دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > البرامج الخاصة > البرامج الخاصة > صفحات الدراسة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 جمادى الآخرة 1435هـ/21-04-2014م, 05:42 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي مذاكرة الطالبة ام غسان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 جمادى الآخرة 1435هـ/21-04-2014م, 06:10 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الاستعاذة
هي الجملة التي نتعبد الله بها , بما أمرنا به في كتابه العزيز , أو أمرنا به رسوله – صلى الله عليه وسلم – في سنته .
صيغ الاستعاذة : ورد للاستعاذة عدة صيغ , في بعض آيات القرآن أو الأحاديث النبوية منها:
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم .
- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم , من همزه ونفخه ونفثه .
بعض الآيات الواردة فيها الاستعاذة :
أمر الله تعالى بها في عدة آيات منها :
قوله تعالى :  وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم  [الأعراف : 200 ] .
وقوله تعالى :  وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون  [المؤمنون : 97 ] .
وقوله تعالى :  وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم 
[ فصلت : 36 ] .
بعض الأحاديث الواردة فيها :
- عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال : " سبحانك اللهم وبحمدك , وتبارك اسمك , وتعالى جدك , ولا إله غيرك . ثم يقول : لا إله إلا الله – ثلاثاً – ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم , من همزه ونفخه ونفثه . " رواه أهل السنن الأربعة .
- عن أبي بن كعب - رضي الله عنه – قال : تلاحى رجلان عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فتمرغ أنف أحدهما غضباً . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . ( حديث صحيح رواه النسائي ) وفي رواية: فجعل معاذ يأمره , فأبى , وجعل يزداد غضباً . وفي رواية : فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال : إني لست بمجنون .
معناها :
أعوذ : أي التجئ , وأستجير , وأحتمي .
وتأتي كلمة " ألو ذ " بنفس المعنى . لكن الفرق بينهما أن كلمة أعوذ تكون بطلب الحماية , ولدفع الشر . وكلمة ألوذ لطلب العون في جلب الخير .
بالله : اسم من أسماء الله تعالى , ومعناه : المعبود , الخالق , الرازق , المدبر , المقتدر , المتصف بجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى , من يضرع إليه كل الخلق في حوائجهم , ويفزعون إليه فيما يصيبهم . تألهاً له وحده –سبحانه – محبة وخوفاً , وإجلالاً وتعظيماً .
من الشيطان : الشيطان اسم لكل من تمرد على ربه من الإنس والجن وسائر المخلوقات . وكان بعيد بطبعه عن كل خير .
وقال تعالى :  وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً  [ الأنعام : 112 ] .
وكما جاء على لسان مريم عليها السلام في قوله تعالى :  قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً  [ مريم : 18 ] . فهي تتعوذ ممن ظنته إنسياً تخشى سوءه .
الرجيم : أي : المطرود من رحمة الله , المطرود عن كل خير . وهذا رجم معنوي , وهناك رجم حسي , ترجم به الشياطين عند استراق السمع من السماء , أخبرنا به الله تعالى في قوله تعالى :  ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين  [ الملك : 5 ] وقوله تعالى :  إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظاً من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحوراً ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فاتبع شهاب ثاقب  [ الصافات : 6- 10 ] .
وعلى ذلك فالاستعاذة تعني : أستجير بالله , والتجئ إليه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي , أو يصدني عما أمرت به من طاعات , أو يزين لي ما نهيت عنه من معاصي ويحضني على ارتكابها .
حكمها : جمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة . والبعض قال بأنها واجبة محتجين بظاهر الفعل " فاستعذ " بأنه أمر ظاهره الوجوب , ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مداوماً عليها , ولأهميتها في درء الشيطان عن المسلم ليتمكن من طاعة ربه .
وهل يجهر بها أم لا ؟
في الصلاة يسر بها , وإن جهر فلا بأس , لورود آثار عن الصحابة بالإسرار والجهر .
مواضعها :
1- عند تلاوة القرآن : لقوله تعالى :  فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم  [ النحل : 98 ] . ويتبع ذلك في الصلوات فرضها ونفلها .
2- عند الغضب : وقد مر معنا حديث الرجلين اللذين تلاحيا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد .
3- لدفع العجب عن النفس : لأن العجب منشؤه الشيطان , الذي يغر الإنسان ليحبط عمله عند الله تعالى .
4- عند نزغات الشيطان : وقد سبق ذكر دليل من آيات القرآن على ذلك . ومعنى النزغ : أي الوسوسة بالحث على الشر وتزيينه , أو التثبيط عن الخير وتهويله , وتثقيله على النفس .
5- وعند مواجهة عداوة من شياطين الإنس : ومما يدل على ذلك قوله تعالى :  قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي  [ يوسف : 23 ] . قالها يوسف عليه السلام في مواجهة امرأة العزيز وهي تدعوه إلى السوء والفحشاء . وكذلك قوله تعالى :  إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب  [ غافر : 27 ] . وقالها مؤمن آل فرعون عند مواجهة طغيان الكفر من قومه. وقوله تعالى :  وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون  [ الدخان : 20 ] . قالها موسى عليه السلام في مواجهتة مع فرعون وقومه . وقوله تعالى :  قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم  [ هود : 47] . قالها نوح عليه السلام عندما سأل ربه أن ينجي ابنه , فأخبره الله أن لا صلة بينهما بسبب الكفر . وفي قوله تعالى :  قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين 
[ البقرة : 67 ] . قالها موسى عليه السلام في مواجهة بني إسرائيل .
6- في الرقية الشرعية , كما في قوله تعالى :  قل أعوذ برب الفلق  و  قل أعوذ برب الناس  وقد علمها الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم – حين سحر من اليهودي في المدينة بعد الهجرة .
7- لاستجلاب الخير أو دفع الضر . وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديث منها : عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال : كان من دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك , وتحول عافيتك , وفجاءة نقمتك , وجميع سخطك " . حديث صحيح رواه مسلم ( 2739 ) . وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء " متفق عليه ( 6616 , 2707 ) . وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم المسجد , فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة , فقال : " يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت صلاة ؟ فقال : هموم لزمتني , وديون يا رسول الله . فقال : ألا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله , قال : " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ بك من الجبن والبخل , وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " قال : ففعلت ذلك , فأذهب الله عز وجل همي وقضى ديني .
رواه أبو داود في سننه .
وقد جمع ابن القيم – رحمه الله – في كتابه " زاد المعاد في هدي خير العباد " في العلاج النبوي للعين , التعوذات النبوية وهي :
- أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق .
- أعوذ بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة وكل عين لامة .
- أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ , ومن شر ما ينزل من السماء , ومن شر ما يعرج فيها , ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها , ومن شر فتن الليل والنهار , ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يا رحمن .
- أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون .
- اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم , وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته , اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم , اللهم إنه لا يهزم جندك , ولا يخلف وعدك , سبحانك وبحمدك .
- أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا أعظم منه , وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر , وأسماء الله الحسنى , ما علمت منها وما لم أعلم , من شر ما خلق وذرأ وبرأ, ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره , ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته , إن ربي على صراط مستقيم .
- اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي , وشر الشيطان وشركه , ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم .
كيفية التعامل مع شياطين الإنس والجن :
علمنا الله تعالى كيف نتعامل مع شياطين الإنس والجن في آية واحدة هي : قوله تعالى :  ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه لي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم  [ فصلت : 34 / 35 / 36 ] .
إن مداراة شياطين الإنس بالمعاملة الحسنة , مع التكرار والمثابرة , واستصحاب النية الخالصة في ذلك , لا بد وأن تثمر , ويعود العدو إلى أصل طبعه الذي فطره الله عليه في بشريته .
و " الدفع "يكون بمقابلة السيئة بالحسنة , فمن قطع الصلة يوصل , ومن هجر يزار , ومن اغتاب بسوء ذكر بخير , ومن أغلظ القول قوبل بلينه , وهكذا .
ولكن كما قال سبحانه " وما يلقاها " أي وما يوفق إليها " إلا من صبر على الأذى , وصابر نفسه على المعاشرة مع ما يلاقيه من عنت , وحتما سينال المنزلة الرفيعة عند الله ويكون من أهل الحظوظ العظيمة .
أما الأعداء من شياطين الجن فإنهم حريصين على ما توعدوا به بني البشر , كما قال تعالى عنهم :  فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين  [ ص : 82/ 83 ] .
ولأنهم طبعهم الشر الذي لا خير فيه , فلا يؤثر فيهم أي معروف أو معاملة حسنة , وحيث أننا لا نراهم فلا نستطيع الحوار ولا التعامل معهم . ولا يكف شرهم عنا إلا الله سبحانه وتعالى . لذلك علمنا أن نستعيذ به منهم . وهذا من فضل الله وكرمه علينا , حين تكفل لنا بهم باستعاذتنا به بكلمات نقولها , ولم يكلنا إلى حولنا وقوتنا في مواجهتهم .
من فوائد الاستعاذة :
1- تتلى في القرآن , في الآيات التي وردت بها فننال بها أجر التلاوة , التي أخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن أجرها الحرف بعشر حسنات .
2- نقولها عند قراءة القرآن امتثالاً لأمره سبحانه فننال أجر الطاعة , فنكون ممن قال فيهم :  ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً  [ النساء : 69 ] .
3- اعتراف منا بضعفنا , وأن لا حول ولا قوة لنا إلا بالله , وهذا الاعتراف يقوي إيماننا.
4- الشعور بالطمأنينة , لأن عدونا الأول – الشيطان – تكفل الله لمن استعاذ به برد عدوانه , ودلنا على السلاح الفعال الذي نتغلب به عليه .
5- أن من ابتلي بصفتي الغضب والعجب , وهما صفتان قد يفسدان على المرء دينه ودنياه , يستطيع العلاج منهما دون خسارة مالية , فقط ببذل الجهد وإخلاص النية لله والتعوذ منهما.
6- طهارة للفم مما تعاطاه من لغو ورفث وسيء القول .


لماذا لا نستعيذ بغير الله ؟
لأن الاستعاذة طلب الحفظ والحماية , وكل شيء في الدنيا لو احتمينا به فإن حمايته لنا ناقصة .
ومثال ذلك : نحتمي بالظل من حر الشمس , لكنه سرعان ما يزول عنا .
نحتمي بالدواء لحفظ الصحة , لكنها قد يفيد وقد لا يفيد .
نحتمي بالطعام من حر الجوع , لكنه يغنينا فترة ثم يزول أثره . وهكذا في كل شيء غير الله .
وكل شيء منها يحمينا في حدوده , ولا ينفعنا في غير اختصاصه , فالطعام يحمينا من الجوع , ولا يحمينا من العطش والبرد .....وغير ذلك .
إذن لا يعيذنا سواه سبحانه .
وختاماً :
نتحصن بالله الذي لا إله إلا هو إلهنا وإله كل شيء , ونعتصم بربنا ورب كل شيء, ونتوكل على الحي الذي لا يموت , ونستدفع الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله , حسبنا الله ونعم الوكيل , حسبنا الرب من العباد , حسبنا الخالق من المخلوق , حسبنا الرازق من المرزوق , حسبنا الله الذي هو حسبنا , حسبنا الله الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه , حسبنا الله وكفى , سمع الله لمن دعا , ليس وراء الله مرمى , حسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم .

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22 جمادى الآخرة 1435هـ/22-04-2014م, 01:47 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم


" بسم الله الرحمن الرحيم " افتتح بها كتاب الله , وافتتحت بها كل سورة منه , وهي آية من آيات سورة النمل في قصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ .
معناها :
بسم : مفرد مضاف , يعم جميع أسماء الله الحسنى . أي : ابتدئ بكل اسم لله - تعالى -
الله : اسم من أسماء الله الحسنى , معناه المألوه المعبود المستحق للعبادة دون سواه , الكامل على الإطلاق بكل وجه من الوجوه , الذي لا سبيل لنفس في الراحة إلا بذكره , ولا طريق نجاة إلا بعونه .
وهو اسم لم يسم به غيره سبحانه , لذلك ليس له اشتقاق من فعل . وقد وضح بعض النحاة ذلك بقولهم : أن الألف واللام من أصله , لذلك نقول : يا الله , وفي غيره من الأسماء لا نقول: يا الرحمن , يا الرحيم , وإنما نقول : يا رحمن , يا رحيم .
ويقال بأنه الاسم الأعظم , لأن كل الأسماء والصفات يسمى بها ويوصف بها , مثل قول : الله القدوس , الله الحليم .... ويدل على ذلك قوله تعالى :  ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها 
الرحمن : اسم من أسماء الله تعالى , مشتق من الرحمة , و معناه ذو الرحمة الواسعة , التي تشمل البر والفاجر , وكل الخلق عموماً . وهذا الاسم دليل الرحمة العامة المطلقة .
وقد ورد في ذلك حديث عن عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – أن سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : " قال الله تعالى : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي , فمن وصله وصلته , ومن قطعها قطعته " رواه الترمذي وصححه .
وهذا الاسم لا يسمى به غير الله .
الرحيم : اسم من أسماء الله تعالى , مشتق من الرحمة أيضاً , و معناه ذو الرحمة الواسعة التي يختص بها عبادة المتقين , المطيعين له , المتبعين لرسله , المصدقين بكتبه . فهو رفيق بهم , شفيق عليهم , لا يرضى لهم الذلة من أي شيء , ورأس الذل في الكفر . لذا خصهم بهذه الرحمة دون غيرهم , وهم شركاء غيرهم في رحمته المطلقة , واختصوا بهذا الرحمة التي أكرمهم بها .
وهذا الاسم يطلق على غيره سبحانه , كما وصف به نبيه – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى :  بالمؤمنين رءوف رحيم  [ التوبة : 128 ] .
ومعناها العام :
دعاء , وطلب من الله تعالى , لنيل البركة , والتوفيق على ما قيلت عليه . فعند لفظ اسم الجلالة " الله " اعتراف من القلب بالعبودية له , واسم " الرحمن " طلب ورجاء أن تشملني رحمته العامة التي تشمل حتى الفجار , وحين ذكر اسم " الرحيم " رجاء وتوسل أن يخصني برحمته الخاصة التي يخص بها عباده المتقين .
فكيف يكون حال من يتدبر هذا المعنى , ويقولها بصدق , ويقين , ويستجيب الله له ! .




فضلها :
وردت أحاديث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – تبين فضل الفاتحة منها :
عن أبي بريدة عن أبيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري , وهي بسم الله الرحمن الرحيم " رواه ابن مردويه .
عن عاصم قال : سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : عثر بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت : تعس الشيطان , فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : " لا تقل تعس الشيطان , فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال : بقوتي صرعته, وإذا قلت : بسم الله , تصاغر حتى يصير مثل الذباب " رواه أحمد .
ويقول الصحابي ابن مسعود – رضي الله عنه - : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " فيجعل الله له من كل حرف منها جُنة من كل واحد .
مواضع قولها :
1- في أول كل سورة , ما عدا سورة التوبة . وتقرأ بعض آية في سورة النمل , حيث وردت في قوله تعالى :  إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم  [ النمل : 30] .
2- في الصلاة . وقد اختلف العلماء بين الجهر بها أو عدم الجهر , لكن الثابت عن الخلفاء الأربعة أنه لا يجهر بها في الصلاة – حتى لو كانت صلاة جهرية - .
3- في أول كل عمل يقوم به الإنسان , لما جاء في الحديث " كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم "
4- تستفتح بها الخطبة , ومثلها كتابة الخطابات , ونستنتج ذلك من خطاب سليمان – عليه السلا م- لبلقيس .
5- عند دخول الخلاء .
6- عند الوضوء . فعن أبي هريرة وسعيد بن زيد مرفوعاً : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " حديث حسن رواه الإمام أحمد .
7- عند الذكر مطلقاً .
8- عند الذبح .
9- عند الأكل والشرب . فعن أبي سلمة – رضي الله عنه قال : كنت في حجر النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانت يدي تطيش في الصحفة , فقال : " يا غلام سم الله , وكل بيمينك , وكل مما يليك . " صحيح مسلم .
10- عند الجماع . عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله , اللهم جنبنا الشيطان , وجنب الشيطان ما رزقتنا , فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً " صحيح البخاري ومسلم .
ثمرات قولها :
1- تحقيق عبادة التلاوة , في حطم من قال أنها من آيات الكتاب , ونيل الأجر الذي وعدنا به على تلاوة القرآن .
2- تحقيق الطاعة لله تعالى بذكر أسمائه في البسملة , كما أمرنا في قوله تعالى :  ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون  [ الأعراف : 180 ] .
3- استجلاب رحمة الله – تعالى – العامة والخاصة , بتواطؤ القلب مع اللسان في ذكر الاسمين الرحمن الرحيم , واستشعار معناهما .
4- تحقيق العبودية لله – تعالى – باستشعار عظمته , وذلنا له .
5- استشعار منَّة الله وفضله علينا , برحمته الخاصة التي امتن بها علينا من بين سائر خلقه , مع إشراكه لنا معهم بالرحمة العامة , فنزداد حباً وتعظيماً له , ونسعى لكل ما يقربنا منه .
6- استجلاب الخير والبركة للعمل الذي نريد القيام به , بذكر اسم الله عليه .
7- الحصول على التوفيق في كل أمر من أمورنا الدينية أو الدنيوية , التي ذكرناها عليه .
8- دحر عدونا المتربص بنا , ولا يرضيه إلا هلاكنا . لأنه كما ورد في الحديث السابق , إذا ذكر الله تصاغر حتى يكون مثل الذباب . وإن لم يذكر اسم الله تعاظم .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22 جمادى الآخرة 1435هـ/22-04-2014م, 02:10 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفاتحة

هي فاتحة الكتاب , لأن القرآن افتتح بها لفظاً وخطاً , لا وحياً .
لا تخفى منزلتها العظيمة على أهل العقول السليمة , وقد أمر الله - تعالى – عباده المؤمنين بما ورد عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرؤوها في كل ركعة في صلواتهم فرضها ونفلها .
قال ابن عاشور : الفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصودٍ ولوجه " أي دخوله "
فهي المفتاح الأعظم الذي يفتح لك كل باب للخير فهي مفتاحك لعلم الكتاب وهي مفتاح الحجب بينك وبين الله فهي تفتحها شيئا فشيئا لمن وفقه الله , فتعلم كيف يفتح لك الله بالفاتحة تلك الأبواب المغلقة
من أسمائها :
1- الفاتحة : وكما ذكرنا لافتتاح كتاب الله بها .
2- أم الكتاب , وأم القرآن : وقيل سميت بذلك , لأنه يبدأ بها في المصاحف , ولرجوع جميع معانيه إلى ما تتضمنه من معاني .
3- سورة الحمد : لابتدائها به .
4- سورة الصلاة : لأن الصلاة الفرض والنفل لا تصح بدون قراءتها .
5- سورة الشفاء , والرقية , والواقية : لأنها شفاء لمن تداوى بها .
6- والكافية : لأنها تكفي عن غيرها من سور القرآن في الصلاة , ولا يكفي غيرها عنها . وإن كان هناك من قال أنه لا تتعين قراءتها بل يجزئ عنها غيرها من القرآن .
7- السبع المثاني : وقيل لأن آياتها سبع , وقيل لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة .
عدد آياتها :
آياتها : سبع آيات . اشتملت على حمد الله وتمجيده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا . وعلى التضرع إليه بطلب الهداية , والتبرؤ من الحول والقوة . والرغبة في سلوك طريق أهل الصلاح .
وكلماتها : خمس وعشرين كلمة .
وحروفها : مائة وثلاثة عشر حرفاً . – ويا سبحان الله ! أعدادها كلها وترية . !
مقصود السورة :
السورة هي أم القرآن كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فهي جامعة لكل العلوم , ولذا كانت الفاتحة مبنية على معاني الكمال والشمول لحق الخالق ومصلحة المخلوق , فتأمل – سلمك الله – هذه المعاني في أم القرآن :
1- نصفها الأول : مبني على إثبات استحقاق الله تعالى واختصاصه بالكمال المطلق , فإن قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين ) يتضمن الأصل الأول وهو معرفة الرب تعالى , ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله .
2- نصفها الثاني : مبني على ما يحقق للعبد كماله البشري ويوفي له بقضاء حاجاته ونيل سعادته في الدنيا والآخرة . وهذا ظاهر بما حققته من المعاني والوجوه التي تضمنها قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) فهو بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم وأنه لاسبيل له إلى الاستقامة إلا بهداية ربه له .
ويتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد , والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل .
3- وبينهما : بيان الطريق الموصلة إليه وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه واستعانته على عبادته : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فهو لا سبيل له إلى عبادته إلا بمعونته .
ولذا كان مقصودها أعظم المقاصد وهو تحقيق كمال العبودية لله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) سورة الذاريات 56

مما ورد في فضلها :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أبي بن كعب – رضي الله عنه – وهو يصلي , فقال : " يا أبي , فالتفت , ثم لم يجبه , ثم قال : أبي , فخفف أبي , ثم انصرف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : السلام عليك يا رسول الله , فقال : وعليك السلام , ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني ؟ فقال : أي رسول الله إني كنت في الصلاة , قال : أولست تجد فيما أوحى الله إلي ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) قال : بلى يا رسول الله , لا أعود , قال : أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة , ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟ قلت : نعم أي رسول الله , قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن لا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها , قال : فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني , وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث , فلما دنونا من الباب قلت : أي رسول الله ما السورة التي وعدتني ؟ قال : ما تقرأ في الصلاة ؟ قال : فقرأت عليه أم القرآن , قال : والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني " رواه الإمام أحمد و كذا الترمذي والنسائي . وهو حديث صحيح .
وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : انتهيت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد أهرق الماء , فقلت : السلام عليك يا رسول الله , فلم يرد علي , ثلاثاً , فلم يرد علي , قال : فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي , وأنا خلفه , حتى دخل رحله ودخلت أنا المسجد , فجلست كئيباً حزيناً , فخرج علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد تطهر , فقال : عليك السلام ورحمة الله وبركاته , وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , ثم قال : ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن ؟ قلت : بلى يا رسول الله , قال : اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها " رواه الإمام أحمد , وإسناده جيد .
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : كنا في مسير لنا , فنزلنا , فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم , وإن نفرنا غيب , فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبه برقيته , فرقاه , فبرأ , فأمر له بثلاثين شاة , وسقانا لبناً , فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن الرقية أو كنت ترقي ؟ قال : لا ما رقيت إلا بأم الكتاب , قلنا : لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما قدمنا المدينة , ذكرناه للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : وما كان يدريه أنها رقية ! اقسموا واضربوا لي بسهم " رواه البخاري .
وعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال : بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعنده جبريل , إذ سمع نقيضاً فوقه , فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط , قال : فنزل منه ملك , فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك , فاتحة الكتاب , وخواتيم سورة البقرة , لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته . " رواية النسائي , ورواه سلم في صحيحه .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج – ثلاثاً – غير تمام " فقيل لأبي هريرة : إنا نكون خلف الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك , فإني سمعت رسول اله – صلى الله عليه وسلم – يقول: " قال الله – عز وجل – قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين , ولعبدي ما سأل , فإذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) قال : حمدني عبدي , وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال: أثنى علي عبدي , فإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله : مجدني عبدي , وقال مرة فوض إلى عبدي , فإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال هذا بيني وبين عبدي , ولعبدي ما سأل , فإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " صحيح مسلم .

معناها :
( الحمد لله ) : هو ثناء على الله بصفات الكمال وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل فله الحمد الكامل بجميع الوجوه .
بدأت كلمة الحمد بلام الاستغراق , أي أن كل الحمد لله سبحانه وتعالى . واللام السابقة للفظ الجلالة , هي لام الاستحقاق .
والمعنى لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى . وذلك بما أنعم على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى , بداية من نعمة الخلق من عدم , وتفضيل البشر على سائر خلقه , وتمكينهم من جميع الوسائل الموصلة لمعرفته قبل أن يكلفهم بعبادته , وسخر لهم جميع خلقه , وأرسل إليهم رسله , كل ذلك من غير استحقاق لهم , ولا سؤال منهم . ومع غناه عنهم .
والخبر منه سبحانه دليل على ثنائه على نفسه سبحانه , وهذا يتضمن الأمر لخلقه بأن يثنوا عليه بما يستحق .
ومما ورد في القرآن من ثناء الله – تعالى – على نفسه قوله تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] وقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) [ الكهف : 1 ] وقوله تعالى : ( الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً ) [ فاطر : 1 ]
وقد جاءت في القرآن كثير من الآيات عن أحوال الصالحين في مواقف شتى , تجمعهم نتيجة واحدة هي حمد الله تعالى . فهاهو إبراهيم عليه السلام يحمد ربه على نعمة الذرية بعد الحرمان , في قوله تعالى : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) [ إبراهيم : 39 ] . وقد علم الله تعالى نبيه نوح عليه السلام أن يقولها عند الاستواء على الفلك – وهي نعمة جليلة أن ينجيه الله ومن معه من المؤمنين من الطوفان – وذلك في قوله تعالى : ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين)
[ المؤمنون : 28 ] . وعلمها لنبيه داود وابنه سليمان عليهما السلام ليقولانها حمداً على فضل الله ونعمه في قوله تعالى : ( ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) [ النمل : 15 ] . وغيرها من المواقف القرآنية التي يتعلم منها قارئ القرآن حقيقة الحمد .
وأصول الحمد أربعة :
1- حمده سبحانه على ذاته المقدسة وأسمائه الحسنى وصفاته العلى .
2- حمده على خلقه ونعمه .
3- حمده على وحيه وهدايته .
4- حمده على قضائه وقدره .
ما الفرق بين الحمد والشكر ؟
المعروف أن معناهما واحد , لكن هناك فرق في استعمال اللفظين :
- فالحمد ثناء على الذات والصفات اللازمة والمتعدية – ولا يستحق ذلك إلا الله - , والشكر يكون على الفعل الذي أولاه المشكور للشاكر . ولا يكون إلا على صفة متعدية , وقد يقع الشكر مع البغض حين يكون بسبب إكراه أو خوف أو حقد مثل من يشكر عدوا أو سلطانا جائر خوفا من بطشه .
- الحمد ثناء مرة بعد مرة , لا ينقطع أمده . والشكر ثناء على ما أولى من نعمة عند إسدائها .
- الحمد شكر على كل الصفات الحميدة الكاملة , والأفعال الجليلة , والشكر على الصفة أو العمل المستحق .
- الحمد يكون باللسان والقلب وجميع الجوارح . أما الشكر فيكون باللسان فقط .
لذلك لا يستحق الحمد الكامل إلا الله !
فأين حق غيره في الحمد ؟
كل خير أو معروف يسديه مخلوق لغيره من المخلوقات , فهو من توفيق الله , وقضائه وقدره , ولولا أن الله – تعالى – وفقه لإسدائه ما استطاع أن يفعل ذلك , لذلك يشكر هو , ويحمد الله تعالى .
فالحمد لله نعمة لمن وفق إليها , ومن وفق إليها فقد وفق لفعل يحبه الله – تعالى – ويثني على نفسه به .
أيهما أعم الحمد أو الشكر ؟
من خلال ما ذكرنا عرفنا أن الحمد أعم من الشكر , لأنه يقع على كل الصفات والأفعال اللازمة والمتعدية , والشكر لا يقع إلا على الصفات المتعدية .
كيف أحقق عبادة الشكر ؟
كل نعمة أحقق حمدها بأن اسعى بما يرضي الله بها ..
متى نحمد الله ؟
قال تعالى : ( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ) القصص { 70 } .
أين المكان الذي نحمد الله فيه ؟
قال تعالى : ( وله الحمد في السموات والأرض ) الروم 18
أحاديث في الحمد :
- عن الأسود بن سريع – رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى: فقال : " أما إن ربك يحب الحمد " رواه الإمام أحمد .
- عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الذكر لا إله إلا الله , وأفضل الدعاء الحمد لله " رواه الترمذي والنسائي , وقال الترمذي حسن غريب .
- عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " وما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ " رواه ابن ماجه .
- عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله , لكان الحمد أفضل من ذلك " رواه القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول . وقال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا , لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى – من تفسير ابن كثير -.
- عن ابن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حدثهم : " أن عبداً من عباد الله قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك , فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها , فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها , قال الله – وهو أعلم بما قال عبده : ما ذا قال عبدي ؟ قالا : يا رب إنه قال : لك يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " سنن ابن ماجه .
( رب العالمين ) : الرب في اللغة هو : المالك المتصرف , لكن هذه الكلمة لا تطلق على أحد غير الله , إلا في حالة الإضافة , كقول : رب الدار , رب الأسرة .
والرب هو الذي ربى جميع خلقه بنعمه الظاهرة والباطنة , لذا لا يستحق الحمد غيره .
وتربيته تعالى لخلقه نوعان :
تربية عامة : هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا .
تربية خاصة : هي تربيته لأوليائه فيربيهم على الإيمان ويوفقهم له , وهي في حقيقتها تربية التوفيق لكل خير والعصمة من كل شر .
والعالمين : بمعنى كل ما وجد في الكون سوى الخالق . سواء في الحياة الدنيا أو الآخرة .
وكلمة العالمين مفردها العالم مشتقة من العلامة , فالعالمين كلهم علامة على وجود خالقهم
فصار الحمد لله الذي خلق ما في الكون مما نعلمه ومما لا نعلمه . ( رب العالمين ) هو الرب المنعم المتفضل .
والرب من أسماء الله – تعالى – وهو الذي يدعو به أنبيائه , ومن ذلك قوله تعالى : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) [ إبراهيم : 40 ] وهذا الدعاء جاء على لسان أبو الأنبياء , الخليل إبراهيم عليه السلام . وقوله تعالى : ( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ) [ المائدة : 114 ] وقوله تعالى : ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ) [ يونس : 88 ]
وقوله تعالى : ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ) [ نوح : 28 ]
وكذلك الملائكة كما في قوله تعالى : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] .
وكثيرة هي الآيات التي جاء الدعاء فيها تعليما من الله تعالى لعبده بأن يدعوه به , من ذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ الأحقاف : 13 ] أو منهم ابتداء , كما في قوله تعالى : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) [ الفرقان : 74 ] . وأكثر من ذلك أن يدعو به المشركين , كما في قوله تعالى : ( ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ) [ القصص : 47 ] .
( رب العالمين ) كل العوالم خلقها رب واحد , وكلها تقر له بالربوبية , لأنها مطمئنة أن من خلقها لا يضيعها أبداً , وأن من خلقها متكفل برعايتها , ورعايته لن تنقطع عنهم .
إذن لا يستحق العبادة سواه سبحانه .
فائدة : أصل الإيمان علم وعمل .
وتجمعهما سورة الفاتحة !
في قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) العلم هو معرفة استحقاق الله للحمد المطلق .والعمل هو تحقيق عبادة الحمد بجميع الجوارح قولا وفعلا .
( الرحمن الرحيم ) : اسمان من أسماء الله – تعالى – الحسنى , مشتقان من صفة الرحمة , فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما .
واسم " الرحمن " يختص به الله – تعالى – لا يطلق على غيره , وهو يعني الرحمة العامة التي تشمل جميع الخلق برهم وفاجرهم من البشر , وكذلك غيرهم من المخلوقات التي نعرفها أو لا نعرفها , ونشاهدها أو لا نشاهدها.
وقد وردت عدة آيات سمى الله بها نفسه في القرآن بالرحمن , منها قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ) وقوله تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )
" والرحيم " يسمى به الله ويسمى به غيره , فيقال : أب رحيم , وأم رحيمة . وقد وصف الله – تعالى – نبيه بها في قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) .
فالله رحيم لطيف بمن يشاء من عباده . والمؤمن تشمله رحمة الله العامة مع الخلق , وينال الرحمة الخاصة بإيمانه , لذلك يحمد الله على ذلك .
وقد جاء وصف الله تعالى لنفسه بالرحمة العامة والخاصة , بعد الإخبار بأنه رب العالمين ليرغب المؤمن لنيل رحمته , ويحذر الكافر من شدة عقوبته بحرمانه من تلك الرحمة .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد , ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد " صحيح مسلم .
( الرحمن الرحيم ) تشمل كل معاني الرحمة الواسعة , ووردت في سورة الفاتحة تأكيداً على أن الصفة الأساسية في الربوبية هي الرحمة .
وهذا المعنى يقوي الصلة بين الرب والمربوب , فعندما يشعر العبد أن الله المتصف بالرحمة هو الذي يدعوه يسرع إليه , ويتقرب له بكل ما يحب .
وعندما تشعر النفس برحمة الله تعالى بها تطمئن , لكن عليها أن تدرك أن هناك رحمة أوسع وأشمل , لا بد أن تسعى إليها لتنالها . إنها رحمة يوم الدين . فتجاهد معتمدة على توجيهات رب العالمين لها فيما يأمر وينهى .
( مالك يوم الدين ) : المالك المتصف بصفة الملك المطلق لا بد ان يأمر فيطاع وينهي فيعظم ويتجنب مانهى عنه . وله الحق أن يثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويتصرف بملكه كيف يشاء .
هنا ذكر الخاص بعد العام , حيث قوله تعالى : ( رب العالمين ) عام ويتضمن معناها كل ملك لله تعالى في الدنيا والآخرة , وقوله ( مالك يوم الدين ) الملك بيوم القيامة , وهذا يدل على أهمية ذلك اليوم وعظم شأنه .- وهذا الأسلوب يسميه المفسرون ذكر خاص بعد عام , وهو من القواعد القرآنية - والملك في ذلك اليوم أخص منه من ملك الدنيا , حيث في الدنيا تطلق كلمة الملك مجازاً على من يحوز شيئاً من الدنيا يفوق غيره فيه . أما في الآخرة فلا ملك إلا لله . وكما قال تعالى : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) . وسمي بيوم الدين لأنه يوم الجزاء والحساب . فيدين الله – تعالى – الخلق بأعمالهم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً .
في ذلك اليوم لا يتساوى المؤمن بيوم الدين مع غيره في حياته الدنيوية , من حيث شعوره النفسي بقرب الله منه , وشعوره بالخوف من الوقوف بين يديه , وبذل الجهد في الاستعداد لذلك , فلا يعمل إلا ما يجعله من الفائزين بيوم الدين . وينعكس ذلك على سلوكه وتعامله مع الناس . ولا في آخرته حيث الجزاء والحساب , لأن الجزاء من جنس العمل .
إذن كيف أكون ممن يعمل من أجل الفوز يوم الدين ؟
هل أستطيع بقوتي – وأنا العبد الضعيف - ؟
بمن أستعين ؟
( إياك نعبد وإياك نستعين ) : قدمت كلمة " إياك " للحصر , فلا يعبد غيرك , ولا يستعان بسواك .
ومعنى " نعبد " في اللغة من عبَّد الشيء أي جعله مذللاً , يسهل معالجته , وطريق معبد أي مذلل للسير عليه .
وهذا يعني أن المؤمن يعبد الله : أي يمشي في طريق العبادات المذلل الذي يوصله إلى رضا ربه بسهولة . وعبوديتي لله تحررني من عبودية المخلوقات , وتحررني من خوف الوهم بأن غير الله يضر أو ينفع .
وفي قول " إياك نعبد " تحقيق معنى لاإله إلا الله , فإياك نعبد تثبت العبودية لله وتنفيها عمن سواه , ولاإله إلا الله هي اثبات ونفي .
(وإياك نستعين ) كررت كلمة إياك للتأكيد على أن لا نطلب العون إلا منك كما أننا لا نعبد سواك .
وجمع بين العبادة والاستعانة لأنهما مدار الدين , وأساس اليقين . فالأولى نفي للشرك وتحقيق لعبودية , والثانية تبرؤ من الحول والقوة وتفويض الأمر لحول الله وقوته . وبها اعتراف العبد بافتقاره إلى ربه في كل حاله .
وقدم العبادة على الاستعانة لأن الغاية التي خلق لها الإنسان هي العبادة , والاستعانة هي الوسيلة التي يحقق بها الغاية , لذلك قدم الأهم فالأهم .
وعلم الله – تعالى – عبده الاستعانة بعد العبادة رغم أنها نوع من أنواع العبادة , لأن كل أنواع العبادات إن لم يعنه الله تعالى على أدائها فلن يؤديها ولو استعان بجميع فنون العلم .
ومهما بلغت قوة الجبروت والتسلط من المخلوقين فهي بضلالهم عن خالقهم قد فقدت قوتها الحقيقية , وفقدت نبع العون الدائم , فتصبح حقيقتها ضعف لا قوة .
حكم الاستعانة بغير الله :
طلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك , ومن يستعين بهم في أمور الحياة التي في مقدور البشر فلا بأس . لأن الله جعل الحياة البشرية حياة اجتماعية لا تقوم إلا على التعاون .
فائدة : يقول بعض العلماء : إياك نعبد تطرد الرياء, وإياك نستعين تطرد الكبرياء .
( اهدنا الصراط المستقيم ) دعاء وتوسل إلى الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم . والدعاء هو الحبل القوي الذي يربط المرء بمن أنعم عليه .
والمرء هنا عندما يقول : ( اهدنا ) يدعو لنفسه ولجميع إخوانه المؤمنين .
أي حب ! وأي إخاء أعظم من أن يشرك المؤمن أخيه المؤمن في الخير ! وأي خير خير من الهداية .
وأيضا قيل للتواضع حيث يرى بأنه لا يستحق أن يذكر نفسه وحدها فما هي الا واحدة من هؤلاء الذين شرفهم الله بعبوديته .
والهداية نوعان : 1- هداية التوفيق وهذه بيد الله عز وجل كما في قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) سورة الأنعام { 125}
2- هداية دلالة وإرشاد وعلم وعمل , فمن أدلة هداية الإرشاد قوله تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) ودليل هداية العلم كما في قوله تعالى : ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) في القصص { 22} وقوله تعالى : ( قال كلا إن معي ربي سيهدين ) سورة الشعراء{ 62} أما هداية العمل في قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) سورة العنكبوت 69
والدعاء هنا يشملهما جميعاَ , أي : أرشدنا ووفقنا وعلمنا ما يرضيك عنا , ثم اهدنا لعمله على الوجه الذي يرضيك عنا .
فائدة : نيل الهدى على الصراط المستقيم يكون بأمرين :
- نفي ما لا ينبغي , كما في عبادة غير الله .
- تحصيل ما ينبغي , كما في الأعمال الصالحة التي ترضي الله . ونجده واضحا في قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم )
والصراط في اللغة بمعنى الطريق الواسع الرحب , وهذا يعني أن طريق الدين واسع رحب, سهل ميسر , لا ضيق على من يتبعه , ولا مشقة على من يسير عليه . ومع صفة الاستقامة يكون طريق الكمال حيث لا عوج فيه .
والمقصود بالصراط المستقيم الذي نسأل الله تعالى أن يهدينا إليه هو : كتاب الله , وشرع نبيه – صلى الله عليه وسلم – اللذان يرشداننا إلى الإسلام الحقيقي , الذي هو دين الله القويم .
وعن النواس بن سمعان – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً , وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة , وعلى الأبواب ستور مرخاة , وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا , وداع يدعو من فوق الصراط , فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه , فإنك إن تفحته تلجه . فالصراط الإسلام , والسوران حدود الله , والأبواب المفتحة محارم الله , وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله , والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " رواه الترمذي والنسائي وإسناده صحيح .
ماالفرق بين الطريق والسبيل والصراط ؟
هذه الكلمات الثلاث تعبر عن معنى واحد وهو مكان العبور غير أنها ليست مترادفة .
- الطريق : هو المسلك الذي نسلكه وقد يكون ضيق أو واسع , معوج أو مستقيم , وذكر في القرآن في قوله تعالى : ( إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا )
- السبيل : مسلك لا بد أن يكون واسع وواضح , ومن ذلك قوله تعالى : ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا )
- الصراط : لا بد أن يكون واسع وواضح ومستقيم , " اهدنا الصراط المستقيم ) ويعرفه ابن القيم بقوله : يسمى الطريق صراطا إذا كان مستقيما يوصل إلى المقصود وأن لا طريق سواه يوصل على المقصود وأن يتسع الجميع وأن يكون أقرب طريق يوصل إلى المقصود .

ما الحكمة من طلب الهداية في كل صلاة – وتتكرر في اليوم - من المؤمن الذي هو من المهتدين ؟
يقول ابن كثير في تفسيره عن ذلك : ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك , فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها , وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها , فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله , فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة , والثبات , والتوفيق , فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله , فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه , ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار . .. اهـ
إذن الهداية في القلب مثل الزرع الذي يحتاج إلى الماء لينمو , ويثمر , فهي محتاجة إلى طلبها من الله لتستمر وتثمر أعمالاً صالحة .
( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) :
كثير من معاني القرآن يأتي تفسير الكلمة أو الأمر بعده ويسمى في النحو " عطف بيان " , وعند المفسرين " تفسير القرآن بالقرآن " .
وهنا الله تعالى يفسر حقيقة الصراط المستقيم , الذي يسأل المؤمن ربه الهداية له . بأنه صراط من أنعم الله عليهم بطاعته وعبادته على الوجه الذي يرضيه , وهم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , وقد ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى ( أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ) [ سورة النساء ] .
( غير المغضوب عليهم ) أي : ليس طريق من غضب الله عليهم لشدة كفرهم , وفساد عقائدهم , وقد غضب الله عليهم لأنهم عرفوا الحق , وجاءتهم الرسل , فلم يستجيبوا لله ولا لرسله .
( ولا الضالين ) أي : المنغمسون في الضلال , لا يرفعون رأساً لنور الحق , ولا يصيغون أذناً لصوته , ولا يديرون فكراَ في جنباته .
وجاءت " ولا " للتأكيد . وهذا التأكيد يدل على أن جهلهم ليس بعذر لهم , فضلالهم من أنفسهم .
• ذكرنا سابقا فائدة : نيل الهدى يكون بامرين : نفي ما لاينبغي وتحصيل ما ينبغي . ففي قوله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) نفي ما لا ينبغي وهو طريق المغضوب عليه والضالين , وتحصيل ما ينبغي وهو الهداية للطريق المستقيم .
وقفات مع عموم السورة :
- يستحب لمن يقرأها أن يقول بعد الفراغ من قراءتها " آمين "
ومعنى ذلك : أي اللهم استجب . فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " إذا أمَّن الإمام فأمنوا , فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " في الصحيحين .
- ( الحمد لله ) معها يفيض قلب المؤمن بالحب لله – تعالى – الذي يقولها حباً وتعلقاً بالله. لذلك كانت كلمة أهل الجنة عندما فاضت مشاعرهم بما عجزت الكلمات عن التعبير عنه إلا بحمد الله تعالى , كما قال عنهم في قوله تعالى : ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) [ الأعراف : 43 ] . وقوله تعالى : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس: 10 ]
- ( رب العالمين ) هو الرب المنعم المتفضل . وتربيته لخلقه تربية عامة لجميع الخلق, وتتمثل في خلقه لهم , ورزقه الذي لا ينقطع عنهم , وهدايته لهم للانتفاع من كل ما في الكون . وتربية خاصة لأوليائه الصالحين بالتوفيق لطريق الإيمان , والعمل الصالح , حيث يدلهم ويهديهم إلى كل ما ينفعهم ويصرف عنهم كل ما يضرهم , ويدفع عنهم كل العوائق التي تحول بينهم وبين فعل الخيرات .
والرب من أسماء الله – تعالى – وهو الذي يدعو به أنبيائه , ومن ذلك قوله تعالى : " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) [ إبراهيم : 40 ] وهذا الدعاء جاء على لسان أبو الأنبياء , الخليل إبراهيم عليه السلام . وقوله تعالى : ( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ) [ المائدة : 114 ] وقوله تعالى : ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ) [ يونس : 88 ]
( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ) [ نوح : 28 ]
وكذلك الملائكة كما في قوله تعالى : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] .
-عند التدبر في قوله تعالى :( الحمد لله رب العالمين ) وقوله تعالى :( الرحمن الرحيم ) وقوله تعالى : ( مالك يوم الدين ) ثم قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وما بعدها من الآيات , تحول الأسلوب من أسلوب الغائب إلى أسلوب المخاطبة , وهو ما يسمى في اللغة العربية " الالتفات " , وهو من أنواع البديع , وفيه نقل الكلام من أسلوب لآخر , وفائدة ذلك حمل المخاطب على الانتباه بسبب تغير الأسلوب ,ويحمله ذلك على التفكير في السبب .
- أن البداية في السورة ثناء على الله تعالى , ثم السؤال ( اهدنا ) , وهذا من كمال حال السائل , وأدعى لقبول دعوته والاستجابة له .
- من السورة يتضح لنا أن الطرق ثلاث :
1- طريق أهل الأيمان – الطريق المستقيم – وهم الذين عرفوا الحق وعملوا به .
2- طريق المغضوب عليهم – اليهود – وهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به .
3- طريق أهل الضلال – النصارى - وهم الذين لم يتعلموا ولم يعملوا .
- تضمنت سورة الفاتحة أنواع التوحيد الثلاثة :
1- توحيد الربوبية في قوله تعالى : ( رب العالمين )
2- توحيد الألوهية , في قوله تعالى : ( الحمد لله ) و قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .
3- توحيد الأسماء والصفات , في " الله , رب , الرحمن , الرحيم , مالك "
- وتضمنت أيضاً :
1- عقيدة الإخلاص ( إياك نعبد وإياك نستعين )
2- إثبات النبوة ( اهدنا الصراط المستقيم ) وهذه لا يمكن معرفتها , دون اتباع دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم –
3- إثبات الحساب ( مالك يوم الدين )
- وتحوي مقامات الإيمان الثلاثة :
المحبة والرجاء والخوف والتي لا يستقيم إيمان المسلم إلا بها , فالمحبة في قوله : ( الحمد لله ) والرجاء في قوله : ( الرحمن الرحيم ) والخوف في قوله : ( مالك يوم الدين ) .
- وتحوي مفاتيح سعادتك في يومك وليلتك وهي سبعة :
المفتاح الأول : بدء يومك بالاستعاذة وأمورك بالبسملة , كما بدئت سورة الفاتحة ب " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فالعاقل يبدأ يومه بالدخول في حمى الله بقراءة المعوذات . ( قل أعوذ برب الفلق ) و ( وقل أعوذ برب الناس ) قراءة قلب ولسان معا .
وبالبسملة يفتتح المسلم عمله كله بها طلبة للبرطة والعون من الله فيفتح الله له بها مغاليق الأمور . فالبسملة من هدي الأنبياء السابقين , وفي كتاب الله على لسان نوح عليه السلام : ( بسم الله مجرئها ومرساها ) سورة هود 41 , وابتدأ بها سليمان عليه السلام في كتابه : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) سورة النمل 30 و كذلك القرآن فصار البدء بها سنة إلى يومنا هذا . .................
المفتاح الثاني : الثقة بسعة رحمة الله ( الرحمن الرحيم ) فقد تكررت " الرحمة صريحة في السورة مع قصر آياتها اربع مرات , في البسمله وداخل السورة , وجاء التنبيه عليها ضمنا في ( الحمد لله رب العالمين ) و ( إياك نستعين ) و ( اهدنا الصراط المستقيم ) وهذا لم يكن لأي صفة أخرى في سورة الفاتحة إلا الرحمة , فإياك وطريق القانطين ( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) سورة الحجر 56 . ....................
المفتاح الثالث : المدوامة على حمد الله بالقلب واللسان والجوارح في كل الأحوال والأزمان والأماكن , والفاتحة واحدة من سور خمس كلها افتتحت بالحمد وهي : الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر .........................................
المفتاح الرابع : تذكير النفس بيوم الدين والجزاء ( مالك يوم الدين ) فالنفس علاجها الذي لا تفلح إلا به أنها إن أقبلت على الطاعة فذكرها بالجنة , وإن أقبلت على المعصية فخوفها بالنار , ألا ترى كيف ملأ الله كتابه العظيم بالتذكير بيوم القيامة وما بعده .........................
المفتاح الخامس : إخلاص العبادة مع تمام التذلل لله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ..................... فإياك نعبد تدفع الرياء , وإياك نستعين تدفع الكبرياء .
المفتاح السادس : الألحاح في الدعاء , فكم نكرر الدعاء بقولنا ( اهدنا الصراط المستقيم ) ....................... وسورة الفاتحة نصفها دعاء ولذا كان من أسمائها سورة الدعاء . وفيها الحوائج الأصلية التي لا بد للعبد منها .
المفتاح السابع : الحب في الله والبغض في الله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) و ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) فهذه أوثق عرى الإيمان ...................... ومن أعظم التوفيق أن يرزق المسلم محبة الصالحين وإن لم يعمل عملهم .
- سورة الفاتحة سورة تخلية وتحلية :
فهي تخلية من الشيطان الرجيم وتحلية للحياة بالانصراف لرب العالمين .
هي تخلية من كفر النعمة بنسيانها وتحلية الحياة بحمدها وشكرها .
هي تخلية من قنوط اليأس وتحلية بتذكر رحمة الرحمن الرحيم . هي تخلية من الشرك وتحلية بالإخلاص لرب العالمين .
تخلية من تشتت الهمم وتحلية بالاستعانة بالمنعم .
تخلية من طرق الاعوجاج وتحلية بطريق الاعتدال .
تخلية من الجهل وتحلية بالعلم
تخلية من العناد وتحلية بالانقياد .
هي تخلية من صحبة من يجلب النقم وتحلية بصحبة من تمم الله عليهم النعمة .


المراجع : 1- تفسير القرآن العظيم لابن كثير .
2- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي .
3 – أضواء البيان للشيخ الشنقيطي
4 – المحرر الوجيز لابن عطية
5 – تفسير الشيخ ابن عثيمين
6 – بعض اصدارات مركز تدبر للدراسات والاستشارات

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 23 جمادى الآخرة 1435هـ/23-04-2014م, 11:47 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة النبأ

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
هذه السورة من السور التي رد بها الله -عز وجل – على المشركين في جدالهم ونقاشهم الذي يهدفون منه إحقاق الباطل ورد الحق , ومن ذلك إنكارهم للبعث وعدم تصديقهم بأن هناك يوم قيامة.
معنى آياتها :
( عم يتساءلون ) ينكر الله تعالى على المشركين تساؤلهم سؤال إنكار واستبعاد عن وقوع يوم القيامة . وذكر بعض المفسرين أن ما تساءلوا عنه القرآن
( عن النبأ العظيم ) أي ما يتساءلون عنه أمر عظيم , وخبر هائل مفظع , ومحقق الوقوع بخبر الله عز وجل , لا يقبل شك ولا إنكار . وعند من قالوا أنه القرآن فهو عظيم من عظمة قائله سبحانه وتعالى وكل ما يشمله القرآن فهو عظيم في نظمه وأحكامه وأخباره .
( الذي هم فيه مختلفون ) اختلفوا بين مكذب ومصدق , وقد طال النزاع بينهم في الأمر الذي حسمه الله عز وجل في كتابه .
( كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون ) تهديد ووعيد من الله عز وجل لهم, بأن ما كذبوا به سيعلمون حقيقته حين يعاينون عذاب الله .
( ألم نجعل الأرض مهاد ) ممهدة للحياة عليها , فالإنسان يعيش في صحرائها كما يعيش في جبالها كما يعيش في بحارها . والهمزة تقريرية وللتوبيخ لهم .
( والجبال أوتادا ) جعل الجبال أوتادا للأرض , تثبتها كي لا تميد بمن عليها .
( وخلقناكم أزواجا ) ذكورا وإناثا , ليحصل التزاوج الذي به يحفظ النسل .
( وجعلنا نومكم سباتا ) راحة لأجساد العباد , الذين لو تواصل عملهم دون راحة هلكت أجسادهم .
( وجعلنا الليل لباسا ) أي أنعم على خلقه بنعمة ظلام الليل وسكونه , الذي به تحصل راحة النوم التي لو فقدها الجسد هلك .
( وجعلنا النهار معاشا ) جعل الله النهار بنوره المشرق ليتمكن الخلق من تدبير شئون حياتهم , وتيسير مكاسبهم .
وفيما سبق جاء الكلام من الله عز وجل بضمير الجمع للدلالة على الوحدانية , وأنه لا شريك له بذلك . وهذا يدل على عظمته سبحانه
( وبنينا فوقكم سبعا شدادا ) أي سبع سموات خلقها في غاية الشدة والقوة , فهي رغم اتساعها مرفوعة بغير عمد , وفيها مما لا يستغني الإنسان عن منفعته كالشمس والقمر وغيرهما .
( وجعلنا سراجا وهاجا ) المقصود بالسراج هو الشمس , المنيرة للكون بضيائها , والتي ينتفع الخلق بحرارتها أيضا .
( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) المراد بالمعصرات هو السحاب , الذي يبسطه الله في السماء بقدرته , ويركمه بعضه فوق بعض , ثم ينزل منه المطر بإذنه سبحانه . والماء الثجاج هو المتتابع الكثير .
( لنخرج به حبا ونباتا ) أي بهذا الماء الذي نزل من السحاب على الأرض سنخرج لكم به من جميع أنواع الحبوب التي تأكلون منها وتطعمون بهائمكم , وكذلك ما تأكلونه أخضر طريا .
( وجنات ألفافا ) أي من هذا المطر ستكون المزارع والبساتين ذات البهجة من خضرتها وروائها والتفاف شجرها بعضه ببعض , وفيها من الخير ما لا يحصى .
وقدر ذكر الله عز وجل هذه النعم ليثبت للعباد حقيقة البعث التي ينكرها المشركون . لذلك قال بعدها
( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) يوم الفصل هو يوم القيامة , وسمي بذلك لأنه اليوم الذي يفصل الله فيه بين أهل الحق والباطل فيقتسمون إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير . وهو مؤقت بأجل محدد لا يتقدم عنه ولا يتأخر , وهذا الوقت لا يعلمه إلا الله , والمؤمن يؤمن به تصديقا بخبره .
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) يأتي الناس يوم القيامة جماعات , كل مع رسولهم, وذلك يوم النفخ في الصور وقد ورد في سورة الزمر قوله تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) [ 68] .
( وفتحت السماء فكانت أبوابا ) أي طرقا لنزول الملائكة . وقد ذكر الله عنها في سورة الانشقاق قوله : ( إذا السماء انشقت ) وفي سورة الانفطار قوله : ( إذا السماء انفطرت )
( وسيرت الجبال فكانت سرابا ) أي من يراها يظنها شيء وهي لا شيء , ويكون ذلك بعد نسفها كما قال تعالى : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ) وحين يسيرها كما في قوله تعالى : ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) وتصبح كما في قوله تعالى : ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) .
( إن جهنم كانت مرصادا ) تأكيد من الله جلت قدرته على أن جهنم معدة ومهيأة لأهلها تترصد قدومهم عليها . وأهلها هم من ذكرهم في الآية التي تليها . وهي مرصادا لجميع الخلق عند المرور على الصراط , وبهذا المعنى يكون ما بعدها خصوص بعد عموم .
( للطاغين مآبا ) العصاة الكفرة , المتكبرون عن طاعة الله مرجعهم ومآلهم جهنم لا محالة .
( لابثين فيها أحقابا ) أي مدة طويلة , والحقب سنوات عديدة . وقد ذكر المفسرون تحديد لمدة الحقب , وكما قال الشيخ السعدي الكثير منهم قال ثمانون سنة , لكن الله ذكرها بصيغة الجمع " احقابا " مما يدل على أنها مدة لا حد لها .
( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) أي ومع طول مكثهم فيها ليس لهم فيها شراب يدفع ظمأ , ولا طعام يرد جوعا , ولا ما يبرد لهم جلودهم من حرارة العذاب . بل شر الطعام والشراب جزاؤهم .
( إلا حميما وغساقا ) هذا استثناء مما سبق , فمن البرد استثنى الحميم وهو الماء الحار الذي يشوي بشدة حرارته الوجوه فكيف هو في الأمعاء , ويشربونه -ولا حيلة لهم - , والغساق وهو ما تجمع من صديد أهل النار وقيحهم , فمع مافيه من نتنانة تقذرها النفوس فهم لا يجدون غيره شرابا .
( جزاء وفاقا ) الجزاء من جنس العمل , فحين فسدت أعمالهم عوقبوا بما يتناسب مع فسادها .
( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) لأنهم أنكروا البعث , فهم لم يكونوا يعتقدون بأنهم سيحاسبون على أعمالهم , وسيجازون عليها .
( وكذبوا بآياتنا كذابا ) ولأنهم أنكروا البعث , فقد كذبوا بجميع آيات الله الشرعية والقدرية والكونية .
( وكل شيء أحصيناه كتابا ) أي جميع أعمال العباد صغيرها وكبيرها قد كتبت بأمر الله عز وجل , وسيجازيهم عليها . وقد وكل الله بكل عبد ملكين يحصيان عليه كل أفعاله وأقواله ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) .
( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) عذاب مستمر لا ينقطع أبدا , ومع ذلك فهو في ازدياد مستمر أيضا , وكفى بهذه الآية واعظا لمن كان له قلب يعي ليرتدع عن المعاصي .
( إن للمتقين مفازا ) هذا ما أعده الله لمن اتقاه وعمل بمرضاته وابتعد عن كل مايسخطه . والمفاز هو المكان الذي يطلب فيه السرور ويدخل على النفس البهجة والحبور .
( حدائق وأعنابا ) هذا وصف للمفاز الذي يجازى به المتقين . فهو بساتين فيها من الأشجار والثمار وماسواهما مالا يحد بكلام يصفه , وقد أغنت عن ذلك كلمة حدائق . وكلمة " أعنابا " عطف خاص على عام لبيان شرفه من بين ما تحويه الحدائق .
( وكواعب أترابا ) هذه صفات زوجات المتقين في الجنة من حيث جمال الخلقة فهن " كواعب " والكاعب من نهد ثدييها , و" أترابا " في سن واحدة لا اختلاف بينهن .
( وكأسا دهاقا ) يشربون من كأس صافية لذيذة , مملؤة , لا تنتهي لذتها ولا عددها .
( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) أي في الجنة لا يسمعون كلاما لا فائدة منه ابدا , ولا كلاما فيه إثم أيضا , وكما قال تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما ) .
( جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي هذا النعيم جزاء من الله بمنه وفضله وكرمه , وهو كافيا لهم كثيرا سالما من كل نقص .
( رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ) خبر من الرب جل جلاله عن عظمته وملكه للسموات والأرض وما بينهما , ومن شملت رحمته العامة كل خلقه , ومن جلاله وعظمته لا يقدر أحد على مخاطبته إلا من بعد إذنه سبحانه . وكما قال تعالى : ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) .
( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) اختلف المفسرون بالمقصود بالروح , والأرجح أنه جبريل عليه السلام , يقوم هو وجميع الملائكة صفا خاضعين لله خاشعين لا يتكلمون إلا بعد أن يأذن لهم الله , وقد ألهمهم الله قول الصواب فيما يقولون وهو الحق .
( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) اليوم الحق هو يوم القيامة , فمن أراد النجاة والفوز فيه فليتخذ طريق الحق والصواب في عقيدته وعمله فيكون له ذخرا يوم مرجعه إلى ربه .
( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) تحذير من عذاب يوم القيامة , ووصفه الله عز وجل بأنه قريب لأن كل ما كان متحقق الوقوع فهو قريب . وحيث أن محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خاتم المرسلين فهذا دليل أيضا على قربه .
( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) حين يعرض على المرء ما قدم من خير أو شر , يدرك ما الجزاء الذي سيناله .
( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) يود ويتمنى - ولكن هيهات – حين يرى العذاب – وقد علم ما قدم – أن يكون ترابا , أي الفناء وعدم الوجود .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- ( عم يتساءلون ) معناها يدل على تكرار السؤال منهم , وكثرة جدالهم في هذا الأمر . أسلوب الجدال في الأمور الغيبية يوقع الإنسان في المحظور , فليحذر من ذلك .
-( عن النبأ العظيم ) ذكر يوم القيامة باسم " النبأ العظيم " ولم يذكرها بالاسم الصريح تعجبا من حالهم وسؤالهم , وإنكارا عليهم جدالهم في هذا الأمر الذي من عظمته لا يتطاول عاقل على الجدال فيه . وليشعرهم بهوله وعظمته .
- ( كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون ) عدم الإجابة على سؤالهم , وعدم التفصيل والتوضيح عن المسئول عنه والانتقال للتهديد يدل على أهمية الأمر الذي سألوا عنه , وليزرع الخوف في نفوسهم .
( ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا ............) ذكر هذه الآيات الكونية متتابعة وبصورة سريعة , يشعر المتدبر بالآيات بقدرة الله تعالى , وشدة غضبه على المكذبين . وجميع هذه الآيات مشاهدة عيانا , ومعلومة عقلا , فهي دليل قطعي على أن موجدها قادر على بعثهم , ومن أدرك ذلك حقق التدبر المتأمل في منافع كل نعمة والذي به يحقق عبادة الشكر الحقيقي .
- ولنستشعر نعمة الله علينا في النعاس , ويدلنا على ذلك أن الله عز وجل أنعم به على المؤمنين في غزوة بدر ( إذ يغشيكم النعاس أمنه منه ) , ولنقف على معجزة الله في النوم , حيث ننام راغبين أو غير راغبين , فإذا كنا لا نملك أن نتحكم في نومنا , فالذي له الحكم والأمر في ذلك لا يستحق أن يعبد سواه , وكم في الحرمان من النوم من أضرار تصل حد الهلاك – كما يفعل ببعض السجناء حيث يحرمونهم من النوم بالضجيج المتواصل أو الضوء الشديد أو غير ذلك من وسائل التعذيب , فيؤدي بهم إلى القلق والجنون والموت . وقد انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة سلبية بين الناس وهي النوم نهارا والسهر ليلا , وذلك له أضرار على الصحة الجسدية والعقلية , وكذلك على كفاءة الأداء في الأعمال الدينية والدنيوية .
وفيما ذكره من النعم فوائد جمة غذائية وجمالية ويعود نفعها على الإنسان جسديا ونفسيا وقلبيا , وكل هذه النعم تذكير بحقيقة البعث .
- ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) يوم الفصل هو يوم أخذ الحقوق , وفي ذلك اطمئنان للمظلوم في الدنيا , ستجد حقك يوم الفصل بين الخلائق إن لم ينصفك أحد في الدنيا , وويل للظالم , فمهما فررت بجبروتك في هذه الدنيا مما عليك من حقوق , لا بد لك من يوم الفصل .
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) لم يوصف الصور في القرآن ولا في السنة , لأن كل شيء لا يؤثر على العقيدة بزيادة أو نقص لا نفع من وصفه , لأن الشريعة تصون النفس البشرية عن كل ما يشغلها بحثا ودراسة ويضيع عليها فرصة العمل الشرعي المطلوب منها.
والتعبير بالمجيء أفواجا دليل على أنه لا يستطيع أحد التخلف أو الهروب .
( وكل شيء أحصيناه كتابا ) دعوة للمبادرة إلى العمل الصالح , والتوبة من التفريط والتقصير , وطلب الستر والعفو من الله .
في قوله ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) التعبير بحاسة الذوق مع العذاب يدل على أن العذاب على الجسد والروح .
كيف نجمع بين قوله تعالى : ( لا بثين فيها أحقابا ) والحقب مدة من الزمن , ومثلها قوله تعالى : ( إلا ما شاء ربك ) , وبين قوله تعالى : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) ؟
ما دل على عدم الخلود فهو للعصاة من أهل التوحيد , ومادل على الخلود فهو لمن مات على الكفر .
( إن للمتقين مفازا *........... ) حين يذكر الله نعيم الآخرة , يذكر به بذكر أمور دنيوية حسية يعرفها البشر , ليتصورها العقل , وتتشربها الروح , فتصبح حالة يتذوقها الشعور فتجمح النفس إلى طاعة الله راضية .
ما الحكمة من أن القرآن وصف نساء الجنة بالأتراب ؟
الأتراب المتقاربات سنا , وعادة يكن متآلفات , ومتوافقات , ومتعاشرات , لا خلافات بينهن , ومن يتمتع بهن من أهل الجنة لا يشعر بزيادة نعيم غيره على نعيمه .
( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) اللغو والكذب منفية عن نعيم الجنة , ويا ليتنا ننفيها من حياتنا في الدنيا !
( جزاء من ربك عطاء حسابا ) العطاء كرم وجود , والحساب مقاصة وأخذ حقوق , و لا يتفق الاثنان , لذلك فكلمة حسابا في الآية لا تدل على الحساب العددي , بل هي بمعنى كافيا وافيا كثيرا . فضل من الله ورحمة , لذلك لا يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة والله وفضله ومنته . وفي قوله ( من ربك ) دليل على ذلك , ودليل على أنه لا يستحق أن يعبد غيره من كان هذا فضله .
( ذلك اليوم الحق ) الذي يؤخذ فيه حق المظلوم من الظالم . فياليت عقولنا تدرك ذلك !
( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) نظر الإنسان لما يملكه إما نظرة سرور لحصوله على مبتغاه , أو نظرة حسرة لفوات ما يتمناه , أو ضياع مالا يتوقع ضياعه . والعاقل من أهل الدنيا يتخذ جميع الاحتياطات حتى لا يضيع عليه ولو أقل القليل من ماله , وعقلاء الآخرة يحرصون على أن لا يضيع منهم الأجر ولو على مقدار ذرة من خير .
( يا ليتني كنت ترابا ) كم في هذه الكلمة من شقاء وعذاب قبل عذاب جهنم , حيث يتمنى وهو على علم بأن أمنيته مستحيلة التحقيق .
والفرق بين الرجاء والتمني أن التمني يكون في الأمور التي يستحيل تحققها , ومن ذلك قوله تعالى : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) . والرجاء يكون في الأمور التي قد تتحقق مع السعي في ذلك . ومن ذلك قوله تعالى : ( أولئك يرجون رحمة الله )

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 23 جمادى الآخرة 1435هـ/23-04-2014م, 12:42 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة النازعات

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعات

لعلم الله – سبحانه – بحقيقة النفس البشرية , وأنها يكتنفها حب الشهوات وتزيين الشيطان, فتحيد عن طريق الفطرة القويمة , ويتلبسها عناد الكفر والشرك . لعلمه بذلك – سبحانه – يرحمها فيخبرها بما يخيفها , لترتدع وتثوب إلى رشدها , وذلك كما في سورة النازعات.
معنى آياتها :
( والنازعات غرقا ) : هي الملائكة تنزع أرواح بني آدم , فمن كان مؤمنا كان نزعها رفيقا به , وهذا هو معنى قوله تعالى : ( والناشطات نشطا ) ومن كان كافرا نزعت روحه نزعا شديدا .
( والسابحات سبحا ) هي الملائكة وقيل هي التي تتردد صعودا وهبوطا في الهواء , تنزل وتصعد بأوامر الله .
( والسابقات سبقا ) وهي أيضا الملائكة سبقت إلى الإيمان بالله .
( فالمدبرات أمرا ) هي الملائكة الموكلين بتدبير شؤون العالم العلوي والسفلي , فبأمر ربها تدبر الأمر من السماء إلى الأرض .
( يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة ) هي النفختان الأولى والثانية حين قيام الساعة .
( قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة ) هذه حال القلوب خائفة فزعة من هول الرجفة التي سمعت وهول ما ترى من أهوال , ومن شدة فزعها تكون أبصارها خاشعة ذليلة تملكها الخوف مما ينتظرها .
( يقولون أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاما نخرة ) المقصود بالحافرة هي القبر , ومعنى ذلك استبعاد الكفار للبعث , ويعتبرون ذلك مستحيلا بعد بلى الأجساد ورمم العظام.
( قالوا تلك إذا كرة خاسرة ) وزيادة على إنكار البعث , يقولون لو أن الله سيبعثنا حقا سنكون من الخاسرين . ومع ذلك يعاندون ولا يعملون ما يبعد عنهم الخسارة ,لأنهم يقولونها استبعادا وسخرية .
( فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة ) ويبين الله لهم سهولة الأمر عليه , وسرعة حدوثه حيث لا يجدون فرصة لإصلاح شأنهم وتصحيح خطأهم , فما هي إلا نفخة واحدة من إسرافيل فإذا الخلق كلهم في أرض المحشر بين يدي الله عز وجل للحساب . والساهرة هي وجه الأرض الأعلى .
( هل أتاك حديث موسى ) ويقول الله عز وجل مسليا رسوله صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من تكذيب قومه , بخبر النبي موسى عليه السلام مع قومه , وجاءت صيغة الاستفهام لشد الانتباه , وبيان أن الخبر عظيم .
( إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى *......................) ذكر الله ما كان من خبر موسى مع النبوة حين كلمه ربه بالواد المقدس واسمه " طوى " وكلفه بالرسالة , ثم أمره أن يذهب إلى فرعون الجبار الطاغية الذي بلغ به الطغيان أن يدعي الألوهية , وعلمه أن يطلب من فرعون أن يطهر نفسه من دنس الكفر بالطاعة والإيمان بالله , وأن موسى سيدله على طريق الإيمان ويبين له وسائل الطاعة لله , لكن فرعون زاد في طغيانه , ولم يقبل دعوة موسى , فأراه موسى المعجزات الدالة على صدق نبوته – وهي العصا التي تنقلب حية تسعى , واليد التي يدخلها في فتحة قميصه فتخرج بيضاء من غير عيب وسوء - . لكن فرعون لم يتراجع عن طغيانه , بل كذب بالمعجزات كما كذب بخبر النبوة , ولم يكتف بذلك بل سعى وبذل جهده في محاربة الحق , وإعلان الطغيان , فجمع قومه وجنوده ومن تحت إمرته , ونادى فيهم بمقولته التي ما تجرا مخلوق سواه على قولها , وكما قال الله عز وجل عن قومه ( فاستخف قومه فأطاعوه ) , فعاقبه الله بعقوبة الدنيا بالغرق , وينتظره عذاب جهنم في الآخرة ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) .
( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) فما حدث لفرعون , وما جاء به موسى من المعجزات , فيها آيات وعبر ينتفع بها كل مؤمن يخشى الله , حيث يدرك أن كل من تكبر عن طاعة الله وعصى رسله سيناله نفس المصير من عذاب الدنيا وخزي الآخرة .
( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) استفهام يفيد التقرير والتوكيد , فالذي يقرره " بل السماء " والذي يؤكده لمنكري البعث بأنكم ستبعثون,وفسر معنى " بناها " بقوله (رفع سمكها فسواها ). فالذي خلق هذه السماء بحجمها الهائل وما فيها من أجرام سماوية تعجز العقول عن إدراك كثرتها وعظيم حجمها , وجعل فيها آيتين معجزة فالليل بظلامه والنهار بضيائه شاهدان على قدرة من أوجدهما , لا يعجزه أن يعيد مخلوق خلقه من تراب ثم من ماء مهين , وهو الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون – سبحانه - .
( والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها ) وبعد خلق السماء خلق الأرض وما فيها من آيات وخيرات يتمتع بها الإنسان لتذكره بحق المنعم الذي لا يستحق سواه أن يعبد . وفسر كلمة دحاها بقوله : ( أخرج منها ماءها ومرعاها ) .
( والجبال أرساها ) والجبال ثبتها في الأرض حتى لا تميد .
( متاعا لكم ولأنعامكم ) أي كل ما سبق في السماء والأرض جعله الله من أجل الإنسان , فالسماء بشمسها وقمرها وكواكبها , والأرض بجبالها وأنهارها وبحارها وأشجارها وكل مخلوقاتها مسخرة للإنسان . فأي شكر يؤدي حق هذه النعمة إلا طاعة المنعم !
( فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى ) الطامة اسم من أسماء يوم القيامة , وسميت بذلك لما فيها من أهوال عظام شداد . ومن شدة ذلك تذهل المرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها , ويود المجرم أن يفتدي نفسه بمن في الأرض جميعا – وهيهات له - . حينها يتذكر الإنسان كل ما عمل في الدنيا من خير أو شر , فيتحسر على الخير أنه لم يزدد منه , والشر يتمنى لو أنه لم يعمله . وبهذا التذكر يدرك المصير الذي ينتظره . وحينها أيضا تظهر النار للجميع يرونها عيانا , وهي تزفر غيظا على أهلها .
( فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي الماوى ) الجحيم هي مصير من كفر وتجرأ على المعاصي , وتجاوز حده في الطغيان , وآثر الفانية بشهواتها على الباقية بنعيمها وجناتها . والجنة هي مآل من خاف من موقف الوقوف بين يدي الله عز وجل فدفعه هذا الخوف للعمل الصالح,فلم يتبع نفسه هواها , بل جعل هواها تبعا لما يرضي الله , ووفقا لما جاء به رسول الله .
وعبر الله عز وجل بكلمة " المأوى " مع النار والجنة , أي مكان الخلود الدائم , الذي لا يحول عنه صاحبه ولا يزول .
( يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من من ذكراها * إلى ربك منتهاها ) يسأل الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة " يوم القيامة " متى وقوعها , سؤال تعنت وعناد لا لمعرفة الحقيقة . فيرد الله عليهم بأن الرسول وغيره لا علم لهم بها , بل مرد علمها للواحد الأحد سبحانه .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره : ( فيم أنت من ذكراها ) أي : ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها ؟ فليس تحت ذلك نتيجة , ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية , بل المصلحة في خفائه عليهم , طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه فقال : ( إلى ربك منتهاها ) أي : ينتهي إليه علمها .
( إنما أنت منذر من يخشاها ) هذه مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم ويحذرهم من مصيرهم في ذلك اليوم إن لم يطيعوا الله , وهذه النذارة لا ينتفع بها إلا من كان يخاف الله ويخاف الوقوف بين يديه , ويخاف عقابه .
( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) حين البعث ومعاينة الآخرة , تذهب عنهم لذة الحياة الدنيا , فيشعرون كأنهم ما لبثوا فيها إلا ساعات من نهار , كأنها ساعات العشية مابين الظهر إلى غروب الشمس أو الضحى مابين طلوع الشمس إلى نصف النهار . فما أشد حسرتهم حينذاك .

من ثمرات التدبر :
- أقسم الله عز وجل في بداية السورة بالملائكة التي تنزع الأرواح ,لإشعار القلب بجدية الأمر , وهوله على النفس , وهذا القسم للاستعداد لما بعده وهو أشد منه .
فالخطاب موجه للإنسان : استعد لنزع روحك , واعمل ما ييسر لك هذا الموقف , واعلم أن ما بعده متوقف عليه يسرا أو عسرا .
-( قالوا تلك إذا كرة خاسرة ) من من البشر يحب الخسارة ؟ لا أحد . والعاقل لا يعرض نفسه لها , ويبتعد عن جميع طرق احتمالها .
- ( فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة ) نفخة واحدة بعدها البعث , ولا إمكان للعودة بعد ذلك . ففي الدنيا فرصة بعد فرصة , وتذكير بعد ذكرى , وباب التوبة مفتوح. أما يوم القيامة فلا مجال للتراجع ولا للتصحيح .
- قصة موسى عليه السلام أكثر القصص ذكرا في القرآن , وهذا لا يدل على التكرار الذي لا جديد فيه .
وللقصص في القرآن حكم كثيرة عظيمة منها :
1- بيان حكمة الله فيما تضمنته القصة لقوله تعالى : ( لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر ) [ سورة القمر 4-5 ]
2- بيان عدله تعالى في عقوبة المكذبين وثوابه وفضله على المؤمنين .
3- تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أذى المشركين , وتقوية لعزائم المؤمنين المستضعفين ليثبتوا ويزدادوا إيمانا .
4- ورود أخبار الأمم السابقة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم دون تحريف أو تبديل دليل على صدقه .
-( هل أتاك ) بدء الحديث بأسلوب الاستفهام أسلوب نفسي , لتهيئة النفس لسماع الأمر وقبوله , بتشويقها وإثارتها .
-( إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ) لنتخيل مناداة الله لموسى عليه السلام , كم فيها من الكرامة التي له عند الله ؟1 وكيف هي الهيبة في نفسه عليه السلام ؟!
- فرعون طغى , ومن وصل إلى درجة الطغيان التي هي مجاوزة الحد في الكفر والعصيان فقد استحق أعلى درجات العقاب وأشده , ومع ذلك ما أروع أسلوب الدعوة الذي أمر الله به موسى أن يخاطبه به ! ( فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى ) .
- أسلوب الدعوة والتربية لا بد أن يكون :
1- بالحسنى والكلمة الطيبة .
2- حلم الله على خلقه , وعدم معاجلتهم العقوبة , درس لكل داعية أن يكون صبورا حليما .
3- لم يقبل فرعون دعوة موسى , ومثله بقية الأمم مع رسلهم , يدل على أنه لا ينبغي للداعية أن يغضب أو يحزن إن لم تقبل دعوته .
- ( كذب , عصى , أدبر يسعى , قال أنا ربكم الأعلى ) هذه الأربع الكلمات التي قالها فرعون فاوبقت له دنياه وآخرته , فهو قد كذب في اعتقاده , وعصى في عمله , وبذا الجهد وسعى في محاربة الدعوة وإضلال الناس وصدهم عنها , ثم نطق أبشع كلمات الكفر . فهو قد كفر كفرا لازما ومتعديا .
- ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) ما ا لإجابة ؟
سؤال تعجيزي , لا يحتمل إلا إجابة واحدة , - بل السماء - ونتيجتها التسليم والانقياد , وعدم الغرور , واليقين من البعث , والاستعداد لما بعده .
- في هذه السورة ذكر الله خلق السماء ثم ذكر أنه دحا الأرض بعدها , وهذا قد يوهم القارئ غير المتدبر أن السماء خلقت قبل الأرض , وفي سورة فصلت قال تعالى : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء امرها .....)
ودفع الإيهام بمعرفة معنى دحاها وهو ما فسره الله بقوله : ( أخرج منها ماءها ومرعاها) , أي أنه سبحانه خلق الأرض ثم خلق السماء ثم دحا الأرض .
وكل ما في السماء والأرض من نعم مسخرة للإنسان , ثم يقابل بعضهم ذلك بالجحود.
- ( متاعا لكم ولأنعامكم ) المتاع : هو كل ما تتمتع به النفس وتستلذه , ومعلوم أن كل متعة سوى نعيم الجنة زائلة !
"ولكم" فيها فضل من الله ومنَة على عباده من بين سائر خلقه . " ولأنعامكم " زيادة منَة وفضل من الله حيث سخر له حتى ما يصلح بهائمة وأنعامه .
- هل هذه الحقيقة عن السماء والأرض تحتاج إلى ذكاء لإدراكها , أو بذل جهد في تعلم للوصول إليها ؟
الجواب الذي لا سواه إجابة لا !
إذن لا يعذر مشرك بشركه ولا كافر بكفره , فمن أولاهما النعم , صار حقا واجبا عليهم شكره , ولا يتحقق ذلك إلا بعبادته .
- ( يوم يتذكر الإنسان ما سعى ) العاقل يجعل له ساعات تذكير , يذكر بها نفسه , في وقت الفرص لتدارك التقصير , وتصحيح الأخطاء , لكن يوم الطامة يتذكر , ولا فرصة, ويتحسر ولا يفيده التحسر , ويندم ولا ينفعه الندم .
- ( من خاف مقام ربه ) الخوف من الله ومن الوقوف بين يديه عصمة عن المعاصي صغيرها وكبيرها , وسبب لنيل الخير الديني والدنيوي , لأن الخوف حاجز يحجزه عن كل سبب يوصل إلى عذاب الله وسخطه .
( ونهى النفس عن الهوى ) هذه هي نقطة الارتكاز في دائرة العبادات والطاعات , فالهوى سبب كل معصية , ولا يثبت أمام الهوى أي حاجز غير حاجز الخوف من الله . لذلك يحتاج كل إنسان إلى مجاهدة نفسه , ومخالفة هواها , لأن من اشتغل بذلك شغله عن اللهو والعبث .
( فإن الجنة هي المأوى ) " فإن " للتأكيد , والمأوى دليل الدوام والثبات , نسأل الله من فضله .
- ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) سمعوا وصف شدتها وأهوالها , ورأوا أماكن مصرع من كذب بها قبلهم , ولم يتعظوا ! وهذا يدل على أن الكفر لازم لهم غير منفك عنهم مهما تعددت الوسائل , نسأل الله المعافاة من ذلك .
- ( فيم أنت من ذكراها ) ما لا يفيد في معرفته , لا فائدة في البحث والسؤال عنه , سواء في أمور الدين أو الدنيا , لأن اشتغال النفس بذلك يعيقها عن هدفها الذي خلقت من أجله .
- ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) ألا ما أحقر الدنيا , التي هذه هي حقيقتها أمام يوم القيامة .

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23 جمادى الآخرة 1435هـ/23-04-2014م, 06:04 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة عبس

بسم الله الرحمن الرحيم
من ينابيع سورة عبس

الموقف والحدث المهم في هذه السورة هو معاتبة الله – عز وجل – لرسوله – صلى الله عليه وسلم – حين عبس في وجه الأعمى – عبدالله بن أم مكتوم – لما جاءه وطلب منه أن يعلمه , والرسول مشغول بدعوة صناديد قريش , ليعلمنا حقيقة المعاتبة , وأنها ليست مجرد كيفية التعامل مع فرد , وإنما عبادة شرعية نتقرب بها – قولا وقبولا – لله عز وجل .
سبب نزولها :
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخاطب يوما بعض كبراء قريش وعظمائها , طمعا في إسلامهم , فينما هو كذلك إذ جاءه ابن أم مكتوم – رجل أعمى – وسأله أن يعلمه ويستقرؤه القرآن , والرسول لا يجيبه طمعا في إسلام من كان يحادثه , وهو يلح , ثم عبس في وجهه وأعرض عنه. فنزلت السورة .
معنى آياتها :
( عبس وتولى ) هذا وصف لحال النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الأعمى , فالعبوس هو : تغير ملامح الوجه دلالة عدم الرضا عن المتحدث , والتولي الإعراض بالجسد عنه , وكذلك الانصراف إلى الغير في الحديث .
( أن جاءه الأعمى ) هذا هو سبب الحال السابقة التي كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم . واللام في كلمة " الأعمى " هي أل عهدية , لا تدل على العموم ولا الاستغراق , لأن المقصود به عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه - .
( وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى ) هذا هو سبب العتاب الصادر من رب العباد, أي لا تعلم ببشريتك أن الله قد يجعل له زكاة القلب وطهارة النفس من الشرك بهذه الحال التي أنت عبست منها . وذلك أن يحصل له عظة وعبرة مما يسمع منك فيؤمن بالله , ومن حرصت على هدايتهم لا يحصل ذلك منهم . وبذلك يفوت المقصود من مهمة الرسل الأساسية – وهي الحرص على هداية الخلق - .
( أما من استغنى * فأنت له تصدى ) أي استغنى عن قبول الدعوة كفرا وعنادا , فأنت تتعرض له وتطمع في دعوته , وتقدمه على من هو راغب .
( وما عليك ألا يزكى ) أي لست مطالب , ولا مسؤول , ولا محاسب عمن لا يقبل دعوتك , فيشتد حرصك على دعوته أكثر ممن يطلب منك ذلك , وإن كانوا في مقياس زهرة الدنيا أفضل . فالمعلوم أن الرسل عليهم التبليغ لا الهداية .
( وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) أي لا تتشاغل عمن جاءك يريد العلم , ويسعى لإصلاح نفسه , لأن المصلحة المتحققة بمن جاء إليك مقدمة على المصلحة المرجوة ممن تسعى إليهم .
فمهمة الرسول هي البشارة والنذارة للجميع دون تخصيص , ويتساوى فيها القوي والضعيف , والغني والفقير , والشريف والوضيع , والصغير والكبير .
( كلا إنه تذكرة ) أي ما ورد في هذه السورة من التأكيد على ضرورة المساواة بين الناس جميعا في الدعوة والتعليم والتوجيه والنصح تذكرة من الله لنبيه خاصة ولجميع المسلمين عامه – لأن كل خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم فهو لأمته ما لم يرد فيه ما يدل على الخصوصية .
( فمن شاء ذكره ) ومن شاء عمل به وفق ما يرضي الله عز وجل , وتذكر أن ذلك أمر من الله .
( في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة ) أي هذه الموعظة التي ذكرت في هذا السورة والتي هي من القرآن دليل على عظم قدرها عند الله – سبحانه – لذلك رفع قدرها في صحف مكرمة , بعيدة عن تدنيس شياطين الإنس أو الجن . مؤتمن عليها بأيدي ملائكة مهمتهم أنهم سفراء بين الله وعباده , وقد وصفهم الله بأنهم " كرام" خَلقا وخُلقا , و " برره " أي أفعالهم وأقوالهم بارة قد بلغت درجة الكمال في الرشد والسداد .
ومع كل هذا الخير من الله فإن الإنسان يأبى أن يؤمن , لذلك قال تعالى :
( قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * ) هذا دعاء بالهلاك , وذم من الله – سبحانه- على جنس الإنسان الكافر , الذي لم يؤمن بالله ولم يتبع رسله , ولم يصدق بكتبه , وليس هناك سبب لكفره , بل الحجج واضحة وعليه أن يتذكر حقيقته , لذلك ذكره الله بها , فهو بعد أن لم يكن شيئا مذكورا أوجده الله من تراب , ثم جعل نسله من نطفة قذرة مذرة , فسواه وكمله , وفي أحسن صورة خلقه , ثم يسر له سبيل الخروج من رحم أمه , ثم يسر له سبل العيش في دنياه . وبعد ذلك يميته , ويكرمه عند موته بأن يدفن وقبلها يغسل ويكفن ويصلى عليه , لا كما يفعل ببقية الخلق كالحيوانات وغيرها حيث تلقى دون تكريم فتبقى جيفة نتنة على وجه الأرض الكل يتقذر منها .
ثم بعد ذلك , وفي أجل مسمى لا يعلمه سواه – سبحانه – سيبعثه , وبعد البعث سيعلم ماالذي ينتظره .
( كلا لما يقض ما أمره ) ومع ذلك لم يؤد حق الله الواجب عليه , بل يصر على الكفر حتى بعد العلم . -
( فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم ) ويذكره الله - عز وجل- بنعمه عليه ومنها نعمة الطعام الذي يأكله , ويدعوه أن يفكر ويتدبر كيف يحصل عليه , فالله هو الذي ينزل المطر على الأرض , ثم تنشق الأرض عن النبات , فيحصل على أصناف المطعوم من حلو ومالح وحامض , وحب وثمر وبقل , وما يأكله وما يؤكله لبهائمه .
فعليه أن يبادر إلى ربه , قبل موته , ومع ذلك استمر في غيه وطغيانه .
( فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه ) حتى جاءه يوم القيامة بأهواله وشدته , فيسمع صيحته التي تصخ الأسماع منها وتبلغ القلوب الحناجر , فيفر من أحب الناس إليه – من أخ وأم وأب وابن وزوجة - شغلا بنفسه عنهم , وخوفا من مطالبتهم بحقوقهم عليه التي فرط فيها في دنياه .
( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) كل مشغول بنفسه يفكر كيف الخلاص – حتى لو كان على حساب الآخرين – فيتمنى حين يرى أحب الناس إليه لو يقبل منه فداء فيقدمه ليخلص نفسه ( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤيه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) المعارج: 11 - 14
( وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ) هذا هو المصير الحتمي للجميع , سينقسمون إلى فريق وجوههم مشرقة من السرور حيث نالوا ما وعدهم الله , وقطفوا ثمرة عمل الدنيا الصالح جنات يتنعمون بها , بكل نعيم لا تصفه الأقلام , ولا تحيطه العقول , ولكن تؤمن به القلوب السليمة وتسعى إليه . وفريق قد علت وجوههم ظلمة الغم والحزن والحسرة , قد حطمها اليأس , وأشقاها العلم بالمصير . وهؤلاء هم من كفر في الدنيا وطغا وتجبر وتجرأ على حدود الله ومحارمه .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- حقيقة المعاتبة أنها ليست مجرد معاملة بين فئة من الناس , بل هي ميزان حقيقي من موازين الرباط الإنساني في الشريعة الإسلامية , شعاره ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
- عتاب الله عز وجل لنبيه سيد البشر وخاتم الرسل في فرد من أفراد الأمة دليل على كرامة المسلم عند الله عز وجل , فكيف يقابل العاقل هذا التكريم !
- لم يكن إعراض الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الأعمى وعبوسه في وجهه كرها لذات الرجل , أو احتقار لحاله , بل طمعا في سادة قريش الذين كانوا معه , فكان عبوس حرص منه صلى الله عليه وسلم .
- ذكر الله الرجل بقول " الأعمى " دون ذكر اسمه , مما يدل على جواز ذكر المرء بصفة لازمة فيه للتعريف به , لا للتجريح والتحقير فهذا محرم ومنهي عنه .
- ما ثمرات موقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الأعمى بعد العتاب العلني من الله عز وجل الذي سيبقى إلى قيام الساعة ؟

• قوة الشخصية :
أعلنه للناس ولم يخفه , وهذا دليل على صدق نبوته , فهو يبلغ عن ربه حتى ما كان فيه عتاب له . وكذلك نتعلم منه أن إعلان الخطأ والاعتراف به قوة وليس ضعفا.
• قمة الأخلاق :
المتمثلة في قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) , وهنا تظهر جلية واضحة في إكرامه – صلى الله عليه وسلم – لمن عوتب من أجله , فعندما يراه يقول له : أهلا بمن عاتبني ربي فيه , وقولا أيضا : فقد استخلفه مرتين على المدينة في حال غيابه عنها .
- من أحداث القصة , وأسلوب الآيات نستنتج درجات العتاب :
1- ( عبس وتولى أن جاءه ) الله عز وجل في صيغة الغائب في كلمة ( جاءه ) لم يواجه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بفعله إكراما له ورحمة به . وهي أدعى إلى الانتباه والتفكير بمن هو المقصود .
2- ( وما يدريك لعله يزكى ) ضمير المخاطب دليل على مواجهة المخطئ بخطئه.
3- ( أما من استغنى ......) زيادة درجة العتاب للتنبيه على شدة الخطأ .
4 – ( كلا إنها تذكرة ) ردع وزجر , للتأكيد بعدم تكرار الخطأ , وفيها إعلان : أن الدعوة غنية عن الفقير والغني بحد ذاتها , تعز من يسعى إليها غنيا أو فقيرا .
- ذكر الشيخ ابن سعدي – رحمه الله – في تفسيره هذه الفائدة : " المقصود من بعثة الرسل ووعظ الوعاظ وتذكير المذكرين , فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك هو الأليق الواجب , وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير , مع تركك من هو أهم منه , فإنه لا ينبغي لك , فإنه ليس عليك أن لا يزكى , فلو لم يتزك فلست بمحاسب على ما عمله من الشر .
فدل هذا على القاعدة المشهورة أنه : لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم , ولامصلحة متحققة لمصلحة متوهمة . وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم المفتقر إليه الحريص عليه أزيد من غيره . أهـ
- ( كلا ) هي الكلمة الوحيدة في القرآن التي وجه فيها الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على :
1- بشريته صلى الله عليه وسلم .
2- كما خلقه في عدم تكرار الخطأ البشري فضلا أن يكون خطأ استهتاري .
- ( قتل الإنسان ما أكفره ) دعاء من الله عز وجل وهو محقق الإجابة , فهو كافر بنعم ربه عليه , ناسيا أنه خلقه , متناسيا مم خلق .
- ( من أي شيء خلقه .....)
مراحل خلق الإنسان ( من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ) حرف الفاء في " فقدره " تفيد الترتيب والتعقيب , أي : مراحل خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة .... وهكذا , جاء التعبير عنها بحرف واحد , وهذا من إعجاز القرآن وجمال أسلوبه .
( ثم السبيل يسره ) جاءت " ثم " تفيد الترتيب مع التراخي , لأن مدة الحمل تسعة أشهر .
( ثم أماته فأقبره ) جاءت " ثم" تفيد الترتيب مع التراخي , وتعبر عن مدة حياته في هذه الحياة الدنيا . " فأقبره " الفاء للترتيب مع التعقيب , لأن ما بين موته وقبره مدة قصيرة .
( ثم إذا شاء أنشره ) " ثم " لأن بين قبره وبعثه مدة لا يعلمها إلا الله , و " إذا شاء" دليل على أن البعث غيب لا يعلم وقته إلا الله .
( فأقبره ) القبر نعمة على الإنسان , حتى لا تبقى جثته مثل جثث الحيوانات فيتأذى منها الأحياء , وستر له .
- هذه المراحل ( من نطفة .. ثم السبيل يسره .. ثم أماته فأقبره .. ثم إذا شاء أنشره ) تذكير وأمر للإنسان , فيا أيها الإنسان :
• لا تتكبر وهذه هي بدايتك ونهايتك .
• استعد للموت والبعث بعده بالعمل الصالح , فإنه لا مفر لك منه .
• لم تخلق نفسك , ولم تختر وقت موتك , فمن فعل بك ذلك ألا يستحق شكرك ؟!
- ( كلا لما يقض ما أمره ) يقضي الإنسان عمره , وينتهي ويأتي أجله , ولا يقضي ما يريد , ولا يحقق كل ما تمنى , زلا يؤدي الشكر المستحق عليه لربه .
إذن نحتاج إلى رحمة الله وعونه وتوفيقه , فعلام التكبر إذن ؟
- ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) رحلة تأمل وتدبر , ما نتيجتها مع العقل الواعي المدرك ؟
- ( أنا صببنا الماء صبا ) " أنا " أين دور الإنسان هنا ؟ لا يستطيع أي مخلوق أن يدعي أنه ينزل المطر , حتى لو تعرض للموت بسبب عدم نزوله !
فيا أيها الإنسان : قوام حياتك – ماؤك وطعامك – ليست بيدك , ألا تستشعر عظمة الله وذلتك ؟ ألا تستشعر قوته وضعفك ؟ ألا تستشعر غناه عنك وفقرك إليه ؟!
- ( ثم شققنا الأرض شقا ) أيهما أثقل النبتة لحظة نباتها أم تربة الأرض ؟
طبعا تربة الأرض بلا شك هي الأثقل .
إذن النبتة أضعف من أن تؤثر في التربة وتشقها , لكن الله عز وجل هو الذي شق لها الأرض لتخرج وتنمو ويأكل الإنسان ثمرتها ! فيا سبحان الله .
فيا أيها الإنسان : هذه هي رحلة الطعام – من نزول الماء وانشقاق الأرض حتى مأكلك لما أنبتت – دليل قطعي على عجزك التام حتى عن توفير قوام حياتك , فهل بعد ذلك تتكبر عن عبادة ربك , وتتكبر على خلقه الذين أنت مثلهم .
- ( متاعا لكم ولأنعامكم ) حتى أنعامكم لا تستطيعون توفير غذائها .
- ما الصلة بين ( متاعا لكم ) و ( الصاخة ) ؟
المتاع ما يتمتع به الإنسان ثم يزول عنه , فلا شيء يبقى . والصاخة تفزع القلوب وتصخ الآذان , فينسى من هولها كل ما كان يتمتع به .
إذن هذه هي حقيقة كل متاع – زائل , منسي , فلا ينبغي للنفس أن تنشغل به .
- ( يوم يفر المرء .........) في الدنيا يفر المرء مما يخافه ويكرهه ويتوحش منه , فيلجأ إلى أقرب الناس وأحبهم إليه . وفي الآخرة يفر مما يخافه , ولكن لا ينجو , ولا يجد من يلجأ إليه كما في الدنيا .
- ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) آية تعبر عن الهول النفسي والحالة النفسية التي تجعل الإنسان ينشغل حتى عمن يحب – وإن كان أحب الناس إليه في الدنيا-
- الوجوه تعبر عما في القلوب , وهذا آية من آيات قدرة الله تعالى , والوجوه هي البريد الذي يوصل ما في القلوب والنفوس .
وبذلك نجد أن هذه السورة هي ميزان الحياة كلها بدايتها وخاتمتها ونتيجتها الأخروية .

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24 جمادى الآخرة 1435هـ/24-04-2014م, 06:28 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة التكوير

بسم الله الرحمن الرحيم
من ينابيع سورة التكوير

هذه السورة من السور التي تدعو الإنسان إلى أن يجول بعقله في أحداث يوم القيامة , ثم يفكر بالعاقبة , ويستعد لها بالعمل الصالح والابتعاد عن كل عمل سيئ لا يرضي الله عز وجل , ولا يتأتى له ذلك إلا بإتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
معنى آياتها :
( إذا الشمس كورت ) معنى التكوير في اللغة هو جمع الشيء بعضه على بعض , والمعنى أن الشمس تجمع على بعضها , مما يترتب على ذلك ذهاب ضوءها .وقد ذكر الله تعالى أيضا أنه يجمع بينها وبين القمر في سورة القيامة .
( وإذا النجوم انكدرت ) الإنكدار هو الانصباب من الأعلى إلى الأسفل , فالنجوم تتناثر على الأرض . وقد وصف الله النجوم في سورة الإنفطار بقوله : ( وإذا الكواكب انتثرت ) وفي سورة المرسلات قوله : ( فإذا النجوم طمست ) , مما يدل على شدة أهوال يوم القيامة .
( وإذا الجبال سيرت ) والجبال الراسية على وجه الأرض تتحرك وتسير من أماكنها , وهي التي في عهد الإنسان وعلمه أنها أقوى المخلوقات على وجه الأرض .
( وإذا العشار عطلت ) يعطل الناس اهتمامهم بنفائس أموالهم , لما أصابهم من الذهول , ولما يرون من الهول , والعشار هي النوق الحوامل , وذكرت لأنها كانت أنفس المال عند الناس , ويدخل ضمن ذلك كل ما في معناها من نفائس الأموال والممتلكات .
( وإذا الوحوش حشرت ) تختلط بعضها مع بعض أليفها ووحشها , صغيرها وكبيرها , دوابها وطيورها , من شدة الهول . وفزعها لأن الله عز وجل يجمعها ويقتص لبعضها من بعض , ثم يكونون ترابا .
( وإذا البحار سجرت ) توقد البحار وتشتعل نارا , وهي الماء الذي يطفئ النار !
( وإذا النفوس زوجت ) كل النفوس تزوج أي تقرن مع نظيرها , فالأبرار مع الأبرار والفجار مع الفجار , وكذلك فسرت بتزويج المؤمنين بالحور العين , والكفار بالشياطين .
(وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت ) الموءودة هي البنت التي تقتل أو تدفن وهي حية خوف العار أو الفقر – وهذا من أعمال الجاهلية – ومؤكد أنها قد قتلت بغير ذنب , ولكنها تسأل سؤال تقريع وتوبيخ لقاتلها .
( وإذا الصحف نشرت ) الصحف هي ما يكتب به أعمال العباد من خير وشر , تنشر يوم القيامة ليرى كل إنسان ما قدم وأخر , فيعطى المؤمن كتابه بيمينه والكافر بشماله .
( وإذا السماء كشطت ) السماء تزال , وتذهب , وكما في قوله : " إذا السماء انشقت " وكذلك " إذا السماء انفطرت " وكل ذلك يدل على ذهابها , وشدة الهول الذي يعاينه الإنسان .
( وإذا اجحيم سعرت * وإذا الجنة ازلفت ) ﮄ توقد النار وتسعر , لعذاب الكفار , وتقرب الجنة تكريما للمتقين .
( علمت نفس ما أحضرت )هذا هو جواب الشرط , حيث تعلم كل نفس ما قدمت من خير أو شر , فيكون العلم هنا نعيم أو عذاب قبل الحساب .
( فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس ) بدأ القسم بالفاء وهي استئنافية , و" لا " للابتداء , للدلالة على أهمية ما أقسم به . وهي الكواكب التي تخنس وتتأخر عن سير الكواكب المعتاد , وتسمى السبعة السيارة , وهي : الشمس والقمر والزهرة والمشتري والمريخ وزحل وعطارد , فهي تسير إلى جهة الغرب كما بقية الكواكب , وسير معاكس خاص بها . وكذلك أقسم بالليل في حال إدبار أو إقبال ظلامه . والصبح إذا أقبل بضيائه بعد ظلام الليل .
( إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين ) المقصود بالرسول هو جبريل عليه السلام الذي نزل بالقرآن من عند الله عز وجل , وقد وصفه الله عز وجل بأنه كريم ذو مكانة عند الله دون سائر الملائكة , قوي شديد – ومن قوته أنه قلب قرى قوم لوط – وقوي في تحمل ما كلف به من الله , وله مكانة عند الله اختصه بها دون سائر الملائكة , وهو مطاع في الملأ الأعلى , أمين على ما يكلف به , ففي تبليغ الوحي فإنه يبلغه دون زيادة أو نقص أو تغيير .
وقد ذكر الله صفاته ليبين أن المتصف بصفات الكمال هذه هو الذي جاء بالوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم , فلا ينبغي أبدا أن يشك في صدقه , وصدق ما بلغكم به .
( وما صاحبكم بمجنون ) وهذه تزكية من الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ونفي التهمة عنه التي اتهمه بها أعداؤه بأنه مجنون , وعبر لهم بكلمة صاحبكم , ليذكرهم بأنهم أعلم به وبأنه ليس كما زعموا , فالصاحب أعلم بصفات صاحبه , وهو صاحبهم الذي كانوا يسمونه بالصادق الأمين , فلا يمكن أن يصفوه بهذين الأمرين في آن واحد .
( ولقد رآه بالأفق المبين ) ولقد رأى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية الملائكية , بالأفق وهو أعلى ما ينفذ إليه البصر عند النظر .
( وما هو على الغيب بضنين ) ومحمد عليه الصلاة والسلام أمين على ما أوحي إليه , وليس بمتهم فيه لا يزيد زلا ينقص ولا يبدل ولا يغير , ولا يكتم بعضه ويبدي بعضه , بل بذله وعلمه لكل من أراده .


( إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي هذا القرآن ليس مما توحيه الشياطين لأوليائها , بل هو منزل مع خير الرسل من الملائكة , وعلى خير الرسل من البشر , فكيف يفكرون بأنه من أقوال الشياطين , وكيف يخطر ببالهم هذا الأمر , الذي لا يمكن أن تقبل به ـي فطرة سليمة , أو يصدقه عقل مدرك .
( لمن شاء منكم أن يستقيم ) هذه حقيقته , ليتذكر به الناس , ويتعظون , يتذكرون ربهم المستحق للعبادة والطاعة , ويتذكرون ما ينفعهم , فيبادرون للأخذ به , وما يضرهم فيرتدعون عنه .
( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) فمن أراد الهداية فعليه بالقرآن , فقد تبين به الرشد من الغي , والهدى من الضلال . وهذه المشيئة من البشر لا تتعارض مع أن المشيئة في الهداية والضلال لله سبحانه . فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب , ويروي سفيان الثوري أنه لما نزلت ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم , فانزل الله : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) .
ومشيئته سبحانه أنه امر جميع الخلق أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا , ثم ترك لهم المشيئة في الاختيار , بعد أن هيأهم بما يكفل لهم الاختيار الصائب من فطرة سليمة , وعقل يفكر, ونبي يذكر , وكتاب يعلم ويهدي .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- ليسافر العقل في رحلة كونية يطوف بها أرجاء الكون , ويتوقف متأملا للشمس والجبال والبحار في النهار , والنجوم في الليل , وليطوف بالغابة ليرى مابها من وحوش , فتتنازع مشاعره بين النشوة من الجمال , والخوف من خطر الاقتراب من الوحوش المفترسة , ثم ليعود من تلك الرحلة إلى التأمل في آيات سورة التكوير الأولى , وما سيحدث لهذه الآيات الكونية – كما وصفت الآيات –
إذن لا مجال له , ولا ملجأ , ولا ملاذ , ولا حمى , إلا حمى الواحد القهار , مالك الملك, من قهر بجبروته كل من في السماء والأرض , فليخضع له , وليذل لعبوديته , وليستشعر ربوبيته .
- ( وإذا العشار عطلت ) البدوي لا يفرط في ناقته أبدا , فكيف الحال إذا كانت حامل وستلد , وسيكسب منها الولد واللبن ؟!
ومع ذلك يتركها من شدة أهوال يوم القيامة , يتركها لا عزوفا عنها , بل الأمر فوق أحاسيسه , وعطل مشاعره , فهو تارك لما سواها أيضا .
هذا هول الأهوال , فكيف هو هول اليوم ذاته وشدته ؟!
- ( وإذا الوحوش حشرت ) الوحوش مصدر خوف لبني الإنسان ورغم أنها مصدر الخوف له إلا أنها في هذا الموقف فزعة خائفة , ورغم أنها لا حساب عليها لأنها ليست مكلفة بالعبادة ومع ذلك تخاف هذا الخوف الذي يذهل مستانسها عن خطر مستوحشها , فما بال الإنسان المكلف ؟!
- ( وإذا الموءودة سئلت ) المظلوم يسأل , فما ظن الظالم بما ينتظره ؟! والسؤال سؤال نصر للمظلوم , وتهديد للظالم , وبه إعلان لكل مظلوم " أنت منصور , إن لم تنصر في الدنيا فنصرك في الآخرة " .
- ( وإذا الصحف نشرت ) نشر العلم دليل على العلم بما فيه قبل صدور الحكم , وفي ذلك شدة على النفس وعذاب لها .
- ( وإذا السماء كشطت ) نتخيل أنفسنا حين نرفع رؤوسنا ولا نجد سماء تظلنا , بل ونراها تتشقق , وتتناثر نجومها , ويطمس ضوء شمسها وقمرها , أي خوف وأي رعب سيسكن نفوسنا ؟!
- ( وإذا الجحيم سعرت ) ( وإذا الجنة أزلفت ) الجحيم تسعر والجنة تقرب , والمشهد ماثل أمام النظر بعد نشر الصحف , وفيه عذاب أو نعيم نفسي قبل العذاب أو النعيم الجسدي .
- ( الجحيم سعرت ) وعيد لأهلها , واستقبال لهم .
- ( الجنة أزلفت ) قربت تكريم لأهلها .
فأين رفاهية الدنيا , وتكريم أهلها لمن لا يستحق التكريم , وإقصاء من لا يستحق الإقصاء ؟!
- ( علمت نفس ما أحضرت ) علمها بما أحضرت من أعمال صالحة وسيئة , هو ذاته علمها بما ينتظرها من ثواب وعقاب , مع ما تراه من أهوال , وهي لا تملك شيئا, ولا تستطيع في عملها تغيير أو تبديل , أو زيادة أونقص .
- ( فلا أقسم بالخنس ) ( الجوار الكنس ) هذه النجوم والكواكب رغم جمالها وعظمتها وكثرتها تظهر وتختفي , فهي لا تملك لنفسها الدوام على حال البقاء, إذن هي لا شيء أمام عظمة خالقها ومن أقسم بها .
- ( والليل إذا عسعس ) العس في اللغة باليد أو الرجل مما يدل على فقدان القدرة على النظر بالعين , مما يوحي بشدة ظلام الليل – وفيه إعجاز قرآني لفظي – ومثله ( الصبح إذا تنفس ) حيث رؤية الفجر لمن يشاهدها حين يخرج النور من رحم الظلام توحي بعملية التنفس , وبداية الحياة .
- ( إنه لقول رسول كريم ) القرآن قول الله عز وجل , ونسبه إلى جبريل تكريما له باعتباره المبلغ له . وما وصف الله به جبريل عليه السلام من صفات , وما رد به التهمة عن نبيه صلى الله عليه وسلم توحي بمنزلة القرآن العظيم عند الله سبحانه .
- ( وما صاحبكم ) الصاحب أعرف الناس بصاحبه , وفي هذا التعبير في الرد على المكذبين دليل قطعي على كذبهم فيما اتهموه به , فهم يعرفونه حق المعرفة , وهم الذين سموه بالصادق الأمين , وهذه المعرفة هي معرفة العمر كله لا معرفة أعوام أو شهور أو أيام , فهو مولود بينهم , وتربى معهم , فبذلك قولهم هذا عليهم لا لهم .
- ما الصلة بين ما أقسم الله به , وبين القرآن الكريم الذي هو المقسم عليه ؟
إن من أبدع الكون بهذا الجمال هو من أنزل القرآن , فإذا كان هناك خلل في آيات الكون سيكون هناك خلل في آيات القرآن والعكس صحيح .
- ( فأين تذهبون ) العقل إذا تجرد من تأثير هوى النفس حتما يصل إلى الحق , وفي هذه الآية دعوة إلى التفكير والتأمل بخطواته الصحيحة وهي :
• الرؤية أو السماع .
• التأمل والتدبر فيما رأى أو سمع .
• فهم الحقائق المنبثقة عن التأمل والتدبر .
• نتيجة ذلك العمل .
فإذا سارت الخطوات الثلاث الأولى بطريقة صحيحة , كانت النتيجة إيجابية , كما حدث مع الصحابي الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين قدم إلى مكة فسمع من قريش أن محمد – صلى الله عليه وسلم - مجنون , وحذروه من السماع له , ومن شدة تحذيرهم له وضع القطن في أذنيه حتى لا يسمع شيئا من كلامه – ولو عرضا -. ثم فكر بأنه إنسان عاقل يفرق بين الحق والباطل , فلم يسمع لما قالوا دون أن يعرف الحقيقة بالسماع من الطرف الثاني فيعرف من المصيب ومن المخطئ , فذهب واستمع للنبي صلى الله عليه وسلم , فكانت النتيجة أن أسلم .
- ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) بعدما كشف الله لهم الحقائق , وبين مواطن الريب والشبهات , ورد التهم والأباطيل , فإن من انحرف عن جادة الطريق فهو المسؤول عن نفسه , لأن دلائل الهدى قوية ويصعب على القلب والنفس التفلت منها إلا بإصرار مدعوم بهوى النفس والشيطان .
- ( لمن شاء ) ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) أعطاهم حرية الاختيار , ويسر لهم طريق الهداية , والمشيئة في ذلك كله لله سبحانه , فلا يحتج جاهل بذلك على طغيانه وعصيانه بل هي حجة عليه لا له .
نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه , والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25 جمادى الآخرة 1435هـ/25-04-2014م, 08:14 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة المطففين

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المطففين
لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير ممن خلق , وحيث هو بطبعه مخلوق اجتماعي , فلا بد في تعامله مع غيره أن يتعرض لمن يبخسه حقه , أو هو يبخسه حقه . لذلك فرض الله عليه بعض الحقوق , وألزمه ببعض الواجبات التي تحفظ له حقه , وتحفظ حق غيره .
وفي هذه السورة توعد الله تعالى المطففين وهم الذين يبخسون الناس حقوقهم بالويل وهو العذاب الشديد , وذلك في عملية البيع والشراء وهي أكثر المعاملات التي يحتاج لها البشر, والحكم يدخل فيه كل ما يدخل فيه بخس الحقوق .
معنى آياتها :
( ويل ) كلمة تهديد ووعيد من رب العالمين , ومعناها لهم الخسارة والهلاك في الدنيا والآخرة .
( المطففين ) وهم الذين يبخسون المكيال عند الوزن .
( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) هذا تفسير للمطففين , حيث بين سبحانه أنهم في حالة استيفاء الحق لأنفسهم يأخذونه كاملا , وقد يزيدون على الحق الذي لهم , وإذا كان الحق لغيرهم أنقصوه ظلما وعدوانا- وقد يتحايلون على ذلك بمكيال أو ميزان أو قياس ناقص , فيوهم من أخذ منهم أنهم أعطوه حقه كاملا , كمن يضع مثلا وسيلة قياس متريه على أنها متر وفي حقيقتها تسعين سنتمتر.
وقد عذب الله قوم شعيب عليه السلام بسبب هذا الذنب , وأخبر عن ذلك , فلا بد أن يكون في ذلك عظة لغيرهم .
( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ) استفهام إنكاري على شدة ظلمهم , وتعجب من حالهم التي يصرون عليها دون خوف من الله , وهم يعلمون بأنهم سيبعثون , وسيحاسبون بين يديه , ولكنهم منكرون لذلك إنكار عناد واستكبار واستبعاد , لذلك لم يحسبوا لذلك الموقف حساب .
( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) يقومون بين يديه سبحانه للحساب , في موقف صعب شديد , يشيب منه الوليد , فيحاسبهم على القليل والكثير , ويأخذ لكل ذي حق حقه . لو علموا هذه الحقيقة ما بخسوا الناس حقوقهم . لأن حقوق الدنيا تؤدى , وحقوق الآخرة مقاصة بالحسنات والسيئات .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : (( يوم يقوم الناس لرب العالمين , لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة , حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف أذانهم ) وفي رواية : ( فمن الناس من يبلغ العرق عقبيه , ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق , ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه , ومنهم من يبلغ العجز , ومنهم من يبلغ الخاصرة , ومنهم من يبلغ منكبه , ومنهم من يبلغ وسط فيه – وأشار بيد فالجمها – ومنهم من يغطيه بعرقه .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة .
( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ) كلمة " كلا " هنا بمعنى حقا – وهي تأتي للردع والزجر , والنفي , والاستفتاح – فيخبر الله – عز وجل – بأنه حقا لا شك فيه سيكون مصير الكفار في سجين , المكان الضيق في نار جهنم , وهذا وعيد لكل الكفار عامة .
( وما أدراك ما سجين ) نفي , أي لا تعلم أيها الإنسان ماهي حقيقة هذا السجين الذي سيعذب به الكفار , فأنت تعلم صفته واسمه , لكن لا تستطيع أن تدرك حقيقته لعظم هولها وشدتها .
( كتاب مرقوم ) أي أن الذي أوصلهم إلى سجين هو الكتاب الذي أحصى عليهم أعمالهم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , وقد ذكر فيه كل أعمالهم الخبيثة التي يظنون أنها كما أخفوها عن الناس تخفى على الله .
( ويل يومئذ للمكذبين ) تأكيد بالتهديد والوعيد على ما ينتظرهم من عذاب في سجين .
( الذين يكذبون بيوم الدين ) هذا تفسير للمكذبين الذين توعدهم بالويل , فهم منكرون للبعث , ولا يصدقون به .
( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) أي لا يكذب بيوم الدين إلا المعتدي وهو الذي تجاوز حد الكفر والطغيان في أعماله , فلا يراعي حق الله بالخوف منه فيعصيه ولا يطيع أمره, ولا يراعي حق خلقه فيظلمهم ويأكل حقوقهم . وأثيم في أقواله فلا يقول إلا باطلا .
( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي إذا سمع آيات الله تتلى , وقرأ وعد الله ووعيده , نسب ذلك إلى الأساطير وهي الكلام المأخوذ عن السابقين ولا صحة له . فهو يسمع الحق ولا ينقاد له , ويعرض عليه الوعد فلا تميل نفسه إليه , ويذكر بالوعيد فلا يرتدع عما هو عليه .
( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) لقد غطت ذنوبهم ومعاصيهم قلوبهم , واستحكم الشيطان على نفوسهم . و " كلا " هنا للنفي , أي ليس كما زعموا أساطير أولين, بل أعمت الذنوب بصائرهم فلم يروا الحق , فزعموا ما زعموا .
( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) مع ما سبق من عذاب , فإنهم يعذبون بالحرمان من رؤية ربهم وخالقهم – التي هي منتهى سعادة الآخرة – فما أشدها من حسرة على قلوبهم , وما أشده من عذاب على نفوسهم !
( ثم إنهم لصالوا الجحيم ) أي مع الحرمان من رؤية ربهم –عز وجل – فإنهم يقاسون عذاب النار , فلا يخفف عنهم , ولا يرجون خروجا منه .
( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) توبيخا وتقريعا , يقال لهم بأن هذا العذاب جزاء تكذيبكم برسالة ربكم ودعوة رسوله . فما أشده من عذاب على النفوس , وما أحقرها وأذلها وهي تسمعه !
( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) هؤلاء خلاف الفئة السابقة , فهم قد بروا في طاعة ربهم , وصدقوا بكتابه وعملوا بمقتضاه , وصدقوا برسالة نبيه واتبعوه . فجزاؤهم في " عليين " وهي كلمة مأخوذة من العلو , فيكون أعلى ما في الجنة . ويدل على ذلك تعظيم الله – عز وجل – لشأنه بقوله " وما أدراك ما عليون "
( كتاب مرقوم * يشهده المقربون ) أي ما كتب في كتابهم من عمل صالح , نالوا به درجة العليين , يشهده المقربون من الملائكة والنبيين والصديقين , ويرون ما فيه من فضائل الأعمال – وهذا تكريم لصاحبه - .
( إن الأبرار لفي نعيم ) في نعيم الجنات , وكلمة "نعيم" نكرة تعم كل نعيم جسدي ونفسي وقلبي وروحي .
( على الأرائك ينظرون ) كلمة ينظرون تشمل النظر إلى ما أعد لهم من نعيم – فيكون بذلك نعيم بصر , وسرور قلب , وبهجة نفس – وتشمل أيضا الكرامة التي يكرمون بها , بالنظر إلى وجهه الكريم –سبحانه – وهو نعيم ما بعده نعيم , وينسي ما قبله من نعيم .
( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) توالي النعيم واللذات عليهم يملأ القلب والنفس ويفيض على قسمات الوجه فيكسبه نضارة ونورا وحسنا . وهذا يدركه الناظر إليهم , فكيف بما هم قد أدركوه – اللهم لا تحرمنا فضلك - .
( يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك ) يسقون تكريما , من ألذ مشروبات الجنة , وقيل بأنه من أسماء الخمر – وكلها في اللذة لا تعادلها لذات مشروبات الدنيا مجتمعة – وصفة هذا الشراب أن آخره وما يتبقى منه في الإناء مسك , ويحتمل أن يكون ختامه أي ما ختم به حيث لا يفتح لغيرهم .
( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) كقوله تعالى : ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) , فالسبق , والحرص على نيل المعالي , والسعي لا بد أن يكون في هذا الأمر لا سواه . وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر .
( ومزاجه من تسنيم ) هذا الوصف عائد على الرحيق المختوم الذي يسقون منه , حيث يمزج من تسنيم وهي أشرف وأعلى أشربة الجنة .
( عينا يشرب بها المقربون ) أي هذه التسنيم عين يكرم بها المقربون لا يشرب منها أحد غيرهم , ويخلط بها الرحيق لأهل اليمين .
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) هذه هي حال الكفار المجرمين في الدنيا , وموقفهم من أهل الإيمان , فهم يضحكون منهم ضحك سخرية واستهزاء على الدوام , وعند مرورهم يتغامزون تنقصا من شأنهم , وإذا رجعوا إلى بيوتهم مع أهليهم تحدثوا عنهم حديث المتفكه بحالهم , مسرورين بحالهم التي هم عليها من نعيم الدنيا الذي هو استدراج لهم وما يشعرون . ثم يصدرون أحكامهم على هؤلاء المؤمنين بأنهم ضالين كونهم على غير ما هم عليه من الكفر .
ويقابل ذلك حال المؤمنين يوم القيامة : ( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * ) فهم قد نالوا جزاء من جنس عملهم .
( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) استفهام بمعنى قد , أي قد جوزا من جنس عملهم , ونال المؤمنين جزاء يوافق ما عمل بهم في الدنيا . عدلا من الله – وما ربك بظلام للعبيد - .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- سورة المطففين فيها وعيد شديد على من يطفف في الكيل أو الوزن , ويشمل بقية جميع الحقوق الاجتماعية الأخرى – فالأخ الذي يبخس حق أخيه مطفف, والزوج الذي يظلم زوجته مطفف , والأب الذي يقصر في حق أبنائه مطفف .
والوعيد على من طفف في المكيال والميزان , فكيف بالسارق والمغتصب والجاحد والناصب على الضعفاء والمساكين ؟!
- والآية تدل على أن الإنسان كما يحرص على أخذ حقه كاملا , لا بد أن يؤدي ما عليه كاملا , سواء حقوق مادية أو معنوية – كما في الشهادات , والحجج في الخصومات ...وغير ذلك - وهذا من تمام العدل الذي تقوم به الحياة الدنيا .
- ( إذا اكتالوا على الناس ) وليس " إذا كالوا للناس , وهذا دليل السلطة والنفوذ والجبروت منهم على غيرهم . فالذي يأخذ حقه كاملا , ويبخس حقوق غيره , لا يفعل ذلك إلا لقوة سلطة لم يراعي الخوف من الله في استغلالها , قسوة قلب لم يخشى سوء العاقبة يوم الوقوف بين يديه – سبحانه - .
- ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ) أسلوب تعجب من حالهم , وهو حال كل من يفعل ما يشتهي في هذه الدنيا في تعامله مع الغير ويبخس حقوقهم , ولا يحسب حساب للآخرة .
وأسلوب إنكار شديد على هؤلاء بما يفعلون , لأنهم غفلوا عن شدة العاقبة فيه .
وأسلوب وعيد شديد من الله عز وجل يدل على شدة ما ينتظرهم من عذاب بعد البعث – وإن مد لهم في غيهم في الدنيا , فهو استدراج لهم ( وأملي لهم إن كيدي متين ) .
( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) لنتذكر حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه الإمام أحمد عن المقداد قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : (( إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين – قال : فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق على قدر أعمالهم , ومنهم من يأخذه إلى عقبيه , ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه , ومنهم من يأخذه إلى حقويه , ومنهم من يلجمه إلجاما )) وذلك في يوم مقداره خمسين ألف سنة .
فمن عرف أنه سيقوم بين يديه – سبحانه – عرف بأنه سيحاسبه , ومن عرف بأنه سيحاسب أخلص العمل لله , وتخلص من حقوق خلق الله .
- ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ) لم يقل كفار , لتشمل كلمة فجار الكافر والمنافق والعاصي الذي لم يتب والمتسلط والجبار . فلا ينفعه أنه من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – إن لم يكن من العاملين بشرعه , ومهتدين بهديه .
- ما الصلة بين الكلمات " مطففين " و " فجار " و " مكذبين " ؟
مطففين في أعمالهم في الدنيا , وفجار في حالهم وصفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم الدينية , مكذبين في موقفهم من وعيد ربهم لهم بالحساب يوم البعث .
( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) لا يكذب بالبعث إلا كل معتد على محارم الله ينتهكها , معتد على الحلال والحرام لا يراعي حدودهما , وهو بذلك كل من تعدى على حدود الله ولو تسمى بأنه من المسلمين . و " أثيم " كثير الإثم والمعاصي – وإن كان له بعض الأعمال الصالحة – مثل من يصلي , ولكنه آكل للربا , مرتكب للفواحش , قاطع للرحم , مؤذي لخلق الله , فهذا لو كان مصدق بالبعث , مستشعر معنى الوقوف بين يدي الله ما فعل ما فعل أبدا .
ومن كان هدفه معرفة الحق , فكل ما حوله يدعوه لأن يصدق بيوم الدين . ولكن من تتلى عليه آيات الله ويصفها بالأساطير , فهو متكبر , معاند , مغرور , غامط للحق , لا جاهلا به أبدا .
- ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) فإذا غطى القلب ما لا يرضي الله من الشهوات والشبهات فقد الإحساس , وتبلد , ثم يموت , وهذا هو الران والذي سببه أعمالهم , فيقع في الذنب ويعرف بأنه مذنب ويستمر , ولا يندم , ولا يتوب , بل يستمرىء الذنوب ويستلذها .
- وعقابهم ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) الجزاء من جنس العمل , حجبوا قلوبهم عن طاعة الله ومحبته بالمعاصي , فحجبهم عن رؤيته يوم القيامة . وهذا أبلغ عقاب وأشده لأنهم يتضمن غضبه وسخطه عليهم .
وهذا يثبت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة , حين يكشف الحجاب لهم , وهذا النعيم أعظم من جميع ملذات نعيم الآخرة مجتمعة , وهذا الإثبات من مفهوم الآية ويدل عليه منطوق الآية التي في سورة القيامة ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) .
- ( ثم إنهم لصالوا الجحيم ) كلمة " صالوا " تنبئ عن شدة العذاب الذي سيقاسونه ,
- ( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) هذا التقريع والتوبيخ من الله عز وجل عذاب فوق عذاب . فقد جمع الله عليهم عذاب الحرمان من رؤيته , وشدة حرارة النار , مع التوبيخ والتقريع , وبذلك جمع عليهم عذاب الجسد والنفس , وعذاب الحس والمشاعر .
- ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون ) تأكيد من الله عز وجل , على نعيمهم الذي هو فوق الإدراك والعلم . وهو نعيم يشمل نعيم الجسد والنفس والقلب .
فهم في " نعيم " وهي كلمة نكرة تفيد العموم , وكلمة " في " توحي بالانغماس في النعيم .
- ( على الأرائك ينظرون ) الناظر في الدنيا لا بد وأن يكل طرفه فيغضه تعبا أو مشقة , أو خجلا , فتكون لذته غير مكتملة . أما نظر الآخرة فنظر نعيم لا تنغيص فيه .
- ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) من المعلوم أن الإنسان في الدنيا إذا فرح ظهر البشر على وجهه فيعرف من يراه بفرحه حتى لو لم يتحدث ويخبر به , وهذا حالهم فيما نشاهده في ملامح الوجوه , فكيف هو حال القلب والمشاعر ؟! وكيف هو حال من كان فرحه دائما أبدا لا يحول ولا يزول كما في فرح الدنيا ؟!
- ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) كلمة " ذلك " توحي البعد , أي مد بصرك إلى الآخرة ونافس فيها , ولا تنافس في سفاسف الدنيا . وتدل على تعظيم هذا الأمر الذي يستحق التنافس .
ما الصلة بين هذه الآية وبين بداية السورة ( ويل للمطففين ) ؟
هم تنافسوا في المال والمتاع الزهيد , كل منهم يريد أن يناله , فكانت النتيجة ظلم وفجور وكذب وإثم , فالتنافس على أي شيء من أشياء الدنيا مهما كبر فهو لا نفع فيه , وكلما كبر التنافس حقر ما كان التنافس عليه في ميزان يوم القيامة . والذي يستحق التنافس فعلا هو النعيم الأخروي .
وبالمقارنة بين التنافسين نجد أن :
• تنافس الدنيا يحط الأخلاق , فكل واحد من المتنافسين يريد الفوز على حساب الآخر , فيظلم ويغش ويخدع , وإن لم يفز يكره ويحقد , وبعد الفوز يغتر ويتكبر ويدخله العجب والخيلاء .
• وتنافس الآخرة يرفع مشاعر المسلمين , فهو إن وجد لذة طاعة تمنى لو كل من يعرف يفعل مثله لينال تلك اللذة , وإن وجد محتاجا آثره على نفسه , وإن وجد من سبقه في الطاعات غبطه ولم يحسده . ... وهكذا , كلما نافس في الآخرة كلما ازداد رصيده من حسن الخلق .
- ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) و ( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) ضحك , وضحك , وشتان بينهما , فالسعيد هو من كان ضحكه يوم القيامة – وإن كثر حزنه وبكاؤه في الدنيا - .
- الكفار يضحكون عند رؤيتهم للمؤمنين , وعند الحديث عنهم في مجالسهم ,وفي بيوتهم مع أهليهم , ويتغامزون سخرية بهم عند مرورهم , لا تنقطع سخريتهم أبدا , وهذه نقمة عليهم , ونعمة للذين آمنوا , فهم تواصل في كتابة السيئات عليهم , والمؤمنين تواصل في كتابة الحسنات لهم .
إذن لماذا نحزن ونتضايق من سخرية الجهلة والعصاة ؟!
ووصف سخريتهم من الله دليل على علمه المحيط – سبحانه – بأحوال عباده المؤمنين , وما يواجهون من عداء الكفار , فهو إمهال للكفار وابتلاء للمؤمنين .
( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) هذه حياتهم في الدنيا بين أهليهم مسرورين لما ابتلاهم الله به من الغفلة مع الأمن والرخاء , وهذه من أعظم الإبتلاءات .
-( على الأرائك ينظرون ) و ( على الأرائك ينظرون )
الأولى نظر للنعيم , والثانية نظر لحال المجرمين , وكلاهما نعيم . وتذوق هذا النعيم يمسح مرارة السخرية التي ذاقوها في الدنيا .
والجزاء من جنس العمل , كل يجازى يوم القيامة من جنس آثامه في الدنيا , وكل ينعم يوم القيامة من جنس ما عمل أو صبر عليه في الدنيا .
( وما أرسلوا عليهم حافظين ) اشتغلوا بهم , وجعلوهم نصب أعينهم , وهذه حال الفسقة , لا همَّ لهم إلا التنقص من أهل الخير في مجالسهم , ومراقبتهم في كل صغيرة وكبيرة لتصيد أخطاءهم ثم تكبيرها .
( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) كلمة ثوب تدل على الثواب , وجاءت هنا لتدل على شدة السخرية والاستهزاء بالكفار جزاء ما كانوا يفعلونه في الدنيا من سخرية بالمؤمنين .

نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه , ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 25 جمادى الآخرة 1435هـ/25-04-2014م, 08:28 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الانشقاق

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانشقاق
هذه السورة من السور التي تتحدث عن أحداث يوم القيامة , وما يسبقه من أمور وأهوال عظام يشيب من هولها الوليد .
معنى آياتها :
( إذا السماء انشقت ) : " إذا " ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط , أي إذا حدث هذا الأمر ( انشقاق السماء ) يكون يوم القيامة . فهذه السماء العظيمة وما فيها من أجرام وكواكب ونجوم , ستتشقق , وينتثر ما فيها .
( وأذنت لربها وحقت ) أي : أصغت لأمر ربها , وأطاعته فيما أمرها به من الانشقاق , وحق لها أن تطيع أمره , لأنه أمر من عظيم , عزيز , قوي , لا يمانع ولا يغالب .
( وإذا الأرض مدت ) أي : بسطت وسويت , بسبب ارتجافها , واندكاك ما عليها , ونسف جبالها , ويمدها الله مد الأديم فتتسع لأهل الموقف جميعهم .
( وألقت ما فيها وتخلت ) أي : ما بداخلها من أموات وكنوز , تلفظها , وتتخلى عنها .
( وأذنت لربها وحقت ) فشأنها شأن السماء تطيع أمر ربها حين تسمعه .
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) : " يا أيها الإنسان " نداء من رب السموات والأرض لكل إنسان , أن يعلم بأنه خلق ليكدح في هذا الحياة الدنيا , أي : يسعى فيها بالعمل – وهذه صفة لازمة لكل إنسان لا تنفك عنه , وسيلاقي جزاء عمله من الله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا .
( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) وذلك يوم القيامة , وهذه صفة أهل السعادة , وبشارة لهم بدخول الجنة .
( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) أي : سهلا , لا عسر فيه , وهو العرض على الله فيقرره بذنوبه , حتى إذا ظن العبد أنه هلك قال له تعالى : سترتها عليك في الدنيا وأنا استرها اليوم , وعندها يأخذ كتابه بيمينه فرحا مسرورا , ينادي في أهل المحشر ( هآؤم اقرؤوا كتابيه ) .
( وينقلب إلى أهله مسرورا ) المنقلب أي : العودة , فيعود لأهله في الجنة , فرحا مسرورا بما أكرمه به الله عز وجل , حيث نجاه من العذاب , وأكرمه بالجنة .
وقد روت عائشة – رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " من نوقش الحساب عذب " قالت : فقلت : أفليس الله قال : ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ؟ قال: ليس ذاك بالحساب , ولكن ذلك العرض , من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ) .
( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) : وبالجمع بينها وبين قوله تعالى : ( وأما من أوتي كتابه بشماله ) [ الحاقة : 25] . فإنه يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره .
( فسوف يدعو ثبورا ) أي : من شدة خزيه وعاره , يدعو بالهلاك والخسار.
( ويصلى سعيرا ) يذوق العذاب في السعير , وسميت النار بذلك لشدة لهبها واشتعالها .
( إنه كان في أهله مسرورا ) أي في الدنيا كان يعيش حياة اللهو , منشغل بملذاتها .
( إنه ظن أن لن يحور ) الحور الرجوع . أي : لم يفكر بعاقبته بعد الموت , ولا يذكر البعث فيستعد له .
( بلى إن ربه كان به بصيرا ) أي عالم بحاله , وسيعيده إليه بالبعث , ثم يحاسبه على ما عمل .
( فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق ) قسم من الله تعالى بحمرة الشفق وهي بداية الليل قبل حلول ظلامه , وما غطى بظلامه مما لا يعلمه إلا الله , والقمر إذا اكتمل بدرا , ونشر ضوءه .
( لتركبن طبقا عن طبق ) هذا هو جواب القسم , والخطاب موجه لجميع الناس , بأنهم ينتقلون من حال إلى حال , ففي خلقهم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى جنين إلى طفل رضيع إلى صبي ... وفي مشاعره من فرح إلى حزن , ومن خوف إلى اطمئنان ....وهكذا في عمله , وصحته , وجميع شئونه .
( فما لهم لا يؤمنون ) أي : ومع ما يشاهدونه من حالهم التي ينتقلون بها من حال إلى حال , فمن فقر إلى غنى , ومن صحة إلى مرض , ومن شدة إلى رخاء , أو العكس . ومع ذلك لا يؤمنون بالله الذي جعلهم في هذه الأحوال الدالة على قدرته وعظمته , وأنه المستحق للعبادة دون سواه .
( وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) أي : لا ينقادون لأوامره , ولا ينتهون عن زواجره , ولا يسجدون تعظيما لقائله – سبحانه - .
( بل الذين كفروا يكذبون ) أي : أنهم إنما فعلوا ذلك كفرا وعنادا , لا جهلا منهم بعظمة القرآن , وعظمة من هو كلامه – سبحانه – , وصدق من بلغه – صلى الله عليه وسلم - .
( والله أعلم بما يوعون ) أي : أن الله عز وجل علمه محيط بهم , يعلم كل ما يعملونه , سرا وجهرا , وسيجازيهم عليه .
( فبشرهم بعذاب أليم ) أي : ما ينتظرهم من عذاب عند لقاء ربهم , وسماه الله بشارة سخرية بهم , وللتأكيد على شدة ما ينتظرهم .
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) " إلا " استثناء منقطع , فهؤلاء المؤمنين , الذين أطاعوا ربهم , وعملوا ما يرضيه , سيكون لهم أجر تام يوم القيامة , دائم لا ينقطع أبدا .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- ( إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت ) السماء تطيع أمر ربها – وكذلك الأرض – وكثير من البشر من يسمع أمر الله ولا يطيع , كما قالت اليهود :( قالوا سمعنا وعصينا ) .
ويترتب على ذلك أن ندرك أن السمع والطاعة لله من جميع الخلق وليس البشر فقط , وكلهم يطيع إلا فئة من البشر .
سبحان الله ! ألا يخجل الإنسان أن يكون الجماد خير منه !

- الأرض حين يمدها الله , تتخلى عما فيها من كنوز , وأموات , والعاقل من يترك الدنيا قبل أن تتركه , ويبني قبره قبل أن يدخله , ويرضي ربه قبل الوقوف بين يديه .
وتخليها يذكر بالمصير الحتمي , كل شيء سيتخلى عن الإنسان – حتى الأرض التي يدفن فيها – فليلجأ إلى من لا يتخلى عنه – العمل الصالح - .
ولو حسبنا كم غيبت الأرض في بطنها منذ أن خلق الله الخلق , وتخيلنا المشهد , حين تخليها عنهم !

- الإنسان اسم جنس مسبوق بلام الاستغراق , فتدل على كل إنسان – مؤمنا وكافرا , مطيعا وعاصيا , مقلا بعمله ومستكثرا - . والكدح : كلمة تعبر عن رحلة الحياة الدنيا كلها , وتشمل كدح بالجسد والمشاعر والعقل والمال والأهل والولد . وهو دليل قطعي على أنه لا راحة على الأرض في الحياة الدنيا , بل الراحة هناك لمن يستحق الراحة في الآخرة – في جنات النعيم , في مقعد صدق عند مليك مقتدر – اللهم إنا نسألك من فضلك . والكدح صفة لازمة للإنسان , ونتيجته حتمية , إما سعادة وراحة , أو شقاء وتعب .
وليعلم الإنسان أن كل طريق لكسب الحلال متعب وشاق ابتلاء واختبارا من الله , وطريق الحرام سهل لا تعب فيه .
لماذا ؟!
لو كان طريق الحلال أيسر لتحول الناس كلهم إلى الحلال , ولم يفكروا بالحرام , وهذه حكمة الله ليتمحص الإيمان .

- ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة – رضي الله عنها – (( من نوقش الحساب عذب )) قالت : قلت : أفليس الله قال : ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) قال : (( ليس ذلك بالحساب , ولكن ذلك العرض , من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ))
وقالت : سمعت الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول في بعض صلاته : (( اللهم حاسبني حسابا يسيرا )) فلما انصرف , قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير ؟ قال : (( أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه , من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك ))
- ( وينقلب إلى أهله مسرورا ) كيف هي حال من نال نجاحا دنيويا , فانقلب إلى أهله ؟! وهذا سرور الدنيا , فكيف بسرور الآخرة ؟! سرور النجاة من النار , ودخول الجنة , سرور نيل لذة النظر إلى وجهه الكريم !
يعجز القلم عن وصف الحال – وحق له –

- ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) ما حاله ؟
كاره , مكره , مهموم , حزين , خزيان , مخزي , يائس , بائس ..... إلى آخر مفردات اللغة في سوء الحال .
لماذا ؟
( إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور )
هذا كان مسرورا , وذاك صار مسرورا , وشتان بين سرور سببه غرور النفس , ووسواس الغَرُور , وسرور سببه اليقين من حقيقة دائمة لا تحول ولا تزول , فعمل لها – وهي لقاء الله والوقوف بين يديه -
- ما الفرق بين ( ينقلب ) و ( كان في أهله ) وبين ( إنه ظن أن لن يحور ) ؟
الفرق هو الاستبعاد وعدم التصديق , فليس الظن بمعنى عدم الرجعة هو ممن ينكر البعث فقط , بل من يعلم الرجعة ولا يستعد لها , وينساها ويغفل عنها فهو منكر وإن ذكر غير ذلك بلسانه فواقع حاله يكذب مقاله .
ولنكن واقعيين !
أين حقيقة الموت من مشاعرنا , وتفكيرنا , وحياتنا عامة ؟!
- ( يدعو ثبورا ) دعاء بالهلاك , وعلى من ؟!
على نفسه !
أي تعاسة وشقاء أشد من ذلك !
وقبل الدعاء خطوات هي :
• كدح في الدنيا , ونتيجته صفر .
• نتيجة سيئة في الآخرة , لأن رصيده صفر .
• يزيدها بالدعاء على نفسه بالهلاك .
فحاله حال من كانت عنده آلة ثمينة جدا , وقيمة جدا , وفجأة توقفت عن العمل , فحملها وألقاها على الأرض بشدة , احتجاجا على توقفها .
والمفروض : معرفة سبب التوقف , ثم إصلاحها .
والنتيجة : تلف كامل بعد أن كان جزئيا , وخسارة كاملة .

- ( فلا أقسم بالشفق ) الشفق لحظة تشعر فيها النفس المؤمنة بالرهبة , لأنها تتذكر بها نهاية الدنيا وإقبال الآخرة , ووحشة الظلام التي بعدها تذكر بالقبر وما بعده في حياة البرزخ , تذكر لحظة الشفق بالوداع , وما فيه من مشاعر آلام , وكل وداع معه أمل اللقاء , إلا وداع الدنيا بالموت !
وتذكر حمرة الشفق بنار جهنم وشدة عذابها , فتنخلع النفس من الخوف , فتفر إلى الله ( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) [ الذاريات : 50] .

- ( والليل وما وسق ) كلمة ( وما وسق ) تدل على أنه يجمع تحت ظلمته كل شيء , مما يشعر بالكثرة الهائلة , ولتخيل البحر وما في أعماقه , والبر وما على تضاريسه , والغابات وما في باطنها , والجو وأسراره , وكلها قد لفها ظلام الليل ! ثم لنتساءل , كم مقدار قدرة بصري على رؤية تلك الأشياء , وكم مقدار قدرة عقلي على إدراكها , وكم مقدار شجاعة نفسي بعدم الرهبة منها ؟

- ( لتركبن طبقا عن طبق ) أي لا خيار لك !
وهل معنى ذلك أن الإنسان مسير لا مخير ؟
الإنسان مخير , لأن الله خلقه كذلك حيث خلقه على الفطرة , واعطاه عقلا يميز بين الخير والشر , وهداه للاختيار . فهو مخير في الاختيار بين الكفر والإيمان . لكنه غير مخير في اختيار أو قبول النتيجة يوم القيامة – جنة أو نار - .
( فمالهم لا يؤمنون ) لأن كل الموجودات في الكون من آيات الله ودلائله , وما أعطاهم , طرق تدعو إلى الإيمان به – سبحانه –
وهم لا يؤمنون ؟!

( والله أعلم بما يوعون ) السرائر .. السرائر .. فلنتق الله فيها .
- ( فبشرهم ) البشارة لا تكون إلا بخير , وهنا بشارة بالشر والعذاب , فهذه منتهى السخرية والتهكم بهم – ويستحقون ذلك – فالعذاب نتيجة حتمية لعدم إيمانهم , وهذه البشارة لهم بداية العذاب .

اللهم نور بصائرنا في أمور ديننا ودنيانا , وأجرنا من خزي الدنيا , وعذاب الآخرة .

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 25 جمادى الآخرة 1435هـ/25-04-2014م, 08:56 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة البروج

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج

في هذه السورة أخبر الله عز وجل عن حادثة الأخدود , والتي فيها عمد كفار إلى فئة من المؤمنين , فخدوا لهم الأخدود , وأضرموا فيه النار , وألقوا فيه من لا يرجع عن دينه إلى الكفر , ليعلن لجميع الخلق أن النصر للعقيدة وأهلها , وأن المؤمن الحق لا يساوم على دينه , ولا يتنازل حتى لو فقد حياته .
معنى آياتها :
( والسماء ذات البروج ) : ( الواو ) للقسم , فالله تعالى يقسم بأكبر مخلوقاته المشاهدة , ذات المنازل العظيمة للشمس والقمر وسائر الكواكب والنجوم , والتي تدل على عظمة خالقها - سبحانه –
(واليوم الموعود ) : ( الواو ) للعطف , فيقسم الله أيضا بيوم القيامة , الذي وعد الله الخلق بالبعث فيه , ثم الحساب والجزاء .
( وشاهد ومشهود ): اختلف المفسرون في معناهما , ومنهم من قال : هو قسم من الله عز وجل بيوم عرفة وهو المشهود ويوم الجمعة وهو الشاهد , ومنهم من فسرها على عموم المعنى , والمعنى كل ما يُشاهد ويشاهِد .
( قتل أصحاب الأخدود ) : هذا هو جواب القسم , والأسلوب في كلمة ( قتل ) دعاء بالهلاك من الله عز وجل على أصحاب الأخدود – ودعاؤه محقق الإجابة - . وأصحاب الأخدود هم كفار , يعيش بين ظهرانيهم فئة مؤمنة , فأرادوا أن يجبروهم على ترك الإيمان والدخول في الكفر , فامتنعوا , فحفروا لهم أخدود – وهو حفر في الأرض مستطيلا عميقا – وأججوا فيه النيران , وجمعوا المؤمنين حوله , فمن استجاب لهم تركوه , ومن تمسك بدينه ألقوه في النار.
( النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود ): هذا تفسير لفعل الكفار في الأخدود الذي خدوه .
وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود : أي أنهم كانوا حاضرين يشهدون عذاب المؤمنين , مما يدل على قسوة قلوبهم , وجبروتهم .
( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) : الأسلوب في قوله ( وما نقموا ) نفي , مما يدل على استحالة وجود سبب لفعلهم المشين بالمؤمنين , إلا ما ذكره الله عز وجل , وهو إيمانهم بالله . ثم وصف نفسه سبحانه بالعزيز القوي الذي لا يغالب ولا يمانع , الحميد في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته .
( الذي له ملك السموات والأرض ) : هذا تفسير للعزيز الحميد – سبحانه – بأنه من يملك السموات والأرض وما بينهما وما فيهما , يتصرف فيهما كيف يشاء , تصرف الملك بعبيده , ويقدر عليهم ما يشاء بحكمته - سبحانه - .
( والله على كل شيء شهيد ) : بعلمه سبحانه المطلق , لا يغيب عليه أمر في السماء ولا في الأرض , ولا تخفى عليه خافية , فهو عالم بحال المؤمنين وما هم فيه من بلاء وشدة , وعالم بحال الكفار وما هم عليه من طغيان وجبروت وقسوة .
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ): أي هؤلاء الذين فتنوا المؤمنين في دينهم , بما فعلوه بهم في الأخدود , والفتنة هنا هي إجبارهم على الكفر أو قتلهم بالحرق .
ثم لم يتوبوا : كما قال الحسن البصري – رحمه الله - : انظروا إلى هذا الكرم والجود , قتلوا أوليائه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة .
( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) : الجزاء من جنس العمل , فعلى كفرهم سيدخلون جهنم يوم القيامة , وكما حرقوا أولياء الله بالنار سيكون لهم الحريق من الله – وشتان بين حريق نار الدنيا وحريق نار الآخرة - !
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ): هذا الخبر عن الفئة التي فتنت خاصة , وكل مؤمن عامة , أنه إذا حقق الإيمان قلبا, وعمل بما يرضي الله بجوارحه , سينال موعود الله .
( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار )
( ذلك الفوز الكبير) : ( ذلك ) اسم الإشارة يفيد الحصر , بأنه لا فوز سواه , وإن سمي غيره فوزا فهو اشتراك في الاسم , لا في الحقيقة , فالفوز الحقيقي هو دخول الجنة , والتوفيق للعمل الذي يرضي الله في هذه الدار , وما دونه فهو فوز بالاسم فقط .
( إن بطش ربك لشديد ): وعيد من الله تعالى لكل عدو يعادي عباده المؤمنين , يتجبر عليهم , بأنه لهم بالمرصاد وسيبطش بهم بطشا شديدا , ثم لا يجدون لهم وليا ولا نصيرا .
( إنه هو يبدئ ويعيد ): أي أن من توعدهم بالبطش , هو القادر , القوي , الذي لا يعجزه شيء أبدا , فهو المتفرد بالبداية فخلقهم , وهو من باب أولى قادر على إعادتهم بعد الموت , وإن ذلك على الله يسير .
والضمير ( هو ) للاختصاص والتأكيد .
(وهو الغفور الودود ): أي يغفر ذنوب من تاب إليه وأناب , والودود : أي الذي يحب الأتقياء من خلقه , ويحبونه حبا لا يوازيه حب أي شيء في حياتهم , وكما قال عنهم : ( يحبهم ويحبونهم ) .
( ذو العرش المجيد ): أي : هو صاحب ومالك العرش العظيم الذي أكبر من السموات والأرض والكرسي – سبحانه وتعالى - .
( فعال لما يريد ): كل ما أراده قال له كن فيكون , ولا يسأل عما يفعل , ولا يعجزه شيء , وذلك لعظمته وقهره وكمال سلطانه .
(هل أتاك حديث الجنود ): هل بلغك ما حل بأعدائه من بأس ونقمة , لم يردها عنهم لا قوة خلقهم , ولا قوة سلطانهم . وجاء الأسلوب ب " هل " للتشويق والإثارة , وهي خطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم خاصة , و عامة خلقه عامة .
(فرعون وثمود) : تفسير لما قبلها – الجنود - . وفرعون هو ملك مصر الذي أدعى الألوهية, والمقصود هو ومن تبعه من قومه , وثمود هم أصحاب الحجر ونبيهم صالح عليه السلام , وهم الذين اغتروا بقوتهم التي وهبهم إياها الله فلم يشكروه عليها بل كفروا وطغوا .
(بل الذين كفروا في تكذيب) : أي هم في شك وريب كفرا وعنادا , وكلمة " في " تدل على الاستمرار , فهم لا ينتفعون بموعظة , ولا يتأثرون بآية .
(والله من ورائهم محيط ): أحاط بهم بعلمه وقدرته , في هذا الأسلوب وعيد وتهديد منه سبحانه لهم .
( بل هو قرآن مجيد) : وصف القرآن بأنه مجيد , أي : عظيم المعاني , واسعها , لا تنقضي خيراته وعجائبه لمن آمن به وتدبره .
( في لوح محفوظ ): محفوظ من التغيير أو التحريف أو النقص أو الزيادة . وذلك لجلال قدره عند الله عز وجل .
من ثمرات التدبر في الآيات :
- القسم من الله عز وجل ( والسماء ذات البروج ........) ثم الدعاء ( قتل أصحاب الأخدود ) دليل على انتصار الله للعقيدة وأهلها في كل زمان ومكان . والدعاء منه - سبحانه – محقق الإجابة . وهو دليل على شدة غضب الله على من آذى أولياءه وعباده الصالحين .
- قصة أصحاب الأخدود – كما وردت في حديث صحيح رواه مسلم وغيره هي : عن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (( كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر , فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني وحضر أجلي , فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر . فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر , وكان بين الساحر وبين الملك راهب , فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه , وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك , وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك , فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر , فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس فلا يستطيعوا أن يجوزوا , فقال اليوم أعلم إن كان أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر , قال : فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس , ورماها فقتلها , ومضى الناس . فأخبر الراهب بذلك , فقال : أي بني أنت أفضل مني , وإنك ستبتلى , فإن ابتليت فلا تدل علي . فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء , ويشفيهم , وكان للملك جليس فعمي , فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة , فقال : اشفني , فقال : ما أنا بشافي أحد , إنما يشفي الله عز وجل , فإن آمنت به دعوت الله فشفاك , فآمن فدعا الله فشفاه . ثم أتى للملك فجلس منه نحو ما كان يجلس , فقال له الملك : يا فلان من ردَّ عليك بصرك ؟ فقال : ربي , فقال : أنا ؟ قال : لا , ربي وربك الله , قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ربي وربك الله , فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام , فبعث إليه فقال : أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء ؟ قال : ما أشفي أحد إنما يشفي الله عز وجل , قال : أنا ؟ , قال : لا , قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله , فأخذه أيضا بالعذاب , فلم يزل به حتى دل على الراهب , فأتي بالراهب , فقال ارجع عن دينك , فأبى , فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه , وقال للأعمى ارجع عن دينك فأبى , فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض , وقال للغلام : ارجع عن دينك , فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا , وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه , فذهبوا به , فلما علوا به الجبل قال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فرجف الجبل فدهدهوا أجمعون , وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك , فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى , فبعث به مع نفر في قرقور فقال : إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر , فلججوا به البحر , فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت , فغرقوا أجمعون , وجاء الغلام حتى دخل على الملك , فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال: كفانيهم الله تعالى , ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به , فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني , وإلا فإنك لا تستطيع قتلي , قال وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع , وتأخذ سهما من كنانتي , ثم قل : بسم الله رب الغلام , فإنك إن فعلت ذلك قتلتني . ففعل ووضع السهم في كبد قوسه , ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام . فوقع السهم في صدغه , فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات , فقال الناس : آمنا برب الغلام , فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد والله نزل بك , قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد , وأضرمت فيها النيران , وقال من رجع عن دينه فدعوه , وإلا فأقحموه فيها . قال : فكانوا يتعادون ويتدافعون , فجاءت امرأة بابن لها ترضعه, فكأنما تقاعست أن تقع في النار , فقال الصبي : اصبري يا أماه فإنك على الحق .
-( النار ذات الوقود ) تصوير ما حدث من الأعداء في إشعال النار بهذه الكلمات , دليل على بشاعة ما فعلوه بأولياء الله , وهذا يدل على أن الإنسانية وما تتصف به من صفات الرحمة والشفقة , مرتبطة بتقوى الله عز وجل . ومن قسا قلبه عن الإيمان بالله قسا عن كل شيء .
والتعبير " بالنار " يدل على قوة توهجها ولهبها , و" ذات الوقود " تعبير عن استمرار شدتها لا تخمد أبدا ولا تضعف .
( إذ هم عليها قعود ) قعودهم حول النار شهادة عليهم من أنفسهم على فعلهم , وكفى بالله شهيدا عليهم . فالمشهد تتفطر القلوب من ذكره , وهم لم يتعظوا برؤيته . فهذه أعظم درجات الجبروت – نسأل الله العافية - .
- في قوله ( النار ذات الوقود ) و ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) دليل على أن الجزاء من جنس العمل , لكن هل هناك توازي أو مساواة بين نار الدنيا والآخرة , في عذابها وحريقها ؟!
- ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ) يفتح الله تعالى باب التوبة لكل مذنب – مهما بلغ جرمه – ليعلن لخلقه أن رحمته سبقت غضبه . فلن يقع في غضبه إلا من حرم نفسه من رحمة ربه .
- ( ذلك الفوز الكبير ) كلمة " ذلك" فيها بيان لحقيقة الفوز , فليس الفوز بما يحوز في الدنيا من راحة بل الفوز الحقيقي بدخول الجنة .
- ( إن بطش ربك لشديد ) فيها تهديد ووعيد لكل جبار عنيد في كل زمان ومكان , وصمام أمان لكل مؤمن يواجه عداوة الأعداء وأذاهم , بأن الله سينتقم له .
- ( الودود ) اسم من أسماء الله الحسنى , معناه من يحبه خلقه محبة لا تماثلها أي محبة أبدا , فماذا يساوي القتل أو التعذيب أمام هذا الحب ؟! الذي هو أصل العبادات كلها , وهو طريق نيل حب الله الذي يعلنه الله عز وجل لجبريل عليه السلام في السماء بأن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل عليه السلام ثم ينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض – نسأل الله عز وجل أن نكون منهم .
به يهون العذاب , ويهون بذل الروح , وكما قال بلال بن رباح – رضي الله عنه – مزجت مرارة العذاب بحلاوة الحب فطغت عليه .
- ( هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود ) التعبير بالجنود إشارة إلى القوة وكمال الاستعداد , والتعبير ب "هل" فيه تشويق وإثارة , تشرح قلب المؤمن , وتوحي إليه بأن اطمئن فقوة أعداء الله – مهما بلغت – لا تساوي شيئا أمام قوة الله – عز وجل – المؤيد الناصر لك .
- ( والله من ورائهم محيط ) محيط بعذابه بالكفار , وبالمقابل محيط للمؤمنين برحمته وولايته ونصرته .
- القرآن المجيد كلام الله الذي لا أعظم منه , محفوظ في اللوح لجلال قدره عند الله تعالى , فحري بالمؤمن أن يجعله محفوظا في صدره وقلبه وعقله .

اللهم وفقنا لما تحب وترضى من القول والعمل الصالح , وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 25 جمادى الآخرة 1435هـ/25-04-2014م, 09:15 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الطارق


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه السورة أقسم الله عز وجل فيها بأكبر مخلوقاته , وأعظم آياته , وكل ما أقسم الله به فالقسم دلالة على لفت الإنتباه لعظمة هذا المخلوق ومكانته عند خالقه .
وآيات السورة تذكير الإنسان بحقيقته , ومآله .
معنى آياتها :
( والسماء والطارق ) قسم من الله عز وجل بالسماء وما فيها من كواكب , وسمى النجم طارقا لأنه يظهر في الليل ويختفي بالنهار . وهو اسم جنس لكل نجم .
( وما أدراك ما الطارق ) نفي العلم عن الإنسان بمعرفة حقيقة الطارق , مع معرفة ما هو .
( النجم الثاقب ) هذا تفسير لحقيقة الطارق , فهو مضيء يثقب ضوءه السموات والفضاء, وترجم به الشياطين .
( إن كل نفس لما عليها حافظ ) هذا جواب القسم , ومعناه أن كل نفس خلقها الله عليها حافظ يحفظ أعمالها ثم توافى بها يوم القيامة , ويدل على ذلك قوله تعالى : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18] , وعليها في الحياة حافظ من الله يحفظها من كل شر , ويدل عليه قوله تعالى : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) [ الرعد : 11] .
( فلينظر الإنسان مم خلق ) دعوة من الله لكل إنسان أن يتأمل في خلقه , كيف كانت بدايته , ولا ينكر أحد ذلك أبدا أنه خلق من ماء مهين , بعد الخلق الأول من طين , حيث قال تعالى : ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 7-8] .
( خلق من ماء دافق ) أي : ماء المني الذي يخرج من الرجل ومن المرأة , فبإذن الله يتكون منه الجنين .
( يخرج من بين الصلب والترائب ) أي : هذا الماء الدافق يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة .
( إنه على رجعه لقادر ) أي : الله الذي أوجد الإنسان من هذا الماء قادر على أن يعيده مرة أخرى بالبعث , بل الإعادة أهون عليه , كما قال تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27] .
( يوم تبلى السرائر ) أي : الإعادة ستكون في يوم القيامة , وفي ذلك اليوم يظهر كل ما كان مخبوءا في الدنيا في الصدور من أسرار , ونوايا , وخير وشر . فتصبح جميع الأمور علانية , ويكون الحساب من رب العباد .
( فما له من قوة ولا ناصر ) أي : في تلك اللحظة لن يجد الإنسان قوة في نفسه تحميه مما ينتظره , ولا ناصر ومعين من سوى نفسه يدفع عنه .
( والسماء ذات الرجع ) قسم من الله عز وجل بالسماء التي تمطر , وتعاود المطر مرة بعد مرة .
( والأرض ذات الصدع ) أي : وقسم أيضا بالأرض التي تتصدع تربتها , فيظهر النبات, فيأكل منه الإنسان والحيوان .
( إنه لقول فصل ) أي : قسم الله تعالى بالسماء والأرض على أن القرآن حق , لا شك فيه,فصل بين الحق والباطل , والهدى والضلال .
( وما هو بالهزل ) أي : واضح لا غموض فيه , صدق لا كذب فيه , جد لا هزل فيه .
( إنهم يكيدون كيدا ) أي : إن المكذبين بالقرآن يدبرون المكائد , ويمكرون بخبث ودهاء ليردوا الحق الذي جاء به القرآن , ويصدون الناس عن قبوله .
( وأكيد كيدا ) أي : وعيد من الله عز وجل بأنه سيقابل كيدهم بإظهار الحق , وقمع الباطل , وما كيد الكافرين إلا في ضلال .
( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) أي : لا تستعجل مصير هؤلاء المكذبين الكافرين , وسترى ما سيحل بهم من عذاب وخزي جزاء ما كانوا يفعلون .
ثمرات التدبر في آيات السورة :
- ( والسماء والطارق ) قسم من الله تعالى بآيات من آياته الكونية , وتدل على قدرة الله وعظمته , وفي ذلك تنبيه للخلق بأن يتأملوا ويتدبروا في هذه الآية ليزدادوا إيمانا ويقينا .
- ( وما أدراك ما الطارق ) دعوة للإنسان ليستشعر أنه مهما بلغت قوته وقدرته , فهو ضعيف أمام صورة واحدة فقط من قدرة الله تعالى .
- ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) نحمد الله عز وجل على هذه النعمة , أن جعل لنا من يحفظنا ويحمينا . وعند تفسيرها بمن يحفظون أعمالنا لنحاسب عليها يوم القيامة لا بد أن تكون عندنا رقابة ذاتية تدفعنا لفعل الصالحات وتجنب السيئات . وهذا من تمام عدله سبحانه , مما يشعرنا بالاطمئنان أن لا نظلم ولا يضيع لنا حقا .
- عندما نقابل بين تدبر قدرة الله وعظمته في خلق السماء والطارق , وبين قوله : ( فلينظر الإنسان مم خلق ) نجد فيها دعوة للإنسان أن يشاهد قدرة الله تعالى وليدرك ضعفه وعجزه , ثم يفكر ويدرك بأنه لا غنى له عن ربه .
- ( خلق من ماء دافق ) كم هي المسافة العقلية بين ماء دافق وجسد مكون من لحم وعظم وعصب وعقل ومشاعر وأحاسيس ولسان ينطق ؟!
والماء الدافق به ملايين الحيوانات المنوية , لكن واحد فقط هو الذي يلقح البويضة , إذن هذا الواحد اختاره سبحانه من بين الملايين ليكون إنسانا ! فاستشعر تكريم الله لي ,الذي نبه عليه في قوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [ الإسراء : 70] , وبعد ذلك فأي شكر وأي عبادة لله تؤدي حق الله عز وجل في هذه النعمة وغيرها ؟!
- ( النجم الثاقب ) يكشف بنوره ما تخفيه الظلمة , وما تحتها من أسرار كونية . و ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) تبين حقيقة علم الله تعالى المطلق , و ( يوم تبلى السرائر ) في ذلك اليوم يظهر الله ما كان في القلوب ولم يطلع عليه أحد .
هذه ثلاثة أمور كلها تدل على قدرة الله المطلقة , وبعدها أيعجزه أن يرجعه بعد الموت , وهل ينكر عقل واعي أن القادر على ما سبق قادر على البعث ؟!
- ( فما له من قوة ولا ناصر ) كل عاقل لا يغتر ولا ينخدع بمن حوله , ولا ما معه من مال , ولا ما عنده من حسب ولا نسب ولا جاه .
- في قوله ( خلق من ماء دافق ) و ( والسماء ذات الرجع) و ( ويخرج من بين الصلب والترائب ) و ( والأرض ذات الصدع ) دليل على وحدة الحياة , ثبات نظامها , فالأرحام تخرج الخلق , والسماء تخرج الماء , والأرض تخرج النبات , وذلك دليل قاطع على وحدانية موجدها .
- ( إنهم يكيدون كيدا ) كيد من مجموعة , و ( وأكيد كيدا) كيد من فرد صمد , وذلك دليل على أنها معركة خاسرة محققة الخسارة للجماعة , مهما بلغت قوتها أمام وحدانية الله .
فصورة المواجهة أنها بين طرفين , لكنها في حقيقتها طرف واحد , فمن ذا الذي لا يملك حتى نفسه ثم يكيد , كيف يكيد من لا يملك الإبقاء على حياته , فتسلب منه رغما عنه ؟!
- ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) جاءت بصيغة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تكريما من الله عز وجل .
ألا نتعلم من ذلك عدم العجلة في شؤون حياتنا ؟
ألا نتعلم الخوف من مغبة هذه العاقبة ؟

اللهم لا تجعل لسفيه ولا فاجر علينا سبيلا , واحفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين .

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 03:34 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى

خاطب الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم , والخطاب عام لجميع أمته , وأمره بالتسبيح , وكان صلى الله عليه وسلم يتمثل ذلك في قراءته , وصلاته , وشأنه كله .
فضلها :
ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى .
2- وروى مسلم وأهل السنن : كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية , وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما .
3- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد .
4- وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لما نزلت ( فسبح باسم ربك العظيم ) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اجعلوها في ركوعكم ) فلما نزلت ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال : ( اجعلوها في سجودكم ) .
5- وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال : ( سبحان ربي الأعلى ) .
معنى آياتها :
( سبح اسم ربك الأعلى ): التسبيح هو تنزيه لله وتقديس له عما لا يليق بجلاله .
والأعلى : اسم من أسمائه سبحانه معناه : أنه له العلو المطلق من جميع الوجوه في ذاته وصفاته وأفعاله وحكمه وملكه , علو في غاية الكمال وفي جميع الأحوال .
والأمر بالتسبيح موجه للرسول صلى الله عليه وسلم , وهو عام لجميع أمته , لأن كل خطاب له فهو لأمته إلا ما ثبتت خصوصيته .
( الذي خلق فسوى ): تفسير لما قبلها , فالذي يستحق التنزيه والتسبيح , هو الذي خلق الخليقة جميعهم , وسوى كل خلق منهم في هيئة تناسبه , وتليق به , فإتقانه لما خلق دليل على أفعاله التي تدل على علوه المطلق , فلا يستحق أن يعبد سواه .
( والذي قدر فهدى ) : قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض , وهدى كل مخلوق لما قدره له , فهدى الإنسان لما قدره له من السعادة أو الشقاوة , وهدى كل مخلوق لما يصلح حياته في هذه الحياة الدنيا , كما نشاهد في حياة الحيوانات والحشرات .
( والذي أخرج المرعى ) : أي ما يرتع فيه الإنسان وترعاه البهائم من نباتات وزروع . فالله عز وجل هو الذي بقدرته أنزل المطر من السماء , وأنبتها به .
( فجعله غثاء أحوى ) : الضمير يعود على المرعى الذي أخرجه الله خضرا , نضرا , ثم بعد ذلك يجعله هشيما يبسا , قد تغيرت خضرته إلى سواد , ونضارته إلى جفاف .
( سنقرئك فلا تنسى ): الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم , بأن الله عز وجل قد تكفل له بأن يقرأه الوحي , فيسمعه , فلا ينساه بعد ذلك أبدا , وهذا من كرم الله عز وجل لنبيه حيث أكرمه بذلك كما في قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرآنه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) [ القيامة : 16-19] .
وهذا الخطاب مما ثبتت خصوصيته للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته .
( إلا ما شاء الله ) : هذا استثناء فيما سينساه الرسول صلى الله عليه وسلم , مما اقتضت حكمة الله تعالى بنسيانه له . وقد أوقع بعض العلماء ذلك على ما في أحكام النسخ .
( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) : سبحانه له العلم المطلق , فيعلم بما يجهر به الخلق , وما يخفونه من أقوال أو أعمال , ثم يحاسبهم عليها , ومن علم ذلك وآمن به يسعى لإصلاح سريرته كما يسعى لإصلاح علانيته . وعلمه بما يخفى أيضا ما يخفى على الخلق – وإن كان من خصائص حياتهم – يعلمه ولا يعلمونه – فبذلك يكون قدره وقضاؤه وفق ما تقتضي حكمته وعلمه , لا حسب ما يعلمون هم .
( ونيسرك لليسرى ) : هذا من تكريم الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم , حيث تكفل له بتيسير أموره الشرعية والقدرية والكونية , لذلك كان دينه دين الحنفية السمحاء , لا حرج فيه ولا مشقة على أحد .
( فذكر إن نفعت الذكرى ): أي ذكر بشرع الله , وعلمه للناس , ما دامت الذكرى تجد من يسمعها , ولا يهمك إن حدث القبول أو لم يحدث , فمهمة الرسل التبليغ والتذكير لا الهداية .
( سيذكر من يخشى ): أي أن سيقبل التذكير من يخشى الله عز وجل , وكانت فطرته سليمة . وهذه الخشية ستكون دافعا له ليعمل الصالحات ويبتعد عن السيئات .
( ويتجنبها الأشقى ): أي من كان شقيا بأفعاله السيئة , وبشططه عن قبول الحق , لن تنفعه الذكرى , ولن تكون في قلبه خشية من الله عز وجل تردعه عن فعل المعاصي .
( الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحي) : هذا مصير من لم ينتفع بالذكرى التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم , فمصيره النار التي لا أكبر منها في عذابها , ويكون حاله فيها عذابا أليما لا يستريح منه بموت أبدا , ولا يجد الحياة التي تريحه .
( قد أفلح من تزكى ): أي الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة لمن طهر قلبه من الكفر , ونفسه من سيء الأخلاق , وحياته من درن المعاصي .
( وذكر اسم ربه فصلى ) : هذه صفة المفلحين , فهم ذاكرين لله تعالى في أجل عبادة هي الصلاة, يحافظون عليها أداء , ووقتا , وخشوعا , على الوجه الذي يرضي ربنا سبحانه .
( بل تؤثرون الحياة الدنيا ): أي تفضلون دار الفناء على دار البقاء , اغترارا بزهرتها العاجلة , وزهدا بنعيم الآخرة التي فيها النفع كل النفع لكم .
(والآخرة خير وأبقى ) : كلمة خير نكرة فهي تعم , فالآخرة خير من الدنيا بكل نعيم يوصف بالخيرية , سواء كان ماديا أو معنويا , معلوما للخلق أم غير معلوم . وهي أبقى لأنها دار الخلد والمقامة التي لا تحول ولا تزول .
( إن هذا لفي الصحف الأولى ) : اسم الإشارة يعود على * المذكور في سياق آيات السورة , فهو قد ذكر في الصحف الأولى التي فسرت بما بعدها * وقيل يعود على خبر هذه السورة * وقيل يعود على الآيات من قوله : ( قد أفلح من تزكى ..........) .
( صحف إبراهيم وموسى ) : أي كل ما ذكر في هذه السورة من أوامر شرعية فهي قد ذكرت لمن كان قبلكم في صحف إبراهيم وموسى , فشرع من قبلنا هو شرعنا , فدين الله واحد لا يتبدل ولا يتغير .


التدبر في آيات السورة :
- بدأت السورة بالأمر من الله لرسوله بالتسبيح , مما يدل على أهميته , 1- فهو أحب من الدنيا وما فيها , كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لأن أقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر , أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
2- وهو غنيمة المؤمن في أجرها وثوابها وسهولة قولها , كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان , ثقيلتان في الميزان , حبيبتان إلى الرحمن , سبحان الله وبحمده , سبحان الله العظيم . ) متفق عليه .
3- وهو ذكر أهل الجنة التي يلهمونه كما يلهمون النفس .
- خلق الله الخلق وسوى هيئة كل مخلوق بما يناسبه , وجعله في أحسن الهيئات , والعاقل الذي يدرك ذلك يرضى بما خلقه الله عليه من هيئة جسمية أو لون بشرة أو جنس معين , وهذا الرضا يحقق ركن من أركان الإيمان هو الإيمان بالقضاء والقدر . فيعيش براحة نفسية لا مثيل لها .
- والله عز وجل قدر المقادير , ومنها أن قدر لكل مخلوق سبيل حياة تناسبه ثم هداه لها, كما نشاهد في حياة الحشرات مثل النحل كيف هداه الله لبناء الخلية بشكل معين , ثم هداه لامتصاص الرحيق من الزهور , ثم هداه أن يضع العسل في الخلية , ولا يضعه في مكان آخر . وهكذا في بقية المخلوقات . وهذه هي الهداية العامة , والهداية الخاصة ببني البشر أن هداهم لمعرفة طريق الخير من الشر .
- أخرج الله النباتات والزروع خضراء يانعة , ثم تصير صفراء ذابلة , ثم تيبس , ثم تصير حطاما متغيرة اللون . وهذا من الآيات الكونية المشاهدة بعين البصر والبصيرة, وهي من دلائل قدرة الله على البعث .
- امتن الله سبحانه على نبيه بأن يقرأه الوحي فلا ينساه أبدا , وفي ذلك دلالة على عظم مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله عز وجل . ودليل على قدرته عز وجل .
والنسيان في حياة الإنسان نعمة , لكنها إذا زادت عن حدها انقلبت لنقمة . وكل مسلم حريص على حفظ كلام الله عليه بمعالجة هذا الداء بكثرة التكرار والاستظهار .
وذكر الحسن بن أبي بكر النيسابوري أن فقيها كان يردد الدرس في بيته كثيرا , فقالت عجوز : والله لقد حفظته أنا , وقرأته عليه – كأنها تعيره على كثرة التكرار - . وبعد عدة أيام قال لها : أعيديه علي , قالت : نسيته . فقال لها : أنا أكرر الحفظ حتى لا يصيبني ما أصابك .
- الله يعلم الجهر وما يخفى , ومن علم ذلك أدرك أنه لا مفر له من إحاطة علم الله به إلا إلى طاعته , ومن استشعر ذلك ارتدع عن كل ما لا يرضي الله عز وجل حتى لو كان خاليا , لأنه يعلم اطلاع الرب عليه , فيستحي منه .
- الله هو الميسر لأعمال الخير , ولا ييسر لها إلا من يسعى إليها بالطلب والدعاء والإلحاح .
- ( فذكر إن نفعت الذكرى ) هذه الآية توضح جلال العلم , وأنه لا يوضع عند من لا ينتفع به .
وهذه الآية تتضمن من مفهومها , أن الذي لا ينتفع بالذكرى , وقد يصل إلى درجة العتو والاستكبار , كما في حال الكفار أمثال فرعون , فإن المذكرين لا يحاسبون على عدم انتفاعهم .
- الفوز والفلاح مطلب كل إنسان في هذه الحياة – حتى الكفار يريدون الجنة رغم أنهم لا يعملون لها , كما هي حال اليهود في قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه – لكن لا يناله إلا من اتبع وسائله وهي :
1- تزكية القلب وتطهيره من الكفر والشرك والشك وجميع الأمراض القلبية مثل الحقد والحسد , وتزكية الحياة بتطهيرها عن كل ما يدنسها من كبائر كالغيبة والنميمة وفواحش كالسرقة والغصب والزنا وغير ذلك .
2- المحافظة على الصلاة وأداؤها على أكمل وجه , وكل طاعة تقرب من الله , لأن كلمة ذكر في هذه الآية معناها الصلاة , وفي عمومها فهو كل ما أمر به الله , ويقرب منه من أعمال قلبية أو بدنية , أو ثناء على الله .
3- تمام العلم بحقيقة الدنيا والآخرة , فلا يقدم الفانية على الباقية . ولا يهتم بما يزول ويغفل عما لا يزول .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المفلحين في الدنيا والآخرة .

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 03:49 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي

سورة الغاشية



بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
التدبر في هذه السورة يأخذ القلب والعقل في جولة إيمانية في عالم الدنيا والآخرة , وقد بدأها الله تعالى بخطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم بأسلوب التنبيه والإثارة , فما الذي تدعو إليه هذه السورة !
معنى آياتها :
( هل أتاك حديث الغاشية ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم , وهو خطاب لكل ذا قلب سليم من أمته .
والحديث : بمعنى الخبر . وجاءت الكلمة نكرة مضافة إلى معرفة لتعم كل حديث عنها .
والغاشية : اسم من أسماء يوم القيامة , وسميت بذلك لأنها تغشى الناس وتعمهم بأهوالها وشدائدها , ويغشاهم فيها شدة الحساب ومن ثم المصير .
والإخبار عنها بصيغة الاستفهام ( هل ) دليل على أن خبرها مهم لكل أحد , وكل خبر مهم لا يستقى إلا من مصدره , ويوم القيامة من الغيب , فلا يستقى خبرها إلا من علام الغيوب .
( وجوه يومئذ خاشعة ) : هذا وصف لأهل النار , فيوم البعث حين تتضح لهم حقيقة ما أنكروا , تكون وجوههم خاشعة من الذل والمهانة , والقهر حيث تدرك أنه لا ينفعها عملها السيء , ولا ينجيها أي عذر .
( عاملة ناصبة ) : أي هذا حالها في الدنيا , أتعبت نفسها في عمل كثير , وفي تلك اللحظة لا تنتفع منه بشيء .
( تصلى نار حامية ) : أي هذا مآلها يوم القيامة , تصلاهم النار بحرها الشديد , وتغشاهم من كل مكان , فلا مهرب لهم , ولا مغيث , ولا معين .
( تسقى من عين آنية ) : أي من شدة حر النار يطلبون الماء , فيسقون ماء قد انتهى مبلغ حره إلى غاية المنتهى , فيقطع أمعاءهم , ( فسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15] , ويشوي وجوههم ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) [ الكهف : 29] .
( ليس لهم طعام إلا من ضريع ) : عدد المفسرون لمعنى الطعام من ضريع عدة معاني , منها الزقوم , وشجر في النار , وتجمع جميع ما ذكروا صفة أنه طعام شر لا خير فيه , فهو خبيث المنظر , كريه الطعم . وهو ( لا يسمن ولا يغني من جوع ) : أي : لا يدفع عنهم جوعهم , ولا يصح أجسادهم , فانتفى بذلك عنه المقصود من تناول الطعام , فصار طعام عذاب لهم .
( وجوه يومئذ ناعمة ) هذا وصف أهل الجنة , حيث يعرف النعيم الذي تتنعم به مما يظهر على وجوههم من نضارة وحسن , وسرور , وبهجة لا مثيل لها .
( لسعيها راضية ) : سعيها هو العمل الذي قدمته في الدنيا , وفق ما يرضي الله تعالى , ترضى عن ما تجده عليه من ثواب وأجر يوم القيامة , فهي تجد ما ترجو وفوق ما ترجو , وتنال ما لا يخطر على قلب بشر , فيكون بذلك الرضى عن سعيها الدنيوي .
( في جنة عالية ) : أي عالية في بهائها وجمالها , عالية في مساكنها , عالية في قدرها , عالية في نعيمها لا يدانيه نعيم أبدا , فيها كل ما يتمنون مما لا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر .

( لا تسمع فيها لاغية ) : أي في الجنة لا يسمع أبدا كلام لغو : وهو الكلام الذي لا خير فيه , سواء كان محرما أو مما هو عديم الفائدة . وكما وصف الله ذلك في قوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما ) [ الواقعة : 25-26] .
( فيها عين جارية ) : العين الجارية دليل على كثرة مياهها , وجمال منظرها , وهي ليست عين واحدة بل هو اسم جنس يعم كل عين في الجنة مما لا يعلم عدده إلا الله , وهي نكرة في سياق الإثبات , لكنها تعم لعموم العلة والمقتضى . ومن نعيم جريانها أنها في متناول أيدي أهل الجنة يصرفونها حيث شاءوا .
( فيها سرر مرفوعة ) : السرر هو كل ما كان مرتفعا من الأثاث و يجلس عليه أو للنوم والراحة . وسرر الجنة مرفوعة قدرا بما عليها من فرش لينة ناعمة , وعالية في ذاتها , لأنها جعلت للتكريم .
( وأكواب موضوعة ) أي : أوان للشرب مما يشتهون من أشربة الجنة اللذيذة , وضعت بين أيديهم وفي متناولهم جميعا , يجدونها وقت ما يريدون , ووفق ما يشتهون .
( ونمارق مصفوفة ) أي : وسائد مصفوفة لهم للجلوس أو الاتكاء , وهي للتنعم لا للراحة من العناء , فالجنة لا تعب ولا عناء فيها , بل تنعم وتفكه .
( وزرابي مبثوثة ) أي : البسط المنتثرة هنا وهناك في الجنة , لمن أراد الجلوس عليها .
وبذلك ذكر الله تعالى حديث الغاشية الذي تساءل عنه في بداية السورة سؤال الإثارة لأهميته .
فكان السؤال , وإجابته عرض لنتيجته .
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) : أفلا : هذه أداة عرض , للتنبيه على الإنسان أن يتأمل ما بعدها , والنظر المطلوب هو نظر التدبر والتفكر , لا نظر البصر فقط . والإبل : حيوان من خلق الله العجيب في ظاهر خلقه وباطنه . فهي مع ضخامة حجمها , وقوة جسدها, ذليلة تنقاد لمن يقودها , وهي من الأنعام التي يؤكل لحمها ويشرب لبنها .
و ( كيف خلقت ) دليل على أنه لم يخلقها أحد يدعي ذلك , ولم تخلق نفسها , فلم يخلقها إلا الله عز وجل .
( وإلى السماء كيف رفعت ) ما أعظم شعيرة التدبر , حين ينظر الإنسان إلى السماء , ويرى هذا البون الشاسع بينها وبين الأرض , وهذا الحجم الواسع اللامتناهي , وهي مع ذلك مرفوعة بغير عمد , ومع ذلك محفوظة بقدرة الله لا تسقط , مسخرة بفضله وكرمه لمصالح الإنسان .
( وإلى الجبال كيف نصبت ) دعوة للتأمل في الجبال , قوة وثبات , وراسية في الأرض لئلا تميد وتضطرب , وأودع الله فيها من المعادن والخيرات ما ينتفع به الإنسان على مر العصور , دون نفاد .
( وإلى الأرض كيف سطحت ) أي : بسطت ومهدت , وهيأت لحياة البشر , وسخرت لهم بجميع تضاريسها , فهم يعيشون في سهولها وجبالها وصحاريها , وحتى فوق مياه بحارها , ويستخرجون خيراتها , وينتفعون بها .
( فذكر إنما أنت مذكر ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , يأمره الله تعالى بأن يذكرهم بما أرسله به , وما خلقهم لأجله . لأنه مبعوث لدعوة الناس , وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الطاعة .
( لست عليهم بمصيطر ) أي : مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التذكير لا الهداية , فهو ليس له سلطة على أحد , ولا على ما يفعلون من قبول لدعوته أو رفضها .
فإذا قام بما عليه من تبليغ , فليس عليه حساب ولا عتاب بعد ذلك على ما يفعلون .
بعد ما ذكر الله عز وجل أن مهمة الرسل التبليغ , وليس عليهم أي تبعة بسبب عدم اتباعهم , بين أن ذلك لا يعذر الكافر بكفره , لكن الله تعالى هو الذي يحاسبه على كفره فقال : ( إلا من تولى وكفر ) أي : كفر بقلبه فلا يعتقد أبدا بأن الله مستحق للعبادة , ولا يصدق أنه أرسل إليه رسولا , وتولى عن الفعل بجوارحه , فلم يعمل طاعة , ولم يترك معصية .
( فيعذبه الله العذاب الأكبر ) أي : لا أكبر منه في شدته , ولا أكبر منه في آلامه , ولا حد لمنتهاه عنهم , فهم في عذاب أبدي .
( إن إلينا إيابهم ) أي : مرجعهم ومآلهم , لله سبحانه , فكل الخلق سيموتون , ثم يبعثون , وإلى الله يحشرون .
( ثم إن علينا حسابهم ) أي : يجازيهم على ما عملوا , إن خيرا فخيرا , وإن شرا فشرا .

من ثمرات التدبر في السورة :
- ( هل أتاك حديث الغاشية ) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , ولكل فرد من أمته , فبم يجيب قلب المؤمن ؟ وما الذي يترتب على إجابته في الدنيا ؟ وما نتيجة هذه الإجابة في الآخرة ؟
جواب المؤمن كما هو معلوم , نعم أتاني , ويترتب عليه في الدنيا المبادرة للعمل الصالح , ونتيجته في الآخرة الفوز والفلاح حين يتغمده الله برحمته .
( وجوه يومئذ خاشعة ) ذكر النتيجة بعد السؤال مباشرة , دليل على جدية الأمر , وأن ما يترتب على السؤال لا يحتمل التسويف فيه , بل لا بد من المسارعة .
- حال الكفار , وذلهم ومهانتهم , دليل على أنهم لا عزة لهم في الآخرة , ومن لا عزة له في الآخرة لا عزة له في الدنيا – ولو نالها بحذافيرها - .
- ( وجوه يومئذ ناعمة ) نالت الفلاح , ونالت من الخير ما أفعم القلب بالفرح , حتى ظهر أثره على الوجوه , وما ذلك إلا لأنها – سعت – في الدنيا لكل خير وعمل يرضي الرب جل وعلا . فنالت عز الآخرة , الذي من ناله كان عزيزا في الدنيا – وإن ظن من ظن في ذلك الظنون – والعاقل من يدرك ذلك بقلبه وقالبه , ويعيشه بجوارحه .
( لا تسمع فيها لا غية ) إن من نعيم الجنة أنه لا لغو فيها , وإذا نفى الله عز وجل شيء من النقائص عن دار النعيم فهو إثبات للضد .
فاللغو وكثرة الكلام لا خير منه , حتى لو كان في حديث ليس حراما ولا منكرا , فهو غير مستحب , لذلك ذكره الله في أكثر من موضع في القرآن على وجه النفي . كما في قوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ) [ مريم : 62] وقوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما)[ الواقعة : 25] و قوله : ( لايسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) [ النبأ : 35] .
ولنتساءل لماذا عدم اللغو من نعيم الجنة ؟
لنعرف السبب , نتأمل حقيقة اللغو في الدنيا , لا بد في مجلس اللغو من جدال , سخرية , لجج , صخب , صراخ , بذاءة قول , .... ومن ثم هرج ومرج وخصام ونزاع بين المتلاغين . وبعد ذلك قد تكون شحناء وبغضاء , وقطيعة , وقد تصل إلى الانتقام .
إذن المؤمن العاقل يبعد نفسه في الدنيا عن مجالس اللغو , فتكون حياته بذلك أشبه بحياة أهل الجنة , فيرتاح , وتطمئن نفسه , ويسعد قلبه . وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : ( رحم الله امرأ ترك الجدال ولو كان محقا )
- ولنرفع شعار لا لغو في حياتي , ولا جدال حتى لو كان الحق معي , إذا كان من يلاغينا لا يلاغي بالتي هي أحسن .
- ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) الفعل " خلقت " دليل على أنها لم تخلق نفسها, ولم يجرؤ أحد على مر العصور أن يدعي أنه خلقها , فالله الخالق هو المستحق للعبادة.
والدعوة من الله تعالى للتأمل في خلق الإبل لا بد أن تحمل في ثناياها الكثير والكثير لذوي الأبصار والبصائر ,
ومن ذلك : أنه سفينة الصحراء مثال الصبر والتجلد وتحمل الشدائد, فتعلم أيها المتبصر أن تكون كذلك .
وهي في خلقتها , ضخمة الجثة , فإن حملت تحملت , وإن ذبحت أشبعت , وإن حلبت أروت وأشبعت .
وشكلها الخارجي :
طويلة الأرجل , لتساعدها على قطع الصحاري , وطويلة الرقبة لتتغذى من الأشجار العالية في الصحراء فلا تكلف صاحبها مشقة المؤونة , وتتمتع بشفتين غليظتين مشقوقتين لتأكل بها النباتات الشوكية , ولها على ركبتيها وسادات وكذلك أسفل الصدر تمكنها من الجلوس على الرمال الحارة دون أن تلامس الحرارة جسمها , والرأس مستطيل , بارز , مدبب , ينتهي على شكل مثلث ليساعده على مقاومة العواصف الشديدة حين سيره , ورموش طويلة تغطي عينيه تحميها من ذرات الرمل .
وفي خلقه الداخلي ما هو أعجب من ذلك :
فكريات الدم الحمراء في دمه مرنة , حيث تغير من مزاياها بما يتلاءم مع حالة العطش وشدتها , وقد عرف منذ القدم أن الجمل يختزن الماء في سنامه , أو بطنه , لكن ما ثبت حديثا أن جميع أعضاء جسمه تختزن الماء . وهويستطيع أن يبقى شهورا دون شرب ماء, ودهن جسمه موزع في جميع أنحاء جسمه , وبذلك يمكنه التخلص من الحرارة الزائدة في جسمه دون تعرق – الذي يفقده نسبة من الماء - , وكليتيه تعمل في اتجاهين متعاكسين , فهي تعمل عاديا إذا كان الماء في الجسم , وإذا عطش الجمل أخذت الكلية في العمل بالاتجاه الآخر , فتستخلص الماء من البول وتعيده إلى الدم مرة أخرى .
ومن طرائفها :
أنها تفهم تعليمات صاحبها , وتستجيب لكلامه , وإذا كانت تسير لا تتوقف حتى تسمع صوت صاحبها .
وتشعر بالحنين إلى موطنها , فإذا فقدت يجري البحث عنها في موطنها الأصلي الذي أخذت منه .
وسبحان القائل : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) !
( وإلى السماء كيف رفعت )
وقال تعالى : ( خلق السموات بغير عمد ترونها ) [ لقمان : 10] كيف رفعت ؟ ليكثر اللسان والعقل والقلب من هذا السؤال , إكثار إعظام واستشعار لقدرة من رفعها سبحانه , لا سؤال شك وضلال . ومع السؤال نظر تأمل وتدبر لما فيها , شمس وقمر ونجوم وكواكب سيارة وثابته , وكلها رفعت , وكم عددها ؟ وما مقدار أحجامها ؟ وكيف لو أنها وقعت على كوكبنا ؟
وهذه السحب التي يسقط علينا مطرها , ولا يسقط كسفها .
ورغم أنه تسقط في كل حين صواعق , فتصعق من تشاء , إلا ن من حكمته سبحانه , أنه رغم الخسائر تلك , إلا أنه فيها أيضا منافع للبشرية , فالمناطق البعيدة مثل البراري والصحاري , غير خصبة , وبدون مياه , فتلك الظواهر الجوية تسبب في الغلاف الجوي نترات مختلطة من الأكسجين وما يحتاجه النبات , فيؤدي إلى خصوبة الأرض , بإرادته سبحانه .
( وإلى الجبال كيف نصبت ) نصبت لتكون رواسي للأرض , فلولاها ما استقرت ولا هنأ عيش عليها , ويهولنا ضخامتها , وصلابتها , وكل ما فيها من خيرات نتنعم بها .
وهي التي جعل فيها للإنسان أكنانا , يحتمي بها من العواصف والأمطار وكل الأخطار , ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) [ النحل : 81] , وللنحل بيوتا تضع فيها العسل الذي فيه الشفاء , ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ) [ النحل : 68] .
وهي مع ذلك تفزع ,وتتصدع , وتخشع من خشية الله , ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ الحشر : 21 ] .
فإذا كانت الجبال القوية الراسخة الثابتة , تخشع من خشية الله , فما حالنا نحن المخلوقون من طين ثم من ماء مهين !.
( وإلى الأرض كيف سطحت ) كل إنسان فوق الأرض يجد في بيئته ما يدعوه إلى التأمل, فالبدوي يجد في مجاهل الصحراء ورمالها وجبالها , ما يدله على أن خالقها الرب العظيم الخالق المدبر المتصرف الحكيم , الذي لا يستحق العبادة غيره. ومن يعيش في البحار يجد في مائها , وحيواناتها , ولؤلؤها ومرجانها , من الأسرار ما يجعل الفطرة تنادي : لا إله إلا أنت سبحانك . وهكذا في كل بقعة من بقاع الأرض آية أو آيات تنادي من له قلب وألقى البصر ليتأمل ويدرك عظمة الخالق .
( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر )
مسؤولية الرسول صلى الله عليه وسلم , التبليغ والتذكير , وليس له الهداية , وهذه هي مهمة كل فرد من أمته , والعاقل يدرك حدود مهمته فلا يتعداها , فيقع في سخط الرب من حيث يظن أنه يحسن عملا .
( إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم )
إذا كان المرجع والمآل لله وحده , فالعاقل يعمل لذلك .

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 04:02 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الفجر

سورة الفجر

أقسم الله تعالى بأشرف الأوقات والليالي على عظمة مكانتها عنده , وشرف العبادة فيها , لينبه أهل العقول للتأمل والتدبر لحكمته من ذلك , فيتساءلون : لم خلق الله الفجر ؟ ما مكانة صلاة الفجر ؟ ولم أقسم بالليالي العشر ؟ وما مكانة العبادات فيها ؟ ولم أقسم بالليل إذا يسر ؟ وما الفائدة في هذا الوقت بالذات ؟
هذه التساؤلات وأمثالها تقود ذوي العقول إلى الإيمان بعظمة خالقها , وحكمته , وأنه لا يستحق العبادة سواه . هذا ما تدعونا إليه آيات سورة الفجر .
معنى آياتها :
- ( والفجر ) أي وقت الفجر , وهو آخر لحظات الليل , وبداية النهار . وفي وقته صلاة الفجر , وهي صلاة فاضلة , وكما قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : " من صلى البردين دخل الجنة " أخرجه الشيخان .
والمقصود بالبردين صلاتي العصر والفجر .
- ( وليال عشر ) وهي عشر ذي الحجة , والتي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني عشر ذي الحجة – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله , إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء " صحيح البخاري .
- ( والشفع والوتر ) وهما يوم عرفة ويوم النحر . فيوم عرفة يوم عظيم يغفر الله فيه لعباده مغفرة تحزن الشيطان , ومارئي أحقر ولا ادحر منه في ذلك اليوم . ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر كما سماه الله تعالى ويقع فيه كثير من أعمال الحج , وسنة الأضحية .
- ( والليل إذا يسر ) أي وقت سريانه , وحلول ظلمته , ثم ذهابه لحظة لحظة , حتى يحل ضوء الصبح . وتتجلى رحمة الله تعالى فيه , حيث يكون لراحة الأجساد من عناء النهار .
- ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) الحجر هو العقل , وسمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عن الخطأ , ويرده إلى كل صواب .
وحقا لا يدرك عظمة ما أقسم به الله عز وجل , ولا يستشعر أهمية العبادة في تلك الأوقات إلا ذوي العقول الراجحة , فينتفعون من ذلك بالتقرب إلى الله تعالى بكل ما يحب من الطاعات المفروضة والنفل .
- ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) خطاب لكل ذي حجر , انتفع بما أقسم به الله تعالى , ليدرك مقدار الخير الذي ناله بالنجاة من عذاب الله تعالى , ولغيرهم ليعلموا أن عقاب الله ليس منهم ببعيد .
وعاد هم قوم النبي هود عليه السلام , وفي عطف البيان يعرف الله تعالى بهم بأنهم ( إرم ذات العماد ) و إرم القبيلة المعروفة في اليمن , وقد أنعم الله عليهم بنعمة القوة التي لم ينعم على غيرهم بمثلها ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) .
والمقصود هلاكهم رغم ما هم فيه , لأنهم كفروا بربهم , ومن كان له عقل فليتعظ .
- ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) ثمود هم قوم النبي صالح عليه السلام , وكانوا يسكنون شمال المدينة بمنطقة العلا , ومعنى ( جابوا الصخر ) أي نحتوها بيسر وسهولة نعمة من الله وفضل , فنحتوا الجبال بيوتا فارهة تمتعوا بسكناها , كما أخبر عنهم في قوله تعالى : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) , لكن هذه النعمة أطغتهم عن طاعة الله , فحل بهم عذابه .
- ( وفرعون ذي الأوتاد ) أي فرعون وجنوده الذين كانوا يعينونه على الكفر والطغيان والفساد , وقومه الذين استخف بعقولهم فأطاعوه , واتخذوه إلها من دون الله .
- كل هؤلاء اشتركوا فيما أنعم الله به عليهم من خير الدنيا , واشتركوا في الكفر والطغيان , لذلك قال عنهم ( الذين طغوا في البلاد ) عاثوا في بلاد الله فسادا في أنفسهم , وصدا لغيرهم عن قبول الح الذي جاء به الأنبياء , ومن لا يطيعهم يسومونه العذاب والنكال .
- ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أي حل بهم العذاب الدنيوي الشديد من الله تعالى , ما جعلهم عبرة لكل ذي عقل يعي ويفهم .
- ( إن ربك لبالمرصاد ) وعيد من الله تعالى لكل من عصاه , ولم يتعظ مما حل بهم , بأنه يرصد فعله , ويمهله لعله يتوب , ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر .
- ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن ) هذا خبر من الله تعالى عن اعتقاد الإنسان في حال النعم , بأن ذلك لكرامته عند الله, ولا يدرك أن توالي النعم من الله تعالى قد تكون استدراجا , كما في حال من ذكر في بداية السورة عن حال قوم عاد وثمود وفرعون .
- ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول رب أهانن ) وهذه حاله في حال ضيق العيش وسوء الحال , فيعتقد أن ذلك إهانة وعقوبة من الله تعالى , ولا يدرك الحقيقة أنه ابتلاء واختبار يرفع به الله قدر الصابرين عليه عنده , ويجدون ثمرة صبرهم عاجلا وآجلا .
- ( كلا ) أي ليست الحقيقة كما تعتقدون , بل الخير والشر , والسعة والضيق , كلها ابتلاء من الله , ليعرف الصابر الشاكر من الجازع الساخط .
- ( بل لا تكرمون اليتيم ) هذه حقائق أخرى يواجه الله تعالى بها هذه الفئة من الناس التي أخطأت في اعتقادها بعطاء الله للخير ومنعه , بأنهم يتصفون بصفة المنع والبخل , حتى مع اليتيم الذي فقد كاسبه ومعيله , ويحتاج إلى عطف من حوله وعونهم . فقلوبهم لا تحن عليه , وأياديهم لا تمتد بالخير إليه. وقد أمر الإسلام بالإحسان إليه ورغب في ذلك , ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة . وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " سنن أبي داود .
- ( ولا تحاضون على طعام المسكين ) الحض هو الحث على فعل الخير , وهم لا يحث بعضهم بعضا على الإحسان إلى المسكين المحتاج , ولا يأمرون بعضهم بعضا على تقديم العون له سواء ما ديا أو معنويا , وخصوصا الطعام لأنه أحوج ما يحتاجه الفقراء .
- ( وتأكلون التراث أكلا لما ) أي يأكلون الميراث أكلا لا يتحرون فيه حلالا ولا حراما . وسبب ذلك ما ذكر في الآية التي تليها .
- ( وتحبون المال حبا جما ) رغم أن حب المال في النفس البشرية فطرة , إلا أنهم أحبوه حبا تجاوز الحد , فأوقعهم في بغية الحصول عليه من أي طريق بالحلال أم الحرام كان .
- ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ) خبر من الله عز وجل عما سيقع يوم القيامة من أهوال يشيب منها الوليد وتضع كل ذات حمل حملها , وهو خبر محقق الوقوع , لذلك قال ( كلا ) وهي هنا بمعنى حقا – وتأتي كلا للردع والزجر , والنفي أيضا – ومن تلك الأهوال ما يحدث للأرض , حين تدك الأرض وتساوى جبالها مع فجاجها وسهولها , فتصبح قاعا صفصفا , لا أثر للتضاريس فيها .
- ( وجاء ربك ) يجيء للفصل بين عباده مجيء يليق بجلاله سبحانه .
- ( والملك صفا صفا ) يجيء الملائكة كلهم , ويقفون صفوفا , خضوعا وطاعة لله تعالى .
- ( وجيء يومئذ بجهنم ) تقودها الملائكة , وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) – اللهم أجرنا منها - .
- ( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ) التذكر يكون لما مضى , فيتذكر ما عمله في الدنيا من خير أو شر , فيندم على الشر , ولكن ( أنى له الذكرى ) لا ينفعه ندمه , ولا يصلح له ما أفسده .
- ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) يتمنى , ثم يعبر عن هذه الأمنية بالكلام , ولكن نيل المطالب – وأغلاها الجنة – لا تنال بالتمني أبدا . فيتحول التمني إلى ندم وحسرة .
- ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ) أي ليس أشد من عذابه في ذلك اليوم , لمن لم يعمل لذلك اليوم .
- ( ولا يوثق وثاقه أحد ) عذابه بهم بما تفعله بهم زبانية جهنم , حين يوثقونهم بالسلاسل , ويجرونهم على وجوههم في النار , فلا الوثاق ينقطع , ولا احد يخلصهم منه ,
- ( يا أيتها النفس المطمئنة ) نداء الكرامة , لكل نفس مطمئنة في تلك اللحظة , لأنها قدمت ما يوجب لها ذلك , من عمل صالح استعدادا لهذا اليوم , فهي قد اطمأنت في دنياها إلى الحق , وانقادت إليه , فكان جزاؤها من جنسه , فتطمئن في لحظة الهول والحساب .
- ( ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) إلى من رضيتيه ربا في دنياك , ارجعي إليه وتنعمي في ثوابه ونعيمه , وجزيل عطاياه . راضية عما نالت , وراضية عنه سبحانه الذي أنالها هذا النعيم .
- ( فادخلي في عبادي ) أي من ضمنهم و قيل يقال ذلك للنفس المطمئنة عند الموت , فترجع الروح في جسد العبد الصالح , الذي رافقته في الدنيا , وفي كلمة ( عبادي ) تشريف وتكريم من الله تعالى لهم .
- ( وادخلي جنتي ) , دخول الجنة تبشر به عند الموت , وتناله يوم القيامة .

وقفات تدبر في الآيات :
- أقسم الله تعالى في بداية السورة بدلائل من دلائل قدرته , وذكر أن المنتفع بذلك هو صاحب العقل الراجح , وهذا يدل على أن نعمة العقل تقود إلى التأمل والتفكر , وذلك يقود إلى الإيمان بخالق هذه الأشياء . فلا بد أن يسخر الإنسان عقله لما خلق له .
- التأكيد على أن لا ينتفع بذلك إلا أهل العقول , يتضمن أمر ضمني لكل إنسان, اتبع عقلك وما يدلك عليه , وابتعد عن هوى النفس . لأنهما المطيتان اللتان تقودان الإنسان في هذه الحياة .
- ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) أسلوب إثارة , لتوقظ العقل والحس والمشاعر, وتقول للإنسان استيقظ من غفلتك , والتفت وراءك , وتذكر من قبلك , وخذ العظة والعبرة مما حل بهم . واعلم بأنك لست أقوى منهم , ولا أكرم على الله إن عصيته .
- لماذا عاد وثمود وفرعون من بين جميع الأمم السابقة , دائما يضرب بهم مثل التذكير في القرآن ؟
1- لأنهم أقوى الأمم الجبارين الذين عرفتهم البشرية .
2- ضرب المثل بعاقبة القوي لها ردع أقوى في النفس من ضرب المثل بمن هو مثلها , فيكون أدعى بردها عن غيها وأشرها وطغيانها .
- ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) كلمة صب تدل على السرعة والكثرة والتتابع , والسوط تدل على الشدة والألم . وكلمة سوط مفرد , مما يدل على أن ما حل بهم ما هو إلا شيء قليل مما عند الله من العذاب . فمن يتعظ !
- ( إن ربك لبالمرصاد ) لا ينجو من عذابه أحد من العصاة أبدا , ورغم ما فيها من وعيد شديد لعذاب الله لمن عصاه , فيها طمأنينة للنفس المؤمنة , فكل طاغية الله له بالمرصاد .
إذن أعداؤنا مهما اشتد كفرهم وأذاهم , يكفيناهم ربنا إن قوينا صلتنا به .
- ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه .... ) و ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه .........) حالتين للإنسان من أكرمه الله ونعمه , ومن قدر عليه رزقه . فمن وسع عليه فرح واعتبر ذلك من كرامته عند الله – حتى لو كان أشد الطغاة كفرا , أمثال فرعون وأبو لهب . ومن قدر عليه رزقه جزع وسخط واعتبر ذلك إهانة له من ربه لا يستحقها . وكلاهما مخطئ !
فنعم الله تعالى في الدنيا وتضييقه ليست دليلا على بغضه وحبه , فالله لا يكرم ولا يهين لأمور الدنيا , فالدنيا يعطيها الله لكل بر وفاجر , وهي لا تزن عنده جناح بعوضة .
إنما مقياس الكرامة عنه سبحانه ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
وحقيقة البلاء اختبار وتمحيص وتطهير لمن يحبهم حتى يلقونه وما عليهم من خطيئة ولا تبعة .
- إكرام اليتيم , والإحسان إلى المسكين , من الطاعات المتعدية النفع , فهي تخرج من القلب البخل والأنانية . ومن سلم منهما كان ممن مدحهم الله ( ويؤثرون على أنفسهم ) ومن أثنى عليه الله فقد نال رضاه .
- ( يومئذ يتذكر الإنسان ...) ليكن التذكر منا الآن في دنيانا , نتذكر ما سلف , ونتخيل أنفسنا وقت الوقوف للحساب , لنتذكر , ونتحسر , ولكن ! سينفعنا هذا التذكر , فنعود لرشدنا , ونتوب . لأن التذكر في الدنيا دافع للعمل الجاد في طاعة الله .
وتذكر يوم القيامة تذكر حسرة وندامة لا مجال بعدها للتصحيح أبدا . وما من مخلوق إلا وسيتذكر ويتحسر حتى الصالحين . ويقول أحد السلف : لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله تعالى , لحقره يوم القيامة, ويود لو أن يرد إلى الدنيا ليزداد من الطاعات .
- ليكن لكل واحد منا برنامج يومي للتذكر , فيتخيل نفسه عند الموت , ويتذكر ماذا يتمنى , ويتخيل نفسه في القبر , ويتذكر ماذا يتمنى فيعمل , ويتخيل نفسه يوم النشور , ويتذكر ما ذا يود فيعمل . وكذا على الصراط وبين يدي الله للحساب . ويتخيل الطريق إما إلى جنة أو إلى نار .
- ( يا أيتها النفس المطمئنة ) نداء في لحظات الشدة والحساب والهول , ما أسعده من نداء , أسأل الله أن يجعلنا من أهله , وبه اطمئنان قبل النتيجة . وهذا من النعيم .
اللهم اجعلنا ممن رضيت عنهم , وارزقنا حبك وحب من يحبك .
والحمد لله رب العالمين .

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 04:13 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة البلد

سورة البلد

أقسم الله تعالى في مكة المكرمة لعظمتها ,وذلك لأنها أفضل البلدان على الإطلاق , و لوجود بيت الله الحرام فيها . وزادت عظمتها في ساعة الفتح , حين حل بها الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحا منتصرا , رافعا للحق مزهقا للباطل .
معنى آيات السورة :
( لا أقسم بهذا البلد ) : (لا ) زائدة للاستفتاح والاهتمام , وجاء القسم هنا بفعله الصريح , والبلد هي مكة المكرمة , ولها عدة أسماء منها : بكة , وأم القرى , والبلد الأمين , والبلد الحرام . وأل التعريف عهدية .
( وأنت حل بهذا البلد ) أي : إن مكة محرم فيها القتال , وقد أحلها الله ساعة من نهار للنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل فيها , في يوم الفتح . وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة , لا يعضد شجره , ولا يختلى خلاه , وإنما أحلت لي ساعة من نهار , وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) متفق عليه .
( ووالد وما ولد ) إذا كانت ( وما ) نافية , يكون المعنى : الوالد الذي يلد , والوالد الذي لا يلد . وإذا كانت موصولة بمعنى الذي , يكون المعنى : الوالد والولد الذي ولده , والمراد آدم وذريته .
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) أي جعلت الحياة للإنسان حياة جهد ومشقة , لاحياة راحة ورفاهية , وهو يكابد مشقتها ليحيا .
( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ) أي رغم إدراكه لكبد الحياة , ومشقتها عليه , فهو يتكبر ويطغى فيها , مخدوعا بزهرتها وشهواتها , غافلا عما أمامه من حساب شديد على ما أخذ وما أنفق فيها . فلن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه , وعن شبابه فيما أبلاه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه , وعن علمه ماذا عمل به . والانغماس في ملذات الدنيا يجعل الإنسان ينسى هذه اللحظة , وهذا الحساب .
( يقول أهلكت مالا لبدا ) أي : أنفقت مالا كثيرا في هذه الدنيا على الشهوات والمعاصي .
( أيحسب أن لم يره أحد ) أي : يظن أنه في لهوه وتمتعه بملذات الدنيا بعيد عن علم الله عنه , واطلاعه عليه ؟! فينسى لحظة الوقوف بين يديه للحساب على الذرة من الخير أو الشر .
( ألم نجعل له عينين ) أي : يبصر بهما , فيرى سنة الله في الذين خلو من قبله , وكما أنه تمتع بها في دنياه , سيحاسب عليها في آخرته .
( ولسانا وشفتين ) أي : نعمة النطق والبيان , فيعبر عما يريد , فلم يسخر هذه النعمة في ذكر الله وطاعته .
( وهديناه النجدين ) أي : وضحنا له طريق الخير والشر , وانعمنا عليه بنعمة العقل التي يميز بها بينهما , وأكرمناه بالفطرة التي تدله على الخير وتصرفه عن الشر .
وهذه النعم لا يؤدى حق شكرها إلا بطاعة الله وفعل الصالحات .
( فلا أقتحم العقبة ) الاقتحام هو الدخول بشدة وعنوة , والعقبة هي ما يقف حائلا بين المرء وبين ما يريد . وقد فسر الله تعالى هذه العقبة بقوله ( فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة )
فهذه الأعمال هي التي يستطيع بها الإنسان أن يقتحم العقبة , ويصل إلى خير الدار الآخرة . لكن انغماسه في الدنيا , جعله لا يقوم بهذه الأعمال .
- ( فك رقبة ) من أسرها أو رقها .
- ( إطعام في يوم ذي مسغبة ) يطعم المحتاجين في وقت حاجتهم , وخصوصا أيام المجاعات .
- ( يتيما ذا مقربة ) أي يتحرى في إطعامه وصدقاته , المحتاجين والأيتام من أقربائه .
- ( أو مسكينا ذا متربة ) أي محتاج من غير أقاربه , من شدة حاجته كان كمن لصق بالتراب , لا يجد شيئا .
- ( ثم كان من الذين آمنوا ) الإيمان عقيدة القلب , والعمل فعل الجوارح . وفي آيات القرآن إذا أفرد الإيمان تضمن العمل , لأنه لا يتحقق إلا به , وإذا أفرد العمل تضمن الإيمان لأنه لا يقبل بدونه, وإذا اجتمعا كان الإيمان لعقيدة القلب , والعمل للجوارح .
- ( وتواصوا بالصبر ) التواصي يعني أنه عمل متبادل يقدمه لإخوانه المسلمين , ويقدمونه له – فكل يوصي الآخر بطاعة الله تعالى _ وخص هنا الصبر , لأنه صبر على فعل الطاعة , وصبر عن المعصية , وصبر على أقدار الله تعالى , وجميعها يحتاج الإنسان لمن يقف معه , ويعينه ويصبره , وذلك مما يشرح الصدر , ويزيل وحشته , ويبعد عنه وسواس الشيطان , وشهوات النفس المثبطة .
- ( وتواصوا بالمرحمة ) أي يوصي بعضهم ببعض , فالقوي يوصونه بمساعدة الضعيف , والغني بأن يعطي الفقير , والمتعلم يعلم الجاهل و هكذا في جميع جوانب الحياة , فيتحقق التكافل الاجتماعي , وتعم الرحمة أفراد المجتمع .
( أولئك أصحاب الميمنة ) أي هم أصحاب اليمين الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم يوم الحساب . وقد نالوا ذلك لأنهم أدوا حق الله وحقوق خلقه , فحققوا درجة الإحسان .
( والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة ) أي ليسوا على ما عليه الفئة الأولى في العمل , فلن يكونوا مثلهم في النتيجة , بل هم سيأخذون كتبهم بشمالهم يوم الحساب .
( عليهم نار مؤصدة ) أي مغلقة عليهم لا يخرجون منها أبدا .

من ثمرات التدبر في الآيات :
- القسم بمكة دون غيرها من البلدان لأن فيها البيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس , وهي أفضل البدان أمنا على الإطلاق , فلا يحمل فيها سلاح ولا تسعر فيها خصومة ولا تنشر عداوة , ولا يصاد صيدها ولا يقطع شجرها , وحرمها إبراهيم عليه السلام ( رب اجعل هذا البد آمنا ) وحرمها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وبلد هذه حرمته , كم سيكون عذاب من يعصي فيه ربه , ويؤذي خلقه بالقول أو الفعل !.
- قسم الله تعالى بالوالد والولد يدل على قدرته سبحانه في التوالد , وفيه بالغ الحكمة وإتقان الصنع , فسبحان من كان هذا صنعه , أيستحق أن يعبد غيره!
- الإنسان في كبد من قبل أن يولد وهو في رحم أمه , وعند الولادة لحظة الخروج للدنيا حين يواجه صعوبة التنفس وتناول الطعام , وحاجته لغيره , وتكيف أعضائه مع الحياة التي يواجهها كما في الرضاع ومرحلة التسنين والحبو ثم المشي , وعند دخول المدرسة يكابد مشقة القراءة والكتابة ومسك القلم , والتكيف مع من حوله من معليمن وطلاب , بعد أن تكيف مع أمه وأبيه وأخوته . ثم يكبر ليواجه كبد البحث عن الرزق , ثم يشيخ ليواجه كبد أمراض الشيخوخة وعجز الجسم عن فعل ما تعوده وقت قوته ... ويستمر معه الكبد حتى لحظة الموت , ثم في القبر عند سؤال الملكين , ثن أهوال البعث والحساب بين يدي الله تعالى , ثم كبد المرور على الصراط .
ولكن مقابل ذلك الكبد كله هناك راحة – ولن تكون إلا لمن سعى إليه – والعاقل يبحث عن الطريق الموصل إليه فيسلكه , وهذه الراحة هي آخر المطاف في الجنة . وعندئذ ينتهي الكبد وحتى الشعور به أو تذكره , فيغمس في الجنة غمسة ثم يسأل هل مر بك بؤس قط ؟ فيقول : لا يا رب .
وفرق بين من كبده في دنياه في أمر جليل – كقراءة قرآن وحفظه وتعلم تدبره وتعليمه , وحضور مجالس العلم , والمشاركة في الجهات الخيرية , وكل عمل صالح . وبين من كبده في أمر حقير من لهو ومتعة جسد , أو تحقيق هوى نفس , وشغلها بملذات مهلكة .
- ( يقول أهلكت مالا لبدا ) ذكر الله تعالى كلمة أهلكت في موضع الإنفاق , لأن المنفق ينتفع بما أنفق يوم القيامة , أما المهلك فلا ينتفع وربما ضره ذلك , وعاد عليه بالندم والخسارة يوم القيامة . ومن أنفق يعود عليه إنفاقه بالحسنات .
- ( أيحسب أن لم يره أحد ) لم يحقق عبودية ( وهو معكم أينما كنتم ) .
- ( أهلكت مالا لبدا ) ( أيحسب أن لم يره أحد ) فعل مادي , وفعل قلبي عقيدي , ومن اجتمعت فيه فهو مغرور متكبر معجب بحاله .
- حياة المرء في الدنيا تدور حول : وجوده بعد العدم , انشغاله بملذاتها , غروره وتفاخره بما عنده , غفلته ونسيانه لما بعدها . لذلك جاء بعدها التذكير لمن يتذكر .
- ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ) تدل على غيرها من النعم الدنيوية التي أنعم الله بها على الإنسان . ( وهديناه النجدين ) تدل على غيرها من نعم الدين والهداية .
والمنعم المتفضل بهذه النعم يستحق أن يعبد فلا يكفر , ويذكر فلا ينسى , ويطاع فلا يعصى , ويحب الحب كله .
- اتباع الهوى , والانسياق وراء ملذات الدنيا يضعف الإيمان , فلا يستطيع اقتحام العقبة المنجية من العذاب – وهي كل عمل صالح يقرب إلى الله –
فمن أراد اقتحامها فليذبح هواه قربانا لها , ومن أراد اقتحامها فليلقي بملذاتها وراء ظهره .
- ( فك الرقبة , الإطعام , العمل الصالح ) كلها تحتاج إلى صبر ومثابرة واستمرار . وكلها تحتاج إلى المرحمة لتجود بها النفس .
- ( وما أدراك ما العقبة ) تهويل وتعظيم لا يدل على صعوبتها , بل يدل على عظم شأنها , وعظمة طالبها , وتحقير لأصحاب الهمم الضعيفة .
- ( وما أدراك ما العقبة ) من أدرك ذلك يدرك أن هذه الأعمال نافعة للمؤمنين دون سواهم . وها نحن نسمع ونشاهد من قيام مؤسسات خيرية من غير المسلمين وهي أعمال دنيوية صالحة , لكنها لن تنفعهم يوم القيامة , لأنها لم ترتبط بالإيمان .
- لم يذكر الله تعالى صفات وأفعال أصحاب المشئمة , لأنها ضد أفعال أصحاب الميمنة , ولأنهم اتصفوا بالكفر , ولا حسنة مع الكفر , ولا سيئة إلا والكفر سببها .
- ( عليهم نار مؤصدة ) يأس تام من تبدل الحال , أو حدوث نهاية للعذاب, أو حتى راحة تتخلله .

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى من القول والعمل الصالح .

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 05:47 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الشمس

سورة الشمس

المتأمل لكلام الله تعالى يدرك أن جميع الآيات أو السور التي يقسم بها الله تعالى لا بد أن تكون هناك وقفات تدبر تجمع بين ما اقسم به والمقسم عليه , ومن ذلك ما سنتعرف عليه في هذه السورة .
معاني آياتها :
( والشمس وضحاها ) : قسم من الله تعالى بذات الشمس وضوئها, وكل نفع صادر منها .
( والقمر إذا تلاها ) أي : تبع الشمس في المنازل , والضوء لأنه يستمد ضوءه منها , وضوءه أقل نورا وحرارة منها .
( والنهار إذا جلاها ) فضوء الشمس أضاء وأبان كل ما على وجه الأرض .
( والليل إذا يغشاها ) حين يغطي الليل بظلامه الأرض , وما عليها .
( والسماء وما بناها ) قسم بالسماء وبنائها المرتفع الذي هو في غاية الإتقان , وبالله عز وجل بانيها وموجدها – سبحانه - .
( والأرض وما طحاها ) وهذه الأرض الواسعة الممتدة , التي سخرها لخلقه , ومكنهم من الانتفاع بما فيها .
( ونفس وما سواها ) أي هذه النفس الآية المعجزة , التي خلقها الله تعالى تدرك وتشعر وتتأثر , ولولاها لصار الجسد مثله مثل الجمادات . وقد سواها الله تعالى بخلقها على الفطرة السليمة . كما في قوله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) [ سورة الروم : 30 ] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة , فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " متفق عليه .
( فألهمها فجورها وتقواها ) أي أرشدها وهداها إلى طريق تقواها , حيث وضحه , وبين طريقه , ووعد بالثواب عليه . وطريق فجورها , حيث وضحه وبين طريقه , وتوعد بالعذاب عليه . وقد أعطاها المقومات التي ترشد إلى طريق الهداية وتحذر من طريق الغواية , كما في قوله تعالى : ( وهديناه النجدين ) [ سورة البلد : 10 ] . وأرسل الرسل , وأنزل الكتب .
( قد أفلح من زكاها ) أي زكى نفسه بطاعة الله وترك المعاصي , وطهرها من الذنوب والعيوب وسيء الأخلاق . فمن فعل ذلك أفلح وفاز برضا ربه وجنته .
( وقد خاب من دساها ) أي أخفاها وغطاها بالذنوب والمعاصي , ولم يعمل ما يزيل عنها ذلك , فتراكم عليها حتى أخفاها تماما .
( كذبت ثمود بطغواها ) أي أن سبب تكذيب ثمود لنبيهم ما كانوا متصفين به من الطغيان والصدود عن الحق .
( إذ انبعث اشقاها ) الضمير ( ها ) يعود على قوم ثمود , وأشقاهم هو الذي تجرأ على آية الله ومعجزة نبيه ( الناقة ) فعقرها . واسمه قدار بن سالف .
( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ) رسول الله هو صالح عليه السلام . وقد قال لهم ذلك محذرا لهم من إيقاع الأذى بالناقة , أو التعدي على حقها في يوم شربها حيث أن الله تعالى اشترط عليهم ذلك بقوله : ( قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) [ سورة الشعراء : 155 ] .
( فكذبوه فعقروها ) كذبوا نبيهم ولم يتبعوه , وذبحوا آية الله ولم يستشعروا عظمته .
( فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) أي غضب الله عليهم بسبب فعلهم , فعاجلهم بالعقوبة , فأرسل عليهم الصيحة , فأصبحوا في ديارهم جاثمين . وساوى بينهم بالعقوبة لأنهم جميعهم تواطأوا على عقر الناقة مع عاقرها .
( ولا يخاف عقباها ) لا يخاف الله من أحد , وتبعة تعذيبهم , - سبحانه جل جلاله – القاهر الجبار المنتقم الملك الذي لا يسأل عما يفعل .
من ثمرات التدبر بالآيات :
- القسم بالشمس وضوئها لأن منافع الشمس تقوم عليها المعيشة للخلق , وهي أساس لمقومات الحياة فلا يستغني عنها لا نبات ولا حيوان ولا حتى جماد . وبالقمر لأن نوره مصدر الراحة في الليل , فهو يبعث في النفس الراحة من وحشة الظلمة , فترتاح وتهدأ , لتواصل رحلة الحياة في يومها التالي .
فهذا النظام الدقيق لها لا يكون إلا من قدير مبدع عليم حكيم , يستحق أن لا يعبد سواه .
- لماذا ( القمر إذا تلاها ) ؟
القمر يتلو الشمس في منزله , وفي نوره , ومع ذلك كل منهما لا يغني عن الآخر , وهذه حكمة الله في كل خلقه , لا بد بينهم من منافع , لا بد فيهم من يكون متقدما على الآخر , لكن لا يقوم واحد منهما مقام الآخر .
- خلق الله تعالى للنفس تدل على قدرة من قدراته , فهي تحب وتكره , وتتمنى , وتتأثر , وتفرح وتحزن , وترضى وتغضب , وتتنقل في مجموعة من المشاعر التي لا يستطيع مخلوق أن يحدد كيف تحدث هذه المشاعر في النفس وهي مؤثرات معنوية ليست مادية . يظهر أثرها في الحياة على صاحبها ومن حوله , ولا يستطيعون تحديد ماديتها . فسبحان موجدها ! الذي لا يستحق العبادة غيره .
- فلاح النفس لا يكون إلا ب : تطهيرها من العيوب , وإلزامها بالطاعة , وتنقيتها من العيوب , ورفعها بحسن الخلق ونافع العلم , وتزيينها بالحلم , ومنحها درجة السمو بالعطاء . وهذا يسير على من يسره الله عليه , ومن يريده فليسعى إليه بدعاء الله تعالى أن يهبه ذلك , وقد كان ذلك ديدن نبينا صلى الله عليه وسلم : " اللهم آت نفسي تقواها , وزكها أنت خير من زكاها , أنت وليها ومولاها " .
- توحي كلمة ( دساها ) أنه أخفاها في دنس المعاصي , وحجبها عن كل خير , وبذلك أكسبتها المعاصي التي تسربلتها نتنها . فلا خير يؤثر فيها , ولا موعظة تنجيها .
- ذكر تكذيب قوم ثمود لنبيهم صالح عليه السلام , تحذير ووعيد لغيرهم , في كل زمان ومكان , لياخذوا العظة والعبرة , فكل من فعل فعلهم نال العقاب من الله .
- الصلة بين المقسم به , والمقسم عليه :
1- الشمس فيها الدفء والحرارة والمنافع , والنفس فيها مشاعر وأحاسيس , فدفء الشمس إذا زادت حرارته يحرق ويتلف , وكذلك المشاعر إن لم يضبطها ضابط الدين والتقوى أحرقت صاحبها .
2- القمر نوره مصدر الراحة في ظلام الليل , والنفس إذ استمدت مقوماتها من شرع الله صارت مصدر راحة لصاحبها .
3- السماء في علوها مثلها النفس في سموها عن سفاسف الأمور , والأرض في نفعها وخيراتها , مثل النفس الطيبة في طاعتها لله ونفعها للخلق .
فسبحان الله الحكيم العليم .

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 06:00 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الليل

بسم الله الرحمن الرحيم
القسم هو أسلوب لغوي لتأكيد قول أو خبر بعده , ولا يجوز من الإنسان أن يقسم إلا بالله تعالى , لأنه لا بد من القسم بما هو عظيم عند من أقسم – ولا أعظم من الله عز وجل -. لكن الله جل جلاله له أن يقسم بما شاء , وبعض سور القرآن بدأها الله تعالى بالقسم ليخبر خلقه بخبر عظيم , ويلفت الأنظار للتأمل بما أ قسم به من مخلوقاته وآياته الدالة على عظمة موجدها . ومن تلك السور سورة الليل .
ورد في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين عاتبه على التطويل في قراءة الصلاة : ( هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ) حديث ثابت في الصحيحين .
معنى آياتها :
( والليل إذا يغشى ) : الواو أداة القسم , والمقسم به الليل حال سكونه وحين يعم ظلامه الكون .
( والنهار إذا تجلى ) وكذلك القسم بالنهار إذا أضاء نوره الكون , فتجلى للبشر ما خفي عنهم بظلام الليل .
( وما خلق الذكر والأنثى ) تفسر ما هنا بتفسيرين : بمعنى ما الموصولة , فيكون المعنى والذي خلق الذكر والأنثى فيكون القسم بالله تعالى خالق الذكر والأنثى . وتكون مصدرية فيكون القسم بخلقه سبحانه للذكر والأنثى .
( إن سعيكم لشتى ) : أي أعمال العباد متضادة مختلفة , فمنهم المؤمن والمنافق والكافر , وفيهم من يسارع في الخيرات ومنهم المقتصد ومنهم الظالم لنفسه .
( فأما من أعطى واتقى ) من فئات العباد المتفاوتة الذي يعطي ما عليه من حقوق وواجبات , سواء كانت عبادات بدنية أو قلبية , أو مالية . ويتقي ما ينهى عنه من محرمات أو مكروهات في ظاهره وباطنه .
( وصدق بالحسنى ) صدق بموعود الله تعالى له , فقد وعده الله بثواب عاجل في دنياه وآجل في أخراه . ويعيش على يقين ثابت بأن وعد الله حق , وان الله لا يخلف الميعاد .
( فسنيسره لليسرى ) : وعد من الله تعالى بان ييسر له أموره , ويوفقه لعمل الخير , ويصرفه عن الشر , وهذا هو الطريق الموصل لرضا الله تعالى وجنته .
( وأما من بخل واستغنى ) : هذا من الفئة المضادة لما قبلها , فهو لا يعطي ما عليه من حقوق لا واجبة ولا مستحبة , ولا قليلة ولا كثيرة . ومستغنى بحاله المغرور بها عن طاعة الله تعالى بتركه فعل الطاعات وانغماسه في المعاصي .
( وكذب بالحسنى ) : أي مكذب بوعد الله ووعيده , فلا يرجو ما عنده بطاعته , ولا يخاف وعيده فيترك معصيته .
( فسنيسره للعسرى ) : أي يعاقبه الله تعالى بصرفه عن الخير وتعسير أموره , وييسر له الشر فيقع فيه . وتتدرج حياته من عسر الدنيا إلى عسر الآخرة .
( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) : أي حاله الذي أطغاه واغتر بها , واستغنى بها عن ربه , لن تنفعه حين يهلكه الله بالموت الذي لا راد له , ولا ترد عنه عقابه يوم القيامة .
( إن علينا للهدى ) فمن سلك طريق الهدى هداه الله وبينه له فيميز به بين الحلال والحرام والصواب والخطأ , فقد أكرمه الله تعالى وبين أنه أعطاه القدرة على التمييز بين الخير والشر في قوله : ( وهديناه النجدين ) .
( وإن لنا للآخرة والأولى ) : الآخرة يوم القيامة وما فيه , والأولى الحياة الدنيا وما فيها, كلها ملك لله وحده لا يشاركه فيها أحد , والمالك للشيء هو المتصرف فيه كما يشاء وكيف يشاء , وما كان لله لا يسأل من سواه , والمتصرف في ملكه لا يعصي أمره من كان من ضمن ملكه , ومن عصى مالكه استحق عقوبته .
( فأنذرتكم نارا تلظى ) : الإنذار إعلام بتهديد . فالله يعلم بوجود ناره التي يعاقب بها , ويهدد من يعصيه بأنه سيعذبه بها . وهذه النار ليست مثل النار المعهودة في الدنيا , بل نار الدنيا جزء من سبعين جزءا منها , وهي كما ذكر عنها في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم : أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم ألف اخرى حتى ابيضت ثم اخرى حتى اسودت فهي سوداء مظلمة .
وهي شديد حرها بعيد قعرها تدعوا كل من أدبر واستكبر عن طاعة الله وتلتقطهم يوم الحساب كما يلتطق الطير الحب .
( لا يصلاها إلا الأشقى ) الشقي هو من ترك طاعة الله وارتكب ما نهاه عنه ومات على ذلك . وقد وصفه الله بقوله ( الذي كذب وتولى ) : فهو مكذب بخبر الله ووعده ووعيده , معرض عن طاعته , فيكون بذلك مكذب بقلبه فلا يعتقد بالله وأنه المستحق للعبادة , ويصدق ذلك بجوارحه فلا يعمل ما يؤمر به ولا يترك ما ينهى عنه .
( وسيجنبها الأتقى ) أي سينجو من النار من اتقى الله تعالى بفعل الطاعات وتوقي السيئات . وقد ذكر الله تعالى من صفاته ( الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) أي ينفق ماله في طاعة الله تعالى لا يقصد بذلك لا رياء ولا سمعة . ويعطي من يعطي دون دون أن يكون له عنده مصلحة ترجى , ولا عليه له يد خير سابقة فيردها إليه , بل يعطيه ابتغاء وجه الله تعالى .
سبب نزول هذه الآيات الأربع الأخيرة : أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه , الذي قدم للرسول صلى الله عليه وسلم ما قدم , وبذل للدعوة ما بذل دون أن يكون ذلك لسابق فضل .
( ولسوف يرضى ) وعد من الله تعالى بأنه سيرضيه بما يكون له من خير في دنياه , وكرامات وثواب في أخراه .

من ثمرات التدبر في الآيات :
- أقسم الله تعالى بالليل وظلامه , والنهار وضياؤه , فالليل مستقر راحة الإنسان وسكونه وهدوء باله , والنهار لعمله ونشاطه وسعيه في طلب رزقه , وهنا لنتأمل ونتدبر حكمة الله تعالى وكرمه وجوده فيما هيأ للإنسان ما لا يمكن للإنسان تهيئته لنفسه بنفسه , ولنحمد الله تعالى على هذه النعمة ونستعمل كل واحدة منها لما سخرها الله له فوقت الراحة للراحة ووقت العمل للعمل .
- وأقسم الله تعالى بمتضادات – ليل ونهار , وذكر وأنثى – ووجود المتضادات دليل على وحدانية موجدها .
- ونلاحظ أيضا حتى المقسم عليه متضاد – أعطى وبخل , واتقى واستغنى – فإذن وجود المتضادات دليل على عجز الإنسان عجزا تاما رغم إعجابه بقدراته واكتشافاته . فالله خلق الذكر والأنثى من بويضة ثم نطفة تستقر في الرحم ثم تكون ذكرا أو أنثى . ولا يملك الإنسان معها أن يحدد مصيره أو نوع جنسه , ولا جنس ذريته .
- ( إن سعيكم ) أسند الله تعالى السعي للإنسان , فهو إذن مسؤول عن نتيجة سعيه , وما كلفه الله تعالى إلا وهو يعلم علم اليقين أنه خلقه وهيأ له من الأسباب ما يستطيع بها اختيار طريق السعي , والتفاوت بالأعمال دافع للتنافس للوصول إلى الدرجات العلا , والاختلاف في السعي لا بد أن ينتج عنه نتيجة حتمية هي الاختلاف في الجزاء – وما ربك بظلام للعبيد - .
- ( فأما من أعطى واتقى ) قدم الله تعالى العطاء على التقوى , فالعطاء عبادة متعدية النفع للغير , أما التقوى فهي عبادة لازمة , ونفعها للإنسان وحده . وبذلك نستنتج قاعدة أنه إذا اجتمع أمرين أو عبادتين إحداهما متعدية والأخرى لا زمة فإنه يقدم المتعدية على اللازمة , لأن في ذلك مصلحة جماعة الأمة واللازمة مصلحة الفرد , ومصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الفرد .
- ( وصدق بالحسنى ) التصديق والصدق أساس عقيدة القلب , وعقيدة القلب هي المسيرة لعقيدة الجوارح , وأعلى درجات التصديق التصديق بالله وشرعه , وأعلى درجات الصدق الصدق مع الله وشرعه .
- تيسير الأمور كلها مناطه توفيق الله تعالى , وتوفيقه مرهون بطاعته , فكل شئون الحياة ومعاملاتها لا يوفق إليها ولا تتيسر إلا للمتقي المصدق . وإن رأينا ذلك لبعض الفسقة فهو استدراج لا تيسير , فالعاصي حاله عسرة وإن ظن أنه في طريق الصواب , ولو كسب ما كسب من النجاح الدنيوي , لأنه لا اعسر من طريق نهايته النار وبئس القرار .
- كلمة استغنى تعبر عن الإعراض وعدم الاتصاف بذل العبودية لله تعالى , فحرم نفسه المستغني من رحمة الله , ومن المستغني عنها ؟!
- الجزاء من جنس العمل , عدل من الله تعالى .
- ما ينفع الإنسان عند موته هو ما يجب أن يسعى في تحصيله في دنياه , فالذي لا يغني عني عند الموت يجب أن لا يكون له مكان في حياتي .
- ( إن علينا للهدى ) تكفل الله تعالى لنا بتوضيح طريق الهدى وبيان الخير من الشر . وهذه نعمة عظيمة من نعم الله علينا أن كفانا مؤونة التبيين والتوضيح للخير والشر , وإلا لتاه الإنسان الضعيف وضاع .
- مادامت الأولى والآخرة لله فهل نسأل غيره عما نريده من خيريهما , أو نرجو غيره أن يهبنا من فضلهما , أو نستعين ونتوكل على غيره ليكف عنا شرهما ؟!
وهل يليق بفقير مال أن يعلق رجاءه بغني مال فقير فقر ذاتي ؟!
- الإنذار إعلام مع تهديد , فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار . وهنا الإعلام من الله تعالى فهو إعلام حق لا شك فيه , وتهديد منه العزيز الجبار القوي العظيم , إذن هو تهديد واقع لا محالة على من يستحقه .
- ( الأشقى ) ( الأتقى ) أسماء تفضيل من المصادر فهي تعم , فهذه المنزلة وتلك ليست حصرا على شخص معين أو عدد محدود , بل هي لمن اتصف بصفاتهم في أي زمان ومكان , وهذا يدل على سعة رحمة الله وعدله وكرمه وفضله .
- ( الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * ) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه , لكن اللفظ عام , فيدل على أن الحكم عام لجميع من يتصف بذلك لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
- ( إلا ابتغاء وجه ربك الأعلى ) هذا هو المقياس الصحيح والوحيد لقبول الأعمال .
- ( ولسوف يرضى ) سوف تفيد التأكيد وتدل على حدوث الحدث في المستقبل , وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن لا يستعجل العاقبة , ويتصف بالصبر .
- ( ولسوف يرضى ) كنز عظيم يناله المستحق – رضا في حياته وبحياته, بدينه , بخالقه , بقدره خيره وشره , رضاه في الرخاء والشدة , والفقر والغنى , في العسر واليسر .......... فمن حقق ذلك ولسوف يرضى , والوعد من رب البشر فالله حق ووعده حق .
- السورة تحث على محاسبة النفس والإخلاص في العمل , وتحري الصواب فيه .
نسأل الله من فضله أن يجعلنا ممن وعدهم بالرضى .

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 06:09 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
هذه السورة تدل على مكانة الرسول صلى الله عله وسلم عند الله تعالى وشدة عنايته به , ورعايته له منذ خلقه , وقسم الله عز وجل على ذلك دليل عظيم على هذه المكانة , فالقسم من العظيم لا يكون إلا على أمر عظيم .
سبب نزول السورة :
أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون ودع محمدا ربه , فأنزل الله تعالى : ( والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى ) وهو صحيح الإسناد , رواه البخاري ومسلم وغيرهم . وفي رواية امرأة من قريش وقيل زوجة أبو لهب .
معنى آياتها :
والضحى : هو وقت أول النهار حين يعم ضياء الشمس الكون .
والليل إذا سجى : إذا أظلم , وعم الكون بظلامه وسكونه .
ما ودعك ربك : نفي من الله تعالى أنه لم يترك رسوله ويهجره كما ادعى أعداؤه .
وما قلى : ينفي أيضا بغضه له .
والنفي في الحالتين يدل على عدم وجود المنفي أبدا , وكذلك يدل على ثبوت ضده . فهذا يثبت حب الله تعالى لنبيه ومعيته له .
وللآخرة خير لك من الأولى : أي كل حال متأخر لك خير من الحال الذي سبقه , وقد حدث ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ودعوته فهو في ترقي مستمر . وهذا دليل قطعي على أن حال الآخرة سيكون خير من حال الدنيا .
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم زاهدا في الدنيا , مؤثرا الآخرة عليها . حتى في آخر لحظات عمره والله تعالى يخيره بين الدنيا والآخرة يختار الرفيق الأعلى .
ولسوف يعطيك ربك فترضى : يعطيه في الدنيا ما يرضيه , وفي الآخرة كذلك , ومما يعطاه في الآخرة : الشفاعة حين لا ينالها أحد من الأنبياء غيره في موقف الشدة الذي يكون فيه الخلق ويبحثون عمن يشفع لهم عند الله , والكوثر وهو نهر في الجنة , والوسيلة وهي درجة لا ينالها إلا واحد فقط . وغير ذلك مما أعد الله له من الكرامات التي لا تحصى .
ألم يجدك يتيما فآوى : يمتن الله تعالى على نبيه بما أولاه من رعاية في الدنيا , فقد ولد النبي صلى الله عليه وسلم يتيم الأب , وكفله جده , وماتت أمه وهو طفل عمره ست سنين, ومات جده وعمره ثمان سنين , فكفله عمه أبو طالب حتى كبر , وهيأ الله له خديجة بنت خويلد زوجة . وعندما بلغ الرسالة وعاداه قومه قيض الله ملك الحبشة , ثم أهل يثرب ......... وهذا كله من رعاية الله له وولا يته .
ووجدك ضالا فهدى : لم تكن تعلم شيئا عن الهدى والحق وطريقه , فهداك إليه بأن جعلك صاحب الخلق العظيم , والذكر الطيب الحسن , ثم أنزل عليك الوحي بدعوة الحق .
ووجدك عائلا فأغنى : فقيرا فأغناك , وسبل الخير يسر لك .
وهذه الأحوال هي أحوال حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
فأما اليتيم فلا تقهر : النهي عن الإساءة في معاملة اليتيم دليل على الأمر بالإحسان إليه بجميع وجوه الإحسان القولية والفعلية .
وأما السائل فلا تنهر : أى لا تسيء معاملة السائل سواء كان سائلا للمادة أو للعلم أو لغير ذلك . فإما تحقيق طلبه أو رده بالحسنى .
وأما بنعمة ربك فحدث : أذكر نعم الله عليك سواء كانت مادية أو معنوية , لأن ذكر النعم ثناء على المنعم .
من ثمرات التدبر في آيات السورة :
أقسم الله تعالى بالضحى وضيائه , والليل وظلامه , والضياء والظلام متضادان . وفيها دليل على قدرة الله تعالى . وهي من الظواهر العظيمة في الكون , والقسم من العظيم سبحانه دليل على عظمة ما أقسم لأجله عنده .
ووجود المتضادات في الكون والحياة دليل على وحدانية موجدها سبحانه وتعالى .
- في قوله تعالى : ( ما ودعك ربك وما قلى ) فإن نفي الشيء دليل على الضد , فكل الرعاية والعناية منه سبحانه لنبيه .
وكذلك النفي دليل على الاستمرار , فالنفي مستمر , وثبوت ضده مستمر أيضا .
إذن الغياب أو التأخر ليست دليلا على الهجر والبغض , بل قد تكون لأسباب إيجابية لا تظهر في وقتها .
- ( وللآخرة خير لك من الأولى ) كل حالة متأخرة من أحواله صلى الله عليه وسلم أفضل مما قبلها , فهل تحقق ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
1- مكن له دينه ونصره على أعدائه .
2- سدده في كل أحواله حتى مماته .
3- رفع له ذكره في الدنيا والآخرة , كما في قوله تعالى في سورة الشرح ( ورفعنا لك ذكرك ) .
وكل عاقل من أمته يدرك أن الخير في الزهد في الدنيا , والثقة بموعود الله .
وكلمة " خير " نكرة فهي تفيد العموم , لكل خير مادي أو معنوى , علم أم لم يعلم .
ولنعلم أن حالنا في الأولى – الدنيا – يحدد لنا مقدار خير الآخرة .
- ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) نوع الأسلوب هنا تأكيد بحصول ما وعده الله به , وكذلك " سوف " تدل على المستقبل . وبالجمع بين التأكيد والخبر عن المستقبل نستنتج أنها تتضمن الدعوة للصبر وعدم الاستعجال . واليقين التام أن موعود الله سيحدث .
وقد جمع الله تعالى لنبيه في الآيتين ( وللآخرة خير لك من الأولى ) و ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) خيري الدنيا والآخرة .
- ( ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى )
إن تذكر الإنسان لأحواله الضعيفة مهما مر عليها من الزمن , يعني تذكره لربه , ويستلزم له شكره على تبدل الحال مما كانت إلى ما هي عليه , وهذا الشكر يقود إلى إصلاح الذات , ويقوي الصلة بين العبد وخالقه . فيرفعه الله إلى أعلى المقامات لأنه وعد ووعده الحق ( لئن شكرتم لأزيدنكم )
ذكر الله تعالى الضلال في وصف حال نبيه صلى الله عليه وسلم , وهذا لا يعني أنه في ذات ضلال المشركين , بل ضلال عن النبوة والإيمان لكنه لم يقع في معاصي الضلال .
- ما مفهوم الغنى الحقيقي ؟
هو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ) رواه أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين .
- ( فأما اليتيم فلا تقهر ) اليتيم مبدوءة بلام الاستغراق , أي كل يتيم سواء لك أو لغيرك .
والحق الواجب لليتيم : المعاملة الحسنة قولا وفعلا , وأن يصنع به ما يحب أن يصنع بولده .
وكلمة تقهر دليل على أنه قد يحدث إساءة لليتيم ولا يستطيع ردها عن نفسه , ولا حتى إظهار ما يدل على ذلك خوفا أو اضطهادا . والمسؤولية على الراعي أن يبتعد حتى عما يقهره ولو لم يظهر قهره .
( وأما السائل فلا تنهر ) للسائل يد فضل على المسؤول ولو لم يشعر بها , وأحد السلف كان يشهر بذلك فيقول إذا جاءه سائل : مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة .
- التحديث بالنعم الدينية والدنيوية دافع لشكرها , ومثمر لزيادتها ونموها , ولا يشترط التحديث أن يكون للملأ , فالحديث مع النفس في خلواتها وجلواتها , يجعلها تشعر بالامتنان للمنعم , فتشكر , ويوجب له المحبة فيها . ويكون التحديث للملأ إذا كان الأمر يستوجب ذلك .
نسأل الله تعالى أن يحيينا مسلمين , ويتوفانا على الإيمان , وأن يوسع رزقنا في دنيانا , ويرزقنا القناعة وغنى النفس الحقيقي . ويجعلنا ممن يتحدث بنعمه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا .

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 28 جمادى الآخرة 1435هـ/28-04-2014م, 06:15 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الشرح

بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وخصه ببعض السور منها سورة الضحى والكوثر وهذه السورة – سورة الشرح –
معنى آياتها :
ألم نشرح لك صدرك : بدأ الله تعالى الآية بهمزة استفهام وهي للتقرير , ومعناه : ألم يشرح الله صدرك لقبول دعوته وما فيها من شرائع وأحكام , وقبول ما يواجهك فيها من أذى دون ضيق ولا وحر .
وقد ذكر بعض المفسرين أنه أيضا من المقصود بذلك الحادثة التي حدثت له وهو طفل صغير في بني سعد عند مرضعته حليمة , وذلك حين جاءه ملكان في صورة رجلين فأضجعاه وشقا صدره وأخرجا منها علقة الغل والحسد وجعلا له فيه الرحمة والرأفة .
وبذلك يكون شرح صدره صلى الله عليه وسلم حسيا ومعنويا , فصار بذلك صاحب الخلق العظيم .
ووضعنا عنك وزرك : الوزر هو الذنب , ووضعه يعني مغفرته , والله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , وذلك في قوله تعالى : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح :2]
الذي أنقض ظهرك : الإنقاض صوت الشيء إذا كثر عليه الحمل - كما لو كان هناك سقف من خشب ووضع عليه شيء ثقيل جدا فإنه يسمع للخشب صوت بسبب ثقل ماحمل عليه - .
والذنوب تثقل ظهر المؤمن لأنه يشعر بها ويتألم منها , أما الكافر والمنافق فلا يشعران بذلك .
ورفعنا لك ذكرك : أي جعل الله له المنزلة العالية الرفيعة في الدنيا والآخرة . وقد رفع الله تعالى ذكره قبل أن يخلق حين أخذ على النبيين ميثاق الإيمان به في قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) [ آل عمران : 81 ]
فإن مع العسر يسرا : أي لا يكون العسر في أمر إلا جاء بعده يسرا .
إن مع العسر يسرا : تأكيد على أنه لن يكون هناك عسر إلا ويعقبه يسرا .
فإذا فرغت فانصب : لأن عبادة الله تتطلب تفرغ القلب لها , أمره الله تعالى أن يقوم إلى عبادة الله بهمة ونشاط بعد التفرغ من مشاغل الدنيا . وهذا لا يعني تقديم مشاغل الدنيا على طاعة الله , بل المعنى اترك الدنيا ولا تأخذ منها إلا كما زاد المسافر الذي يبلغه ولا يثقله , وتفرغ لطاعة ربك .
وإلى ربك فارغب : أي اجعل همك ونيتك لله وحده , وارغب إليه في قضاء حوائجك بالدعاء والتقرب إليه بالطاعات .

من ثمرات التدبر في آياتها :
- هل انشراح الصدر خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أم يشعر به كل مؤمن ؟
بل هو عام يشعر به كل من حقق شروطه وهي : الإيمان الكامل بالله , وترك التعلق بالدنيا , والاجتهاد في الطاعة .
- مفهوم انشراح الصدر وأسبابه : 1- انشراح لقبول شرائع الدين كلها وتطبيق تعاليمه وفق شرع الله تعالى وعلى ما يرضيه , والله تعالى يقول : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ] وقوله تعالى : ( أفمن شرح الله صدره بالإسلام فهو على نور من ربه ) [ الزمر : 22 ] .
2- الإحسان في معاملة الخلق , سبب يوصل لانشراح الصدر , ودليل على انشراح صدر المحسن في التعامل , ويكون بتقديم جميع وجوه الإحسان القولي والفعلي .
3- الإقبال على الآخرة , وعدم الاغترار بزهرة الدنيا .
4- الرضا بقضاء الله وقدره من أسبابه ودليل عليه .
5- الدعاء والطلب من الله تعالى , كما ورد ذلك على لسان نبيه موسى عليه السلام في قوله : ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ) [ طه : 25 ]
6- الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال , فالله تعالى يقول : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28] .
7- سلامة القلب من الحقد والحسد وغيرها من الأمراض القلبية .
8- ترك فضول الكلام والنظر والاستماع , ومن باب أولى ترك المحرم منها . وكذلك فضول الطعام والشراب والنوم لأنها تقسي القلب .
- قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( ووضعنا عنك وزرك ) تدل على أن هناك تناسب بين قوة الإيمان والشعور بالوزر الذي ينقض الظهر , فكلما قوي الإيمان قويت حاسة الشعور بالذنب حتى من اللمم , فيشعر المؤمن بذلك ويغتم , ويبادر إلى التوبة والاستغفار , ولا يتوقف عن ذلك في كل لحظات حياته , لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس شعورا بذلك – فامتن الله عليه بهذه المنة " ووضعنا عن وزرك " .
كيف نصل إلى الحال التي يضع بها الله تعالى عنا أوزارنا ؟
1- بالمداومة على الاستغفار والتوبة .
2- التفرغ من مشاغل الدنيا لطاعة الله تعالى .
3- عدم الإعراض عن الله باللهو والغفلة , بل تعليق الرغبة فيما عنده , والرجاء في رحمته .
- رفع الله ذكر نبيه في الدنيا بأن : 1- جعله خاتم النبيين وسيد المرسلين .
2- يذكر في الشهادة التي لا يقبل إيمان عبد إلا بنطقها وتحقيق معناها .
3- يذكر في آذان الصلوات وإقامتها , والتي لا يقبل الله تعالى إيمان عبد إن لم يؤديها.
4- وكذلك في تشهد الصلاة .
5- جعل ذكره سببا لقبول دعاء من ذكره في دعائه . ... وغير ذلك .
وأي رفعة أعظم من أن لا يذكر الله تعالى إلا ويذكر معه !
وما أعطاه الله لنبيه هنا يفوق ما أعطاه لغيره من الأنبياء .
إذن حقيقة رفع الذكر ليس في الغنى والحسب والنسب , ولا في أي مظهر دنيوي خالي من طاعة الله تعالى مهما كان , بل حقيقة رفع الذكر في طاعة الله .
وفي الآخرة رفع الله ذكر نبيه : بالشفاعة حين يتوقف عنها كل الرسل ويطلبها لأهل الموقف فيقبل الله منه , وفي أمته خاصة , ودرجة الوسيلة التي لا تكون لأحد سواه
- ( إن مع العسر يسرا ) كلمة العسر في الآيتين معرفة بالألف واللام مما يدل على أنها مفرد , وكلمة يسرا جاءت نكرة , وهي تعم لعموم العلة والمقتضى .
ومثال ذلك رجل فقير , فإن العسر هنا هو الفقر , وسيكون معه يسرا , فيتعدد , فقد يكون غنى أو راحة بال ورضى وقناعة , وبركة فيما أوتي رغم قلته , وصحة في الجسد , وصلاح في الذرية ......... هكذا .
ومثال آخر لو كانت هناك إمرأة عقيم , فإن العسر هو العقم , فيكون معه اليسر بحسن معاملة الزوج , وقوة الصبر في نفسها , وقد يكون لزوجها أبناء من غيرها فيبرونها . مثل الأبناء من الصلب وربما أكثر , تفتح لها أبواب خير تعمل بها تعوضها عن حاجتها النفسية في تربية الأبناء ......وهكذا .
وكلمة العسر بدأت بلام الاستغراق مما يدل على أنها تستغرق كل عسر مهما بلغت صعوبته وشدته , ومهما طالت مدته , ومهما تنوعت صوره .
وهذا دليل قاطع أنه لا عسر في حياة المؤمن بل ابتلاء واختبار .
وليست الكرامة أن يعطى المرء ما يحب من أمور الدنيا , فالله تعالى قد أعطى فرعون الملك وقارون المال ومثله أبو لهب وأبو جهل , وجميعهم في النار وبئس المصير .
وبلال كان عبدا حبشيا أسود , ونال الكرامة وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم دف نعليه بين يدي الرحمن في الجنة , ويوم فتح مكة صعد على الكعبة يؤذن وصناديد قريش وأشرافها عند الكعبة يستمعون له .
- ما يجب أن يكون عليه حال المؤمن هو أن يؤدي ماعليه من واجبات وحقوق لله , ويبتغي نصيبه من الدنيا , فإذا فرغ من دنياه نصب نفسه في طاعة الله , وكما كان صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل حين يصلي حتى تتفطر قدماه , وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , وحين قيل له في ذلك قال : ( أفلا أكون عبدا شكورا ) .
ولنحذر من حالنا اليوم حين ننصب أنفسنا ونتعبها في الدنيا , فإذا فرغنا من ذلك لهونا , واعتبرنا ذلك حق الترويح عن النفس , فضاعت ساعات عمرنا بين تعب دنيا لا طائل منه ولهو يشغل ولا ينفع , إن لم يوقع في الإثم .
- ( وإلى ربك فارغب ) تقديم الجار والمجرور يفيد التخصيص , إذن لله وحده لا لسواه .
توجه إلى الله في حال فراغك , لا لغيره مهما زينت لنا النفس , وزخرفت الشهوات .
ما الطريق الموصل لانشراح الصدر ؟
هو التحقيق الكامل لمعنى ( فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب )
فاللهم يسر أمورنا وفرج همومنا , ونفس كروبنا , واجعلنا من الراغبين إليك في كل وقت وعلى أي حال .

رد مع اقتباس
  #21  
قديم 1 رجب 1435هـ/30-04-2014م, 03:30 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورتي التين واقرأ

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
كثيرا ما يقسم الله تعالى في شيء من آياته أو مخلوقاته , ولله أن يقسم بما شاء , ولا يجوز للمخلوق أن يقسم إلا بخالقه .
وما من آية من خلقه أقسم بها الله عز وجل إلا وفيها دلالة على أنه يجب على الإنسان أن يتأمل ويتدبر فيها وفي خلقها , ليقف على معاني جليلة وفوائد كثيرة تزيد صلته بخالقها سبحانه , فيزداد إيمانه . وكذلك فإن القسم منه سبحانه يؤكد مكانة المقسم عليه , أو أهميته.
وفي سورة التين أقسم الله تعالى بشجرتين معروفتين هما التين والزيتون , لما فيهما من منافع جمة للإنسان , تستوجب له أن يتفكر بهذه النعمة , ويحمد مسديها له رب العالمين .

معاني الآيات :
والتين والزيتون : الواو أداة قسم , والتين والزيتون ثمار شجرتين معروفتين ويكثر وجودها في بلاد الشام , وبلاد الشام محل نبوة كثير من الأنبياء . وفيهما منافع للإنسان , فهو منهما يأكل ويدخر ويعصر .

وطور سينين : الواو حرف عطف , بمعنى أن الله تعالى أيضا يقسم بطور سينين , وهو محل نبوة موسى عليه السلام , وتكليم الله تعالى له .


وهذا البلد الأمين : إشارة إلى مكة المكرمة , محل نبوة خاتم المرسلين , محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذه الأماكن التي أقسم الله بها هي محل نبوة ورسالة أولي العزم من الرسل , مما يدل على شرف مكانها عند الله تعالى , بما شرفها به من رسالة أولي العزم بها .

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم : هذا هو جواب القسم , فالله تعالى خلق الإنسان من بين سائر الخلق , خلقة سوية قويمة , وفي أحسن صورة .

ثم رددناه أسفل سافلين : أي مع أن الله تعالى خلق الإنسان خلقة سوية ظاهرا كذلك باطنه سويا , حيث فطره على الفطرة السليمة , وكرمه بالعقل , ونعمه بنعمة البيان والإفصاح , وهداه إلى حسن الاختيار بين الخير والشر . فإن بعض الخلق ينتكسون عن هذه الخلقة إلى عكسها , وبذلك يردون إلى أسفل الخلق في كل شيء , في الصلة بالله ومعاملة الخلق , فيستحقون بذلك أن يكونوا أسفل السافلين يوم القيامة . أي في نار جهنم .

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات : استثناء من أن يردوا إلى أسفل السافلين , فمن منَّ الله عليهم بالإيمان الصادق , ووفقهم للعمل الصالح الذي يرضيه , سيكونون في عليين , ودليل ذلك أن ما ذكره الله تعالى في القرآن يكون ذكرا لضده , فالخبر عن المستحقين لدرجة السافلين دليل على مكانة ضدهم وهم أهل عليين .
فلهم أجر غير ممنون : لهم عند الله تعالى المكانة العالية , والمنزلة الرفيعة الرضية , في نعيم سرمدي لا ينقطع أبدا .

فما يكذبك بعد بالدين : عتاب لابن آدم , بعد ما أكرمك الله بهذه الكرامة , ما الذي يحملك على التكذيب بيوم الجزاء والحساب , وعدم الاستعداد للوقوف بين يدي الله تعالى .
فكل ما رأيت من آياته , وكل ما أولاك من نعمه توجب عليك الإيمان بوحدانيته , وشكره على نعمه بحسن عبادته .

أليس الله بأحكم الحاكمين : لا يظلم أحدا , ومن تمام عدله أن لا يساوي بين من آمن وعمل الصالحات ومن لم يعمل في جزائه .

من ثمرات التدبر في الآيات :
- في القسم , أقسم الله تعالى بالتين والزيتون وهما من شجر بلاد الشام للدلالة على نبوة عيسى عليه السلام , ثم طور سينين للدلالة على نبوة موسى عليه السلام , ثم البلد الأمين للدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فرتب القسم من حيث الأشرف ثم الأشرف منه ثم الأشرف منهما . ولبيان أهمية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للمخاطبين بالقرآن , وعظمة مكانته عند الله تعالى .
- وفي قوله ( وهذا البلد الأمين ) حيث عطف بين مكان نبوة عيسى عليه السلام ( والتين والزيتون ) و مكان نبوة موسى عليه والسلام بحرف العطف فقط , وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أشار باسم الإشارة مع حرف العطف , وفي ذلك دلالة على مكانة البيت وحرمته , ومكانة من أرسل عنده على سائر من سبقه .
- في جواب القسم ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) دليل على ما خص الله به الإنسان على سائر خلقه في حسن خلقة . وهذا التخصيص يستلزم الرضا بخلقة الله تعالى لنا – طولنا , عرضنا , لوننا , جنسنا - .
ولكن من أين جاءت النظرة إلى مقاييس الجسد واللون أو الجنس ؟
جاءت من مثلث العداوة – الشيطان وهوى النفس وشياطين الإنس –
أيها الإنسان تبصر وفكر , خلقك الله في أحسن صورة , فلا تلتفت لسخافات أسافل الناس عن شكلك , ولونك , وحسبك , ونسبك . أكرمك وشرفك بطاعته فلا تهن نفسك بمعصيته , فيكون مصيرك عقابه الشديد الأليم .
- ( ثم رددناه أسفل سافلين ) الأسافل أسافل في كل شيء , ويؤكد ذلك واقع حياة غير المسلمين في مأكلهم ومشربهم – يتركون الطيبات ويأكلون الخبيث , كأكل لحم الخنزير والحشرات والقاذورات , وشرب الخمر والمسكرات – وسلوكياتهم , فهم كما وصفهم الله بأنهم كا لأنعام بل أضل .
فالسافل في دين الله سافل في جميع جوانب الحياة , سافل في أخلاقه , سافل في أفكاره , سافل في مشاعره , سافل في تعامله مع الغير .
وسيكون حتما سافلا يوم القيامة في نار جهنم .
- ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) كمال العمل يقابله كمال الأجر , فسيكون لهم العلو في الحياة والأخلاق والأفكار والمشاعر , وسينعكس ذلك في التعامل مع الغير .
وهذا الاستثناء يدل على أن صورة الجسد , ومقاييس الأعضاء ليس لها قيمة في مقاييس الثواب من الله تعالى , بل المقياس ( آمنوا وعملوا الصالحات ) .
فالفطرة السليمة التي خلق الله عليها الإنسان يكملها الإيمان بالله ويرفعها العمل الصالح
ومن سعى في ذلك لا بد أن يصل إلى كمال النعيم والثواب في دار الجزاء .

- بالمقابلة بين كلمتي ( تقويم ) و ( سافلين ) نجد أن :
1- العلو فطرة واستعداد نفسي , والاستفال انتكاس للفطرة .
2- الإنسان مهيأ لأن يبلغ من العلو والرفعة حتى يصل إلى مقام يفوق مقام الملائكة – وتجلى ذلك في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج حين رفع إلى سدرة المنتهى , والبيت المعمور – أو يسفل حتى يصل إلى درجة تصبح فيها البهائم خيرا منه ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا )
3- العلو يجعل المرء حريص على رضا ربه , وكسب محبة خلقه , والسافل لا يلقي بالا لأحد .
- الله تعالى يذكر هنا الإنسان بما أنعم عليه من نعم ظاهرة وباطنة , ونعمة الهداية , وإرسال الرسل إليهم , وعليه أن يقابل ذلك بالشكر القولي بلسان الحال والمقال , والشكر الفعلي بحسن الطاعة والعبادة .
- ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) سؤال تقريري , لا تملك النفس البشرية أمامه إلا الإقرار ببلى , وحتى الملحدين , ينكرون ذلك ظاهرا وتقر به أنفسهم باطنا , ( وحجدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) [النمل : 14] .
- في حديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه : ( إذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى آخرها ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) فليقل وأنا على ذلك من الشاهدين ) حديث صحيح .



بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق

عاشت البشرية في ظلام دامس من الشرك , حتى أن الله تعالى مقتهم عربهم وعجمهم , فأرسل إليهم خاتم النبيين وسيد المرسلين , صلوات الله وسلامه عليه إليهم .
فكانت أول الوحي هي سورة العلق , جاءه جبريل فأمره أن يقرأ , فرد عليه ما أنا بقارئ, فكررها عليه حتى قرأ , فكانت هذه السورة تهيئة لانطلاقة الدعوة , وتكليف بالنبوة .
وفي الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , ثم حبب إليه الخلاء , فكان يأتي حراء فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد , ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها , حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء , فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ , قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد , ثم أرسلني فقال : اقرأ , فقلت ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ , فقلت : ما أنا بقارئ , فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني , فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق – حتى بلغ – ما لم يعلم . قال : فرجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني , فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة ما لي ؟ وأخبرها الخبر , وقال : خشيت على نفسي , فقالت : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا , إنك لتصل الرحم , وتصدق الحديث , وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق , ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي – وهو ابن عم خديجة – وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية , وكان يكتب الكتاب العربي , وكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب , وكان شيخا كبيرا قد عمي , فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك , فقال ورقة ابن ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى , ليتني فيها جذعا , ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ فقال ورقة . نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي , وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال , فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا , فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع , فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .

معاني آيات السورة :

اقرأ : هذه أول رحمة تنزل من الله تعالى على الخلق , وهم في الحال المتردي من الشرك وعبادة غيره . والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم .
باسم ربك الذي خلق : الله عز وجل , الذي تعرفه كل فطرة حق المعرفة , ولو كانت غارقة في الكفر , فكيف بفطرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي صانها عن كل ما يكدرها!
الذي خلق : جميع الخلق , من ذوات الأرواح وغيرها , ومن التي تشاهد والتي لا تشاهد ولكن يعلم بها بما يدل عليها , ومن التي لا نعلمها .

خلق الإنسان من علق : ومرحلة العلق هي من مراحل ابتداء خلق الإنسان جنين في رحم أمه , وهذه المرحلة تعرف لكل أحد لكنها لا تشاهد .

اقرأ وربك الأكرم : أي كثير الكرم والخير , واسع العطاء والجود , الذي من كرمه , أكرم نبيه بالرسالة , وجميع خلقه بأن أرسله إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور .

الذي علم بالقلم : أي ومن كرمه أن علم الإنسان أن يحفظ علومه ويقيدها بالكتابة , ليكون أدعى لبقائه , وحجة عليه , ويرثه من يأت بعده .

علم الإنسان ما لم يعلم : وهذا من كرم الله تعالى , أن يخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئا مما حوله , فيعلمه الله شئون حياته كلها , بما سخر له من وسائل العلم والإدراك .
ثم علمه العلم الذي يعرف به ربه وكيف يعبده حق العبادة .

كلا إن الإنسان ليطغى : هذه الآية تتضمن نعمة من نعم الله التي اكرم بها خلقه , حيث فتح لهم أبواب رزقه , وسخر له جميع نعم الكون من الطيبات ليتنعم بها . ويذكره بالحال التي يجب أن لا يصل إليها وهي الأشر والبطر والطغيان بسبب الغنى , والكبر بسبب الجاه , والتعالي على الخلق بسبب الغرور , ثم يصل به الحال أن يتكبر عن نعمة الحق والرسالة التي منَّ الله بها عليه فيكفر بها , ولا يصدق رسوله .

إن إلى ربك الرجعى : تهديد ووعيد من الله عز وجل للإنسان الذي يطغى بأن مرجعه بعد الموت لله تعالى , وسيحاسبه , على كل النعم التي تنعم بها ولم يعبد مسديها إليه وتقديم الجار والمجرور للحصر أي المرجع لله لا غيره .

( أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى ) : قيل نزلت في ابي جهل حين توعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند الكعبة , وهي تعم كل من ينهى أو يصد الناس عن الصلاة . لأن كل ما نزل في القرآن لخصوص سبب , ولفظه عام , فالعبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه .

( أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى ) : هذه صفات المنهي عن الصلاة , فكيف ينهى من كانت هذه صفاته ؟ وهي تدل على اتصافه بالخير , ولا يمنع من الخير أحد , إلا إذا كان المانع قد طغى وتجاوز حده في محادة الله تعالى .

(أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى ) : فهذا الناهي عن الخير , المانع لغيره من سلوك طريقه , ألا يعلم أن الله تعالى يعلم بعمله وسيحاسبه عليه بأشد العذاب ؟!

( كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) :
في الآيات التي قبلها تهديد ووعيد بعلم الله تعالى بما يعمل لعله يرتدع , وهنا تهديد ووعيد إن استمر ولم يتراجع عما يفعل فسيحل به عذاب الله تعالى , وعبر عن ذلك بسفع ناصيته , هي مقدم الرأس , ويدل ذلك , طريقة العذاب , وشدته , وشدة الهوان والذلة فيه . والسفع بمعنى السواد وهذا ما ستكون عليه ناصيته يوم القيامة , وقال تعالى في سورة آل عمران : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) [ 106 ] .

( فليدع ناديه ) : وهذا تهديد آخر له , بأنه لن يحميه من عذاب الله أحد , وناديه أي قومه وعشيرته . وذلك أن أبا جهل توعد محمد وتفاخر بناديه وهم جماعته .

( سندع الزبانية ) : الزبانية هم ملائكة العذاب , وليرى أي الفريقين أغلب ؟ !
( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , ويأمره بمواجهة من يمنعه من الصلاة عند الكعبة بالعصيان , وهو خطاب لجميع أمته بعدم الانصياع لمن يمنعهم عن طاعة ربهم . لأن كل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن فهو لأمته ما لم يرد فيه ما يدل على التخصيص .

من ثمرات هذه السورة :
- بدأت السورة بكلمة ( اقرأ ) , فأيهما أهم القراءة أو الكتابة ؟
القراءة أهم من الكتابة , لأن الإنسان قد يستغني عن الكتابة , ويأخذ ما يقرأه عن طريق السماع , كما في حالة حفظة كتاب الله وغيره من العلوم من العمي والأميين .
ولماذا نفى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه القراءة ؟
لأن القراءة تتطلب علم بما يقرأ , والرسول صلى الله عليه وسلم لا علم له بما يأمره جبريل أن يقرأه . وكذلك القراءة تتطلب صحيفة أو كتاب يقرأ منه , وهذه كانت منتفية الوجود في حال النبي مع جبريل , ولو كانت موجودة فلا نفع لها لحال النبي الأمي .
لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أنا بقارئ ) إخبار عن الحال لا رفض للأمر.
وما أثر هذه الكلمة على البشرية ؟
نزول هذه الكلمة يبين لنا كرم الله تعالى على هذه البشرية , وفضله الواسع , ورحمته السابغة , فأنزل الله تعالى خير كتبه مع خير ملائكته لأفضل رسله , فمن لا يقرأه لن يعرف ربه , ولن يعبده حق عبادته . فالقراءة إذن هي أساس طريق معرفة الله عز وجل .
إذن هذه الكلمة كرامة لا يكاد العقل يتصور مقدارها , ولا يملك لسان حق شكرها .

- ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) و في بداية كل سورة نقول ( بسم الله الرحمن الرحيم) وبذلك تحقيق لهذا الأمر الذي أمر الله به في أول كلمات الوحي .
- الله الذي خلق الإنسان , ودبر له وسائل حفظ الحياة في هذا الكون , ورعاه وحفظه, وهو الذي دبر له أمره العقدي بتحديد الأوامر والنواهي , في كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم . لذلك يا أيها الإنسان اقرأه لتعرف طريقك الصحيح.
- التعلم والتعليم , لا يمكن للإنسان القيام بها إلا باستخدام وسائل المعرفة الجسدية وهي ( السمع والبصر واللسان والعقل ) ويستعين بوسائل خارجية مثل ( الأقلام والدفاتر , وما يستجد من وسائل في كل عصر ) وكما قلنا سابقا أن القراءة أهم من الكتابة , لذلك قد يستغني عن الوسائل الخارجية لكنه أبدا لا يستغني عن الوسائل التي خلقها الله . وهذا من كرم الله الذي يستحق عليه أن لا يعبد سواه .
- ( خلق ) كلمتان وردت , نطقهما واحد , لكن مدلولهما يختلف , فالأولى تعم جميع الخلق , والثانية تخص خلق الإنسان , وإذا جاء الخصوص بعد العموم كان ذلك دليل على أهميته , وتدل على مكانة الإنسان عند الله , والعاقل يفكر من خلقني , وخصني بمزيد عناية عن سائر خلقه وهو الغني عني , أيستحق أن يعبد غيره ؟!

- أربع ركائز في السورة ( الله خلق ) ( الله أكرم ) ( الله علَّم ) ( الله أغنى ) , فما مقتضياتها ؟
الشكر , وكل واحد منا يظن نفسه بأنه قد أدى حق الله عليه , ولكن هل نحن حقا كذلك؟
- ( إن إلى ربك الرجعى ) جرس تنبيه وإنذار من الله تعالى , انتبه , ما ذا ينتظرك بعد الموت .
- أيهما أشد ذنبا من لم يعبد الله تعالى , أم من يمنع الناس من عبادة الله ؟
حتما الثاني لأنه بذلك يصد كثيرا من الخلق عن عبادة الله , فكيف بمن يجمع بين الأمرين ويكون كفره متعديا ؟!
- من أساليب التربية في الشريعة الإسلامية التدرج في العقوبة , ومن خلال بعض آيات هذه السورة ندرك ذلك :
1- ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) توضيح الخطأ للعموم المخطئ وغيره .
2- ( أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى ) توضيح الصواب , وإن استمر الرأي المخطئ على خطأه . وذلك يؤكد خطأ المخطئ .
3- ( أرأيت إن كذب وتولى ) التأكيد على شناعة الخطأ .
4- ( ألم يعلم بأن الله يرى ) التعريف بوجود العقاب .
5- ( كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ) بيان نوع العقاب في أسلوب تهديد ووعيد .
6- ( فليدع ناديه سندع الزبانية ) مواجهة القوة الباطلة بقوة حق أقوى منها , لكن لا رضوخ ولا تنازل عن مسلمات الحق .
7- ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) عدم التخاذل والضعف أما الباطل , مع الاستعانة بالله , الذي قوته لا تغلب , وعزته لا تقهر .
- ( كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ) السفع يدل على الأخذ بعنف , والناصية أعلى مكان في الإنسان ( مقدمة الرأس ) .
إذن الرأس الشامخ عن طاعة الله , المشامخ طغيانا يدك ويهان ويذل .
- ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) درس عقيدي تربوي نتعلم به كيف نتعامل مع طغيان أعدائنا . فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , والسجود والتقرب إلى الله بالطاعات سبب رئيسي لإمدادنا بالقوة التي نواجه بها أعدائنا .
- السورة جامعة للحياة الدنيوية والدينية والأخروية , ومعبرة عن تاريخ البشرية .
1- بداية السورة ( اقرأ ) إعلان الدعوة هو في حقيقته إعلان للحياة الصحيحة .
2- ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) ( أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى) موقف الناس ما بين مكذب , وما نع غيره من قبولها , ومطيع ممتثل لأمر ربه . وهذه هي صورة الحياة الدنيا .
3- ( سندع الزبانية ) المصير الحتمي لمن كذب , وتعبر عن الحياة الأخروية , ومن أصول القرآن , أن ما ذكره القرآن نفيا أو إثباتا , فهو دليل على الضد , فما أثبته القرآن هنا عما ينتظر المكذبين دليل على أن ما ينتظر المصدقين ضده . وهو التكريم والنعيم والعز والكرامة .

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 1 رجب 1435هـ/30-04-2014م, 11:46 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورتي القدر والبينة

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القدر

القرآن كلام الله تعالى , الذي نزل به خير الملائكة وأشرفهم جبريل عليه السلام , على سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , فلا بد أن تكون الليلة التي أنزل فيها عظيمة لا كالليالي , فهي ليلة عظيمة القدر والفضل عند الله تعالى , ولذلك أنزل سورة في القرآن يذكر بها عباده بهذه الليلة ومكانتها عنده .
أحاديث في فضلها :
- روي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
- وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان )
- وروى الترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال " " قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )

معنى الآيات :

( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) الضمير يعود على القرآن العظيم , ولم يذكر سياق قبل الآية ولا بعدها فيه صراحة ما يعود عليه الضمير , لكن معنى السياق يدل على ذلك . – وهذا من أساليب القرآن ومعجزاته , وقد ورد ذلك في عدة مواضع منها مثلا في سورة القيامة في قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) فالخطاب ضمير مستتر يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم , وضمير الغائب في ( به ) وغيرها يعود على القرآن , ولم يذكر في سياق الآيات لا قبلها ولا بعدها ما يدل على ذلك - صراحة -
وليلة القدر هي الليلة العظيمة المباركة , وهي من ليالي رمضان , وكما ذكر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر منه , وسماها الله تعالى ليلة مباركة في سورة الدخان في قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [آية 3 ] . وآيات السورة تبين فضلها وقدرها عند الله تعالى .
وسميت بليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند الله تعالى , وليلة مباركة لكثرة خيرها وبركتها , وأعظم بركة فيها نزول القرآن الذي أخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .

( وما أدراك ما ليلة القدر ) تعظيم لشأنها , حيث أنه لا يمكن لأي إنسان أن يدرك مقدار عظمتها وفضلها .

( ليلة القدر خير من ألف شهر ) ألف شهر تساوي أكثر من ثمانين عاماً , ومع ذلك قال الله هي خير من ألف شهر , وكلمة خير نكرة تفيد العموم , فمن حرم خيرها فقد حرم الخير كله .
( تنزل الملائكة والروح فيها من كل أمر ) أي يكثر فيها نزول الملائكة بالبركة والرحمة , والمقصود بالروح جبريل عليه السلام , وهو من الملائكة , وذكره هنا من باب عطف الخاص على العام لمكانته عند الله تعالى من بين سائر الملائكة . ويتنزل فيها من كل أمر من الرزاق والآجال وغيرها .

( سلام هي ) أي سالمة من كل شر , وكلمة سلام نكرة تفيد العموم . فيها كل خير منتفي عنها كل شر .

( حتى مطلع الفجر ) أي وقتها من غروب الشمس حتى طلوع الفجر , ويدل على البداية قوله تعالى : ( ليلة ) .

ذكر بعض خصائصها :
- هي ليلة من ليالي شهر رمضان ويستحيل أن تكون في شهر آخر , ودليل ذلك أن الله تعالى ذكر في محكم آياته قوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ سورة البقرة : 185 ] والآية الأولى في سورة القدر تدل على نزوله ليلة القدر , وبالجمع بين الآيتين دليل قطعي على أنها في رمضان . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة .
- ووقتها في العشر الأواخر من رمضان لدليل ذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم , وسبق ذكر حديث على ذلك .
- من فضلها أن العبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر , وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق ذكره أن ثواب قيامها إيمانا واحتسابا مغفرة لجميع ما تقدم من الذنوب .
- من أماراتها الثابتة في السنة : أنها ليلة صافية بلجة ساكنة لا برد فيها ولا حر , والشمس في صبيحتها تخرج ضعيفة حمراء لا شعاع لها . ويقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة وأن المؤمن ينشرح صدره لها ويطمئن قلبه وينشط في فعل الخير , وأن الشمس في صباحها تطلع صافية ليس لها شعاع .
- ولم تتعين بليلة معينة , بل ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قوله : " التمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة " رواه الإمام أحمد .
- وهي ليست ليلة معينة من الليالي الوترية تتكرر كل عام , بل تنتقل .
- الحكمة من إخفاؤها : ليجتهد المسلمين في العشر الأواخر كلها ابتغاء فضلها , ولا يتكلوا على ليلة معينة , ويتركوا العبادة فيما سواها .
- يستحب فيها الإكثار من الطاعات خصوصا الصلاة , وذلك من مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر ..." والقيام في الشرع يطلق على صلاة الليل . ويكثر كذلك من الدعاء , لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لعائشة رضي الله عنه حين سألته ما أقول فيها ؟ قال : " قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " .
من ثمرات تدبر آيات السورة :
- ( وما أدراك ما ليلة القدر ) تفخيم وتهويل لعظم شأنها وجلال قدرها عند الله تعالى , مما يدل على أنه لا بد أن يكون تعظيمها وقدرها في النفوس يفوق كل قدر يمكن حده بحد , ويثبت ذلك حال المسلم في العشر الأواخر , هل ينشط لها ؟ هل يتفرغ لها من علائق الدنيا ؟ هل يحرص على إحيائها ؟ هل يسعى لتحري سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقتدي به ؟
- الحكمة من أنها خير من ألف شهر , رحمة من الله عز وجل وفضل على عباده الضعفاء الذين تعجز قواهم وأجسادهم عن أداء الحق المستحق لله تعالى على ما ينبغي , فأكرمهم بهذه الليلة التي يعدل ثواب العمل فيها أكثر من ثواب ألف شهر , فيا له من كرم لا يوازيه شكر مهما بلغ !
عبادة ليلة يساوي ثوابها عبادة العمر كله !
- وكلمة ( خير ) نكرة تفيد العموم , فتعم جميع أنواع الطاعات , جسدية ومالية ومعنوية , متعدية ولازمة .
فما أثر ذلك على أولي الألباب ؟
- سبحان الله العظيم ! سورة القدر لم يذكر فيها شيء عن أهوال يوم القيامة , أو مصير الكفار , ولا وعيد ولا تهديد , فهي ليلة سلام وسورة سلام .
- أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر وهي ليلة سلام , ليذكر جميع الخلق أن ما نزل ليلة السلام هو طريق السلام الدنيوي والأخروي . فهذه السورة تهدي للبشرية سلامين : سلام سنوي في ليلة القدر , وسلام دائم مستمر في القرآن العظيم الذي أنزل ليلة القدر .



بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البينة

عندما تصفو الفطرة ويتجرد العقل من شهوات النفس فإنه يسعى جاهدا لمعرفة الحق والبحث عن الحقيقة . وما أسوأ من يسير في هذا الطريق وعندما يصل إلى الحق ينكص على عقبيه , وما أشد عذابه في الدنيا والآخرة لأنه سار لشهوة ما لا من أجل الحق .
هذه هي حال أهل الكتاب مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم , وقد ذكر الله عز وجل ذلك عنهم في سورة البينة .

معنى آياتها :
( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ) : لم يكن تدل على استمرارهم في هذه الحال الموصوفة في الآيات , وكذلك تدل على البحث والمثابرة منهم في هذا الأمر .

أهل الكتاب : هم اليهود والنصارى , وسماهم الله تعالى كفارا , لأن دين الإسلام نسخ ما قبله من الأديان , قال تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) [ سورة آل عمران : 85 ] وكل من لا يدين به فهو كافر – حتى لو كان يدين ببقايا دين سماوي .
والمشركين : هم عبدة الأوثان والنيران عامة .

( منفكين ) أي تاركين ما هم عليه حتى يعرفون الحق , الذي ينتظرونه , لعلمهم بوقته من أخبار كتبهم .

( حتى تأتيهم البينة ) أي رسالة الإسلام مع خاتم المرسلين . وفسرت بالقرآن وكذلك بما بعدها وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم .

( رسولٌ من الله يتلو صحفا مطهرة ) قول الله تعالى رسول تفسير لما قبلها ( البينة ) التي ينتظرها أهل الكتاب والمشركين . والمقصود به محمد صلى الله عليه وسلم .

يتلو صحفا مطهرة : يتلو القرآن العظيم , كلام الله , المكتوب في اللوح المحفوظ في الملأ الأعلى , المحفوظ في الصحف والصدور بين الملأ . صحف مطهرة لا يمسها إلا المطهرون .

( فيها كتب قيمة ) الصحف المطهرة كل ما كتب فيها فهو قيم مستقيم , ولأن الكلمة نكرة فهي تعم كل ما تشمله هذه الكلمة من المعاني الجليلة , فهي صحيحة لا خطأ ولا تبديل ولا تحريف فيها . وكل ما فيها من أوامر فهي صادقة , وكل ما فيها من نواهي فهي ضارة لا خير فيها , وكل أخباره صادقة , وكل عظاته بليغة .

( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) كل ما عند الأمم السابقة من أخبار في كتبهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حق صحيح وخبر واحد لا اختلاف بينها أبدا , لذلك لم يكن بينهم تفرق في انتظار مبعثه . لكن بعد مبعثه تفرقوا واختلفوا فيه , لأنهم لم يجدوا دعوته موافقة لهوى أنفسهم , رغم وضوحها وصدقها وعلمهم بذلك , ولأنهم تمنوا أن يكون الرسول منهم فلم يتحقق لهم ما يتمنون .

( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) في جميع الأديان فإن دعوة الرسل واحدة لا تتغير , هي عبادة الله وحده لا شريك له , , وما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يختلف عما جاءهم مع رسلهم , فلا عذر لهم في عدم اتباعه . وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .... ) رواه البخاري , وعن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ذات يوم في خطبته : " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا , كل مال نحلته عبدا حلال , وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ....) صحيح مسلم . وهذه الآية دليل على أن الأعمال داخلة في الإيمان .

ويقيموا الصلاة : أي أداؤها لله تعالى وفق شرعه الذي شرعه .

ويؤتوا الزكاة : وهي الإحسان إلى الفقراء والمحتاجين , وإعطاؤهم الحق الذي أوجبه الله تعالى في أموال الأغنياء .
وعبادتي ا لصلاة والزكاة عبادة لله , فهي إذن داخلة في قوله تعالى ( يعبدوا الله مخلصين له الدين ) وعطفت هنا عطف خاص على عام , لبيان شرفهما ومكانتهما من بين جميع العبادات الأخرى . فالصلاة رأس الإسلام وهي أشرف عبادة بدنية يتقرب بها إلى الله , وهي أفضل العبادات اللازمة , والزكاة هي أفضل عبادة من عبادات الإحسان إلى خلق الله , وهي من العبادات المتعدية .

( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أبدا )
بعد ما وضح الله تعالى موقف المشركين من دعوة الإسلام , وبين أن لا حجة لهم في عدم قبولها , يوضح هنا مصيرهم إن لم يتوبوا بعد الموت , حيث سيكونون في النار خالدين فيها , ولا يخفف عنهم من عذابها .

( أولئك هم شر البرية ) البرية , بمعنى الخلق كلهم , فهم شرهم جميعا , فبذلك تكون البهائم والجمادات وغيره من الخلق خير منهم .

( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) هذا هو مآل من يؤمن بقلبه ويعمل بجوراحه ما يرضي ربه , فيرضيه الله تعالى برضاه عنه , ويجعله خير الخلق كلهم , فيوفقهم , ويسعدهم , وييسر أمورهم في دنياهم , وينزل سكينته وطمأنينته في قلوبهم في دنياهم .
(جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) يوم القيامة يجزيهم على إيمانهم به بالجنات التي يتنعمون فيها نعيما دائما أبدا لا يحول ولا يزول .
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) الرضا من الله عليهم نعيم يفوق نعيم الجنة , ورضاهم عنه دليل على ما في قلوبهم من السعادة بما هم فيه مما أكرمهم به .

( ذلك لمن خشي ربه ) ذلك اسم إشارة يعود على النعيم والرضا من الله تعالى , فإنه يكون لمن حقق الخشية من الله تعالى في سره وعلانيته , وبها تتحقق درجة الإحسان وهو أن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يرى هو الله فالله يراه . والخشية هي الخوف مع المحبة والتعظيم .

من ثمرات التدبر في هذه السورة :

- هذه السورة تبين أهمية بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لعامة الخلق , فقد سبقتها التهيئة في جميع الرسالات التي قبلها , ومعلوم في حياة الخلق أن الأمر الذي يستعد له لا بد أن يكون ذا شأن , وكل من يعلم بالاستعداد يتشوق للأمر , ويكون أدعى لقبوله .

- وهذه السورة تبين أن الدين أصله واحد في جميع الأمم ومع جميع الرسل . وهذه الوحدانية دليل قطعي لكل أمة على صدق نبوة نبيها وصحة ما جاء به .

- بحث الكفار من أهل الكتاب عن الحق وانتظروه , ولما جاءهم كفروا به , لأن بحثهم كان بحث يحكمه هوى النفس , وغرورهم وتكبرهم على جميع خلق الله تعالى بقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه .

- سبب تفرق أهل الكتاب في الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا عن جهل , بل عناد وطغيان , والمتدبر بآيات القرآن يجد أن كل الكفار لم يكن كفرهم إلا عنادا وستكبارا , وقد أخبر الله تعالى عنهم بذلك .

- في قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) عطف العمل الصالح على الإيمان وذلك من باب عطف الخاص على العام لبيان أهميته , ودليل على أن الإيمان عقيدة قلب وعمل جوارح .


- البرية هم جميع الخلق , ومن ذلك استدل طائفة من العلماء على أن صالحي المؤمنين أفضل من الملائكة لعموم كلمة البرية لجميع خلق الله عز وجل .

- انقسام الناس إلى خير البرية وشرهم , يترتب عليه الجزاء من الخالق يوم القيامة , فأهل الخير لهم الخلود في الجنة , وأهل الشر لهم الخلود في النار , وشتان بين خلود وخلود !
- ( أولئك هم خير البرية ) الضمير هم ضمير فصل ويدل على التأكيد على خيريتهم , والتمييز لهم بهذه الخيرية عن سائر الخلق .
- يرضى الله عن عباده إن هم أطاعوه , وهم يرضون عن الله تعالى بما ينالون من كرامات وخيرات ودرجات يوم القيامة , ولأن الإنسان لا يستطيع أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته , فالرضا في تلك الحال يفوق نعيم الجنة الذي يتنعمون به . – نسأل الله من فضله -
إذن رضى الله مطلب كل عاقل , ورضاه هدف كل ذو همة عالية , ومن كان كذلك صير دنياه كلها لتحقيق هذا الهدف .
اللهم إنا نسألك رضاك , وأن توفقنا لكل عمل يرضيك عنا – آمين - .

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 2 رجب 1435هـ/1-05-2014م, 11:40 AM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الزلزلة و العاديات والقارعة

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة

كل ما هو غير معهود في حياة البشر فهو منكر وقد تكفر به بعض النفوس البشرية الضعيفة . لكن النفس المؤمنة إذا جاءها ذلك في خبر من الله تعالى صدقت وآمنت به دون تردد .
والله تعالى في سورة الزلزلة يخبر عن زلزال للأرض يعمها كلها وتخرج بسببه الأرض ما في بطنها من أموات وكنوز , وتتحدث بما أحدث الناس عليها . فهذا أمر فوق ما تدركه النفس البشرية , ولكن المؤمنة تؤمن وتصدق .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في فضل هذه السورة في الحديث الذي رواة أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن , وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .

معنى آياتها :
( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) إذا أداة تفيد الخبر عن المستقبل , وذلك يدل على أن هذا سيحدث يوم القيامة .
وزلزلت الأرض أي اهتزازها واضطرابها وتحركها حركة شديدة , فينهدم كل ما عليها , ويفزع الإنسان من هول ذلك .
( وأخرجت الأرض أثقالها ) أي بأمر الله تعالى تلقي الأرض ما بداخلها من الأموات والكنوز التي لا يعلمها إلا الله فيراها الإنسان فيزداد خوفه وفزعه .
( وقال الإنسان ما لها ) هذا ما يصدر من الإنسان مما يرى من حال الأرض , فيتساءل مالها ؟ أي : ما ذا حدث لها ؟ سؤال استنكار واستعظام ما يحدث . فبعد أن كانت الأرض ساكنة ثابتة يحدث لها هذا الاضطراب الذي لم يحدث قبله بما يعرف في أحداث الزلازل الكونية التي مرت على البشر في أيام الحياة الدنيا .
( يومئذ تحدث أخبارها ) الأرض ستتحدث وتخبر عن كل ما عمله الناس على ظهرها من خير أو شر .
( بأن ربك أوحى لها ) فعندما يذهل الإنسان من حديثها , ويستعظم ذلك , يخبره الله تعالى بعلة حديثها وسببه , وهو أن الله تعالى أوحى لها وأمرها أن تتكلم وتخبر بما حدث عليها من طاعات أو معاصي .
( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ) الصدور هو الرجوع , فيرجع الناس من موقف الحساب وهم أصنافا مختلفة , سعداء وأشقياء , مكرم إلى الجنة ومهان إلى النار .
( ليروا أعمالهم ) كل يرى ما قدم من عمل من خير أو شر .
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) الذرة أصغر من النمل وهي أصغرشيء يعرفه الإنسان , وهي لا ترى في العين المجردة , ومع ذلك ما كان في حجمها من الخير سيرى ثوابه عند الله . إذن ما كان أكبر فمن باب أولى سيجد عليه الجزاء أيضا حسب العمل .
( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) أي كما يجازي على الخير ولو صغر سيجازي على الشر ولو كان حقيرا في عين فاعله . ولو كان مثقال الذرة .

من ثمرات التدبر في هذه السورة :
- عند حدوث الزلازل تحدث في جزء محدود من الأرض , لكن زلزال يوم القيامة سيحدث لكل الأرض وفي لحظة واحدة .
والإنسان عند حدوث الزلزال إذا كان يعيش في نفس المنطقة فإنه سيرى بعينيه ويسمع بأذنيه , فمع كل هزة للزلزال تهتز أعصابه وتتزلزل نفسه , قد يصل الحال بالبعض إلى الانهيار العصبي من هول الفاجعة . فكيف سيكون حاله وهو يرى الكرة الأرضية كلها تهتز وفي زلزال لم يعهد له مثيل .
لنتخيل أنفسنا في الموقف , فماذا نفعل ؟ أين المهرب ؟ لمن نلجأ ؟ ؟؟؟؟
والمقارنة بين زلزال الدنيا وزلزال أهوال يوم القيامة تجعل العاقل الآن يطير قلبه فزعا من وحل الدنيا إلى واحة الإيمان , ومن التعلق بما مصيره الفناء إلى التعلق برب الأرض والسماء ,ويكون تعلقه بربه تعلق العالم بمبدأ الأمر ونهايته , تعلق الواثق بوعد ربه , الخائف من وعيده .
- تخرج الأرض ما في بطنها من كنوز , والناس من الهول الذي هم فيه يمرون عليه ويشاهدونه , لكن من الذي يقف ويأخذ منه ؟!
لا أحد !
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تلقي الأرض أفلاذ أكبادها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة , فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت , ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي , ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي , ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا ) .
إذن العاقل يدرك أن ما سيدير له ظهره في تلك اللحظة لأنه لن ينفعه , لا يستحق أن يتعب من أجله الآن , وليقنع بما رزقه الله . وليكن ممن يبيع دنياه لآخرته لا العكس .
- الأرض في واقع الإحساس بها ثابتة , ونحن نعيش عليها , ودورانها ثابت علما لا حساً , وفي ذلك اليوم ستهتز وتتحرك كلها ويدرك ذلك حسا , ومن يعلم بأنها ستتحرك وتهتز وتضرب ولن تبقى , ويدرك أن ما يحسبه ثابتا سيزول وما يظنه قويا سينهدم , وما اعتقده دائما سيفنى . كيف يتشبث بها تشبث الوليد الرضيع بأمه ؟!
فليخاطب كل نفسه ويذكرها بيوم الفطام .
- الأرض أطاعت ربها وامتثلت أمره فأخرجت أثقالها وتحدثت وهي لم يعهد عنها الحديث , فكل شيء يطيع الله تعالى ولا يعصيه , ما عدا بعض بني البشر العصاة ,
فيا سبحان الله العظيم الجماد يطيع ونحن نعصي !
الجماد خير منا !
لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم . وحسبنا الله ونعم الوكيل .
- ما أشد الحيرة والذهول التي تدلنا عليها الكلمة التي يتفوه بها الإنسان ( ما لها ) !
كيف سيكون حالنا حين نعاين ما بعد الزلزال ؟
كيف ستكون نفوسنا لحظة الوقوف بين يدي الله للحساب , ولما يبدأ الحساب ؟! كيف ستمر لحظات الانتظار علينا , وقد تذكرنا ما كنا نعمل , ونحن نعلم أننا سنحاسب على مثقال الذرة , وسنحاسب حتى على ما لم نتذكر مما عملنا ونسينا ؟!
- الأرض ستتحدث وتخبر بكل ما يفعله الإنسان على ظهرها من خير أو شر . وليست هي وحدها التي تشهد عليه , فالله تعالى يقول : ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم جلودهم بما كانوا يعملون * قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) [ فصلت : 19-21 ] .
نسأل الله تعالى أن تكون شهادة هذه الأشياء لنا يوم القيامة لا علينا إنه سميع مجيب .
- الناس يوم القيامة يصدرون : أي يرجعون بعد الحساب للمصير والمآل , ولا يستطيع أيا من الفريقين – أهل الجنة والنار – أن يرجع مرة أخرى لتصحيح وضعه أو تغييره أو إزالته .
في الدنيا الحال دائما صادر ووارد – هذا ميت يموت وهذا مولود يولد , وهذا مسافر مغترب وهذا عائد للوطن من الغربة , هذا مريض وها قد تعافى ...... وهكذا – لكن يوم القيامة بعد الحساب الحال صادر فقط دون وارد ولا راجع .
( ليروا أعمالهم ) يريهم الله جزاء عملهم قبل دخول الجنة أو النار , وهذه الرؤية يحددها العمل , فكم في هذه الرؤية من سعادة للسعداء ! وكم فيها من عذاب للأشقياء!
- ( من يعمل مثقال ذرة ) من يقرأ هذه الآية ويتدبر معناها عليه أن لا يحتقر من العمل شيئاً .
ففي الحديث الصحيح ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي لله عنها تصدقت بعنبة , ومرة تصدقت بتمرة .
ولا يستهان بالصغائر فإن لها من الله طالبا , فقد روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لعائشة رضي الله عنها : ( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ) ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو أحد إلا أن يتغمده الله برحمته , قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا .
فلنعط العقل فرصة للتفكير والنفس فرصة للتدبر في كل ما حولنا كم عدد ذرات الخير والشر فيها ؟!
كم عملنا ؟!
كم تركنا ؟!
كم تهاونا ؟!
كم غفلنا ؟!
ثم لنعيد حساباتنا !
لنستعين بالله ونبدأ .

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة

لقد جبلت النفس البشرية على حب ما تستوطنه حتى مع علمها بأنها سترحل عنه وتتركه, وخالقها والعالم بأمرها يعلم أن هذا الطبع سيجعلها تخلد لهذه الدار الفانية مؤثرة لها على الباقية , لذلك أرسل إليها ما يذكرها ويدعوها للاستعداد لما ينتظرها يوم المعاد,وسمى لها ذلك اليوم بأسماء متعددة كل واحد منها له وقعه على النفس البشرية ذات الفطرة السليمة , ومن ذلك الحاقة والصاخة والطامة والقارعة , فالقارعة اسم من أسماء يوم القيامة , وسميت بذلك لأنها تقرع البشر بأهوالها التي لا عهد لهم بمثلها ولا بشدتها .

ولنتأمل معنى آيات سورة القارعة :
القارعة : اسم من أسماء يوم القيامة , وسميت به لأنها تقرع النفوس بأهوالها , فتفزع .
ما القارعة : استفهام عنها لبيان عظم شأنها وشدة هولها , أي هل تعلم أيها الإنسان ما ذا يعني أن يكون يوم القيامة يوم القارعة ؟
وما أدراك ما القارعة : تأكيدا للإنسان أنك لن تستطيع أن تدرك شدة أهوالها , ولا تتخيل مقدار فزعك وخوفك فيها .
يوم يكون الناس كالفراش المبثوث : هذا تفسير لما ورد في استفهام التهويل والتعظيم لشأن يوم القيامة , فمن شدة هولها سيتفرق الناس خائفين مذعورين , وهم في انتشارهم وتفرقهم وحيرتهم مما حل بهم , كحال الفراش المنتشر الذي ينتقل من مكان إلى آخر على غير هدى , يموج بعضه ببعض , ويصطدم ببعضه .
وتكون الجبال كالعهن المنفوش : الجبال الراسية الشامخة تصبح كالصوف المنفوش , لأن الصوف إذا نفش فقد جزء من قوته وتماسكه .
فأما من ثقلت موازينه : أي هذه الفئة من الناس التي عملت من الصالحات ما ثقل به الميزان عند الحساب , فرجحت سيئاتهم على حسناتهم .
فهو في عيشة راضية : يعيش حياة الدوام والبقاء الذي لا فناء به متنعم بنعيم الجنة , الذي فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وأما من خفت موازينه : فلم تكن له حسنات ترجح ميزانه, وكثرت سيئاته .
فأمه هاوية : أي مصيره الهاوية وهي اسم من أسماء النار , وسميت ذلك لأنه يهوي بها على أم رأسه مذموما مدحورا . وعبر عنها بالأم لملازمتها له لا تنفك عنه كما الأم تلازم وليدها .
وما أدراك ماهية : تعظيم وتهويل لشأن النار , أي لا تعلم ما هذه النار التي سيعذب بها , ومهما توقعت شدة عذابها فهي أشد من كل توقع ,
نار حامية : هذا تفسير للأم الهاوية التي سيلقى بها الكافر بأنها النار الشديدة الحر قوية السعير عظيمة اللهب ,سوداء مظلمة , أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم ألف أخرى حتى ابيضت ثم ألف أخرى حتى اسودت , يحرسها الغلاظ الشداد من الملائكة . وقد ذكر في السنة أن نار الدنيا جزء من سبعين جزء من نار جهنم , وإنها لكافية لو كانت مثل نار الدنيا فكيف بهذا الفرق !
من ثمرات التدبر فيها :
- القارعة , هذه الكلمة حروفها تجعل القلب يفزع من سماعها , فكيف إذا عرف المقصود بها , وتخيل عقله حاله فيها؟!
هذه الكلمة يشعر معناها بفجأة هولها وبشدته , وعندما تعلم النفس المؤمنة المقصود بها يستمر معها هذا الشعور إلى نهاية المطاف في هذه الدنيا فتلقى ربها وقد حققت عبادة من العبادات القلبية بالخوف منه ومن يوم الوقوف بين يديه فاستعدت لذلك بالعمل الصالح .
- ( وما أدراك ما القارعة ) إثبات لجهل الإنسان المطلق , فمهما تصور عقله شدتها وهولها , فهي أكبر وأعظم , لأنه جاهل بوقتها , ورغم علمه بها فهو جاهل لحقيقة ذاتها وواقعها , وعلمه يقتصر على معرفة وصفها , وهذا العلم كافيا لتحقيق الإيمان بها , ولو زاد على الإنسان علمه بمعاينتها لقتله ذلك خوفا, وهنا تتجلى رحمة الله به أن أخفى عنه ما لا يستطيع تحمله .
- ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) لم يكونون بهذه الصورة ؟
لأن الناس يجتمعون كلهم جميع الخلق في وقت واحد ومكان واحد , فهم لكثرتهم مثل الفراش . ومن شدة الهول والفزع فهم في حيرتهم وخوفهم مثل حال الفراش الذي لا يدري أين يتوجه فيصطدم ببعضه , وإذا رأى نارا تهافت عليها , وارتمى فيها قبل أن يدرك ما ستؤول إليه حاله من الحرق . فأهل العقول من البشر سيصيرون بدون عقول من شدة الهول ولا يدرون أين يذهبون أو ما ذا يفعلون .
لكن الفراش يتجه إلى النار فيهلك بسبب ضعف إدراكه , وهي لا تعلم ماذا ينتظرها في النار . أما الإنسان صاحب العقل فيكون مثلها إذا كفر فيتجه إلى النار رغم إدراكه لذلك وعلمه بالعاقبة , لكن العناد قاده والكبر أوصله إلى ذلك .
ويوحي وصف الناس بالفراش أنهم مع كثرتهم في ذلة وصغار جعلهم يتطايرون مثل الفراش . وفي حيرتهم ودهشتهم لم يحددوا هدفا .
- الجبال الشامخة القوية الراسخة الصلبة تكون مثل الصوف المنفوش الذي فقد قوته , والجبال هي أقوى الخلق على الكرة الأرضية , وهكذا ستكون , فكيف حال من هو دونها ؟!
فقف أيها الإنسان عند هذا الوصف وقفة متأمل معتبر .
الجبال هي أقوى ما يراه الإنسان على الكرة الأرضية . إذن كيف حال ما دونها ؟!
إذن أقوى الخلق في الدنيا الجبال , وأعقل الخلق الإنسان , فأي القوتين تنفع يوم القيامة ؟
- ثقل الموازين في الدنيا باعتبار المال والجاه والسلطان والجمال والحسب والنسب , ولا قيمة لها يوم القيامة , وثقل الموازين وخفتها يوم القيامة باعتبار العمل الصالح وكل ما يرضي الله . فما لا قيمة له يوم القيامة ولااعتبار له بنجاة الإنسان لا يستحق أن يكون هدفا وغاية أبدا .
- في قوله تعالى : ( فهو في عيشة راضية ) تشعرنا كلمة في , بالدخول إلى الجنة , والانغماس في ملذاتها , وكلمة عيشة نكرة تعم كل جوانب الحياة وفي كل أوقاتها , وتعم كل نعيم جسدي ونفسي ومادي ومعنوي .لأن في أصول التفسير أن النكرة إذا كانت مثبتة فهي تعم لعموم العلة والمقتضى – أي عموم علة النكرة ومقتضى المعنى لها – وكلمة راضية تعم الرضا كله , والرضا بحد ذاته نعيم وأي نعيم .
- لماذا التعبير بالأم في قوله تعالى : ( فأمه هاوية ) ؟
إن ذلك يدل على الملازمة التامة للنار لهم كما تلازم الأم وليدها ولا تفارقه . وهذا التعبير يجعل التفكير بحدود العذاب وشدته تخرج عن دائرة الإدراك والتصور في العقل البشري إلى أن ذلك في قدرة الله تعالى ولا يمكن تخيله .
اللهم أجرنا من النار
اللهم أجرنا من النار
اللهم أجرنا من النار .

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 2 رجب 1435هـ/1-05-2014م, 06:42 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة التكاثر والعصر والهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثر

سورة التكاثر هي خطاب مباشر من الله تعالى لخلقه , يحمل عتابا كبيرا , على أمر عظيم , ومع عظم خطره يغفل كثير من الناس عن التوقي منه , فينغمسون به كل حسب ما عنده من زهرة الدنيا وتعلق قلبه بها .
سورة تدع قلب المؤمن محملا بهم التفكير في العاقبة , مشغولا بالآخرة عن سفاسف الدنيا وصغائرها , يتزود منها زاد المسافر إلى الله .

معنى آياتها :
ألهاكم : أشغلكم هذا الأمر عما خلقتم من أجله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ سورة الذاريات : 56 ] . فالهدف من وجود الإنسان هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له , وذلك بتحقيق جميع جوانب العبادة القلبية والبدنية .

التكاثر : أي جميع أنواع التكاثر , والكلمة مسبوقة بلام الاستغراق لتشمل كل جوانب الحياة , فشغل الإنسان حرصه على تكاثر ماله وولده وملكه وجاهه .... وكل ما تحبه نفسه وتتوق إليه , فالذي يحب الطعام يكثر منه كما وكيفا وتنويعا , والذي يحب المتعة يكثر منها في الجانب الذي يحبه كمن يحب السفر فيسعى إليه جاهدا باذلا المال والوقت , ومضحيا بما يعيقه عن ذلك , كل هذا وغيره أشغله عن طاعة الله .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل ) .

حتى رزتم المقابر : كلمة حتى تدل على الاستمرار في اللهو , فبذلك تنقضي سنوات عمر الإنسان دون تصحيح للخطأ الذي انغمس فيه .
وزرتم المقابر : أي جاءكم الموت فأوصلكم إلى القبر . وعنده يدرك الإنسان مقدار الخسارة , لكن ضاع عليه وقت الإمكان للتصحيح , أو التراجع .

كلا سوف تعلمون : تهديد ووعيد من الله تعالى لهؤلاء الغافلون ,سوف تعلمون حقيقة ما أنتم عليه يوم الخروج من الدنيا فتتحسرون ولا يفيدكم ذلك . وفسرت بأنهم الكفار .
ثم كلا سوف تعلمون : وعيد بعد الوعيد الأول ,ستعلمون بعد ذلك أيضا أن حسركم ستزيد في القبر عما كانت عليه لحظة الموت , وفي البعث عما كانت عليه لحظة الموت وفي القبر , وعند الحساب ستزيد عما قبلها .. وهكذا حتى تكون نهاية الكافر النار والعياذ بالله. وفسرت بالمؤمن .

كلا لو تعلمون علم اليقين : أي لو علمتم حق العلم ماذا ينتظركم مما توعدكم الله به , لما انشغلتم بالدنيا عن السعي للآخرة .
لترون الجحيم : أي سترون يوم القيامة النار عيانا , وستعذبون بهذه الرؤية قبل دخولها , هذه النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب من هولها .

ثم لترونها عين اليقين : قد تأخذكم الدهشة , ويذهب هولها عقولكم فتظنون أنكم في خيال لا حقيقة , لكنها حقيقة سترونها عيانا , بأبصاركم , وقلوبكم , لا مجال للشك معها .

ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم : نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن طاعة الله تسألون عنه , هل قمتم به بما يرضي الله تعالى ؟ , هل أديتم شكره ؟ هل سخرتموه في الطاعات أم استعنتم به على المعاصي ؟ وكما قال تعالى : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) [ سورة الأحقاف : 20 ] .

من ثمرات تدبر آياتها :
- روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول العبد مالي مالي , وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى , أو لبس فأبلى , أو تصدق فأمضى . وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ) فكم عدد من سلم من هذه الحقيقة المذكورة في هذا الحديث ( في قول ما لي ما لي ) ؟ بل كم مرة تتحدث بها النفس وإن لم ينطق اللسان ؟
- ويروى أن رجلا رأى في يد آخر درهما فقال له : لمن هذا الدرهم ؟ فقال : لي , فقال له : إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغيت به شكر الله .
فهل أموالنا – بل نعيمنا – مما ابتغينا به الأجر ؟ وهل حققنا فيه الشكر ؟

- في السورة كلمة ( تكاثر ) تدل على الاستمرار في طلب التكاثر والحرص على المزيد منه بشتى الطرق . وكلمة ( مقابر ) تقرر الحقيقة لهذا التكاثر أن له نهاية , وفناء . والعاقل لا يتعامل مع ما حقيقته الفناء تعامله مع ما حقيقته البقاء , لأن هذا التعامل يجعله يغفل , وعند الواقع تكون الصدمة عليه شديدة .
ويستدل كذلك من صلة الكلمتين بعضهما ببعض على حقيقة البعث وعذاب القبر في حياة البرزخ .
- ( المقابر ) الصورة الدنيوية للقبر هي حفرة لا تتجاوز المتر في مترين , فهل تكاثر الدنيا يغير لأهله هذه الحقيقة ؟ طبعا لا يمكن تغيير ذلك . فمن يريد به السعة فليحرص على الأمر الذي يحقق له ذلك .
والواقع الأخروي حدده الله تعالى في كتابه وشرعه , بأنه لن ينفع الإنسان بعد موته إلا عمله , وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مجموعة وصححه الألباني , من رواية البراء بن عازب رضي الله عنه : ( ...........فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة , فيأتيه من روحها وطيبها , يفسح له في قبره مد بصره . .......... فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوا له من النار وافتحوا له بابا إلى النار , فيأتيه من سمومها وحرها , ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ......) . والعاقل يدرك أن كل ما نفعه مقتصر على الدنيا ولا ينفع في الآخرة فهو خسارة , لا ينبغي أن نشغل النفس بها .
- ( كلا ) ردع وزجر من الله لك أيها الغافل اللاهي , ولتدرك بأنه حقا ستعلم الحقيقة وتعيشها . وكل لاهي متشاغل في الدنيا بالتكاثر فهو نائم , وهذا نذير من الله تعالى له ليستيقظ .
- وفي الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أبلاه وعن شبابه فيما أبلاه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه , وعن علمه ماذا عمل به )
إذن كل خيرات الدنيا حمل ثقيل , ولا يشعر المرء بهذا الثقل إلا عند الوقوف للإجابة على هذا الأسئلة , فما الذي يجعلنا لا نشعر بثقله في الدنيا ؟
إنها لذتها وزخرفها الخادع , وعندما نسأل من أين اكتسبنا ؟ هل من طريق حلال أم حرام ؟ وفيم أنفقنا ؟ هل في طاعة ؟ هل شكرنا ؟ هل أدينا حق الله الواجب فيه ؟ هل آثرنا أم استأثرنا ؟
لنحاسب أنفسنا الآن قبل أن نحاسب ؟ ولنسألها أسئلة تصحيح قبل أن نسأل أسئلة التحقيق والحساب الذي لا مجاملة فيه ولا خلاص من عاقبته .
- رؤية الجحيم حقيقة يوم القيامة قبل الحساب وقبل العذاب , كم فيه من الحسرات التي ستسحق النفس ؟ وكم فيه من الآلام التي ستقطع القلب ؟ وكم فيه من الندم الذي يدرك صاحبه أنه لن ينفعه فيصير ندم عذاب ؟
نعم هذه الرؤية عذاب نفسي قبل عذاب النار . ففي الدنيا يدرك الناس كم في رؤية أداة التعذيب من عذاب لمن يراد تعذيبه . لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم ذابح البهيمة من حد شفرة الذبح أمامها .
- ضرورة الجد والمبادرة في إدراك أن الوصول لرؤية النار يوم القيامة رؤية عين يقين , لا بد أن تجعل من أدرك ذلك يسعى لنيل علم اليقين , وهو العلم التام بحقيقة الدنيا , ومآل الآخرة , فيعمل لكل واحدة منهما ما يناسبها .
ومن حقق علم اليقين تحقيقا صحيحا ترك الدنيا زاهدا , وأقبل على الآخرة مشتاقا , وعبد ربه مخلصا منيبا محبا .
- سنسأل عن كل نعيم تنعمنا به في دنيانا . والسؤال عن النعيم ليست إجابته بالهينة على من لم يؤد حق الله فيها .
وفي صحيح مسلم يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : بينا أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما أجلسكما ههنا ؟ قالا : والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع . قال : والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره . فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار فاستقبلتهم امرأته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين فلان ؟ فقالت : ذهب يستعذب لنا الماء . فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال مرحبا ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم فعلق قربته بقرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا كنت اجتنيت ؟ فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ثم أخذ الشفرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب . فذبح لهم فأكلوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لتسألن عن هذا يوم القيامة , أخرجكم من بيوتكم الجوع فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا فهذا من النعيم )
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ ) .
والغبن هو أن يملك الإنسان خيرا فيضيعه دون أن يستفيد منه ثم يأتي عليه وقت يتحسر عليه وأنى له رجوعه .
ووجه الغبن في هاتين النعمتين أنها مما يتمتع به الإنسان على الدوام , وتضيع منه ساعاتها دون أن يشعر بها , فيغبن بسبب ذلك يوم القيامة حين يجدها قد ضاعت عليه هباء أو سجلت عليه سيئاتها .
واخيرا على كل قارئ لهذه السورة وفي كل وقت أن يسأل نفسه هل ألهاني التكاثر ؟؟




بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر

هذه السورة تبين لكل الناس حقيقتهم وواقعهم الذي يغفلون عنه , وهو أن جميعهم خاسرون – ولو حازوا الدنيا بحذافيرها إلا من آمن بالله .
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم .
إذن هي التي تبين للناس حقيقة ووظيفة كل فرد , بل وظيفة الأمة كلها .

معنى آياتها :
( والعصر ) قسم من الله تعالى , بالعصر الذي هو الزمان , بليله ونهاره , وساعاته وأيامه وشهوره وسنواته . ولله أن يقسم بما شاء من خلقه , ولا يقسم المخلوق إلا بخالقه – لأنه لا أعظم من الله - .

( إن الإنسان لفي خسر ) أكد الله تعالى للإنسان حقيقة واقعه بتوكيدات : أولهما القسم , وثانيهما أداة التوكيد " إن " , وثالثهما اللام المزحلقة في كلمة " لفي " .
وكلمة " الإنسان " مبدوءة بلام الاستغراق , أي كل الناس بدون استثناء , والخطاب بصيغة المفرد ( الإنسان ) دليل على أن التكليف للجميع , وكل واحد مسؤول عن نفسه , ولا تزر وازرة وزر أخرى , ولا يسقط التكليف عن البعض بقيام الآخرين .
لفي خسر : أي حياته كلها هلاك وخسارة , لا خير فيها . وتتفاوت الخسارة بحسب نصيبه من الأمر الذي استثناه الله هنا من الخسارة .

( إلا الذين آمنوا ) آمنوا بالله الإيمان الصحيح , اعتقادا منهم بالقلب وقولا باللسان وعملا بالجوارح , وتحقيقا لأركان الإيمان الستة , الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
ولأن الإيمان درجات ويزيد وينقص , فإن الخسارة تكون حسب النقص الحاصل فيه .
( وعملوا الصالحات ) أي يعملون جميع الأعمال الصالحة الجسدية والقلبية , والظاهرة والباطنة , المتعدية واللازمة .
ومن المعلوم أن العمل الصالح من الإيمان , وهو تحقيق الإيمان بالجوارح . لكن عطف هنا على الإيمان من باب عطف الخاص على العام لبيان أهميته في صحة العقيدة وأنه لايقبل إيمان بدون عمل يصدقه .
( وتواصوا بالحق ) التواصي عبادة متعدية , واجبة على الكل بدون استثناء , ويدل على ذلك قوله تعالى ( وتواصوا ) . أي يوصي بعضهم بعضا على كل أمر يتطلب الوصية , مثل التواصي على فعل الطاعات والتذكير بها , لأن الذكرى تنفع المؤمنين , والتواصي على ترك المعاصي , ويجمع ذلك كله شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .ويشترط أن يكون ذلك بالحق أي وفق شرع الله تعالى , متجرد من الهوى ونزغات الشيطان ’ بعيد عن كل مطمح ومصلحة غير رضا الله تعالى .
( وتواصوا بالصبر ) أيضا التواصي عبادة متعدية , حيث يوصي النفس بتصبيرها على فعل الطاعة , وتدريبها على طريقة التلذذ بأدائها , وعن المعصية وتدريبها على النفور منها , وعلى أقدار الله وتدريبها على تذكر حكمة الله في ذلك , ويوصي الغير بتذكيرهم , ومساعدتهم . والصبر يكون على حمل النفس على فعل الطاعات وإن كانت تخالف هواها , وعن المعاصي وإن كانت تتوق إليها , وعلى أقدار الله المؤلمة سواء كانت فردية أو اجتماعية بعدم الجزع . ويوصي غيره بحثه على الصبر وتذكيره بما له عند الله تعالى .

من ثمرات التدبر في آياتها :
- بدأ الله تعالى السورة بالقسم بالعصر , وذكر في مجملها ما يجب على الإنسان فعله , والصلة بين بداية السورة وموضوعها هو أن العصر الذي هو الزمان هو الذي يقع فيه فعل البشر من خير وشر , في ساعاته ليلا أو نهاراً . وهذا يشعر الإنسان أن عمرك كله ستخسره إن لم تعمل به بموجبات الربح المذكورة في السورة .
- ذكر الله تعالى في السورة أمرين متعلقة بالإنسان نفسه هي الإيمان والعمل الصالح ونفعها في الأغلب لازم له , وأمرين متعلقة به وبغيره هي التواصي بالحق والصبر , وفي الأغلب نفعها متعد لغيره . وهذه الأمور هي مدار الحياة الدنيوية والأخروية . لذلك علق الله عليها الربح أو الخسارة .
- وفي الإيمان والعمل الصالح تحقيق للعقيدة , وفي الصبر والتواصي تحقيق للتكافل الاجتماعي , وهما أساس الحياة .
- من آيات هذه السورة نعرف أن الربح الحقيقي ليس له إلا طريق واحد , وما عداه كلها طرق الخسارة , وإن ظن الظان أن فيها ربح , فهو ربح الوهم .
- في السورة دعوة إلى الإيمان , وتوجيه لأصل الشريعة الإنساني والاجتماعي , فما الصلة بينها ؟
بالإيمان تشعر النفس الإنسانية أنها متحررة من غل العبودية إلا لله تعالى , فتستشعر عزتها وعظمتها من هذا الشعور , فترى أن لا أحد يعلو عليها من خلقه أيا كان , لأنه مساو لها في العبودية , إذن هو مساو لها في سائر شئون الحياة , فصار حقا عليها أن تعطيه هذا الحق , وتساويه بذاتها , فله مالها وعليه ما عليها .
- عندما يشعر الإنسان بأهمية أن يربح , فإن هذا الشعور يجعله يترفع عن وسائل الخسارة وطرقها , وكل ما يؤدي إليها .
- التواصي مسؤولية الجميع , وليست مسؤولية جماعة دون أخرى . وهذا يؤكد لي أن الأمة الإسلامية فرد , والفرد المسلم أمة .
- ربط التواصي بالحق , حتى لا يدخل فيه المصالح الخاصة التي تقودها شهوات النفس الخفية , كما في حال الظلمة والجبابرة . فصار بذلك التواصي يحتاج إلى سند يقويه . وبذلك تتكون دائرة التواصي التي نقطة بدايتها الفرد المسلم هو ذاته نقطة نهايتها .
- وللتواصي ثمار عاجلة وآجلة منها :
1- رضا الرب .
2- ضمان الربح الحقيقي .
3- استشعار القوة في مواجهة الباطل .
4- استشعار وحدة الهدف , وهذا هو مناط التكليف , وحارس العقيدة من الانهيار .
5- الاقتناع بالمبدأ , سبب الحرص عليه , والسعي في نشره , والعمل من أجله .
- الخسارة درجات حسب الإيمان فمن كانت خسارته قد وضحت له فعليه أن يسعى لتحويلها إلى ربح بالعمل بهذه السورة .



بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزة

الإسلام دين عزة ورفعة وسمو , ولا يرضى لأتباعه إلا أن يكونوا كذلك , لذلك يبعدهم عن كل ما يدنس هذه الشخصية من أخلاق سيئة , وأعمال قبيحة . وفي سورة الهمزة يرسم لهم نظام إسلامي عظيم في التعامل مع الغير بإنسانية وتواضع دون ترفع وكبرياء.

ومعنى آيات السورة :
( ويل لكل همزة لمزة ) : كلمة الويل تهديد ووعيد من الهن عز وجل , وهذا التهديد يبين عظم الذنب بالفعل الذي وقع عليه التهديد ( الهمز واللمز ), أو عظم عقوبة من وقع لهم التهديد ( الهماز واللماز ).
والهمزة : هم الذين ينتقصون الناس بالقول أو الفعل .
واللمزة : هم الذين يعيبون على غيرهم في كل شأن ماديا أو معنويا , ويطعنون في أحسابهم وأنسابهم .وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" اثنتان في الناس وهم بهما كفر النياحة على الميت والطعن في الأنساب "
( الذي جمع مالاً وعدده ): أي أن فعل الطعن والهمز تصدر ممن همه جمع المال وإحصاؤه ليكتنزه , ولا يؤدي حق الله فيه أكثر من غيره .
فهو بذلك قد ألهاه ماله عن ذكر ربه , ولم يلهه عن الإساءة لخلقه . فحرم درجة الإحسان الذي معناه الإحسان إلى الخالق بطاعته وإلى خلقه بحسن المعاملة – وإن كان من أهل الإسلام - .
( يحسب أن ماله أخلده ) : يظن ظن المتيقن أن ماله سيخلده في دار الفناء , فيجعله همه وغاية أمله .
( كلا ) ما أقساها من كلمة لو وعى هذا الغافل معناها , وأدرك مراميها , إنها ردع وزجر من رب العباد الخالق المحي المميت , القادر على البعث بعد الموت .
أليس في قلبه زاجر يزجره ؟!
أليس في عقله فكر يردعه ؟!
أليس في عينيه بصر يبصر به مآل غيره فيتعظ ؟!
( لينبذن في الحطمة ) أي هذا الذي همز ولمز وجمع , ولم يحسب حسابا ليوم الوقوف بين يدي الله تعالى سيلقيه في جهنم منبوذا مطروحا دون رحمة . والحطمة اسم من أسماء النار , وسميت بذلك لشدة حطمها لمن يلقى فيها – أجارنا الله منها –
( وما أدراك ما الحطمة ) أي : لا تستطيع أن تعلم أيها الإنسان ما الحطمة ؟ ولا تستطيع أن تدرك شدة عذابها .
( نار الله الموقدة ) هذا توضيح لما قبلها , أي الحطمة هي النار .
( التي تطلع على الأفئدة ) أي هذه الحطمة نار تحرقهم حتى تصل إلى أفئدتهم . فيبلغ منهم العذاب مبلغه .
( إنها عليهم مؤصدة ) مقفلة مطبقة عليهم , فلا أمل لهم في الخروج منها أبدا, وتطبق عليهم بضيقها فتزيدهم عذابا فوق العذاب , موحشة لأنفسهم فتطبق عليهم بغمهم وكربهم .
( في عمد ممددة ) أي أبوابها مؤصدة عليهم بأعمدة من خلفها حتى لا يخرجوا منها .

من ثمرات التدبر في هذه السورة :
- الهمز واللمز له صور كثيرة , منها الطعن والتعيير , سواء في الوجه أو في حالة الغياب , وقد يكون باللسان كلاما , أو بالعين إشارة , أو باليد فعلاً . إذن هو سهل الفعل خصوصاً مع تزيين الشيطان له , وميل هوى النفس إليه , لكن وعيد الله تعالى بكلمة ويل يجعل العاقل يفكر قبل أن يقدم , والمؤمن يستشعر عظم هذا الذنب .
- من يعرف أن الدنيا دار فناء من واقع من سبقه الموت إليهم ,وأن مصيره مثلهم , ثم يجعل همه وغايته في شيء حقير من زينتها الفانية , ويعمل بها عمل الواثق من الدوام فيها , إنه بذلك قد خالف فعله علمه , وهذا منتهى سفاهة العقل .
- ما الصلة بين الهمز واللمز وجمع المال ؟
حب المال إذا سيطر على النفس جعلها تزهو وتتكبر على غيرها ممن هم دونها , وتحقد وتحسد من هو أعلى منها , فتتهاوى أمامها جميع القيم والمبادئ , وتحتقر الناس وتظن أنها قادرة على كل شيء , فيصدر منها الهمز واللمز في حق الغير . وتتمادى في غرورها حتى تنسى أن المرجع والمآب لله , وهناك وقوف للحساب بين يديه .
- بعد ذكر صفات الهماز اللماز وفعله جاء مباشرة التهديد بالحطمة دون تراخي , وذلك دليل على عظم الذنب وما يستحقه مرتكبه من عقاب , لا يكفي فيه أي عقاب دنيوي مهما بلغت شدته . فشخصية المتعالي على الناس لا يناسبها من العقاب إلا النبذ والطرح في النار , أما في الدنيا فهو كالبهيمة المعقلة إذا عقلت ثم أرسلت , لا تدري لم عقلت ولم أرسلت , وهمه همها محصور في الأكل والشرب والنكاح وما والاها من زينة الدنيا .
- قال تعالى : ( نار الله الموقدة ) فأضاف النار إلى ذاته سبحانه , ليوحي لكل قارئ للقرآن أنها نار لم يعهد مثلها أبداً ولا يستطيع عقله تصور شدتها .
- ما الصلة بين مطلع السورة ( ويل لكل همزة لمزة ) و قوله تعالى : ( التي تطلع على الأفئدة ) ؟
لأن القلوب مستودع الجسد فهو موضع الحب والاحترام , والسخرية والاحتقار , وما فيها يظهر على اللسان والجوارح , فيعاقب الهماز اللماز بحرق موضع همزه ولمزه , وقد ذكر في الحديث الصحيح : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهي القلب ) .
- أغلب ما يصدر الهمز واللمز من العصاة والمنافقين في حق المؤمنين , فالمؤمنون دائما معرضون للسخرية والأذى , لكن كل مؤمن مطمئن رغم ذلك لأنه يعلم علم اليقين أن الله يحميه وينصره ويدافع عنه . والله تعالى يقول : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) [ الحج 38 ] .
- نزول هذه السورة على الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على كثرة ما تعرض له هو ومن معه من المؤمنين من سخرية وهمز ولمز ممن لم يسلموا , وقد أخبر الله تعالى عن ذلك في قوله : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) [ المطففين : 29-32 ]
وهذه حال كل الكفار مع جميع الأنبياء , فقد ذكر الله تعالى : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) [ الأنعام : 10 ] ومع المؤمنين , ويدل على ذلك قوله تعالى : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ) [ البقرة : 212 ]
- هذه السورة تؤصل لنا قاعدة الجزاء من جنس العمل , وهذا يجعل المؤمن مطمئن يعلم أن حقه لا يضيع أبدا .
اللهم أصلح ظواهرنا وبواطننا , واسلل سخيمة قلوبنا , واجعلنا من أهل القلوب السليمة .

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 2 رجب 1435هـ/1-05-2014م, 11:47 PM
مقبولة مصلح صالح مقبولة مصلح صالح غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 83
افتراضي سورة الفيل وقريش والماعون والكوثر والكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيل

لقد أنعم الله على قريش بنعم جليلة , أعظمها أن بعث فيهم رسولاً منهم , ومعه خير كتبه, وهذه النعمة سبقتها نعمة قبل مولد نبيهم , ليدركوا أن رسالته حق . وقد امتن الله عليهم بها , وذكرهم بها بعد بعثته .
إنها نعمة الحفظ والرعاية , ورد كيد الأعداء . ويحدث ذلك وهم غارقون في الكفر , لأنهم في جوار بيته العتيق .
وبعد بعثته صلى الله عليه وسلم , وتكذيبهم له , ذكرهم الله بهذه النعمة ليدركوا أن لولا هذه الرسالة ما تم لكم الحفظ , فاتبعوه وأطيعوا أمر الله . وذلك في سورة الفيل .

قصة أصحاب الفيل :
بنى أبرهة في أرض اليمن كنيسة ليصرف بها حجاج العرب من مكة إلى اليمن , فسمع بذلك العرب وغضبت قريش , فذهب رجل منهم إلى اليمن وفصد كنيستهم ودنسها لهم , وهرب . فلما اكتشفوا ذلك أقسم أبرهة على هدم الكعبة . وجهز جيشاً لذلك يقدمه فيلا ضخما عظيم الخلقة , فلما سمعت قريش بذلك عز عليهم لمكانة الكعبة في نفوسهم , ورأو أن الواجب يفرض عليهم صده عن ذلك لكن لاقبل لهم بجيشه وما معه من فيلة لا عهد لهم بالقتال في مواجهتها فتحصنوا في رؤوس الجبال . فلما وصل قرب مكة كانت هناك إبل لهم خارج مكة وفيها إبل لعبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم . فخرج عبد المطلب إلى أبرهة , فاستقبله , وهو يظن أنه يريد أن يفاوضه في الرجوع عما عزم عليه . لكن عبد المطلب فاجأه بطلبه أن يرد له إبله .
وأمام دهشة أبرهة من موقف زعيم قريش , يأتي الرد المقنع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( إن للبيت ربا يحميه ) .
ويتقدم أبرهة وهو عازم على تنفيذ ما جاء من أجله , ويوجهون فيلهم إلى اتجاه مكة , فيبرك في الأرض ولا يتحرك , ويحاولون ويحاولون , ولكن لا فائدة , فيوجهونه إلى اليمن فيسرع ماشيا , فيعيدونه إلى مكه فيبرك , آية , وما تغني الآيات والنذر فيمن أعمى الله بصيرته .
وبينما هم على ذلك بعث الله عليهم طيرا أبابيل معها الحجارة المسومة ترميهم بها فيتساقطون هلكى عن آخرهم .
أما كفار قريش وقد تحصنوا برؤوس الجبال بأنفسهم وأهليهم , رأوا أنه حقا للبيت ربا يحميه .
وفي ذلك العام يولد النبي صلى الله عليه وسلم , وبعد أربعين عاما يبعث , ويكذبونه , ويذكرهم الله بحادثة الفيل ليستيقظ واعظ الحق في نفوسهم , وليتعظوا قبل أن يحل بهم من عذاب الله ما يجعلهم عبرة كأصحاب الفيل .

معنى آياتها :
ألم تر : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم , وفعل تر هنا بمعنى ألم تعلم , والمعلوم في اللغة أن تر بمعنى تشاهد , والرسول صلى الله عليه وسلم لم يشاهد الحدث . واستخدام هذا الأسلوب للتنبيه على أهمية الأمر الذي بعدها , وعظم شانه .
كيف فعل ربك : ما حدث لأصحاب الفيل من الله تعالى , لم يدخل فيه صنيع جيش , ولا قوة سلاح , ولا سياسة قائد , ولا شجاعة بشر .
بأصحاب الفيل : وهم من كان في جيش أبرهة عامة .
ألم يجعل كيدهم في تضليل : همزة الاستفهام هنا للتقرير , والإجابة بلى . فهم قد كادوا لبيت الله تعالى بالإصرار على هدمه , وكادوا للساكنين حوله بجيش يقوده فيل , والفيل من الحيوانات الغير مألوفة لهم فسيفزعون منها عند المواجهة , وستفزع منها خيولهم أيضاً . لكنهم خابوا وخسروا وهلكوا , وصاروا عبرة لمن يعتبر إلى قيام الساعة .
وأرسل عليهم طيرا أبابيل : طيوراً كثيرة مجتمعة متتابعة , أتتهم من هنا وهناك , لا يستطيعون لها رداً ولا عنها مفراً .
ترميهم بحجارة من سجيل : تلقي على رؤوسهم بحجارة فمن تقع عليه يهلك , ولا تخطئ أحدا منهم .

وقفات تدبر لأيات السورة :
- في مواجهة الحق مع الباطل , لا يغتر بقوة الباطل مهما بلغت , ولا يستهان بالحق حتى لو كان للناظر في صورة ضعف .
- أنعم الله تعالى على كفار قريش بالحفظ والحماية تكريما لهم لمجاورتهم بيته رغم كفرهم , فكيف يكون إنعامه لمن كان مؤمنا؟!
- حادثة الفيل دليل على قدرة الله تعالى وعظمته , وعظم أخذه لمن لا يقدرون لله قدره . وكذلك عظم رحمته بعباده المظلومين ولو كانوا مشركين به . فالله لا يحب الظالمين .
- وفي حادثة الفيل دليل قطعي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , فالرب الذي رد كيد أبرهة هو الذي أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم , وهم شهداء على الواقعتين فلماذا لم يسلموا ؟ لا حجة لهم !
- في قصة أبرهة أن الفيل حبس عن دخول مكة بقدرة الله تعالى , ويماثلها في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ماحدث من ناقته القصواء في الحديبية حين حبست قبل دخول مكة فقال الصحابة خلأت القصواء فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وماذلك لها بخلق , ولكن حبسها حابس الفيل , والذي نفسي بيده لا يسألونني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم لذلك "
وعند المقارنة بين الحادثتين نجد أن أبرهة لم يعظم الله ولم يتعظ من انحباس الفيل عن مكة , والرسول صلى الله عليه وسلم يعظم الله تعالى ويطيع أمره .
وفي القصة عبرة وعظة , والسعيد من وعظ بغيره ولم يكن هو عظة لغيره .



بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قريش

إن أسعد القوم في هذه الحياة من جمع الله لهم عنصري السعادة الحقيقة – الأمن والرخاء _ وهاتان النعمتان لا يعطيهما الله تعالى إلا لمن أطاعه , ويسلبهما ممن عصاه , كما في قوله تعالى : ( ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) [ النحل : 112 ]
وقد أكرم الله تعالى قريش بهاتين النعمتين رغم أنهم كانوا في ضلال الجاهلية , وذكر ذلك في القرآن في سورة قريش تكريما لبيته الذين هم في جواره وتكريما لنبيه صلى الله عليه وسلم ولما يولد بعد لأنه سيولد منهم ويعيش بين أظهرهم .

معناها :
لإيلاف قريش : أي : لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين مطمئنين .
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف : أي : ولائتلافهم في تجارتهم حيث كانت رحلة الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام يسيرون فيها بين القبائل الأخرى آمنين لما لهم من المكانة في نفوس الغير لأنهم جيران بيت الله الحرام , وهذا السبب هو الذي من أجله أكرمهم الله رغم ضلالهم . مؤتلفين بين بعضهم البعض يتاجرون في أموال بعضهم دون غدر ولا خيانة , ميسر لهم الرزق والربح .
فليعبدوا رب هذا البيت : أي : مقابل هذه النعم عليهم أن يوحدوا الله تعالى بالعبادة دون سواه من الأصنام التي كانوا يعبدونها . لأن المنعم المتفضل هو المستحق للشكر , وحقيقة شكر الله تعالى على نعمه هو توحيده وإفراده بالعبادة .
وقال : هذا البيت : ليدلهم على عظم ما شرفهم به من وجود بيت الله في ديارهم , وخص بيته بالربوبية ليوضح لهم أنه حافظه وحاميه مما يدنسونه به بوضع الأصنام بداخله , والشرك بربه عنده , لفضله ومكانته عنده .
فشرف البيت عند الله عظيم , ويشرف جيرانه بمجاورته .
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف : هاتان النعمتان لا تعدلهما نعم الدنيا كلها , ولو فقدها الإنسان فقد معهما كل النعم الأخرى . لذلك يستلزمان الشكر .

تدبر آيات السورة :
- الائتلاف نعمة من نعم الله على مستوى الأفراد أو الجماعات , لأنه يحقق لهم راحة البال وطمأنينة النفس فيكون ذلك أدعى إلى وفرة الإنتاج العملي , وتحقيق النجاح الإيجابي على جميع الأصعدة . وكل جماعة حرمت هذه النعمة فلتبحث في صلتها بالله تعالى وتصحح مسارها وتصلح خللها , والعاقل يسعى لأسباب تحقيقه , وفي السورة بين الله تعالى أن السبب الوحيد لتحقيق ذلك هو عبادة الله تعالى دون سواه .
- عند مقارنة قريش مع بقية القبائل الأخرى يدرك المرء مقدار ما أكرمهم به الله تعالى . من أمن داخلي وخارجي , وهذه هي تمام نعمة الأمن التي تطمح إليها كل جماعة في كل زمان ومكان . وقد أخبر الله تعالى عن ذلك في قوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ] وقوله تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ القصص : 57 ] .
لكن بم قابلت قريش هذه النعمة ؟
كفروا بأنعم الله , وعبدوا الأصنام , والله تعالى يحلم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة , فيرسل إليهم رسولا , وينزل إليهم كتاباً , وبذلك زادهم نعما فوق ماهم فيه , وجمع لهم بين أفضل نعم الدنيا ( الأمن مع رغد العيش ) وأفضل نعم الدين وذلك ( بخير الرسل- محمد صلى الله عليه وسلم - وأفضل الكتب – القرآن العظيم - ) .
فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما أعز به دينه , وأذلهم بفتح مكة وما سبقه من الهزائم في الغزوات .
- لا يقوم شكر الله تعالى إلا بتحقيق عبادته , ومن لم يعبده فليس بشاكر.
- شكر النعم يجلب حب الناس واحترامهم , فقريش وجدت الاحترام والتقدير من جميع القبائل وهي لم تشكر , ولكنه أثر حتمي مع وجود النعم من الله تعالى , ولما طولبت بتحقيق ذلك ولم تفعل حرمت هذه النعم .
- الطاعة تجمع للإنسان جميع النعم , والمعصية تسلبها .
- ما يحدث للغير لا بد أن يكون عظة للنفس لتصحح منهجها مع نعم الله تعالى , كيف تتعامل معها , وكيف تحافظ عليها , ولابد من أمر مهم جداً قد يغفل عنه الكثير إلا ما رحم ربي ألا وهو استشعار أن النعم من عند الله في كل لحظة , وفي كل نعمة مهما صغرت , لأن التعود على النعم قد يجعلها في نفس صاحبها شيء عادي لا يشعر بها كنعمة من الله , فكم كأس ماء نشرب في اليوم ؟ وكم منها استشعرنا أنها نعمة لحظة الشرب ؟! وهكذا في بقية نعم الله علينا .
وكم من نعمة أسرعنا لإسداء الشكر فيها لغير الله ولم نشعر ؟ كما في حال المرض إن شفانا الله أسرعنا إلى الطبيب نشكره , ونثني على الدواء , والنفس في غفلة عن شكر الله .
)- رب هذا البيت ) أضاف البيت لربوبيته , ليشعرنا بأن من حفظه على مر السنين لن يضيع من عبده , والتخصيص لبيان شرفه ومكانته عند الله تعالى . فكيف ستكون مكانة من يعبد رب البيت إذن ؟!
اللهم وفقنا لشكرك وحسن عبادتك على الوجه الذي يرضيك عنا .





بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون

في هذه السورة إشارة خضراء لمن لا يتصف بأي صفة فيها أنه بمشيئة الله من المحسنين , وصفراء لمن كان فيه صفة من صفاتها ليحذر ويثوب إلى رشده , وحمراء لأهلها ليدركوا عظم العذاب الذي ينتظرهم عند رب العباد .
فسورة الماعون تعداد لصفات المنافقين والكفار .
معناها :
أرأيت : الخطاب لسيد البشر صلوات الله وسلامه عليه , وكل خطاب في القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم فهو لأمته , ما لم يرد في النص ما يدل على خصوصيته له صلى الله عليه وسلم .
الذي يكذب بالدين : أي المنكر ليوم البعث والحساب والجزاء .
فذلك الذي يدع اليتيم : أي من أنكر يوم الدين فإنه قاسي القلب , لا يرحم اليتيم , بل يقهره بالمعاملة السيئة , ويظلمه حقه المادي والمعنوي , ومن كان كذلك مع اليتيم المحتاج للرعاية والعناية فهو مع غيره أشد قسوة .
ولا يحض على طعام المسكين : الحض بمعنى الحث , فهو لا يحث غيره على تقديم العون للمحتاج الفقير الذي لا يجد كفايته , فمن باب أولى أنه لا يفعل ذلك بنفسه أبداً . وينقسم الناس في هذا الحال إلى قسمين فمنهم من يمنع فقط , وهذا شره أهون ممن يمنع ويحرض الناس على أن لا يفعلوا .
فويل للمصلين : تهديد ووعيد لفئة تصلي ولا يقبل الله صلاتها – وهم المنافقون – وبين الله تعالى أسباب عدم القبول :
1- عن صلاتهم ساهون : مضيعون لأركانها وواجباتها وسننها وشروطها وآدابها .
مضيعون لوقتها , فلا يشعرون بوقت دخولها , وإذا تنبهوا أو نبهواقاموا إليها سراعاً كسالى مراءاة للناس لا طاعة لرب الناس.
مضيعون لخشوعها , وتدبر الحكمة في فرضها , والوقوف على أسرارها العظيمة .
2- يراؤون : أي أنهم يعملون الخير لينالوا المدح والثناء من الناس , متجردين من صفة الإخلاص التي هي أساس قبول الأعمال عند الله .

ويمنعون الماعون : يمنعون إعطاء الأخ المسلم وغيره , أي شيء يمكنه الاتنفاع به على سبيل العارية : ومعناها : إعطاء عين لمحتاج , ينتفع من نفعها ثم يعيد ذات العين لصاحبها . – كمن يحتاج جاره إلى سيارة يقضي بها شأناً من شئونه ثم يعيدها له –
وقد يكون على وجه العطاء والهبة . وفي كل الأحوال فهو مانع للنفع أياً كان .

من ثمرات التدبر في هذه السورة :
- بدأت السورة بكلمة ( أرأيت ) وهذا الأسلوب اللغوي للفت الإنتباه إلى أهمية الأمر الذي سيذكر بعدها .
- السورة توضح صفات الكفار والمنافقين للحذر منها
- أن الإخلاص لب كل عمل , وأساس قبول كل طاعة .
- التكذيب بيوم الدين ليس شرطاً أن يكون باللسان , بل بالحال وذلك بعدم الاستعداد له بالعمل الصالح , أو الاعتقاد بالشك وعدم التصديق .
- إن العبادات منها اللازم الذي نفعه للإنسان فقط , ومنها المتعدي الذي يتعدى نفعه لغيره , فالصلاة من العبادات اللازمة , والإحسان إلى اليتيم والمسكين من العبادات المتعدية , ومن لم يحسن في طاعة ربه لن يحسن إلى خلقه . وهم قد جمعوا الشرين .
ومن أساء في طاعة ربه أساء في معاملة خلقه , فخرج عن دائرة الإحسان ولو كان مسلماً . ومن أخلص في طاعة ربه دفعه ذلك لكل خير وبر , ينفع إخوانه , وينجي نفسه من عذاب ربه .
- كيف نعرف إن كنا من المصلين أم من المرائين فيها ؟
لقد حدد لنا الله تعالى المقياس الذي نعرف به ذلك بقوله تعالى : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [ العنكبوت : 45 ] , فإذا كانت الصلاة قد أثرت في نفوسنا وأبعدتنا عن الفواحش فهي قد أقيمت على ما يرضي الله تعالى . وإذا كان المصلي لا يرتدع عن فعل المعاصي فهو مصلي غير مقيم للصلاة .
- لماذا يصلون أمام الناس , ويمنعون الخير عن الناس ؟
لأن الصلاة عبادة علنية , من حيث وجوب أداءها في جماعة , ومن حيث وجوب وقتها وهو بين مجموعة من الناس . والعطاء عبادة خفية كما في الصدقة . وبذلك المنافق يعبد الله في العلانية ويعصيه في السر , لأنه لا يحسب حساب علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية , بل همه مكانته بين الناس وما يقولون عنه .
-قال تعالى :( عن صلاتهم ساهون ) وليس في صلاتهم ساهون ) وهنا تتجلى رحمة الله تعالى , لأن الساهي عنها ترك أو مضيع لها كلها , أما الساهي فيها فهو مقصر في بعض أركانهاأو واجباتها أو شروطها . وقد يحدث ذلك بسبب قد يخرج عن إرادة الإنسان , وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم , وكمن يبتلى بمرض الوسواس , ويدافع نفسه قدر المستطاع .
- توعد الله تعالى الذين هم عن صلاتهم ساهون بالويل , وهو تهديد ووعيد من جبار السموات والأرض ,
- ليس بمرائي من عمل عملاً وأخلص النية فيه لله تعالى ثم اطلع عليه الناس , فأثنوا عليه فأعجبه ذلك الثناء . بل ذلك عاجل بشرى للمؤمن .
- ويمنعون الماعون : تدل على تركهم المعاونة للغير ماديا ومعنويا وهم بذلك قد عطلوا شعيرة من شعائر الإسلام أمرنا الله تعالى بها في قوله : ( وتعاونوا على البر والتقوى )
- إن أعلى درجات تقديم العون هو أداء ما افترضه الله تعالى كما الزكاة , وأقل القليل ما دلنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : ( كل معروف صدقة ) و( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) و ( إماطة الأذى عن الطريق صدقة ) و ( أن تلق أخاك بوجه طلق )
اللهم إنا نسالك من فضلك .





بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثر

أكرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بسور خصه بها , وبنعم أنعم بها عليه دون سائر البشر , ومن هذه السورة سورة الضحى والشرح وهذه السورة , ومن النعم الكوثر الذي هو نهر في الجنة كما ورد في أحاديثه صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر . "
وفي رواية لمسلم عن أنس رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً , قلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : " لقد أنزلت علي آنفاً سورة , فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ) ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم , قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم في السماء فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدث بعدك . "
وفي رواية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر فقال : " هو نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك أبيض من اللبن وأحلى من العسل ترده الطير أعناقها مثل أعناق الجزر , قال أبو بكر : يا رسول الله إنها لناعمة , قال آكلها أنعم منها "
وذكر البخاري رواية عن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن قوله تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر ) قالت : نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم .

معناها :
إنا أعطيناك الكوثر : معنى الكوثر لغة من الكثرة أي الخير الكثير , هو نهر في الجنة . كما مرَّ معنا في وصفه . وهو من الخير الكثير الذي اعطاه الله لنبيه في الدنيا والآخرة .
ومما اعطاه في الدنيا : - اختار له اشرف نسبا . وجعله أشرف الخلق كافة .
- أنزل عليه خير كتبه .
- اعطاه النبوة والحكم والعلم بربه .
- ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا , فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأعطيت الشفاعة , وأحلت لي المغانم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة "
ومما اعطاه الله في الآخرة : - الفوز برضوان الله .
- غفرله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
- المقام المحمود .
- الشفاعة العظمى .
- اول من يدخل الجنة .
- امته أكثر الأمم دخولا للجنة .

فصل لربك وانحر : مقابلة للنعمة التي أعطاك الله تعالى , أدي حق الله الواجب عليك بالصلاة والنحر . والصلاة هنا تعم الفرض والنفل , والنحر أي اذكر اسم الله عليه واذبح له , لا كما يفعل المشركون من الذبح لأصنامهم . لذلك جاءت الجملة ( لربك وانحر ) بأسلوب التخصيص , ليعلم أن ما ذبح لله عبادة فيها الأجر , وما ذبح لغيره فهو شرك يحمل صاحبه الوزر .
ما العبادة التي تجمع الاثنين في وقت واحد ؟
صلاة عيد الأضحى .
إن شانئك هو الأبتر : وهذا أيضا من عطاء الله لنبيه في الدنيا
الشانئ هو المبغض , فكل شانئ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لما جاء به من الهدى فهو أبتر أي مقطوع الذكر .
وقد ورد في كتب السنة عدة روايات تذكر أن المقصود هو أبو لهب , وفي بعضها أنه العاص بن وائل .
وفي أصول التفسير : أنه في سبب النزول يكون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فإذا كان الخصوص في شخص معين هو من ادعى أن الرسول صلى عليه وسلم أبتر . فإن الحكم يأخذ العموم لكل ما دل عليه اللفظ , فكل شانئ للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أبتر , لأنه مقطوع من الخير .
وكان العرب إذا مات أبناء الرجل قالوا عنه أبتر . لذلك قالوا عن النبي صلى اله عليه وسلم ذلك بعد موت أبنائه .

من ثمرات التدبر بالسورة :
- ( إنا أعطيناك الكوثر ) هبة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم , فكم مقدار الشكر الذي يوفي حق هذه النعمة ؟!
في عرصات القيامة نرد نحن أمته الحوض ونشرب منه شربة من يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا نظمأ بعدها أبدا .
لكن ذلك لا يكون إلا لمن اتبع شريعته وسار على نهجه .
- ( فصل لربك وانحر ) توجيه من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لطريق شكره الصحيح , وهذه نعمة أخرى أنعم الله بها عليه , حيث دله وأمته على الطريق الأمثل لحفظ نعم الله وهو تحقيق العبودية لله وفق شرعه وأمره .
- ولماذا خص عبادتي الصلاة والنحر بهذه الخاصية دون سائر العبادات ؟
ذلك لأن المشركين كانوا يسجدون لأصنامهم , ويذبحون لها , وصلاتهم كما أخبر الله عنهم مكاء وتصدية , ولتظهر المخالفة لهم بذلك . وليعلموا أن السجود عبودية وذلة للتابع , ولا يذل العزيز إلا لمن هو أعز منه , والله أعز الإنسان عن سائر خلقه , فكيف يذل ويخضع لمن هو أدنى منه ؟! و أن البهائم من نعم الله فكيف تصرف الطاعة في ذبحها لمن لا يستحقها ؟!
- الآية تشعر من يتدبر بها أن لا يكن شغلك في هذه الدنيا إلا في هذين الأمرين .
- كل إنسان يصبح ويمسي ونعم الله عليه تترى , - شعر بذلك أو لم يشعر – لذا لا بد من الشكر القولي والفعلي وفعل ما يرضي الله حسب كل نعمة , فالجسد شكره نعمه بالعبادات البدنية , والنظر شكره بغض البصر , والمال شكره بالإنفاق منه , وهكذا .
- ( إن شانئك هو الأبتر ) هذا هو قول المشركين عن الرسول صلى الله عليه وسلم , وذلك حين مات ابن للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا وعلى رأسهم زعيمهم أبو لهب : بتر محمد , فرحين مستبشرين بأنه سينقطع ذكره , وتنقطع بذلك دعوته.
وهذا القول دليل واضح على حقيقة ما يشعرون به , فهم يشعرون بقوة دعوته , التي رفضوها وما استطاعوا أن يوقفوها عن الانتشار . فهم يعانون من الهزيمة النفسية رغم إظهارهم غير الحقيقة . وهذه حال العدو في كل زمان ومكان , إن شعر بالهزيمة لجأ إلى أسلوب التنقيب والبحث عن المعايب – كما يظنون – لنشرها على الملأ ليبتعدوا عن الدين , وما يزيدهم هذا إلا انهزاماً وألماً , ولا يزيد من عابوه إلا ثباتاً وقوة .
- وفي قولهم أيضاً اعتماد على الذرية , والحقيقة أن إحياء الذكر بالذرية فطرة نفسية فطر الله تعالى الناس عليها .
أما الإحياء الحقيقي فهو بما يحي به الله الذكر من نشره إلى قيام الساعة بالرسالة للرسل , وبالدعوة لم بعدهم .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أحيا الله له ذكره بأمور كثيرة منها الآذان الذي يتكرر في كل المعمورة , وفي تشهد الصلاة وفي الدعاء وغير ذلك .
ومن حمل الدعوة من بعده , ما بين أيدينا من كتبهم وعلمهم يقرأه الناس ويتعلمون منه ويذكرونهم وهم قد ماتوا ومنهم من مات من آلاف السنين .
فالعاقل يسعى إلى إحياء ذكره بما يذكره عند الناس بالخير حتى بعد موته . كما في حال سلفنا الصالح .
- وقد دعا الله تعالى على من شان الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر , وهذا حقاً لأنه حتى وإن ذكر فبالذم والتنقص والسيرة السيئة – كما في سيرة أبو لهب والوليد بن المغيرة – والدعاء من الله تعالى محقق الإجابة .
ويبتر الله العدو بماله بضياعه أو عدم بركته , وعمله بعدم التوفيق فيه , وبين الناس ببغضه , وبأهله بعدم صلاحهم . .......

إذا هذه السورة تضمنت :
- بيان نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
- الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه .
- كل مبغض للرسول صلى الله عليه وسلم أو دعوته فهو لا خير فيه .
وختاما نسأل الله تعالى الكريم الوهاب أن يسقينا شربة هنيئة من يد نبيه صلى الله عليه وسلم لا نظمأ بعدها أبدا .
وأن يذكرنا في الملأ الأعلى وينادي جبريل إني أحبهم فأحبهم وينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحبهم فأحبوهم , ثم يوضع لنا القبول عند أهل الأرض . فهذا أعظم الذكر وأجله . نسأل الله أن لا يحرمنا منه ويزيدنا من فضله .





بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرون

هذه السورة تتضمن الأمر بإخلاص العقيدة لله وحده لا شريك له , وإعلان التبرؤ من الكفر .
سبب نزولها :
ذكر أن المشركين في مكة دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة وهم يعبدون إلهه سنة .
فأنزل الله تعالى هذه السورة إعلان لهم ولكل مشرك إلى قيام الساعة أن لا خلط بين الدين الإسلامي وغيره من الأديان الأخرى .

معناها :
قل : خطاب موجه لسيد البشر ليعلن فيه أمر الله عز وجل لكل كافر .
يا أيها الكافرون : المقصود بالخطاب كفار قريش , لكن الأمر يشمل جميع الكفار في كل زمان ومكان .
لا أعبد ما تعبدون : نفي قاطع من استحالة عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم لغير الله . وكل ما نفاه القرآن فهو لن يكون أبداً , وما نفاه من الموجود فقد انتفت منفعته .
وما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ منه هو كل ما يعبدونه من الأصنام والأنداد حجارة كانت أو أشجارً , وتتضمن نفي كل ما يعبد من دون الله إلى قيام الساعة – مما استجد أو يستجد مستقبلاً - .
ولا أنتم عابدون ما أعبد : أي لن تعبدوا الله ولو ادعيتم ذلك .
ولا أنا عابد ما عبدتم : في الأولى رد على طلبهم , وهنا تأكيد لهم بأن ذلك لن يحدث في أي وقت أبداً .
ولا أنتم عابدون ما أعبد : في الأولى إظهار لحقيقة نواياهم عند عرض الطلب . وهنا إظهار لحقيقة موقفهم في كل حال , لأن الكفر صفة لازمة بهم , ولم تكن نيتهم الخلاص منها , بل صد الرسول صلى الله عليه وسلم عما جاء به بحيلة منهم .
لكم دينكم ولي دين : دينهم الكفر ودينه صلى الله عليه وسلم الإسلام , فلكل دينه

من ثمرات التدبر في السورة :
- هذه السورة فيها تبرؤ من الشرك , لذلك يقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بينها وبين سورة الإخلاص التي فيها تأكيد لإخلاص العبادة لله وإعلان التوحيد .
ومن المواضع التي ثبت فيها قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم للسورتين معاً :
1- ركعتي سنة الفجر
2- ركعتي سنة الطواف
3- ركعتي سنة المغرب .
4- في سنة الوتر .
5- في أذكار النوم .
- قل : فيه أمر من الله حاسم رداً على رغبة المشركين , فليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا أي مخلوق أن يرد برد غيره على أي من الكفار في كل زمان ومكان إن عرضوا ذات الأمر ولو كان بأسلوب ولغة وتعبير مختلف لكنه يحوي ذات الهدف. وهذا دليل قطعي على أن الأمر إلهي لا بشري .
- في قوله : ( يا أيها الكافرون ) : تسميتهم بالكافرون دليل على أن قولهم كفر , وفي ذلك حسم للأمر الذي يعرضونه قبل الخوض فيه وتوضيح الموقف منه , وحكم الله تعالى عليهم بالكفر دليل على أن ما عرضوه ليس إلا مراوغة وحيلة منهم . وفي هذه الآية إعجاز باهر في القرآن حيث ذكر القضية والموقف منها وحكمها وعاقبتها في كلمة واحدة .
- وكل من حكم الإسلام عليهم بهذه الكلمة بالكفر ماتوا كفاراً ولم يسلموا .
- من السورة نتعلم أدب الجدال والنقاش , وذلك بمعرفة ما يلي :
1- لا جدال ولا نقاش في أمور العقيدة فهي محسومة من رب العباد .
2- الجدال الشرعي يكون للتوضيح وإظهار الحقائق , لا للتغيير أو التبديل في مبادئ العقيدة .
3- لا يخرج الجدال عن الأمر المطروح إلى أمور أخرى , تجر إلى ضياع الحقيقة , أو إثارة المتلقي فيعاند ولا يقبلها .
4- معرفة أن الهدف من الجدال عرض الحقائق , وليس إجبار الطرف الآخر على قبولها .

- في هذه السورة رد صريح على من ينادون بما يسمونه تقارب الأديان , ويهدفون إلى خلط مبادئ الدين بغيره , أو تبديل بعض مسلماته بسواها . والتقارب الحقيقي شعار من شعائر ديننا الحنيف ويقره , ولكنه تقارب إنساني , وذلك جلياً في تعاليمه في كيفية التعامل مع الغير .
- ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) دليل ثبات هذا الدين , وقولهم نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة دليل عدم الثبات في منهجهم . فكل منهج يقوم على الثبات فهذا دليل قوته , ودليل على مصداقيته . وكل مبدأ ليس بثابت ولا قوي ولا صادق فلا خير فيه .
- يتميز الداعية إلى الحق بإحساسه أن ما هو عليه حق يجعله يجهر به ولا يخاف ولا يتردد ولا يتنازل .
- الدعوة إلى الدين بحاجة إلى القوة والصراحة والشجاعة في حسم الأمور سواء كانت سلبية أو إيجابية .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه .

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مذاكرة, الطالبة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:05 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir