَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا يتغير، فيكون "إن هذان" جاء عَلَى أَصْلِهِ لِيُعْلَمَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ﴾(١٢) [المجادلة: ١٩]وَلَمْ يَقُلِ اسْتَحَاذَ، فَجَاءَ هَذَا لِيَدُلَّ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ "إِنْ هَذَانِ" وَلَا يُفَكَّرُ فِي إنكار من أنكر هذه اللغة إذ كَانَ الْأَئِمَّةُ قَدْ رَوَوْهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ "إِنْ" بِمَعْنَى نَعَمْ، كَمَا حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: الْعَرَبُ تَأْتِي بِ"- إِنْ "بِمَعْنَى نَعَمْ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ" إِنْ" تَأْتِي بِمَعْنَى أَجَلْ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي يَذْهَبَانِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ وَعَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَذْهَبَانِ إِلَيْهِ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ أُعْجِبَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ. النَّحَّاسُ: وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ النَّيْسَابُورِيُّ، ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ الله بن أحمد [هذا(١٣)فَحَدَّثَنِي، قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، قَالَ حدثنا محمد ابن موسى النوفلي من ولد حرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ جميع الكوفي عن جعفر ابن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ- وَهُوَ ابْنُ الْحُسَيْنِ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ: لَا أُحْصِي كَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِهِ: "إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ" ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا أَفْصَحُ قريش كلها وأفصحها بعدي أبان ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَفَّافُ قَالَ عُمَيْرٌ: إِعْرَابُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ "إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ" بِالنَّصْبِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ "إِنَّ" فِي مَعْنَى نَعَمْ كَأَنَّهُ أَرَادَ ﷺ نَعَمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح [في(١٤)خُطَبَهَا بِنَعَمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي مَعْنَى نَعَمْ:
قَالُوا غَدَرْتَ فَقُلْتُ إِنَّ وَرُبَّمَا ... نَالَ الْعُلَا وَشَفَى الْغَلِيلَ الْغَادِرُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسُ الرُّقَيَّاتِ:
بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا ... حَ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
فَعَلَى هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ" بِمَعْنَى نَعَمْ وَلَا تُنْصَبُ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَنْشَدَنِي دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ أَنْشَدَنِي ثَعْلَبٌ:
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لِلْمُحِبِّ شِفَاءٌ ... مِنْ جوى حبهن إن اللقاء
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: نَعَمْ زَيْدٌ خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وَإِنْ كَانَ النَّحْوِيُّونَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: اللَّامُ يُنْوَى بِهَا التَّقْدِيمُ، كَمَا قَالَ:
خَالِي لَأَنْتَ وَمَنْ جَرِيرٌ خَالُهُ ... يَنَلِ الْعَلَاءَ وَيُكْرِمِ الْأَخْوَالَا
آخَرُ:
أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى مِنَ الشَّاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
أَيْ لَخَالِي وَلَأُمِّ الْحُلَيْسِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ إِنَّ هَذَانِ لَهُمَا سَاحِرَانِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ. الْمَهْدَوِيُّ: وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: "هُمَا" الْمَحْذُوفُ لَمْ يُحْذَفْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَقَدِ اسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِاللَّامِ، وَيَقْبُحُ أَنْ تَحْذِفَ الْمُؤَكَّدَ وَتَتْرُكَ الْمُؤَكِّدَ. الْقَوْلُ الثالث: قاله الفراء أيضا [قال(١٥): وَجَدْتُ الْأَلِفَ دِعَامَةً لَيْسَتْ بِلَامِ الْفِعْلِ فَزِدْتُ عَلَيْهَا نُونًا وَلَمْ أُغَيِّرْهَا كَمَا قُلْتُ: "الَّذِي" ثُمَّ زِدْتُ عَلَيْهِ نُونًا فَقُلْتُ: جَاءَنِي الَّذِينَ عِنْدَكَ، وَرَأَيْتُ الَّذِينَ عِنْدَكَ، وَمَرَرْتُ بِالَّذِينَ عِنْدَكَ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَالَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ قَالَ الْأَلِفُ فِي "هَذَانَ" مُشَبَّهَةٌ بِالْأَلِفِ فِي يَفْعَلَانِ فَلَمْ تُغَيَّرْ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: النَّحْوِيُّونَ القدماء يقولون الهاء ها هنا مُضْمَرَةٌ، وَالْمَعْنَى إِنَّهُ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَأُضْمِرَتِ الْهَاءُ الَّتِي هِيَ مَنْصُوبُ "إِنْ" وَ" هذانِ [٢٠: ٦٣] "خَبَرُ" إِنْ "وَ" سَاحِرَانِ "يَرْفَعُهَا" هُمَا" الْمُضْمَرُ [وَالتَّقْدِيرُ(١٦)إِنَّهُ هَذَانَ لَهُمَا سَاحِرَانِ. وَالْأَشْبَهُ(١٧)عِنْدَ أَصْحَابِ أَهْلِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْهَاءَ اسْمُ "إِنْ" وَ "هذانِ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَسَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَجَبْتُكَ بِجَوَابِ النَّحْوِيِّينَ، وَإِنْ شِئْتَ أَجَبْتُكَ بِقَوْلِي، فَقُلْتُ: بِقَوْلِكَ، فَقَالَ: سَأَلَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهَا فَقُلْتُ: الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُقَالُ: "هَذَا" فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانَتِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَلَّا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ تَقَدَّمَكَ أَحَدٌ بِالْقَوْلِ بِهِ حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَيَقُولُ الْقَاضِي بِهِ حَتَّى يؤنس به، فتبسم. [الجامع لأحكام القرآن الكريم: 11/ 216-219]


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالوا إن هذان لساحران} هذه لغةٌ لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ: "إن هذين لساحران" وهذه اللّغة المشهورة، وقد توسّع النّحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه.
والغرض أنّ السّحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أنّ هذا الرّجل وأخاه -يعنون: موسى وهارون- ساحران عالمان خبيران بصناعة السّحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على النّاس، وتتبعهما العامّة ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} أي: ويستبدّا بهذه الطّريقة، وهي السّحر، فإنّهم كانوا معظّمين بسببها، لهم أموالٌ وأرزاقٌ عليها، يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض، وتفرّدا بذلك، وتمحّضت لهما الرّياسة بها دونكم.
وقد تقدّم في حديث الفتون عن ابن عبّاسٍ [قال] في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} يعني: ملكهم الّذي هم فيه والعيش.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا هشيم، عن عبد الرّحمن بن إسحاق، سمع الشّعبيّ يحدّث عن عليٍّ في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال: يصرفا وجوه النّاس إليهما.
وقال مجاهدٌ: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال: أولي الشّرف والعقل والأسنان.
وقال أبو صالحٍ: {بطريقتكم المثلى} أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة: بخيركم. وقال قتادة: وطريقتهم المثلى يومئذٍ بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالًا فقال عدوّ الله: يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما.
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {بطريقتكم المثلى} بالّذي أنتم عليه).[تفسير القرآن العظيم: 5/ 301-302]

كتب المرتبة الأول: كتب معاني القرآن:
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إن هذان لساحران...}قد اختلف فيه القراء فقال بعضهم: هو لحن ولكنا نمضي عليه لئلاّ نخالف الكتاب. ... حدثني أبو معاوية الضرير، عن هاشم بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة أنها سئلت عن قوله في النساء {لكن الراسخون في العلم منهم .... والمقيمين الصلاة}وعن قوله في المائدة {إن الذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئون}وعن قوله: {إنّ هذان لساحران}فقالت: يا بن أخي هذا كان خطأ من الكاتب. وقرأ أبو عمرو {إنّ هذين لساحران} واحتجّ أنه بلغه عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب.
...
ولست أشتهي على (أن أخالف الكتاب وقرأ بعضهم {إن هذان لساحران}خفيفة وفي قراءة عبد الله: (وأسروا النجوى أن هذان ساحران) وفي قراءة أبيّ (إن ذان إلاّ ساحران) فقراءتنا بتشديد (إنّ) وبالألف على جهتين.
إحداهما على لغة بني الحارث بن كعب: يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف وأنشدني رجل من الأسد عنهم. يريد بني الحارث:

فأطرق إطراق الشجاع ولو يرىمـسـاغـاً لـنـابـاه الـشـجـاع لصـمّـمـا

قال: وما رأيت أفصح من هذا الأسديّ وحكى هذا الرجل عنهم: هذا خطّ يدا أخي بعينه. وذلك - وإن كان قليلاً - أقيس؛ لأنّ العرب قالوا: مسلمون فجعلوا الواو تابعة للضمّة (لأن الواو لا تعرب) ثم قالوا: رأيت المسلمين فجعلوا الياء تابعة لكسرة الميم. فلمّا رأوا أن الياء من الاثنين لا يمكنهم كسر ما قبلها، وثبت مفتوحاً: تركوا الألف تتبعه،
فقالوا: رجلان في كل حال. وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرجلين في الرفع والنصب والخفض وهما اثنان، إلاّ بني كنانة فإنهم يقولون: رأيت كلى الرجلين ومررت بكلى الرجلين. وهي قبيحة قليلة، مضوا على القياس.
والوجه الآخر أن تقول: وجدت الألف (من هذا دعامة وليست بلام فعل، فلمّا ثنيت زدت عليها نوناً ثم تركت الألف) ثابتة على حالها لا تزول على كلّ حال؛ كما قالت العرب (الذي) ثم زادوا نوناً تدلّ على الجماع، فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم كما تركوا (هذان) في رفعه ونصبه وخفضه. وكنانة يقولون (اللّذون) ). [معاني القرآن: 2/184،183]

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إنّ هذان لساحران}قال أبو عمرو وعيسى ويونس " إنّ هذين لساحران " في اللفظ وكتب " هذان " كما يزيدون وينقصون في الكتاب واللفظ صواب، وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوماً من بني كنانة وغيرهم يرفعون الاثنين في موضع الجر والنصب، قال بشر بن هلال " إنّ " بمعنى الابتداء والإيجاب، ألا ترى أنها تعمل فيما يليها ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها فترفع الخبر ولا تنصبه كما تنصب الاسم فكان مجازه " إنّ [مجاز القرآن: 2/21]
{هذان لساحران}مجاز كلامين، مخرجه: إنه أي نعم، ثم قلت: هذان ساحران، ألا ترى أنهم يرفعون المشرك كقوله:

فمن يك أمسى بالمدينة رحلهفــــإنـــــيّ وقــــيّـــــارٌ بــــهـــــا لـــغـــريـــب

وقوله:
إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأسودمـــــــــا لـــــــــم يــــعـــــاص كـــــــــان جـــنـــونـــا

وقوله:
إنّ الـســيــوف غــدوّهـــا ورواحـــهـــاتركت هوزان مثل قرن الأعضب

ويقول بعضهم " إنّ الله وملائكته يصلون على النّبي " فيرفعون ملائكته على شركة الابتداء ولا يعملون فيها " إن "، وقال سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون: إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له.
وقرأها قومٌ على تخفيف نون " إن " وإسكانها وهو يجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فضل، قال:
أم الحليس لعجوزٌ شهربه وزعم قومٌ أنه لا يجوز لأنه إذا خفف نون " إن " فلا بد له من أن يدخل إلا فيقول: إن هذان إلا ساحران). [مجاز القرآن: 2/23،22]

قال أبو الحسن البلخي، الأخفش الأوسط (المتوفى: 215هـ): قال {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} خفيفة في معنى ثقيلة. وهي لغة لقوم يرفعون ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى "ما" ونقرؤها ثقيلة وهي لغة لبني الحارث بن كعب. [ معني القرآن: 2-433/444]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (باب ما ادّعي على القرآن من اللحن، وأما ما تعلَّقوا به من حديث عائشة رضي الله عنها في غَلَطِ الكاتب، وحديث عثمان رضي الله عنه: أرى فيه لَحْناً- فقد تكلم النحويون في هذه الحروف، واعتلُّوا لكلِّ حرف منها، واستشهدوا الشعرَ: فقالوا: في قوله سبحانه: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}وهي لغة بلحرث بن كعب يقولون: مررت برجلان، وقبضت منه درهمان، وجلست بين يداه، وركبت علاه. وأنشدوا:

تــزوّد مـنَّـا بـيــن أذنـــاه ضـربــةدعته إلى هابي التراب عقيم

أي موضع كثير التراب لا ينبت.
وأنشدوا:

أيَّ قـلــوصِ راكـــبِ تـراهــاطارُوا علاهنَّ فَطِرْ عَلاها

على أنَّ القراءَ قد اختلفوا في قراءة هذا الحرف: فقرأه أبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر: «إنّ هذين لساحران» وذهبا إلى أنه غلط من الكاتب كما قالت عائشة.
وكان عاصم الجحدريّ يكتب هذه الأحرف الثلاثة في مصحفه على مثالها في الإمام، فإذا قرأها، قرأ: «إنَّ هذين لساحران»، وقرأ {المقيمون الصلاة}،
وقرأ {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ}.
وكان يقرأ أيضا في سورة البقرة: {والصابرون فى البأساء والضراء} ويكتبها: الصابرين.
وإنما فرق بين القراءة والكتاب لقول عثمان رحمة الله: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها فأقامه بلسانه، وترك الرسم على حاله.
وكان الحجَّاجُ وكَّلَ عاصماً وناجِيَةَ بنَ رُمْحٍ وعليَّ بنَ أصمعَ بتَتَبُّعِ المصاحفِ، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفاً لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهماً.
خبّرني بذلك أبو حاتم عن الأصمعيِّ قال: وفي ذلك يقول الشاعر:

وإلا رســـومُ الـــدّار قــفــراً كـأنّـهــاكتابٌ مَحَاهُ البَاهليُّ بنُ أَصْمَعَا

وقرأ بعضهم: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ}اعتباراً بقراءة أُبيّ لأنها في مصحفه: «إن ذان إلا ساحران» وفي مصحف عبد الله: (وأسرّوا النّجوى أن هذان ساحران) منصوبة بالألف يجعل (أن هذان) تبيينا للنجوى). [تأويل مشكل القرآن: 50-52]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى}
{إن هذان لساحران}.
يعنون موسى وهارون. وهذا الحرف من كتاب اللّه عزّ وجلّ مشكل على أهل اللغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر بما نظن أنه الصواب واللّه أعلم، وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القراء أما قراءة أهل المدينة والأكمه في القراءة فبتشديد (إنّ) والرفع في (هذان) وكذلك قرأ أهل العراق حمزة وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش والمدنيون.
وروي عن عاصم: إن هذان بتخفيف (إن)، ويصدّق ما قرأه عاصم في هذه القراءة ما يروى عن أبيّ فإنه قرأ: ما هذان إلّا ساحران، وروي أيضا عنه أنه قرأ: إن هذان إلا ساحران، ورويت عن الخليل أيضا: إن هذان لساحران - بالتخفيف -.
والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر: إنّ هذين لساحران، بتشديد " إنّ " ونصب هذين.
فهذه الرواية فيه.
فأما احتجاج النحويين فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في هذا أنه روي أنه من غلط الكاتب، وأن في الكتاب غلطا ستقيمه العرب بألسنتها، يروى ذلك عن عثمان بن عفان وعن عائشة - رحمهما اللّه -.
وأما الاحتجاج في أنّ هذان بتشديد أن ورفع هذان فحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب وهو رأس من رؤساء الرواة، أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون أتاني الزيدان.
ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وهؤلاء ينشدون:

فأطرق إطراق الشّجاع ولو رأىمسـاغـا لـنـابـاه الـشّـجـاع لصـمّـمـا

وهؤلاء أيضا يقولون: ضربته بين أذناه، ومن يشتري مني الخفّان وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعب.
قال النحويون القدماء: ههنا هاء مضمرة، المعنى إنه هذان لساحران،
وقالوا أيضا أن معنى (إن) معنى (نعم)، المعنى نعم هذان لساحران.
وينشدون:

ويـقـلــن شــيــب قــــد عــــلّاك وقد كبرت فقلت إنّه

ويحتجون بأن هذه اللام - أصلها - أن تقع في الابتداء، وأن وقوعها في الخبر جائز، وينشدون في ذلك:

خالي لأنت ومن جرير خالهينـل العـلاء ويكـرم الأخــوالا

وأنشدوا أيضا:

أمّ الـحـلـيــس لــعــجــوز شــهــربــهترضى من الشاة بعظم الرّقبه

قالوا: المعنى لأنت خالي، والمعنى لأم الحليس عجوز.
وقال الفراء في هذا: إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوا الألف على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في الذي، فقالوا الّذين في الرفع والنصب والجر.
فهذا جميع ما احتج به النحويون.
والذي عندي - واللّه أعلم - وكنت عرضته على عالمينا - محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقبلاه وذكرا أنّه أجود ما سمعاه في هذا، وهو " أنّ) قد وقعت موقع " نعم "، وأن اللام وقعت موقعها، وأن المعنى هذان لهما ساحران.
والذي يلي هذه في الجودة مذهب بني كنانة في ترك ألف التثنية على هيئة واحدة، لأن حق الألف أن تدل على الاثنين، وكان حقها ألا تتغيّر كما لم تتغير ألف رحى وعضى، ولكن كان نقلها إلى الياء في النصب والخفض أبين وأفضل للتمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور.
فأمّا قراءة عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء فلا أجيزها لأنها خلاف المصحف، وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجز مخالفته، لأن اتباعه سنة.
وما عليه أكثر القراء، ولكني أستحسن {إن هذان لساحران}بتخفيف (إن) وفيه إمامان: عاصم والخليل، وموافقة أبيّ في المعنى وأن خالفه اللفظ، ويستحسن أيضا (إنّ هذان) بالتشديد، لأنه مذهب أكثر القراء، وبه يقرأ وهو قوي في العربية.). [معاني القرآن: 3/365-361]

قال أبو جعفر النَّحَّاس (ت: 338هـ):قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فيه ست قراءات(١) قرأ المدنيون والكوفيون إنّ هذان لساحران وقرأ أبو عمرو إنّ هذين لساحران وهذه القراءة مروية عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري، وقرأ الزهري وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد وعاصم في إحدى الروايتين إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتخفيف إن.
فهذه ثلاث قراءات، قد رواها الجماعة عن الأئمة. وروي عن عبد الله بن مسعود إن هذان إلّا ساحران وقال الكسائي: في قراءة عبد الله إن هذان ساحران بغير لام، وقال الفراء(٢) : في حرف أبيّ إن ذان إلّا ساحران فهذه ثلاث قراءات أخرى، تحمل على التفسير، إلا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قال أبو جعفر: القراءة الأولى للعلماء فيها ستة أقوال: منها أن يكون إنّ بمعنى نعم، كما حكى الكسائي عن عاصم قال العرب:
تأتي بإنّ بمعنى نعم، وحكى سيبويه: أنّ «إنّ» تأتي بمعنى أجل. وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق يذهبان. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق وأبا الحسن علي بن سليمان يذهبان إليه. وحدّثنا علي بن سليمان قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام النيسابوري، ثمّ لقيت عبد الله بن أحمد هذا فحدّثني قال: حدّثنا عمير بن المتوكل قال: حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب قال: حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي وهو علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منبره يقول: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول: أنا أفصح قريش كلّها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص»(٣) قال أبو محمد: قال عمير: إعرابه عند أهل العربية في النحو إنّ الحمد لله بالنصب إلّا أن العرب تجعل «إنّ» في معنى نعم كأنه أراد: نعم الحمد لله، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح في خطبتها بنعم، وقال الشاعر في معنى نعم: [الكامل] 292-
قالوا: غدرت فقلت إنّ وربّما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر(٤)
وقال ابن قيس الرقيات(٥) : [مجزوء الكامل] 293-
بكر العواذل في الصّبوح ... يلمنني وألومهنّه
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت، فقلت: إنّه
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عزّ وجلّ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بمعنى نعم.
قال أبو جعفر: أنشدني داود بن الهيثم قال: أنشدني ثعلب: [الخفيف] 294-
ليت شعري هل للمحبّ شفاء ... من جوى حبّهنّ إنّ اللّقاء(٦)
أي: نعم، فهذا قول. وقال أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء: هذا على لغة بني الحارث بن كعب. قال الفراء: يقولون: رأيت الزّيدان، ومررت بالزّيدان وأنشد: [الطويل] 295-
فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشّجاع لصمّما(٧)
وحكى أبو الخطاب أنّ هذه لغة بني كنانة، وللفراء قول آخر قال: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها، كما قلت: الذي، ثم زدت عليها نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك. قال أبو جعفر: وقيل: شبّهت الألف في قولك: هذان بالألف في يفعلان، فلم تغير. قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون: الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنّه هذان لساحران. فهذه خمسة أقوال، قال أبو جعفر: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي فقلت: بقولك، فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال: هذا في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب أن لا يغيّر لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد، فقال: ما أحسن هذا لو تقدّمك بالقول به حتى يؤنس به، فقلت: فيقول القاضي «به» حتى يؤنس به فتبسّم. قال أبو جعفر: القول الأول أحسن إلّا أنّ فيه شيئا لأنه إنما قال: إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا يكاد يقع اللام هاهنا، وإن كان النحويون قد تكلّموا في ذلك فقالوا: اللّام ينوى بها التقديم. وقال أبو إسحاق: المعنى إنّ هذان لهما ساحران، ثمّ حذف المبتدأ كما قال: [الرجز] 296-
أمّ الحليس لعجوز شهربه(٨)
والقول الثاني من أحسن ما حملت عليه الآية إذ كانت هذه اللّغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى علمه وصدقه وأمانته، منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول إذا قال سيبويه: حدّثني من أثق به فإنما يعنيني. وأبو الخطاب الأخفش، وهو رئيس من رؤساء أهل اللغة، روى عنه سيبويه وغيره. ومن بين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنّك إذا ثنّيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين، وهو حرف الإعراب. قال أبو جعفر: فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أنّ الأصل أن لا يتغير إنّ هذان، جاء على أصله ليعلم ذلك وقد قال الله جلّ وعزّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] ولم يقل: استحاذ، فجاء على هذا ليدل على الأصل إذ كان الأئمة قد رووها وتبيّن أنها الأصل، وهذا بيّن جدا. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى تأنيث أمثل، كما يقال: الأفضل والفضلى، وأنّثت الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال، ويجوز أن يكون التأنيث على معنى الجماعة.
[ إعراب القرآن: 3/30-34]

قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن أبي زمنين(ت:399هـ):{إِن هَذَانِ لساحران}يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله: {هَذَانِ} بِالرَّفْعِ؛ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِكِنَانَةَ؛ يَجْعَلُونَ أَلْفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَاخْتِلَافٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، غَيْرُ الَّذِي ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ.[ تفسير القرآن العزيز 3/119]


كتب المرتبة الثانية: كتب غريب القرآن:

قال مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ): قَوْله {إِن هَذَانِ لساحران} من رفع هَذَانِ حمله على لُغَة لبني الْحَارِث بن كَعْب يأْتونَ بالمثنى بِالْألف على كل حَال قَالَ بَعضهم
... تزَود منا بَين أذنَاهُ طعنة ... دَعَتْهُ هابي التُّرَاب عقيم ...
وَقيل إِن بِمَعْنى نعم وَفِيه بعد لدُخُول اللَّام فِي الْخَبَر وَذَلِكَ لَا يكون الا فِي شعر كَقَوْلِه ... أم الْحُلَيْس لعجوز شهر بِهِ ... ترْضى من اللَّحْم بِعظم الرقبه ...
وَكَانَ وَجه الْكَلَام لأم الْحُلَيْس عَجُوز وَكَذَلِكَ كَانَ وَجه الْكَلَام فِي الْآيَة ان حملت ان على معنى نعم إِن لهذان ساحران كَمَا تَقول نعم لهذان ساحران وَنعم لمُحَمد رَسُول الله وَفِي تَأَخّر اللَّام مَعَ لفظ ان بعض الْقُوَّة على نعم وَقيل إِن الْمُبْهم لما لم يظْهر فِيهِ اعراب فِي الْوَاحِد وَلَا فِي الْجمع جرت التَّثْنِيَة على ذَلِك فَأتي بِالْألف على كل حَال وَقيل الْهَاء مضمرة مَعَ ان وَتَقْدِيره انه هَذَانِ لساحران كَمَا تَقول إِنَّه زيد منطلق وَهُوَ قَول حسن لَوْلَا أَن دُخُول اللَّام فِي الْخَبَر يبعده فَأَما من خفف إِن فَهِيَ قِرَاءَة حَسَنَة لِأَنَّهُ أصلح الاعراب وَلم يُخَالف الْخط لَكِن دُخُول اللَّام فِي الْخَبَر يَعْتَرِضهُ على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ لِأَنَّهُ يقدر أَنَّهَا المخففة من الثَّقِيلَة ارْتَفع مَا بعْدهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر لنَقص بنائها فَرجع مَا بعْدهَا الى أَصله وَاللَّام لَا تدخل فِي خبر ابْتِدَاء أَتَى على أصلة إِلَّا فِي شعر على مَا ذكرنَا وَأما على مَذْهَب الْكُوفِيّين فَهُوَ من أحسن شَيْء لأَنهم يقدرُونَ إِن الْخَفِيفَة بِمَعْنى مَا وَاللَّام بِمَعْنى إِلَّا فتقدير الْكَلَام مَا هَذَانِ إِلَّا ساحران فَلَا خلل فِي هَذَا التَّقْدِير إِلَّا. [مشكل إعراب القرآن : 2/466-467]


كتب المرتبة الرابعة: التفاسير التي تعنى بالمسائل اللغوية:

قال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري(ت:538هـ): قرأ أبو عمرو إِنْ هذانِ لَساحِرانِ على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: إن هذان لساحران، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة. [ الكشاف 3/72]

قال أبو العباس شهاب الدين أحمد بن يوسف (السمين الحلبي) (ت: 756هـ): {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: «إنَّ وصاحبُها» جواباً لمن قال له: «لَعَن الله ناقة حملتني إليك» أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قولَ الآخر:
177 - 2- بَرَزَ الغواني في الشبا ... بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ [ الدر المصون 4/355]

قال شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي (ت: 743 هـ): قرأ أبو عمرو (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: (إن هذان لساحران)، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين (إن) النافية والمخففة من الثقيلة.
وقرأ أبىّ: (إن ذان إلا ساحران). وقرأ ابن مسعود: (أن هذان ساحران): بفتح (أن) وبغير لام، بدل من (النجوى). وقيل في القراءة المشهورة (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) هي لغة بلحارث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. [ حاشية الطيبي على الكشاف: 10/196-198]

قال محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393هـ): قَوْلِهِ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] . وَقَوله: الصَّابِئُونَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [69] . وَقَرَأَتْهَا عَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:
وَالْمُقِيمُونَ- بِالرَّفْعِ-. وَلَا تُرَدُّ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ نَصْبَ الْمُقِيمِينَ وَنَحْوَهُ هُوَ مَظْهَرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ لِكُتَّابِ الْمَصَاحِفِ حِينَ أَتَمُّوهَا وَقَرَأَهَا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ وَأَرَى لَحْنًا قَلِيلًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» . وَهَذِهِ أَوْهَامٌ وَأَخْبَارٌ لَمْ تَصِحَّ عَنِ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ. وَمِنَ الْبَعِيدِ جدّا أَن يخطىء كَاتِبُ الْمُصْحَفِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا فَيُفْرِدَهَا بِالْخَطَأِ دُونَ سَابِقَتِهَا أَوْ تَابِعَتِهَا، وَأَبْعَدَ مِنْهُ أَنْ يَجِيءَ الْخَطَأُ فِي طَائِفَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ الَّتِي إِعْرَابُهَا بِالْحُرُوفِ النَّائِبَةِ عَنْ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ مِنَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ عَلَى حَدِّهِ. وَلَا أَحْسَبُ مَا رَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ صَحِيحًا. وَقَدْ عَلِمْتُ وَجْهَ عَرَبِيَّتِهِ فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَمَّا وَجْهُ عَرَبِيَّةِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَام فِي سُورَةِ طه [63] .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ عُثْمَانَ هُوَ مَا وَقَعَ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ مِنْ نَحْوِ الْأَلِفَاتِ الْمَحْذُوفَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «وَهُمْ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [177] . [ التحرير والتنوير: 6/29-30]
-وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرَّاء المعتبرين قرأوا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ من قَوْله «هاذان» مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو مِنَ الْعَشَرَةِ وَمَا عَدَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي لَفْظِ (هَذَانِ) أَكْثَرُ تَوَاتُرًا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ (إِنَّ) مُشَدَّدَةً أَوْ مُخَفَّفَةً، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَرَأُوا- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (أَنَّ) مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ فَهُمَا قَرَءَا (أَنْ) - بِسُكُونِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
وَإِنَّ الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ مَا رَسَمُوهُ إِلَّا اتِّبَاعًا لِأَشْهَرِ الْقِرَاءَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَّاءِ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ أَقْدَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْكَاتِبِينَ، وَمَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ الْإِمَامُ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الْحُفَّاظِ وَمَا كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (إِنَّ) وَبِالْأَلِفِ فِي هذانِ وَكَذَلِكَ فِي لَساحِرانِ، فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا آرَاءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وَأَظْهَرُهَا أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) حَرْفُ جَوَابٍ مِثْلَ: نَعَمْ وَأَجَلْ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ (إِنَّ) ، أَيِ اتَّبَعُوا لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ النَّجْوَى كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ
أَيْ أَجَلْ أَوْ نَعَمْ، وَالْهَاءُ فِي الْبَيْتِ هَاءُ السَّكْتِ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لِأَعْرَابِيٍّ اسْتَجْدَاهُ فَلَمْ يُعْطِهِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَرَاكِبَهَا. وَهَذَا التَّوْجِيهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ ذَكَرَهُ فِي «تَفْسِيرِهِ» . وَقَالَ: عَرَضْتُهُ عَلَى عَالِمَيْنَا وَشَيْخَيْنَا وَأُسْتَاذَيْنَا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدٍ (يَعْنِي الْمُبَرِّدَ) ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ (يَعْنِي الْقَاضِيَ الشَّهِيرَ) فَقَبِلَاهُ وَذَكَرَا أَنَّهُ أَجْوَدُ مَا سَمِعَاهُ فِي هَذَا.
وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَا وَحَقَّقَا، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ فِيهِ نَظَرٌ.
وَفِي «التَّفْسِيرِ الْوَجِيزِ» لِلْوَاحِدِيِّ سَأَلَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ) ابْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إِعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ (أَيْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا وَهَؤُلَاءِ إِذْ هُمَا مَبْنِيَّانِ) جَرَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ إِذِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل: مَا حسن هَذَا لَوْ تَقَدَّمَكَ أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ كَيْسَانَ: فَلْيَقُلْ بِهِ الْقَاضِي حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ، فَتَبَسَّمَ.
وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ حِكَايَةً لِمَقَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذَا الرَّأْيَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَوَابِ يَقْتَضِي كَلَامًا سَبَقَهُ.
وَدَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى الْخَبَرِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُهَا وَهُوَ مَدْخُولُ اللَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَوُجُود اللّام ينبىء بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَإِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ.
وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا بِجَعْلِ (إِنَّ) حَرْفَ تَوْكِيدٍ وَإِعْرَابُ اسْمِهَا الْمُثَنَّى جَرَى عَلَى لُغَةِ كِنَانَةَ وَبِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ إِعْرَابِ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ دَرَى ... مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ نُونِ (إِنْ) مُسَكَّنَةً- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَساحِرانِ اللَّامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِسُكُونِ نُونِ (إِنْ) - عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي «هَذَانِ» وَبِتَشْدِيدِ نُونِ (هَاذَانِّ) .
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحْدَهُ إِنَّ هَذَيْنِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ (إِنَّ) وَبِالْيَاءِ بَعْدَ ذَالِ «هَذَيْنِ» .
فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مُخَالفَة للمصحف. وَأَقل: ذَلِكَ لَا يَطْعَنُ فِيهَا لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَافَقَتْ وَجْهًا مَقْبُولًا فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْفَصِيحَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِتَجْرِيَ تَرَاكِيبُهُ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي مُتَّحِدَةِ الْمَقْصُودِ. فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّ كِتَابَةَ «إِنَّ هَاذَانِ» خَطَأٌ مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَرِوَايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَهَذَا تَغَفُّلٌ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَا كُتِبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، وَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا مِنْ أَفْوَاهِ حُفَّاظِهِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ الْمَصَاحِفُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خَطَأٌ فِي الْخَطِّ لَمَا تَبِعَهُ الْقُرَّاءُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُرِكَ مِنَ الْأَلِفَاتِ فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ أَلِفِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالرِّبَا- بِالْوَاوِ- فِي مَوْضِعِ الْألف وَمَا قرأوها إِلَّا بِأَلِفَاتِهَا.
وَتَأْكِيدُ السَّحَرَةِ كَوْنَ مُوسَى وَهَارُونَ سَاحِرَيْنِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِمَا.[ التحرير والتنوير: 16/250-254]

المرتبة الخامسة: المراجع المتخصصة:

قال أحمد بن موسى بن العباس التميمي، أبو بكر بن مجاهد البغدادي (ت: 324هـ): وَاخْتلفُوا فى قَوْله {إِن هَذَانِ لساحران} 63 فى تَشْدِيد النونين وتخفيفهما وفى الْألف وَالْيَاء
فَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَحَمْزَة والكسائى {إِن} مُشَدّدَة النُّون / هذن / بِأَلف خَفِيفَة النُّون
وَقَرَأَ ابْن كثير / إِن هذن / بتَشْديد نون / هذن / وَتَخْفِيف نون {إِن}
وَاخْتلف عَن عَاصِم فروى أَبُو بكر / إِن هذن / نون {إِن} مُشَدّدَة / هذن / مثل حَمْزَة وروى حَفْص عَن عَاصِم {إِن} سَاكِنة النُّون وهى قِرَاءَة ابْن كثير و / هذن / خَفِيفَة
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحده {إِن} مُشَدّدَة النُّون / هذَيْن / بِالْيَاءِ[ السبعة في القراءات: 1/419]


شرح إسماعيل بن أحمد الحيري الضرير (ت: 431هـ)
إن مكسورة الألف الثقيلة النون

قال إسماعيل بن أحمد الحيري الضرير (ت: 431هـ): (باب إن مكسورة الألف الثقيلة النون
وهي على أربعة أوجه
أحدها: به كقوله {إن الذين كفروا}، {إن الذين آمنوا}.
والثاني: التأكيد، {ثم إن ربك} {وإن اللّه على نصرهم}.
والثالث: بمعنى نعم، {إن هذان لساحران} (طه 63).
والرابع: بمعنى إلا، {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} (الأنبياء 101)[وجوه القرآن: 67]

قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): (إن حرف، له قسمان: الأول: أن يكون حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر. نحو: إن زيداً ذاهب. خلافاً للكوفيين، في قولهم: إنها لم تعمل في الخبر شيئاً، بل هو باق على رفعه قبل دخولها.
وأجاز بعض الكوفيين نصب الاسم والخبر معاً، بإن
وأخواتها. وأجازه الفراء في ليت خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجاز في لعل أيضاً. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك، في إن وأخواتها، ابن سلام في طبقات الشعراء. وزعم أنها لغة رؤية وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر إن وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة. والجمهور على أن ذلك لا يجوز. ومن شواهد نصب خبر إن قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت، ولتكن ... خطاك خفافاً، إن حراسنا أسدا
وأوله المانعون على أنه حال، والخبر محذوف، أي: تلقاهم أسداً. أو خبر كان محذوفة، أي: كانوا أسداً.
ومن أحكام إن أنها قد تخفف، كما تقدم في باب الثنائي، خلافاً للكوفيين. فإن المخففة عندهم نافية، وهي حرف ثنائي
الوضع، واللام بعدها بمعنى إلا. وإن المشددة لا تخفف عندهم. ويبطل قولهم أن من العرب من يعملها، بعد التخفيف، عملها وهي مشددة. فيقول: إن عمراً لمنطلق. حكاه سيبويه.
ومن أحكامها أنها قد تتصل بها ما الزائدة، فيبطل عملها، ويليها الجملتان: الأسمية والفعلية، فتكون ما كافة لها عن العمل، ومهيئة لدخولها على الأفعال. والجمهور على أن إعمالها، عند اتصال ما، غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً. وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده، من هذه الأحرف، أعني إن وأخواتها، إذا لحقتها ما، إلا ليت وحدها وذكر ابن مالك أن الإعمال قد سمع في إنما وهو قليل. وذكر أن الكسائي، والأحفش، روياه عن العرب.
مسألة
اشتهر في كلام المتأخرين، من أهل النحو، أن إنما للحصر. قال الشيخ أبو حيان: والذي تقرر، في علم النحو، أن ما الداخلة
على إن وأخواتها كافة لها عن العمل، فإن فهم حصر فمن سياق الكلام، لا منها. ولو أفادت الحصر لأفادته أخواتها المكفوفة بما.
وقال ابن عطية: إنتما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع. ويصلح، مع ذلك، للحصر. فإذا دخل في قصة، وساعد معناها على الأنحصار، صح ذلك وترتب. كقوله تعالى: {أنتما آلهكم إله واحد}، وغير ذلك من الأمثلة. وإذا كانت القصة لا تتأنى للإنحصار بقيت إنما للمبالغة فقط، كقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة.
واحتج من ذهب إلى أنها تفيد الحصر بوجهين: أحدهما لفظي، وهو أن العرب أجرت عليها حكم النفي وإلا ففصلت الضمير بعدها، كقول الفرزدق:
أنا الذائد، الحامي الذمار، وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا، أو مثلي
لما كان غرضه أن يحصر المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير. ولو قال وإنما أدافع عن أحسابهم لأفهم غير المراد. فدل ذلك على أن العرب ضمنت إنما معنى ما وإلا.
والثاني معنوي، وهو وجه يسند إلى علي بن عيسى الربعي، وهو من أكابر نحاة بغداد، أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها ما الزائدة المؤكدة، ناسب أن تضمن معنى الحصر لأن الحصر ليس إلا تأكيد على تأكيد. فإن قولك: زيد جاء لا عمرو، لمن يردد المجيء الواقع بينهما، يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحاً، وفي الآخر ضمناً.
واستدل الإمام فخر الدين، على أنها للحصر، بأن إن للإثبات، وما للنفي، فإن لإثبات المذكور، وما لنفي ما عداه. ورد بأنه قول من لا وقوف له على علم النحو، وهو ظاهر الفساد، لوجوه
منها: أن فيه إخراج ما النافية عما تستحقه، من وقوعها صدراً. ومنها أن فيه الجمع بين حرف نفي وحرف إثبات، بلا فاصل. ومنها أنه لو كانت نافية لجاز أن تعمل، فيقال: إنما زيد قائماً. ذكر بعضهم هذه الأوجه. ولا يحتاج، في بيان فساد هذا القول، إلى ذلك. فإنه لا يخفى فساده.
قلت: ذكر القرافي في شرح المحصول أن أبا علي الفارسي نقل في مسائله الشيرازيات أن ما في إنما للنفي والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. ذكر ذلك سيبويه، والأخفش. وحمل المبرد، على ذلك، قراءة من قرأ {إن هذان لساحران}. وأنكر أبو عبيدة أن تكون إن بمعنى نعم. ومن شواهدها قول الراد، حين قال القائل: لعن الله
ناقة حملتني إليك، فقال: إن وراكبها، أي: نعم ولعن راكبها.
ويبطل كون إن في هذا الكلام هي المؤكدة، من وجهين: أحدهما عطف جملة الدعاء على جملة الخبر. والثاني أنه لم يوجد حذف اسم إن وخبرها في غير هذا الكلام.
قلت: وقد صحح بعض النحويين جواز عطف الطلب على الخبر، وقال: هو مذهب سيبويه.
وأما قول الشاعر:
ويقلن: شيب قد علا ... ك، وقد كبرت، فقلت: إنه
فيحتمل أن تكون إن فيه بمعنى نعم، كما قال الأخفش. ويحتمل أن تكون المؤكدة والهاء اسمها، والخبر محذوف، كما قال أبو عبيدة. وإذا جعلت بمعنى نعم فالهاء للسكت.
فائدة
ذكر بعض النحويين لإن في الكلام عشرة أنحاء: الأول: أن تكون حرف توكيد.
والثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. وقد تقدم الكلام على هذين.
والثالث: أن تكون أمراً للواحد المذكر، من الأنين. نحو: إن، بازيد.
والرابع: أن تكون فعلاً ماضياً، مبنياً لما لم يسم فاعله، من الأنين، على لغة رد، بالكسر. نحو: إن في الدار.
والخامس: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من الأين، وهو التعب. نحو: إن، يا نساء، أي: تعبن.
والسادس: أن تكون فعلاً ماضياً، خبراً عن جماعة الإناث، من ألأين أيضاً. نحو: النساء إن، أي: تعبن.
والسابع: أن تكون أمراً، من وأي بمعنى: وعد، للمؤنثة. كقول بعض المتأخرين:
إن هند، الجميلة، الحسناء ... وأي من أضمرت لخل، وفاء
فإن فعل أمر مؤكد بنون التوكيد الشديدة. وكان أصله قبل لحاق النون إي بياء المخاطبة، لأنه أمر للمؤنث. فلما لحقته النون حذفت الياء، لالتقاء الساكنين. وهند في البيت منادى، تقديره: يا هند. والجميلة الحسناء: نعت لهند على المحل، كقوله: يا عمر، الجوادا وأجاز بعضهم أن تكون الجميلة مفعولاً لفعل الأمر الذي هو إن. وقوله وأي مصدر منصوب بإن.
والثامن: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من: آن يئين، أي: قرب. فتقول: إن يا نساء، أي اقربن.
والتاسع: أن تكون ماضياً، خبراً عن الإناث، من آن أيضاً. نحو: النساء إن، أي: قربن.
والعاشر: أن تكون مركبة من إن النافية وأنا كقول العرب: إن قائم. يريدون: إن أنا قائم. فنقلوا حركة الهمزة إلى نون إن، وحذفوا الهمزة، وأدغموا. ونظيره قوله {لكنا هو الله ربي}. وسمع من بعضهم: إن قائماً، بالنصب، على إعمال إن عمل ما الحجازية. والله أعلم). [الجنى الداني: 393 – 402]
إن المكسورة المشدّدة على وجهين
أحدهما أن تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر قيل وقد تنصبهما في لغة
كقوله
(إذا اسود جنح اللّيل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حرا سنا أسدا)
وفي الحديث إن قعر جهنّم سبعين خريفًا
وقد خرج البيت على الحالية وأن الخبر محذوف أي تلقاهم أسدا والحديث على أن القعر مصدر قعرت البئر إذا بلغت قعرها وسبعين ظرف أي إن بلوغ قعرها يكون في سبعين عاما
وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن محذوفا كقوله عليه الصّلاة
والسّلام إن من أشد النّاس عذابا يوم القيامة المصورون الأصل إنّه
أي الشّأن كما قال
(إن من يدخل الكنيسة يومًا ... يلق فيها جآذرا وظباء)
وإنّما لم تجعل من اسمها لأنّها شرطيّة بدليل جزمها الفعلين والشّرط له الصّدر فلا يعمل فيه ما قبله
وتخريج الكسائي الحديث على زيادة من في اسم إن يأباه غير الأخفش من البصريين لأن الكلام إيجاب والمجرور معرفة على الأصح والمعنى أيضا يأباه لأنهم ليسوا أشد عذابا من سائر النّاس
وتخفف فتعمل قليلا وتهمل كثيرا وعن الكوفيّين أنّها لا تخفف وأنه
إذا قيل إن زيد لمنطلق فـ إن نافية واللّام بمعنى إلّا ويرده أن منهم من يعملها مع التّخفيف حكى سيبويه إن عمرا لمنطلق وقرأ الحرميان وأبو بكر {وإن كلا لما ليوفينهم}
الثّاني أن تكون حرف جواب بمعنى نعم خلافًا لأبي عبيدة
استدلّ المثبتون بقوله
(ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنّه)
ورد بأنا لا نسلم أن الهاء للسكت بل هي ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنّه كذلك
والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله عنه لمن قال له لعن الله ناقة حملتني اليك إن وراكبها أي نعم ولعن راكبها إذ لا يجوز حذف الاسم والخبر جميعًا
وعن المبرد أنه حمل على ذلك قراءة من قرأ {إن هذان لساحران}
واعترض بأمرين
أحدهما أن مجيء إن بمعنى نعم شاذ حتّى قيل إنّه لم يثبت
والثّاني أن اللّام لا تدخل في خبر المبتدأ
وأجيب عن هذا بأنّها لام زائدة وليست للابتداء أو بأنّها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران أو بأنّها دخلت بعد إن هذه لشبهها بإن المؤكّدة لفظا كما قال
(ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرا لا يزال يزيد)
فزاد إن بعد ما المصدرية لشبهها في اللّفظ بما النافية
ويضعف الأول أن زيادة اللّام في الخبر خاصّة بالشعر
والثّاني أن الجمع بين لام التوكيد وحذف المبتدأ كالجمع بين متنافيين وقيل اسم إن ضمير الشّأن وهذا أيضا ضعيف لأن الموضوع لتقوية الكلام لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه شاذ إلّا في باب أن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التّخفيف فحذف تبعا
لحذف النّون ولأنّه لو ذكر لوجب التّشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها ألا ترى أن من يقول لد ولم يك وواللّه يقول لدنك ولم يكنه وبك لأفعلنّ
ثمّ يرد إشكال دخول اللّام وقيل هذان اسمها ثمّ اختلف فقيل جاءت على لغة بلحارث بن كعب في أجراء المثنى بالألف دائما كقوله
( ... قد بلغا في المجد غايتاها)
واختار هذا الوجه ابن مالك
وقيل هذان مبنيّ لدلالته على معنى الإشارة وإن قول الأكثرين هذين
جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا واختاره ابن الحاجب
قلت وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنيّ ألا تختلف صيغة مع أن فيها مناسبة لألف ساحران وعكسه الياء في {إحدى ابنتي هاتين} فهي هنا أرجح لمناسبة ياء ابنتي
وقيل لما اجتمعت ألف هذا وألف التّثنية في التّقدير قدر بعضهم سقوط ألف التّثنية فلم تقبل ألف هذا التّغيير
تنبيه
تأتي إن فعلا ماضيا مسندًا لجماعة المؤنّث من الأين وهو التّعب تقول النّساء إن أي تعبن أو من آن بمعنى قرب أو مسندًا لغيرهن على أنه من الأنين وعلى أنه مبنيّ للمفعول على لغة من قال في رد
وحب رد وحب بالكسر تشبيها له بقيل وبيع والأصل مثلا أن زيد يوم الخميس ثمّ قيل إن يوم الخميس
أو فعل أمر للواحد من الأنين
أو لجماعة الإناث من الأين أو من آن بمعنى قرب أو للواحدة مؤكدا بالنّون من وأى بمعنى وعد كقوله
(إن هند المليحة الحسناء ... )
وقد مر
ومركبة من إن النافية وأنا كقول بعضهم إن قائم والأصل إن أنا قائم ففعل فيه ما مضى شرحه
فالأقسام إذن عشرة هذه الثّمانية والمؤكدة والجوابية
تنبيه
في الصّحاح الأين الإعياء وقال أبو زيد لا يبنى منه فعل وقد خولف فيه انتهى
فعلى قول أبي زيد يسقط بعض الأقسام). [مغني اللبيب: 1 / 227 – 252]


الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة:
تخفيف [إن]
أكثر العرب على إهمال [إن] المخففة. قال [سيبويه:1/238]:
«
وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لمنطلق، وأهل المدينة يقرءون: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم}يخففون وينصبون وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء بالحذف؛ كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها [ما]».
ومثله في [المقتضب:1/50، 2/363.]
وعلى إهمالها لا يقدر فيها ضمير الشأن، ولكن الزمخشري قدر ضمير الشأن في بعض الآيات ورد عليه أبو حيان.
ويرى الكوفيون أن [إن] لا تخفف، وخرجوا جميع ذلك على أن [إن] نافية ؛ واللام الفارقة بمعنى [إلا].
جاء إعمال [إن] المخففة في السبعيات في قوله تعالى: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} [11: 111].
في هذه الآية أربع قراءات سبعية: تخفيف [إن[وتشديدها وتخفيف الميم من [لما] وتشديدها.
فقراءة تخفيف [إن] والميم من [لما] [إن] فيها مخففة عاملة، واللام هي الفارقة، و[ما] موصولة، أو زائدة.
وقراءة تشديد [إن] والميم من [لما] تكون [لما] هي الجازمة حذف مجزومها، أي لما يوافوا.
وقراءة تخفيف [إن] وتشديد [لما] لما بمعنى [إلا].

وقرئ في السبع بإهمال [إن] وبتخفيف الميم من [لما] وتشديدها في قوله تعالى:
1- {
وإن كل لما جميع لدينا محضرون} [36: 32].
2- {
وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} [43: 35].
3- {
إن كل نفس لما عليها حافظ} [86: 4].

كما قرئ في السبع بتخفيف [إن] وتشديدها في قوله تعالى: {إن هذان لساحران} [20: 63].
[دليل دراسات أساليب القرآن الكريم]


الحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مجلس, أداء

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:18 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir