دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > رسائل التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 1 شعبان 1443هـ/4-03-2022م, 11:13 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...} الآية

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}.

عناصر الرسالة:
تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}.
... - ما يُطلق عليه لفظ النور.
... - إفادة هذه الإضافة للحصر.
... - أنواع النور المضاف إلى الله جلّ وعلا.
... - آثار نور الله جلّ وعلا.
... - أقوال المفسّرين في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}.
... - التنبيه على قراءة لا تصحّ، وخطأ في تأويل الآية.
تفسير قول الله تعالى: {مثل نوره}.
... - معنى {مَثَل}.
... - معنى الإضافة في قول الله تعالى: {مثل نوره}.
... - بيان أثر اختلاف درجات الأنوار.
... - بيان نور قلوب المؤمنين.
... - أقوال المفسرين في معنى {مثل نوره}.
تفسير قول الله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح}.
... - معنى المشكاة.
... -اشتقاق المشكاة.
... -أقوال المفسرين في معنى المشكاة.
... - المراد بالمشكاة في الآية.
تفسير قول الله تعالى: {المصباح في زجاجة}.
... - معنى المصباح.
... - اشتقاق المصباح.
... - المراد بالمصباح والزجاجة في الآية.
... - معنى التعريف في المصباح.
تفسير قول الله تعالى: {الزجاجة كأنها كوب دري}.
... - معنى التعريف في الزجاجة.
... - القراءات في قوله تعالى: {كأنها كوكب درّي}.
... - بيان معاني القراءات الواردة في قوله تعالى: {كأنها كوكب دري}.
... - توجيه قراءة [دُرّيء].
... -أقوال السلف في معنى قوله تعالى: {كوكب دري}.
... - وجه تشببيه الزجاجة بالكوكب الدري.
تفسير قول الله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة}.
... -القراءات في قوله تعالى: {يوقد}.
... - معاني القراءات في قوله تعالى: {يوقد}.
... - المراد بالشجرة المباركة.
تفسير قول الله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية}.
... - إعراب زيتونة.
... - أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية}.
... -ما تفيده أوصاف الشجرة في الآية.
تفسير قول الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}.
... - معنى قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}.
... - معنى المثل في قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء}.
تفسير قول الله تعالى: {نور على نور}.
... - معنى "على" في قول الله تعالى: {نور على نور}.
... - وجه التمثيل في قوله تعالى: {نور على نور}.

تفسير قول الله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء}.
... - معنى الهداية في الآية.
... - معنى اللام في قوله تعالى: {يهدي الله لنوره}.
... - مراتب الهداية لنور الله تعالى.
... - دلالة قوله تعالى: {من يشاء}.
تفسير قول الله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شيء عليم}.
... -ذكر بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من الأمثال.
... -فائدة ختم الآية بقوله تعالى: {والله بكلّ شيء عليم}.
إيجاز تفسير المثل الذي ضربه الله في الآية.
الجواب عما روي عن ابن عباس في تخطئة كتاب المصاحف في هذه الآية.
ذكر بعض ما تضمنته هذه الآية الكريمة من الفوائد السلوكية.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 1 شعبان 1443هـ/4-03-2022م, 11:53 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}
الإضافة هنا إضافة معنوية على معنى اللام تفيد الاختصاص أي: نورٌ للسموات والأرض، وجملة المبتدأ والخبر تفيد الحصر، أي: الله وحده هو نور السموات والأرض؛ فلا نور للسموات والأرض إلا بالله ومن الله.
وفي الصحيحين من حديث طاووس بن كيسان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيّام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن). الحديث.
وهذا الحديث صريح في معنى الحصر.

● ما يُطلق عليه لفظ النور
لفظ "النور" يطلق على معنيين:
أحدهما: النور الحسي، وهو ما يكون من إضاءة الأجرام المضيئة إضاءة أصلية أو ناقلة للضوء أو عاكسة له.
والآخر: النور المعنوي، وهو ما تتبصّرُ به البصائر، ويحصل به الهدى للحق، وسلوك الصراط المستقيم، وهو المراد بوصف القرآن بأنه نور، ومحمد صلى الله عليه وسلم بأنه نور، وهو المراد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً ...) الحديث.
ومنه يقال: إن للحقّ نوراً.
ومن النور المعنوي: نور الفطرة الصحيحة كما في قول الله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}

● إفادة هذه الإضافة للحصر
إفادة الإضافة في قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} للاختصاص ظاهرة، والاختصاص في الإضافة يقع على مرتبتين:
إحداهما: ما تفيد معنى الأولوية
والأخرى: ما تفيد معنى الحصر
فمثال الأولوية: أن يقال: فلان قرّة العين، وريحانة البلد، وبهجة النفس، أي هو أولى ما تقرّ به العين، وأطيب أهل البلد ذكراً، وأحظاهم ببهجة النفس، ولا يقتضي ذلك ألا يكون لغيره نصيب من هذه الصفات.
ويقال أيضاً: فلان شاعر الملك، ويكون للملك شعراء كثيرون لكن اختصاص أحدهم بهذه الصفة يفيد مع تشريفه أنه أولى الشعراء بالحظوة لدى الملك.
ومثال الحصر: قول الله تعالى: {مالك يوم الدين} ، وقوله تعالى: {الله خالق كلّ شيء}
ويقال: فلان مالك الدار، للدلالة على معنى الحصر.

وقد يقع معنى الحصر لإفادة أن ما سوى المضاف لا نسبة له معه، كما في قول الله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فأضاف للأرض زلزالاً واحداً مفرداً؛ فكأنّ ما كان في الأرض من الزلازل قبل ذلك الزلزال لا تُعدّ شيئاً معه.
وفي قول الله تعالى: {وأنّ عذابي هو العذاب الأليم} ما يوضّح هذا المعنى، وأنّ ما يعدّه الناس من العذاب في الدنيا بأنواع الضرب والقتل وآلام الجراحات ووضع النساء وغيرها لا نسبة له إلى عذاب الله يوم القيامة كما في قول الله تعالى: {فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد}.
فتحصّل من هذا البيان أنّ قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} يفيد معنى الحصر في نوعي النور الحسي والمعنوي من غير تشبيه ولا تمثيل، فالله تعالى هو نور السموات والأرض الذي لولاه لم يكن فيهما نور، ولا أبصر أحد من خلقه شيئاً، ولا اهتدى إلى مصلحة من مصالحه، ولا عرف حقاً من باطل؛ فإن كلّ ذلك لا يكون إلا بنور من الله تعالى.

● أنواع النور المضاف إلى الله جلّ وعلا
النور الذي يضاف إلى الله جلّ وعلا على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: النور الذي هو صفة من صفات ذات الله تعالى، والإضافة فيه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بها، كوجه الله، وعلم الله، وعزّة الله، ورحمة الله.
ونورُ الله تعالى ليس كمثله شيء من الأنوار، بل لو جمع ما في الكون من الأنوار العظيمة لكانت نسبته إلى نور الله تعالى أقلّ من نسبة نور سراج ضعيف إلى ضوء الشمس في وهج الظهيرة.
وهذا عام في سائر صفاته جلّ وعلا، كما في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر موسى والخضر: ((جاء عصفورٌ؛ فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: "يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر")).
- وفي صحيح مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
- وقال ابن القيم: (نسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه، والقوى إلى قوته، والغنى إلى غناه، والعزة إلى عزته، وكذلك باقي الصفات، والعبد إذا سما بصره صعودا إلى نور الشمس غشي دون إدراكه وتعذر عليه غاية التعذر، وأي نسبة لنور الشمس إلى نور خالقها ومبدعها، وإذا كان نور البرق يكاد يلتمع البصر ويخطفه ولا يقدر العبد على إدراكه، فكيف بنور الحجاب فكيف بما فوقه، والأمر أعظم من أن يصفه واصف أو يتصوره عاقل، فتبارك الله رب العالمين الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه ودلت الآيات وشهدت الفطر باستحالة شبهه، فلولا وصف نفسه لعباده لما أقدموا على وصفه، فهو كما وصف نفسه وأثنى على نفسه، وفوق ما يصفه الواصفون).

فشأن الله تعالى عظيم، وصفاته عظيمة، لا يشبهه شيء في صفة من صفاته جلّ وعلا، ولما تجلّى سبحانه للجبل جعله دكاً.
- قال معاذ بن معاذ العنبري: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} قال: " قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر"، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، وقال: "أراناه معاذ " قال: فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟
قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: (من أنت يا حميد؟!! وما أنت يا حميد؟!! يحدثني به أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت: ما تريد إليه؟).
- وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قرأ هذه الآية {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} قال حماد: هكذا، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال: (فساخ الجبل {وخر موسى صعقا}). رواه الترمذي.

والنوع الثاني: وصف أفعاله وصفاته جلّ وعلا بأنها نور، ومن ذلك وصف القرآن بأنه نور كما في قول الله تعالى : {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} وقوله تعالى: {فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
فهذا النور إذا أضيف إلى الله تعالى فهو من إضافة أمر من أمور الله تعالى إليه، وليس من إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فإنَّ الله تعالى: {له الخلق والأمر} وقد غايرَ بينهما، وكلامُ الله تعالى من أمرِ الله لا من مخلوقاته، كما دلّ عليه قول الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا}.
وكذلك أفعال الله تعالى ليست مخلوقه، فهدايته لمن يشاء من عباده فعلٌ من أفعاله لا يوصف بأنه مخلوق، بل هو من أمر الله تعالى.
وأما فعل العبد لمقتضى الهداية واهتداؤه بنور الله فهو مخلوق، لأنَّ العبادَ مخلوقون، وأفعالهم مخلوقة.
والفرق بين الإضافة في النوع الأول، والإضافة في النوع الثاني؛ أن الأولى صفة ذات، والثانية صفة أفعال.

والنوع الثالث: إضافة مخلوق إلى خالقه، والله تعالى يشرّف بعض خلقه بإضافتهم إليه إضافة تشريف كما في قول الله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}، وقوله: {ناقة الله وسقياها}.
ومن هذا النوع وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نور، وقد فُسّر به قول الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} فهو نور من الله، وهو أشرف خلق الله تعالى؛ وإضافته إلى الله إضافة تشريف.
والنور المعنوي يقع في الأمر والخلق؛ فصفات الله تعالى وأفعاله لها نورها وعظمتها وبركتها.
ويكون في بعض مخلوقاته نور معنوي؛ فهدايات المتّبعين لهدى الله وكلامهم وأفعالهم لها نور معنويّ يتبصّرون به، ويتبصّر به من يأتمّ بهم.

● آثار نور الله جلّ وعلا
مما ينبغي أن يُعلم أنّ كلّ ما في الكون من نورٍ فإنما هو من آثار نور الله جلّ وعلا، كما أنّ ما لدى الخلائق من التراحم فهو من آثار رحمة الله جلّ وعلا، وما عندهم من العلم فإنما هو من آثار علم الله جلّ وعلا.
والله تعالى يجعل الله تعالى لكلّ مخلوق من ذلك ما يقدّره له، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وهذا مما يبيّن معنى قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} ؛ فلا نور إلا به جلّ وعلا.

● أقوال المفسّرين في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}
اختلف المفسّرون في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} على أقوال:
القول الأول: هادي من في السموات والأرض، وهذا القول رُوي عن ابن عباس، وقال به ابن جرير.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض} يقول: (اللّه سبحانه هادي أهل السّماوات والأرض). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- قال ابن جرير: ({اللّه نور السّموات والأرض}: هادي من في السّماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضّلالة يعتصمون).
- وقريب منه قول يحيى بن سلام البصري: ({اللّه نور السّموات والأرض}: يعني هدى السّموات والأرض).
- وقول ابن قتيبة: ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض).

القول الثاني: مدبر الأمر في السموات والأرض، وهو رواية عن ابن عباس.
- قال سنيد: حدثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ، وابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض}: (يدبّر الأمر فيهما: نجومهما وشمسهما وقمرهما). رواه ابن جرير.
- وقال أبو إسحاق الزجاج: ({اللّه نور السّماوات والأرض}: أي مدبّر أمرهما بحكمة بالغة وحجة نيّرة).

القول الثالث: ضياء السموات والأرض، وهذا القول ذكره ابن جرير عن أبيّ بن كعب استخراجاً من أثر رواه عنه، وقال به السُّدّي.
- قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ، في قول اللّه: {اللّه نور السّموات والأرض} قال: (فبدأ بنور نفسه، فذكره، ثمّ ذكر نور المؤمن). رواه ابن جرير.
- وقال عامر ابن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: {اللّه نور السماوات والأرض} قال: (فبنوره أضاءت السّموات والأرض). رواه ابن أبي حاتم.

- قال ابن جرير: (وإنّما اخترنا القول الّذي اخترناه في ذلك [يريد القول الأول] لأنّه عقيب قوله: {ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ ومثلاً من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين} فكان ذلك بأن يكون خبرًا عن موقعٍ يقع تنزيله من خلقه، ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدلّ على انقضاء الخبر عنه من غيره.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيّها النّاس آياتٍ مبيّناتٍ الحقّ من الباطل {ومثلاً من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين} فهديناكم بها، وبيّنّا لكم معالم دينكم بها، لأنّي هادي أهل السّماوات وأهل الأرض. وترك وصل الكلام باللاّم، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداءً، وفيه المعنى الّذي ذكرت، استغناءً بدلالة الكلام عليه من ذكره. ثمّ ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبيّنات الّتي أنزلها إليهم).


والتحقيق أن هذه الأقوال ترجع إلى قولين لا تعارض بينهما:
أحدهما: أنه نور معنوي، وهو ما يُخرّج عليه قولُ من قال: المعنى: هادي من في السموات والأرض، ومدبر الأمر فيهما.
والآخر: أنه نور حسّي، وهو ما يخرّج عليه قول من قال: ضياء السموات والأرض.
والله تعالى هو نور السموات والأرض بالمعنيين كليهما، فما كان في ما خلق الله في السموات والأرض من نور حسّي فإنما هو بإذن الله تعالى وخلقه وتقديره؛ فهو الذي خلق النور، وخلق ما يُبصر به النور، ولولا أنّ الله نوّر الأجرام المنيرة لكان الكون في حندس مظلم لا يُبصر منه شيء، وتلك منّة عظيمة من الله تعالى على خلقه.
وكذلك ما يكون في السموات والأرض من نور معنوي بالاهتداء إلى الحق، واهتداء النجوم إلى مداراتها، والحيوانات إلى مصالحها، وتدبير الأمور على بيّنة وبصيرة؛ فإنما هو من الله تعالى الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.

● التنبيه على قراءة لا تصحّ، وخطأ في تأويل الآية
ذكر أبو القاسم الهذلي عن ثابت بن أبي حفصة، وإبراهيم القورسي، ومسلمة بن عبد الملك عن أبي جعفر أنهم قرأوا: [الله نَوَّر السموات والأرض] بفتح النون وتشديد الواو، ونصب الأرض، وقال: (وهو الاختيار كي لا يوصف الباري بالتشبيه).
وهذه القراءة لا تثبت، وتعليله لاختياره فيه طعنٌ على القراءة المتواترة المشهورة، والمؤيّدة بالأحاديث الصحيحة التي فيها هذه الجملة.
وإنما دخل عليه الخطأ في الفهم لما ظنّ أن ظاهر قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} يدلّ على وصف ذات الله تعالى بأنه هو ما يُرى من النور في السموات والأرض، وهذا خطأ شنيع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد وقع هذا الخطأ لجماعة ممن استشكل معنى الآية، وما ورد في الأحاديث الصحيحة من وصف الله تعالى بأنه نور السموات والأرض.
وسبب وقوعهم في الخطأ أنهم ظنوا أن هذه النصوص سيقت لوصف ذات الله تعالى، فلما استشنعوا ما تحصّل لهم من الفهم الخاطئ عدلوا عنه إلى التأويل بما لا يدلّ عليه ظاهر النص.
- فقال بعضهم: المعنى: الله ذو نور السموات والأرض.
- وقال بعضهم: منوّر السموات والأرض.
وقيل غير ذلك.
وهذه الأقوال ذكرها أبو إسحاق الزجاج عمّن لم يسمّهم، وذكرها الزمخشري، والرازي، وغيرهم، وقد أطال الرازي في تأويل هذه الآية، وردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية رداً مطوّلاً، وردّ عليه ابن القيم في الصواعق المرسلة من أوجه كثيرة.



- قال أبو إسحاق الزجاج في تفسير أسماء الله الحسنى: (اختلفوا في قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} قال بعضهم: الله ذو نور السموات يريد أنه خالق هذا النور الذي في الكواكب كلها لا أنه ضياء لها وأنوار لأجسامها بل أنوار تنفصل من أنوار الله تعالى).
وهذا التأويل والاحتراز يدل على ما سبق إلى أذهانهم من معنى خاطئ لا تدلّ عليه الآية؛ فوقعوا في نظير ما فهمه أحد أصحاب المعاجم من قول الشاعر:

يُديرونني عن سالمٍ وأُرِيغه .. وجلدةُ بين العين والأنف سالم
فقال: (ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سالِمٌ).
وهذا خطأ محضٌ ردّه عليه أهل اللغة؛ فإنّ البيت لم يُسق لتسمية الجلدة التي بين العين والأنف، وإنما شبّه عزّة قَدْرِ رجلٍ اسمه "سالمٍ" ومكانته منه بأمنع ما في الجسد، وأعزّ موضع فيه.

وكذلك فهم من فهم من قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} بأن ذاته جلّ وعلا هي الأنوار المنبعثة في السموات والأرض تعالى الله عن فهمهم علوّاً كبيراً؛ فلما سبق إلى أذهانهم هذا المعنى المستشنع عدلوا عنه إلى التأويل فقالوا: المعنى ذو نور السموات والأرض، أو منوّر السموات والأرض، أو غير ذلك من التأويلات، والآية لم تسق مساق الإخبار عن ماهية ذات الله جلّ وعلا، بل جاءت لتقرير أمر عظيم وهو أنه لا نور في السموات والأرض إلا بنور الله تعالى وتقديره وتدبيره، وهذا يشمل أنواعاً من النور الحسي والمعنوي، ولولا تنوير الله تعالى للسموات والأرض لكان الخلق في حندس مظلم.

ويبيّن هذا المعنى ما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينوّرها لهم بصلاتي عليهم».
فأسند التنوير إلى الله، وذكر أن صلاته عليهم سبب لذلك النور، وهو نور حقيقي لا يبصره إلا الموتى، فيصحّ وصف صلاته ﷺ عليهم بأنها نور لقبورهم؛ ولو قال قائل في الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم: (وصلاته على الموتى نور القبور) لكان قولاً صواباً.



فالله تعالى هو نور السموات والأرض إذ كان كلّ نور حسّي ومعنوي إنما كان بتنوير الله عزّ وجلّ وتقديره وتدبيره.

وأما توّهم دلالة ظاهر الآية على وصف ذات الله تعالى بأنه النور المشاهد في السموات والأرض؛ فخطأ محضٌ، وزعم باطل لم يقل به عالمٌ، ولا تدلّ عليه اللغة، حتى يُلتمس الفرار منه.
وهذه الأنوار المشاهدة مخلوقة، وليست هي كلّ نور السموات والأرض، بل ما ذكروه من نور الشمس والقمر والمصابيح والنيران وغيرها لا نسبة له إلى الكون الفسيح العظيم الذي لا يقدر قدره إلا الله جلّ وعلا؛ فلا تبلغ هذه الأنوار التي ذكروها أن تنوّر السموات والأرض.
وليس مقصودي في هذه الرسالة شرح الفهم الخاطئ ثم التطويل في الرد عليه، بل الأسلم والأقرب إلى السداد والمنهج الصحيح أن تُفهم الآية على وجهها الصحيح فيتبيّن بعد ذلك خطأ من أخطأ في فهمها؛ فإنّ الفهم الصحيح له نور إذا استنار به القلب أبصر صاحبُه خطأ ما خالفه، وبالله التوفيق.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 2 شعبان 1443هـ/5-03-2022م, 12:10 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {مثل نوره}
معنى {مثل}
مَثَل أي وصف، كما في قول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
فقوله تعالى: {مَثَل نوره} أي: وصف نوره.

معنى الإضافة في قول الله تعالى: {مثل نوره}
إضافة "مثل" إلى "نور" إضافة حقيقية معنوية تفيد الاختصاص.
وإضافة النور إلى الضمير العائد إلى الله جلّ وعلا إضافة تشريف، لأنه نورٌ منَ الله هدى له من شاء من عباده فأبصروا به الحق.

بيان أثر اختلاف درجات الأنوار
مما ينبغي أن يُعلم ولا يُجهل أن النور على درجات كثيرة متفاوتة تفاوتاً عظيماً، وليس كلّ نور يمكن للناس أن يبصروه بأبصارهم، بل ما لا يبلغون إبصارَه من النور أكثر وأعظم، ولولا أنّ الله تعالى خلق النهار يجلّي الشمس لما أمكن لنا رؤية ضيائها كما قال الله تعالى: {والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها} أي: جلَّى الشمسَ، قال قتادة: ({والنهار إذا جلاها}: إذا غشيها النهار). رواه ابن جرير.
- وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}.
- وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)}
- وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}.
- وقال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
- وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}.
فالليل والنهار مخلوقان مسخّران، واختلافهما تعاقبهما، أي يخلف أحدهما الآخر بتقدير من الله تعالى، {والله يقدّر الليل والنهار}، ومن ذلك تقدير تنقّل النهار في مساره في أوقات محددة ليجلّي الشمس بإذن الله تعالى بمقدارٍ يُلائم حياة الكائنات في الأرض، ولو شاء الله لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، لكنه من رحمته يولج النهار في الليل، ويولج الليل في النهار؛ فتقوم بهاتين الآيتين المسخّرتين مصالح عظيمة للناس والأنعام في هذه الأرض.

وما لا يجليه النهار من درجات أنوار الشمس، ومن أنوار الكواكب الأخرى أعظم وأكثر، ولذلك فإنَّ من جاوز ما يُعرف بالغلاف الجوي لا يرى إلا ظلاماً، وذلك بسبب عدم قدرته على إبصار ما في الكون الفسيح من الأنوار، كما أنّ الأعمى لا يستطيع رؤية الشمس في رابعة النهار لعدم وجود ما يمكّنه من الرؤية.
فوجود النور في الأجسام المنيرة غير كافٍ ليبصره الناظر، بل لا بد معه مما يمكّن الناظر من إبصار ذلك النور.
والمقصود أنّ مجال إبصار الناس محدود، وأنّ عدم رؤيتهم لكثير من أنواع الأنوار لا ينفي وجودها.
ومن ذلك ما يكون في بعض الأرواح من النور، وقد قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}
فهذا نورٌ جعله الله لروح المؤمن يبصر به الحق، ويمشي به في الناس، ويسلك به الصراط المستقيم، وهو نور لا تبصره العيون، يتفاضل فيه المؤمنون، ولو خلق الله للناس آلة يبصرون بها أنوار الأرواح لأبصر كل واحد مقدار ما في الآخرين من النور والظلمة.
- قال هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره؛ فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم؛ فقال: أي ربّ! من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينيه؛ فقال: أي رب من هذا؟
فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود.
فقال: ربّ كم جعلت عمره؟
قال: ستين سنة.
قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة.
فلما قضي عمر آدم جاءَه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
قال: أولم تعطها ابنك داود؟
قال: ((فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)). رواه الترمذي، والبزار، وأبو يعلى، وغيرهم.
- وفي رواية عند الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من طريق الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذباب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: (فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت؛ قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها؛ فإذا فيها آدم وذريته؛ فقال: أي رب ما هؤلاء؟
فقال: هؤلاء ذريتك.
فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه؛ فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم؛ قال يا رب: من هذا؟
قال: هذا ابنك داود). وساق الحديث بنحوه.
فدلّ هذا الحديث على أنّ للأرواح أنواراً، وأنها تتفاضل في الإنارة لتفاضل أسباب تلك الإنارة من الإيمان، والتقوى، والعلم، والعبادة، وإحسان الذكر وكثرته.

بيان نور قلوب المؤمنين
مما دلّت عليه النصوص أنّ القلوب تنير وتظلم، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً.
- قال سلمة بن كهيل، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً». رواه البخاري ومسلم.
ومن المعلوم أن الإنسان مخلوق من جسد وروح، وأنّ كلّ عضو من أعضاء الجسد له حياة مستمدّة من تلك الروح، ولذلك كانت أعمال الأعضاء على نوعين:
1: نوع من شأن الجسد كقبض اليد، ومشي الرجل، ونظر العين، وسماع الأذن، ونبض القلب، وغير ذلك.
2: ونوع من شأن الروح: كتصديق القلب وعَقله وإدراكه، وأعمال القلب من الحبّ والبغض، والخوف والرجاء، والألفة والنفور، والتمني والتشهّي، وغيرها كثير.
وإذا انقطع اتصال الروح بأيّ عضو من أعضاء الجسد مات ذلك العضو؛ فلم تكن له قدرة على القيام بشيء من خصائص الروح من الإحساس والاستجابة والنمو وغيرها.
والبدن مقترن بالروح؛ فلا يحصل للبدن عمل اختياري إلا بالروح، وهذا أمر ظاهر.
- وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وغيرهما من حديث أبي الصهباء، عن سعيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان؛ فتقول: "اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا")).
فهذا إخبار عن أمر غيبي يدلّ على صلة كلّ عضو من أعضاء الجسد بالروح؛ فإنّ هذه الأعضاء كلها تتكلّم بكلام لا تسمعه الأذن، والكلام من شأن الأرواح، فإنّ الميت لا يتكلّم.
ومعنى قوله: (تكفّر اللسان) أي تحرّج عليه، وتنقاد له.
والقلب من حيث كونه عضواً جسدياً محضاً ليس له قدرة على القيام بأعمال الإدراك والتصديق والإرادة والحب والبغض والتمني وغيرها من الأعمال التي هي من شأن الروح، وقد دلّت النصوص على أنّ محلّ ذلك هو القلب.
فتبيّن بذلك أنّها من شأن القلب الذي فيه روح، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ومن المعلوم المتقرر أن صلاح القلب إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، وهما قائمان على صحة الإدراك، وصلاح الإرادة.
فبصحة الإدراك يكون التصديق صحيحاً موافقاً للحق.
وبصلاح الإرادة تستقيم الجوارح على عمل الطاعات.
والإدراك والإرادة من شأن الروح لا من عمل الجسد.
- قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: (يطلق القلب على معنيين:
أحدهما: أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود، وهو منبع الروح.
والثاني: أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية، لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية) ا. هـ.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نحو هذا لكنه متفرق في كتبه، وقبلهما أبو حامد الغزالي له كلام قريب من هذا.
ولو قُدّر اختراع نظارة أو آلة تعطي من النتيجة ما تعطيه الأشعة السينية أو المقطعية أو الموجات فوق الصوتية لأبصر الإنسان من التفاصيل العجيبة في داخل جسد من ينظر إليهم من الناس ما لم يكن ليدرك إبصاره من غير هذه الآلة، ولنفذ إبصاره إلى ما وراء الجلد واللحم.
فإذا كان هذا في شأن بعض أعضاء الجسد التي يُمكن أن يوصل إليها بالجراحة أو المناظير أو غيرهما؛ وكان لا يستطيع إبصارها قبل ذلك؛ فكيف بما حُجب عن الناس رؤيته من الملائكة، والجنّ، والأرواح، والأجسام الدقيقة، وغيرها.
ومما دلّت عليه النصوص أنّ لروح المؤمن نوراً، وهذا النور لا يدركه الناس بأبصارهم، ومركزه من روح الإنسان هو قلبُه الذي هو محلّ الإيمان واليقين، ولذلك فإن الأعمال التي هي من شأن الأرواح تسند إلى القلب.
وقد دلّت النصوص أيضاً على أنّ القلوب تستنير وتظلم؛ وأنّ الجوارح تتأثر بها استنارة وظلمة، فاستنارتها بالعلم والإيمان والأعمال الصالحة، وظلمتها بالجهل والكفر والفسوق والعصيان.
ولبعض الأعمال أثر قوي في استنارة القلوب كالصبر والصلاة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
والذكر يجلّي القلب فيظهر نوره، وتذهب عنه غشاوة الغفلة، وجفاء القسوة، فيلين لين الخميلة، ويصفو صفاء الزجاجة، وذلك من شأن القلب الروحي.



وقد أثنى الله تعالى على داوود عليه السلام بهذه الصفات فقال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}
فأثنى عليه بالصبر إذ جعله محلاً لاتساء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أثنى عليه بإحسان العبادة، والقوّة فيها، وكثرة الأوب إلى الله تعالى، والذكر الحسن الكثير، وذلك من أسباب كون داوود عليه السلام من أضوإِ بني آدم وأكثرهم نوراً كما تقدّم في الحديث.
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس الثقفي، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوماً، وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه».


وأنوار المؤمنين تتفاضل بتفاضل منازلهم، ومقاماتهم في العبادة، وتفاضل أعمالهم؛ فللصالحين نورٌ يتفاضل بتفاضل صلاحهم، {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم}، وللصديقين نور أعظم، وللأنبياء نور أعظم من أنوارهم جميعاً.
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} اختلف في جملة {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم}؛ فذهب مسروق والضحاك إلى أنها مفصولة عما قبلها، وفي ذلك بيان لعظم أجر الشهداء ونورهم.
وذهب مجاهد إلى أنَّ جملة {والشهداء} تابعة لما قبلها، والأجر والنور لعموم الذين آمنوا بالله ورسله، وهم الصديقون وهم الشهداء.
والقولان صحيحان تحتملهما الآية.
- فعلى القول الأول: الواو استئنافية، والتعريف في {الشهداء} للعهد الذهني، وهم الذين قُتلوا في سبيل الله؛ فلهم أجرهم ونورهم، وهذه الإضافة تقتضي تعظيم أجرهم وتعظيم نورهم.
- وعلى القول الثاني: الواو عاطفة، وفي ذلك بيان لسبيل الصديقية أنها إنما تنال بالإيمان بالله ورسله، والتعريف في {الشهداء} للجنس، والمراد: الذين يُستشهدون يوم القيامة، كما في قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
والله تعالى أعلم.

أقوال المفسرين في معنى {مثل نوره}
اختلفت عبارات المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {مثل نوره} على أقوال:
القول الأول: هو نور المؤمنِ بما جعل الله في قلبه من الإيمان والقرآن، وهذا قول أبيّ بن كعب، ورواية عن ابن عباس، وسعيد بن جبير.
- قال عبيد الله بن موسى الكوفي: أخبرنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ، في قول اللّه: {مثل نوره} قال: ذكر نورَ المؤمن فقال: {مثل نوره} يقول: (مثل نور المؤمن).
قال: (وكان أبيّ يقرؤها كذلك: [مثل المؤمن] قال: (هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره). رواه ابن جرير.
- وقال سنيد المصيصي: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ: {اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره} قال: بدأ بنور نفسه فذكره، ثمّ قال: {مثل نوره} يقول: (مثل نور من آمن به).
قال: (وكذلك كان يقرأ أبيٌّ).
قال: (هو عبدٌ جعل اللّه القرآن والإيمان في صدره). رواه ابن جرير.
- وقال محمّد بن سعيد بن سابقٍ: حدثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية عن أبيّ بن كعبٍ في قول اللّه: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} قال: (هو المؤمن الّذي قد جعل اللّه الإيمان والقرآن في صدره فضرب اللّه مثله؛ فقال: {اللّه نور السماوات والأرض} فبدأ بنور نفسه عزّ وجلّ ثمّ ذكر نور المؤمن فقال: [مثل نور من آمن به] قال: فكان أبيّ بن كعبٍ يقرؤها: [مثل نور من آمن به] فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال عمرو بن أبي قيس الرازي، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السماوات والأرض} يقول: ({مثل نوره}: (مثل نور من آمن باللّه). رواه ابن أبي حاتم، والحاكم.
- وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ: {مثل نوره} قال: (مثل نور المؤمن). رواه ابن جرير.
- وقال أبو سنان البرجمي، عن ثابت بن جأبان، عن الضّحّاك، في قوله: {مثل نوره} قال: (نور المؤمن). رواه ابن جرير.

القول الثاني: مثل القرآن في قلب المؤمن، وهو قول الحسن البصري، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن.
- قال ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن، في قوله: {مثل نوره} قال: (مثل هذا القرآن في القلب كمشكاةٍ). رواه ابن جرير.
- وقال عبد الله بن عياش: قال زيد بن أسلم في قول الله تبارك وتعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره} ونوره الذي ذكر القرآن، ومَثَلُه الذي ضرب له نورٌ على نورٍ يضيء بعضُه بعضاً). رواه ابن وهب، وابن جرير.
- وقال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله تعالى: {مثل نوره}: (نور القرآن الّذي أنزل على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وعباده، هذا مثل القرآن {كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباح في زجاجةٍ}).
فقرأ حتّى بلغ:{مباركةٍ} قال: (فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره، ويعلمونه، ويأخذون به، وهو كما هو لا ينقص، فهذا مثلٌ ضربه اللّه لنوره). رواه ابن جرير.

القول الثالث: المراد بالنور هدى الله في قلب المؤمن، وهو رواية عن ابن عباس.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: ({مثل نوره}: مثل هداه في قلب المؤمن). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

القول الرابع: نوره أي نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يُروى عن كعب الأحبار بإسناد فيه ضعف، وهو رواية عن سعيد بن جبير.
- قال محمد بن حميد الرازي: حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن حفصٍ، عن شمرٍ، قال: جاء ابن عبّاسٍ إلى كعب الأحبار، فقال له: حدّثني عن قول اللّه، عزّ وجلّ: {اللّه نور السّموات والأرض}. الآية.
فقال كعبٌ: ({اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره} مثل محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، كمشكاةٍ). رواه ابن جرير.
- وقال يحيى بن اليمان العجلي، عن أشعث القمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، في قوله: {مثل نوره} قال: (محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

فهذه أربعة أقوال لا تعارض بينها، أعمّها القول الأول وأخصّها القول الرابع، وهو تفسير بأولى الأمثلة، فإنَّ قَلْبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرُ قلبٍ نزل عليه القرآن، وأضوإِ القلوب وأتمّها نوراً، وقد نصّ الله تعالى على تنزيل القرآن على قلبه في قوله تعالى: {وإنه لتنزيل ربّ العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين}، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}.
وكلّ من اتّبع النبي صلى الله عليه وسلم من أمّته فله نصيب من النور في قلبه على قدر اتّباعه، ولا يصحّ حصر المراد بالنور في شخص النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى في الآية: {يهدي الله لنوره من يشاء}.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفي كلام طائفة من السلف أنَّ النور نورُ القرآن، وفي كلام طائفة أخرى أنه نور الإيمان، والنور يعمّهما جميعاً كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} كما أنَّ في كلام طائفة من السلف أنهم جعلوا هذا مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام الأكثرين أنه مثل لكل مؤمن، والجميع صحيح؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم سيّدهم وإمامهم).

والإضافة في قوله تعالى: {مثل نوره} إضافة تشريف باعتبار أن مصدره من الله؛ فهو نور نشأ في قلب المؤمن بإذن الله تعالى وتوفيقه وهداه.
ويصح أن يضاف إلى المؤمن باعتبار أنه محلٌّ لذلك النور.
وهذا كما يصح أن يضاف الرسول إلى من أرسله وإلى من أُرسل إليه.
فتقول: محمد رسول الله ، وتقول: هو رسولنا ؛ لاختلاف الاعتبار في الإضافتين، وكلتاهما صوابٌ، وقد وردتا في القرآن.
وهذا الحرف من الآية كتب في المصاحف هكذا: {مثل نوره} والضمير عائدٌ إلى الله جلّ وعلا، وهي القراءة المشهورة، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس أنهما كان يقرآنها: [ مثل نور من آمن به ] ولعلها مما نسخت تلاوته، أو تركت القراءة به في المصاحف العثمانية.
ولا خلاف بين المفسرين أن النور المراد في قول الله تعالى: {مثل نوره} ليس هو نور ذات الله جلّ وعلا، فنور ذات الله تعالى ليس كمثله شيء من الأنوار، ولا يبلغ من في الأرض أن يحتملوا رؤيته.
ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربّك؟
قال: ((نور أنّى أراه)). رواه أحمد ومسلم من حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة، وقلبه كالزجاجة في المشكاة، ونور الإيمان الذي في قلبه - وهو نور الله - كالمصباح الذي في الزجاجة، وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به).


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16 شعبان 1443هـ/19-03-2022م, 07:06 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح}

معنى المشكاة
لا ريب أنّ المشكاة هي الموضع الذي يكون فيه المصباح، وهذا منصوص عليه في الآية في قوله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح}.
والمشكاة في اللغة اسم جنس للموضع المجوَّف الذي ينبثق منه ضوء المصباح، ويقع ذلك على معانٍ:
أحدها: الكوّة غير النافذة في جدار الغرفة
والكوّة بفتح الكاف وضمّها قد تكون نافذةً كحال النوافذ المعروفة في جدران البيوت كبيرة كانت تلك النوافذ أو صغيرة، وهي ثقب واسع في جدار الغرفة يدخل منه الهواء.
وقد تكون الكوّة غير نافذة، وإنما هي تجويف من داخل الجدار كان يوضع فيه قديماً مصباح الزيت ليضيء الحجرة، وقد يوضع فيه غيره، وإذا كانت الكوّة غير نافذة كانت أجمعَ لنور المصباح وأقوى إنارة.

والثاني: القنديل
وهو إناء مجوَّف له فتحة في أعلاه، فيوضع الزيت في تجويفه، وتوضع الفتيلة في أعلاه، ثم تُشعل فتضيء.
وكانت بعض القناديل قديماً يوضع فيها نحاس - ويُسمّى الصُّفر - يحيط برأس الفتيلة، وذلك والله أعلم ليحفظها من الهواء أن يطفئها.
وبعض القناديل يوضع في أعلاها زجاجة تحيط بالفتيلة من جوانبها لتحفظها من الهواء ولتزداد إضاءة المصباح، ويكون للزجاجة منفذٌ من الأعلى يخرج منه دخان نار الفتيلة، ويدخل منه الهواء فلا تنطفئ الفتيلة.

والثالث: حامل القنديل
وكانت بعض القناديل تحمل في أعمدة أعلاها مجوّف مفتوح من الأعلى فيحيط التجويف بالقنديل؛ ليحفظ قوّة الشعلة، ويخرج الدخان من الأعلى.
فالمشكاة اسم يشمل هذه الأنواع.



اشتقاق المشكاة
المِشكاة، اسم آلة على وزن مِفْعَلة، لأنَّ أصلها "مِشْكَوَة"، وقد رُسمت كذلك بالواو في المصحف بالواو {كمشكَوة} إلماحاً إلى الأصل، والله أعلم.
والأظهر أن اشتقاق المشكاة من شَكوتُ، أو شكأت، وكلاهما يدلّ على إبراز ما كان محجوباً.
والشَّكْوة وعاء من جلد يشبه الدلو، وكان يقال: تشكّت المرأة إذا اتخذت شكوةً، ويقال: شَكِئَت أصابعُ الرجل؛ إذا تقشّر ما بين اللحم والظفر، والشَّكّ بالرمح: الطعن به حتى ينفذ في الجلد ويُحدث فيه فتقاً، والشكّ بالإبرة: إنفاذها في الجلد أو القماش.
و"شكّه" قريب المعنى من "شقّه"، إلا أنه شقٌّ فيه دقّة وسرعة، وهذا ظاهر في الأمور الحسية.
وفي الأمور المعنوية: يقال شكا يشكو إذا بثّ ما كان مكتوماً في نفسه.
- قال الراغب الأصفهاني: (وأصل الشَّكْوِ فتح الشَّكْوَةِ وإظهار ما فيها، وهي: سقاء صغير يجعل فيه الماء، وكأنه في الأصل استعارة، كقولهم: بثثت له ما في وعائي، ونفضت ما في جرابي؛ إذا أظهرت ما في قلبك)ا.هـ.
فالظاهر أنّ المشكاة سُمّيت بذلك لأن الضوء يُشكَأُ فيها، أي يُوقَد فينبثق منها ويضيء ما كان خارجها.
وانبثاق النور من القنديل والكوّة متّسق مع هذا الاشتقاق.
وترتيب الحروف في الكلمة وصفاتها يوافق ما استُخرج بالاشتقاق؛ فالميم تدلّ على الجمع وهو أصل اجتماع أدوات الإيقاد من الزيت والفتيل وغيرهما، ثم حرف الشين فيها دالّ على التفشي، وهو حكاية معنى انتشار الضوء، والكاف المهموسة المنفتحة بعدها ألف يدلان على حكاية انبثاق الضوء.

أقوال المفسّرين في معنى المشكاة
اختلفت عبارات المفسرين في معنى المشكاة في اللغة على أقوال لا تعارض بينها:
القول الأول: الكوَّة غير النافذة
وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وسعد بن عياض الثمالي، وأبي مالك الغفاري، والضحاك بن مزاحم، والحسن البصري، وقتادة، ورواية عن مجاهد، وقال به ابن جريج، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، والفراء، وأكثر أهل اللغة.
- قال قرّة بن خالد السدوسي، عن عطيّة العوفي عن ابن عمر قال: (المشكاة: الكوّة في البيت الّتي ليست بنافذةٍ). رواه يحيى بن سلام البصري، وابن جرير، ولم يذكر ابن جرير قوله: (في البيت ليست بنافذة).
- وقال عمرو بن أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، في قوله عزّ وجلّ: [الله نور السّموات والأرض مثل نور من آمن بالله كمشكاةٍ] قال: «وهي القبّرة: يعني الكوّة». وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
- وقال عاصمٍ الجحدريّ، عن سليمان بن قتّة، عن ابن عبّاسٍ قال: (المشكاة: الرّوزنة في البيت). رواه يحيى بن سلام.
والروزنة هي الكوّة.
- وقال سعد بن عياض الثمالي: (المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة). علّقه البخاري في صحيحه، ورواه وكيع في تفسيره من طريق أبيه وإسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عنه كما في تغليق التعليق لابن حجر، ورواه ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عنه ولم يذكر قوله: (بلسان الحبشة). وتصحّف اسمه عنده إلى سعيد.
وسعد بن عياض من كبار التابعين بالكوفة من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان قليل الحديث، مات بأرض الروم.
- وقال مسدّدٌ: حدثنا هشيمٌ عن حصينٍ عن أبي مالكٍ، قال: (المشكاة: الكوّة الّتي ليس لها منفذٌ). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال أبو سعيد الأشجّ: حدثنا عبدة عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {كمشكاةٍ} قال: (الكوّة). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن، في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ} قال: (ككوّةٍ). رواه ابن جرير.
- وقال معمر عن قتادة: (المشكاة: الكوّة). رواه عبد الرزاق، وابن جرير.
- وقال شبل بن عبّادٍ المكي، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قول اللّه: {كمشكاةٍ} قال: (المشكاة: الكوّة بلغة الحبشة). رواه ابن أبي حاتم.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (قيل إنها بلغة الحبش، والمشكاة من كلام العرب).
- وقال ابن جريج : ({كمشكاة}: (كوّة غير نافذة). رواه ابن جرير.
- وقال في العين: (المِشْكاةُ: طويق صغير في حائط على مقدار كوة، إلا أنها غير نافذة).


القول الثاني: القنديل
وفي تفصيله ثلاث روايات عن مجاهد.
- قال هشيم بن بشير: حدّثنا داود بن أبي هندٍ، عن مجاهدٍ، قال: (المشكاة: الحدائد الّتي يعلّق بها القنديل). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال أبو عاصم النبيل: حدّثنا عيسى [بن ميمون]، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {كمشكاةٍ} قال: (القنديل، ثمّ العمود الّذي فيه القنديل). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وتصحّفت اللفظة الأخيرة في طبعة تفسير ابن أبي حاتم إلى "الفتيل"، وهو خطأ، فإنّ الفتيل داخل القنديل، والقنديل معلّق بالعمود الحامل له.
- وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، ({كمشكاةٍ} الصّفر الّذي في جوف القنديل). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال ابن جرير: (هي عمود القنديل الّذي فيه الفتيلة؛ وذلك هو نظير الكوّة الّتي تكون في الحيطان الّتي لا منفذ لها. وإنّما جعل ذلك العمود مشكاةً، لأنّه غير نافذٍ، وهو أجوف، مفتوح الأعلى، فهو كالكوّة الّتي في الحائط الّتي لا تنفذ).

القول الثالث: المشكاة موضع الفتيلة
وهو رواية عن ابن عباس، وقال به محمد بن كعب القرظي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ويزيد بن أبي حبيب المصري.
- قال معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في قوله: {كمشكاةٍ} يقول: (موضع الفتيلة). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
- وقال أبو سعيدٍ الأشجّ: حدثنا ابن فضيلٍ، عن عاصم بن محمّد بن كعبٍ قال: (المشكاة: موضع الفتيلة من القنديل). رواه ابن أبي حاتم، وقد وردت العبارة فيه هكذا: عاصم بن محمد بن كعب، وهو تصحيف، إنما هو: عاصم بن كليب الجرمي، عن محمد بن كعب.
- قال ابن وهب: قال ابن زيد: (المشكاة الّتي فيها الفتيلة الّتي في المصباح). رواه ابن جرير.
والقول الثالث أعمّ هذه الأقوال لأنه يشمل الكوّة، والقنديل.

المراد بالمشكاة في الآية
المشكاة مثل مضروب يُراد به صدر المؤمن أو جوفه على قولين متقاربين مأثورين عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
- قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب: {مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ} قال: (مثل المؤمن قد جُعل الإيمان والقرآن في صدره {كمشكاةٍ} قال: (المشكاة: صدره). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال عامر بن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: {الزّجاجة كأنّها كوكبٌ درّيٌّ} قال: (فالزّجاجة هي القلب، والمشكاة هي الصّدر). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال سنيد: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ، وابن عبّاسٍ جميعًا: (المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه، المصباح مثل الفؤاد، والكوّة مثل الجوف). رواه ابن جرير.
وذهب كعب الأحبار إلى أن المراد به صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، إلا أن يقال إنه من باب التمثيل بأفضل ما يصدق عليه هذا المثل.
ويصلح أن يُراد بالمشكاة المؤمنون الذين يذكرون الله تعالى في البيوت الذي ذكرها الله تعالى في قوله: {في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه}
- قال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ: (المشكاة: الّتي فيها الفتيلة الّتي فيها المصباح) قال: (المصابيح في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع). رواه ابن جرير.
وقد اختلف في المراد بهذه البيوت:
- فقال أكثر المفسرين: هي المساجد.
- وقال سفيان بن حسين الواسطي: (قال الحسن هو بيت المقدس لأنّه يسرج فيه كلّ ليلةٍ عشرة آلاف قنديلٍ). رواه ابن جرير.
- وقال حكّام بن سلمٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عكرمة: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع} قال: (هي البيوت كلّها). رواه ابن جرير.
- وقال مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان، عن محمد ابن سوقة، عن عكرمة في قول الله تعالى: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع} قال: (البيوت كلّها). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال أبو سعيدٍ الأشجّ: حدثنا ابن فضيلٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه} قال: (هي بيوت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم).
ليث ضعيف، والرواية المعروفة عن مجاهد من طرق عدة أنها المساجد.

والمقصود أنّ هذا المثل الكريم صالحٌ لوصف أمرين:
أحدهما:
نور الإيمان والهدى في صدر المؤمن.
والآخر: ونور المؤمنين في البيوت التي يُذكر فيها اسم الله جلّ وعلا.
فيكون البيت بمثابة المشكاة، ونور المؤمن فيه بمثابة المصباح.
ولا يُنكر أن يكون هذا النور حقيقيٌّ لا يُبصره الناس، ويُبصره من شاء الله أن يُبصره من الملائكة وغيرهم، كما تقدّم بيانه.
وقد جاء في حديث مرسل ما يقرّب هذا المعنى.
- قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن زيد أنَّ أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟
قال: «فلعله قرأ بسورة البقرة».
قال: فسُئل ثابت؛ فقال: (قرأت سورة البقرة).
وجرير بن زيد الجهضمي معروف بالرواية عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، وكلّهم من أهل المدينة، ومن أئمة التابعين؛ فإن كانوا هم المقصودين بالأشياخ فهو مرسل قويّ لتعددهم وإمامتهم، لكن لما لم يصرّح بأسمائهم في هذه الرواية لم يكن لنا أن نجزم بذلك.
وعلى تقدير صحة هذا الخبر؛ فظهور هذا النور حتى أبصره الناس كرامة ومنقبة لثابت بن قيس رضي الله عنه تدلّ على أنّ له نوراً لم يكن يُبصر من قبل؛ فأُبصر تلك الليلة كرامة له.


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16 شعبان 1443هـ/19-03-2022م, 07:25 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {المصباح في زجاجة}
معنى المصباح
المصباح هو ما يُستصبح به، أي يستضاء به، وبناؤه على "مِفْعَال"، وهو من أوزان الآلة، للدلالة على الديمومة والتجدد.
وكانت المصابيح قديماً توقد بالزيت؛ وكلما كان الزيت أصفى كانت الإضاءة أحسن وأقوى.

اشتقاق المصباح
المصباح مشتقّ من الصُّبحة، وهي الوضاءة على الأرجح، وقيل: اسم لون يميل إلى الحمرة.
- قال ابن فارس: (الصاد والباء والحاء أصل واحد مطرد، وهو لون من الألوان قالوا: أصله الحمرة.
قالوا: وسمي الصبح صبحاً لحمرته، كما سمي المصباح مصباحاً لحمرته، قالوا: ولذلك يقال: وجه صبيح، والصباح: نور النهار)
ا.هـ.
قلت: الأرجح أنّه أُخذ من الوضاءة أو الإضاءة؛ وهما متفاضلان، ويجمعان لون البياض والحمرة.
ووضاءة كلّ شيء بحسبه، فالصباح فيه إضاءة تناسبه، والرجل الصبيح: هو الوضيء الذي يُرى لجلده وضاءة وشبه إشراق؛ فيُرى كأنه أبيض مشوبٌ بشيء من حمرة، وهذا مطابق لوصف لون المصباح.
وكذلك الصبح أوّل ما ينفجر يكون مع بياضه حُمرة.
والأصبح من الرجال: الذي يعلو سواد شعره حمرة، وهو غير الأصهب الذي يخلط شقار شعره حمرة.
- قال الأصمعي في كتاب "خلق الإنسان": (والأصبح من الشعر: الذي يخلط بياضاً بغبرة).
والغبرة أخفّ من الحُمرة.
- وقال أبو بكر ابن الأنباري: (والصبحة: بياض يعلوه حمرة).
- قال قيس بن عيزارة الهذلي:

أَلفَيْتَه يَحمِى المُضافَ كأنّه ... صَبْحاءُ تَحمِى شِبْلَها وتَحِيدُ
- قال أبو سعيد السكري في شرح ديوان الهذليين: (صَبْحاء: يعني لَبُؤَةً تَضْرِب إلى البَياض والحُمرة).
وقال ابن دريد في الجمهرة: (والصبحة: لون بَين الْحمرَة والغبرة).
فإن كان يريد مع مخالطة البياض فذلك حسن.
والمقصود أنّ المصباح سمّي مصباحاً لأنه يُستصبحُ به، أي يستضاء به، وإضاءته تكون بلون يخلط بياضاً بُحمرة، هذا أصل لونه، وكذلك سمّيت النجوم مصابيح لما فيها من الإضاءة، والله تعالى أعلم.

معنى التعريف في المصباح
التعريف في المصباح للعهد الذكري، أي المصباح المذكور آنفاً، وأتي بالمصباح معرّفاً ولم يقل: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة؛ فأفاد تفخيم أمر المصباح بإعادة ذكره ظاهراً غير مضمر ولا مقدّر.

المراد بالمصباح والزجاجة في الآية
اختلف المفسرون في المراد بالمصباح والزجاجة في هذه الآية على أقوال:
القول الأول: المصباح هو نور الإيمان والقرآن في قلب المؤمن، والزجاجة قلبه، وهو قول أبيّ بن كعب، والسدّي.
القول الثاني: المصباح قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والزجاجة صدره صلى الله عليه وسلم، وهو قول كعب الأحبار، وروي عن ابن عمر ولا يصحّ عنه.
والقول الثالث: المصباح هو قلب المؤمن، والزجاجة صدره، وهذا قول ابن جرير.

والقول الأول هو المأثور عن الصحابة وهو أرجح الأقوال، فإنّ أصل الإضاءة هو ما يكون في القلب من نور الإيمان والقرآن والبصائر النافعة.
- والقلب هو المحلّ الذي يحوي هذه الإضاءة، ويحفظ نورها وتوقّدها، وهو الأقرب إلى وصف الصفاء وقوّة الإنارة.
- والصدر أقرب إلى وصف المشكاة منه إلى وصف الزجاجة، وقد تقدّم تفسير الصحابة للمشكاة بأنها صدر المؤمن.
فكان الأقرب والأحسن أن يراد بالزجاجة قلب المؤمن على المثل الأول، الذي هو أصل الأمثال الأخرى.


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 شعبان 1443هـ/19-03-2022م, 07:33 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {الزجاجة كأنها كوب دري}
معنى التعريف في الزجاجة
التعريف في الزجاجة للعهد الذكري، أعيد ذكرها بالاسم الظاهر مع قرب الموضع تفخيماً لشأنها.
وقد تقدّم الحديث عن المراد بالزجاجة، وأنها مثل قلب المؤمن في صفائه وظهور أثر النور عليه، وتقويته لنور المصباح، وحفظه له.

القراءات في قوله تعالى: {كأنها كوكب درّي}
في قوله تعالى: {درّيّ} قراءات:
الأولى: [دُرّيٍّ ] بضم الدال، وتشديد الياء، من غير همز، وهي قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر وحفص عن عاصم.
والثانية: [دِرّيء] بكسر الدال، ومدّ الياء وهمزها، وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء، والكسائي.
والثالثة: [دُرّيء] بضمّ الدال، ومدّ الياء وهمزها، وهي قراءة حمزة، وأبي بكر عن عاصم.
فهذه ثلاث قراءات سبعيات، وذكر أبو إسحاق الزجاج وأبو الفتح ابن جنّي أنه قرئ بفتح الدال [ دَرّيّ ] و[ دَرّيء ] ولا أعلم لهاتين القراءتين أصلاً.
- قال سيبويه: (لا يكون في الكلام فَعّيل).
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (النحويون أجمعون لا يعرفون الوجه فيه، لأنه ليس في كلام العرب شيء على فَعّيل).

بيان معاني القراءات الواردة في قوله تعالى: {كأنها كوكب دري}
القراءة الأولى: {دُرّيّ} على وزن "فُعْلِيّ" نسبة إلى الدرّ، لصفائه وحسنه واستنارته؛ فهو يضيء ويتلألأ، والدرّ جمع دُرّة، وهي اللؤلؤة العظيمة.
- قال الخليل بن أحمد: (الدرّ: العظام من اللؤلؤ، والواحدة دُرة، وكوكب دري: أي ثاقب مضيء، وجمعه دراري).
- وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({كأنّها كوكبٌ دُرّيٌ} بغير همز أي مضيءٌ، ويراد كالدرّ إذا ضممت أوله).
- وقال أبو منصور الأزهري: (مَنْ قَرَأَ (دُرِّيٌّ) بلا همز، (تَوَقَّد) فهو منسوب إلى الدُّرِّ لصفائه).

والقراءة الثانية: [دِرّيء] فِعّيل من الدَّرْء، وهو الدفع، ومنه قوله تعالى: {قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}، وقوله تعالى: {وإذا قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} أي: تدافعتم.
و"فِعّيل" صيغة مبالغة تقع على معنى الكثرة، ومعنى الشدة، وهما متحققان في المعاني التي فسّر بها درء الكوكب وهي نحو ثلاثة معانٍ:



أحدها: الضياء.
- قال الخليل بن أحمد: (وكوكب دِرِّي على "فِعّيل" من تَوَقُّده كأنّه يدرأ دروء، كأنّه يُخرجُ نفسَه من السَّماء).
- وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: (فإن كسرت جعلته فِعّيلاً من درأت، وهو من النجوم الدراريء اللاتي يدرأن).
- ونقل أبو منصور الأزهري عن ابن الأعرابي أنه يقال: درأت النار إذا أضاءت.
- وقال أبو سعيد السيرافي: (يقال: "كوكب دِري" بكسر الدال إذا كان مضيئاً، وهو مشتق من درأ يدرأ، كأن ضوءه يدفع بعضه بعضاً من لمعانه).

والثاني: الدفع، كأن النجوم تندفع في مساراتها، أو أنه وصف لانقضاضها، أو شدّة توقدّها.
- قال ابن الأعرابي: (درأ فلان: أي هجم، والدِّريء: الكوكب المنقضّ يدرأ على الشيطان).
وأنشد ابن الأعرابيّ لأوس بن حَجَر يصف ثوراً وحشياً:

فانقض كالدِّريء يتبعه ... نقع يثوب تخاله طنبا
قلت: وقد تكرر وصف الثور الوحشي بالكوكب الدريء في اندفاعه، ومنه قول النابغة الذبياني في وصف قوّة اندفاع ثور وحشيّ إلى بقره بعد طعنه كلاب الصيد:
حتى إذا ما قضى منها لبانته ... وعاد فيها بإقبال وإدبار
انقضّ كالكوكب الدريء منصلتاً ... يهوي ويخلط تقريباً بإحضار
- وقال الفراء: (هو من قولك: دَرَأ الكوكب، إذا انحطّ كأنه رُجِمَ به الشيطان فدمغه).
- قال أبو عثمان المازني عن الأصمعى عن أبي عمرو قال: (مذ خرجت من الخندق لم أسمع أعرابياً يقول إلّا [كأنّه كوكب دِريء] بكسر الدال).
قال الأصمعي: فقلت: أفيهمزون؟
قال: (إذا كسروا فحسبك).
قال: (أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت، وهذا فعيل منه). ذكره أبو علي الفارسي في الحجة.

ويقابل الدرء في الاشتقاق الأوسط الدرّ، ومنه قولهم: درّ الضرع إذا اندفع فيه اللبن.

والثالث: الظهور والبيان، ومنه يقال: درأ النجم أي طلع وبان.
- قال عبد الله بن يحيى اليزيدي: ({كوكب دريء}: من كسر الدال فهو من قولهم درأ من مطلعه أي طلع، ومن ضم الدال ولم يهمز أراد به مضيء كالدر).
- وقال أبو منصور الأزهري: (وَمَنْ قَرَأَ [دِرِّيءٌ] بكسر الدال والراء والهمز؛ فإن الدِّرِّيء في كلام العرب كل كوكب برّاق يدرأُ عليك إذا طلع من الأفق بزُهْرَتِهِ، وهى "فِعِّيل" من درأ يدرأُ، وقال الفراء: سمي دِرِّيئًا كأنه رُجم به الشيطان فدفعه.
وقال غيره: إنما سمي دِرِّيئًا لأنه يطلع عليك من مطلعه فُجَاءة، وهو من قولك: درأ علينا فلان وَطَرأ، إذا طلع فجأة، وهو من الدَّراري، أخبرني المنذري عن أبي الهيثم بذلك.
قال: وقال نصير: دُروءُهُ: طلوعه، تقول: دَرَأ علينا).

قال أبو منصور: (وهذا القول أحسن من قول الفراء).
- وقال أبو علي الفارسي: (ومن قرأ: (درّيء) كان فعيلا من الدّرء مثل السكير والفسّيق والمعنى: أنّ الخفاء يدفع عنه لتلألئه في ظهوره، فلم يخف كما خفي نحو السّها، وما لم يضيء من الكواكب).



وجمع ابن كثير بين هذه المعاني الثلاثة فقال: (النجم إذا رُمِيَ به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال).

توجيه قراءة [دُرّيء]
وأما قراءة [ دُرّيء ] بضمّ الدال والهمز، فقد استشكلها جماعة من أهل اللغة حتى أنكرها بعضهم لما لم يعرفوا مثالاً في كلام العرب على "فُعِّيل"، وقد أثبتها بعضهم من غير تخريج.
ولا يصحّ إعلال الفراء لها بانفراد أبي بكر عن عاصم بها، فقد قرأ بها حمزة أيضاً؛ فهي قراءة صحيحة متواترة.
- قال سيبويه: (ويكون على "فُعِّيل"، وهو قليل في الكلام، قالوا "المُرِّيق"، حدثنا أبو الخطاب عن العرب، وقالوا: "كوكب دُرّيء"، وهو صفة).
- وقال الفراء: (وقوله: {كوكبٌ درّيٌّ} يُخفض أوله ويهمز، حدثني بذلك المفضّل الضبيّ قال: قرأها عاصم كذلك [دِرّيء] بالكسر، وقال أبو بكر بن عيّاش: قرأها عاصم [دُرّيء] بضم الدال والهمز، وذُكر عن الأعمش أنه قرأ [دِرّيء] و{دُرّيٌّ} بهمزٍ وغير همز رويا عنه جميعاً، ولا تعرف جهة ضمّ أوله وهمزه، لا يكون في الكلام فُعِّيل إلاّ عجمياً؛ فالقراءة إذا ضممت أوّله بترك الهمز، وإذا همزته كسرت أوّله).
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (ولا يجوز أن يُضم الدال ويهمز، لأنه ليس في الكلام فُعّيل).
- وقال أبو منصور الأزهري: (وأما قراءة مَنْ قَرَأَ [دُرِّيءٌ] بضم الدال مع الهمز؛ فإن أهل اللغة لا يعرفونه، وأنكروا القراءةَ به، وقالوا: ليس في كلام العرب اسم على "فُعِّيل"، واختلف عن عاصم فيه.
وروى عن الكسائي عن المفضل الضبىّ عن عاصم أنه قرأ [دِرِّيء] بكسر الدال مثل قراءة أبي عمرو، وروى حفص عنه {دُرِّيٌّ} بلا همز).

قلت: لا يُسلّم إنكار من أنكر هذه القراءة، وقد ذكر سيبويه وجماعة من علماء اللغة ورود "فُعّيل" في كلام العرب على قلّته، ودعوى الفراء أنه لا يَرِد إلا أعجمياً غير صحيح، وإذا صحّ إسناد القراءة فهي حجة في اللغة لا يسوغ إنكارها، وعلى من لم يعرف وجهها أن يقف عند حدود ما يعلم.
وقد تكلّم العلماءُ في توجيه قراءة [دُريء] بما يكفي ويشفي، ولها ثلاثة توجيهات حِسَان:
التوجيه الأول: أنّ أصلها "دُرُّوء" كسُبُّوح، وقُدّوس، لكن استثقل فيها الضم فقلبت الواو ياء لما كُسرت الراء.
وقد يكون مأخوذاً من درأ يدرأ دروءاً، وهو دُرُّوء ودَرَّاء.
وقد يكون مأخوذاً من دَرَّأ يدرّئ فهو دُرُّوء.
- قال ابن جرير: (أمّا الّذين قرأوه بضمّ داله وهمزه، فإن كانوا أرادوا به "دُرّوءٌ"، مثل سُبّوحٍ، وقُدّوسٍ، من درّأت، ثمّ استثقلوا كثرة الضّمّات فيه، فصرفوا بعضها إلى الكسرة، فقالوا: دُرّيءٌ، كما قيل: [ وقد بلغت من الكبر عُتيًّا ] وهو فُعولٌ، من عَتَوتُ عتُوًّا، ثمّ حوّلت بعض ضمّاتها إلى الكسر، فقيل: "عُتيًّا"؛ فهو مذهبٌ، وإلاّ فلا أعرف لصحّة قراءتهم ذلك كذلك وجهًا، وذلك أنّه لا يعرف في كلام العرب فُعِّيلٌ، وقد كان بعض أهل العربيّة يقول: هو لحنٌ).
والتوجيه الثاني: أنّ لبناء فُعّيل أمثلة من كلام العرب، ومنها قولهم: عُلّيّة، للمجلس العالي، وسُرّية، للجارية التي تُتَسرَّى، على القول بأنها مشتقة من السرور، وذُرّيئة، وهي أصل ذريّة على القول باشتقاقها من ذرأ يذرأ.
ذكر هذا التوجيه أبو علي الفارسي، وأبو الفتح ابن جني.
- وقال أبو حيان الأندلسي: (وسمع مُرّيخ، بضم الميم وكسرها).
فيكون منه "دُرّيء".
الوجه الثالث: أنه لغة في دِرّيء، مسموعة سماعاً على غير القياس، كما قيل في الزُّجاجة: زِجاجة، وزَجاجة، وكَوَّة وكُوَّة، وكما في القِثاء والقُثّاء، والجِنْح والجُنْح، والقِطْع والقَطْع، والسَّقْط والسِّقْط، والضَّعْف والضُّعْف، وغيرها كثير.
وقد قرئ في الشواذ أيضاً: [دَرّيء] بفتح الدال، ولا تثبت، لكن لو صحّت لغة عن العرب في دِرّيء وأنّ منهم من يفتح الدال، فضمّ الدال أولى أن يقبل.

والأوجه الثلاثة تؤول إلى أن كلمة "دُرّيء" مأخوذة من الدَّرء إلا أنّها على الوجه الأوّل وهو أحسنها مضعَّفة للمبالغة؛ ففي "درَّأ" من المبالغة ما ليس في "دَرَأ"، وهذا ظاهر كما في الفرق بين جمَّع وجَمَعَ، وقَتَّل وقَتَل، وقسَّم وقَسَم، وقَطَّع وقَطَع، وغيرها.

ولو قيل: إنّ قراءة "دُرّيّ" بضم الدال وترك الهمز تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون نسبة إلى الدرّ.
والثانية: مسهلة [من دُرّيء].
لكان له وجه، وتجتمع به القراءتان، وقد اختاره أكثر القراء.

أقوال السلف في معنى قوله تعالى: {كوكب دري}
الذين ورد عنهم النصّ على تفسير كلمة "دري" من السلف: أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقتادة بن دعامة السدوسي.
- قال أبو جعفر الرازي عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ في قوله تعالى: {كأنّها كوكبٌ درّيٌّ} يقول: (كوكب مضيء). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال يزيد بن زريعٍ: حدثنا سعيدٌ عن قتادة قوله تعالى: {كوكبٌ دري} قال: (إن درّيٌّ: منيرٌ مضيءٌ). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال الحسين بن محمّدٍ المروزيّ: حدثنا شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة في قوله تعالى: {كأنّها كوكبٌ درّيٌّ} قال: (كوكب ضخم). رواه ابن أبي حاتم.
وجمع يحيى بن سلام بين الروايتين فقال: قال قتادة: منير ضخم.

وجه تشببيه الزجاجة بالكوكب الدري
هذا تشبيه لأمر غيبي بأمر مشاهد، لأن البشر لا يمكنهم رؤية أنوار الأرواح المؤمنة في الحياة الدنيا.
وقد تحصّل من القراءات الواردة في الآية وما تحتمله من المعاني أنَّ قلبَ المؤمن يُشبه الكوكب الدٌرّي في بياضه وصفائه وتلألُئِه، ويشبه الكوكب الدِّريءَ في قوّة إضاءته واندفاعه ومضيّه في سلوك الصراط المستقيم وسبقه بالخيرات، ودفعه كيد الشياطين.
وقد اشتهر تفسير الكوكب الدري بأنه الثاقب المضيء؛ وهو تفسير يجمع معنى القراءتين، فهو ثاقب لقوة اندفاعه، ومضيء لقوة إنارته.


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 شعبان 1443هـ/20-03-2022م, 01:54 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: { يوقد من شجرة مباركة}
القراءات في قوله تعالى: {يوقد}
في قول الله تعالى: {يوقد} قراءات:
الأولى: {يُوقَدُ}، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم.
والثانية: [تُوقَدُ] بضم التاء والدال، وهي قراءة حمزة، والكسائي، وأبي بكر عن عاصم.
والثالثة: [ تَوَقَّدَ ] بفتح التاء والقاف وتشديدها وفتح الدال، فعل ماضٍ، وهي قراءة ابن كثير.
والرابعة: [تَوقَّدُ] وهي رواية هارون بن موسى عن أبي عمرو، ورواية عن عاصم.

معاني القراءات في قوله تعالى: {يوقد}
- من قرأ {يُوقَدُ} فالمراد به المصباح، والفعل مضارع لإفادة التجدد، وبناؤه لما لم يسمّ فاعله لعدم تعلّق المراد بفاعل الإيقاد.
- ومن قرأ [تُوقدُ] فالمراد به الزجاجة، والفعل مضارع لإفادة التجدد.
- ومن قرأ [توقَّدَ] فالمراد به المصباح، والفعل ماضٍ لإفادة الثبات، والتضعيف في الفعل لبيان شدّة التفعّل من الإيقاد.
- ومن قرأ [ تَوقَّدُ ] فالمراد به الزجاجة، والفعل مضارع لإفادة التجدد حُذِفت تاؤه الأولى، وبناؤه على تفعَّل يفيد شدة الإيقاد.
فتحصّل من هذه القراءات وصف نور الإيمان والقرآن في قلب المؤمن بشدة الإضاءة وتجددها وثباتها، ووصف قلب المؤمن المشبَّه بالزجاجة بذلك أيضاً.

المراد بالشجرة المباركة
الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون المبيّنة في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية}
والتقدير يوقد من شجرة زيتونة مباركة.
والتنوين في {شجرة} للتفخيم.
وتقديم وصف المباركة على بيان جنس الشجرة للتشويق ولتعظيم شأن وصفها بالبركة
و{مباركة} اسم مفعول لم يُسمّ فاعله، ولا ريب أنّ الذي باركها هو الله جلّ وعلا؛ فلا ينقطع خيرُها، ولا يضمحلّ، بل هو في دوام وتجدد وزيادة.
والشجرة مَثَلٌ مضروب لما يستمدّ منه نور قلب المؤمن، وقد روي في تفسير المراد بها ثلاثة أقوال عن السلف رحمهم الله:
القول الأول: قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقد فسّر المراد الشجرة بأنه الإخلاص لله تعالى وعبادته وحده لا شريك له.
وهذا يشمل أمرين:
أحدهما:فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، وهي المراد بالنور المذكور في قول الله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} أي من نور الفطرة الصحيحة التي كانوا عليها إلى ظلمات الكفر والفسوق والعصيان.
والآخر: التوحيد الذي هو دين جميع الرسل والأنبياء كما قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} وهو النور المراد في قول الله تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}

القول الثاني: مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أن المراد بالشجرة إبراهيم عليه السلام.
وتوجيه هذا القول أنَّ إبراهيم عليه السلام هو إمام الموحدين، وهو الذي أُمِرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وأمرنا باتباع ملته كما قال تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}
وقال تعالى: { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.
وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه جزء من المعنى، ولا يصحّ إسناد الرواية فيه عن ابن عمر.
- قال علي بن ثابت الجزري، عن الوازع بن نافع العقيلي عن سالم عن ابن عمر في قول الله عز وجل: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} قال: (المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه {يوقد من شجرة مباركة} الشجرة إبراهيم عليه السلام {لا شرقية ولا غربية} لا يهودي ولا نصراني، ثم قرأ: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}). رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير، والمعافى بن زكريا في "الجليس الصالح".
والوازع بن نافع ضعيف الحديث جداً.
القول الثالث: الشجرة ليست من شجر الدنيا، ولكنها شجرة التوحيد، وهذا أقرب ما فسّر به قول الحسن البصري رحمه الله.
- قال هشيم بن بشير: أخبرنا عوفٌ، عن الحسن، في قوله: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (هذا مثلٌ ضربه اللّه، ولو كانت هذه الشّجرة في الدّنيا لكانت إمّا شرقيّةً، وإمّا غربيّةً). رواه ابن جرير.
وروى مثله عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، لكن رواية معمر عن الحسن منقطعة.


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17 شعبان 1443هـ/20-03-2022م, 05:49 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية}
إعراب زيتونة
زيتونة عطف بيان لـ{شجرة}، وأفردت لأنها اسم للواحدة من شجر الزيتون، كما يقال للواحدة من النخل نخلة.

أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية}
للمفسرين أقوال في معنى قول الله تعالى: {لا شرقية ولا غربية}
القول الأول: المعنى أنها شجرة في وسط الشجر، فليست بشرقي الشجر ولا بغربيّه، ولذلك لا تصيبها الشمس بالغداة ولا بالعشي.
وهذا قول أبيّ بن كعب، ورواية عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي.
- قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (فمثله مثل شجرةٍ التفّ بها الشّجر؛ فهي خضراء ناعمةٌ، لا تصيبها الشّمس على أيّ حالٍ كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال محمّد بن الصّلت: حدّثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (هي شجرةٌ وسط الشّجر، ليست من الشّرق، ولا من الغرب). رواه ابن جرير.
- وقال أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله عزّ وجلّ: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ}، قال: (هي في وسط الشجر لا تصيبها الشمس في شرق ولا غرب، وهي من أجود الشجر). رواه سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم.
- وقال الليث بن سعد: حدثني من سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله: {زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ يكاد زيتها يضيء}، قال: (لو أنَّ زيتونة كانت في وسط الزيتون لا تصيبها الشمس عند مطلعها حين تطلع ولا عند غروبها حين تغرب، فأصفى زيتها زيتونها ذلك لأشفى على أن يضيء). رواه ابن وهب، وفيه من لم يسمّ.

القول الثاني: المعنى أنها: شرقية غربية؛ فليست شرقية فقط، ولا غربية فقط، وذلك أن الشرقية على هذا القول هي التي تصيبها الشمس بالغداة، والغربية هي التي تصيبها الشمس بالعشيّ، والشجرة الضاحية البارزة تصيبها الشمس بالغداة وبالعشي؛ فهي شرقية غربية، وهذا أطيب لها وأصفى لزيتها.
وهذا قول عكرمة، والسدي، ورواية عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير.
- قال عمرو بن أبي قيسٍ عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ}: ليست بشرقيّةٍ ليس فيها غربٌ، ولا غربيّةٍ ليس فيها شرقٌ، ولكنّها شرقيّةٌ غربيّةٌ). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال قيس بن الربيع الأسدي، عن خصيف بن عبد الرحمن، عن مجاهدٍ في قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (ليست بشرقيّةً لا تصيبها الشّمس إذا غربت، ولا غربيّةً لا تصيبها الشّمس إذا طلعت، ولكنّها شرقيّةٌ وغربيّةٌ، تصيبها إذا طلعت وإذا غربت). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال سُنيد: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ وابن عبّاسٍ {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قالا: (هي الّتي بشقّ الجبل، الّتي يصيبها شروق الشّمس وغروبها، إذا طلعت
أصابتها، وإذا غربت أصابتها).
رواه ابن جرير.
- وقال عمرو بن أبي قيسٍ، عن سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ قال: (شجرةٌ بالصّحراء لا يُظلّها شجرٌ ولا جبلٌ ولا كهفٌ، ولا يواريها شيءٌ، هو أجْوَدُ لزيتها).رواه ابن أبي حاتم.
- وقال أبو الأحوص: حدّثنا سماك، عن عكرمة، قال: (لا يسترها من الشمس وادٍ ولا جبل، إذا طلعت وإذا غربت). رواه سعيد بن منصور، وابن جرير.
- وقال حرميّ بن عمارة: حدّثنا شعبة قال: أخبرني عمارة، عن عكرمة، في قوله: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (الشّجرة تكون في مكانٍ لا يسترها من الشّمس شيءٌ، تطلع عليها، وتغرب عليها). رواه ابن جرير.
- وقال جرير بن حازم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكاد زيتها يضيء} قال: هو أجود الزّيت.
قال: (إذا طلعت الشّمس أصابتها من قبل المشرق، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشّمس، فالشّمس تصيبها بالغداة والعشيّ، فتلك لا تعدُّ شرقيّةً ولا غربيّةً). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال عامر بن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} يقول: (ليست بشرقيّةٍ يحوزها المشرق دون المغرب، وليست بغربيّةٍ يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنّها على رأس جبلٍ أو صحراء تصيبها الشّمسُ النهارَ كلَّه). رواه ابن أبي حاتم.

- قال ابن جرير في شرح هذا القول: (قال بعضهم: إنّما قيل: لهذه الشّجرة: لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ أي: ليست شرقيّةً وحدها حتّى لا تصيبها الشّمس إذا غربت، وإنّما لها نصيبها من الشّمس بالغداة ما دامت بالجنب الّذي يلي الشّرق، ثمّ لا يكون لها نصيبٌ منها إذا مالت إلى جانب الغرب. ولا هي غربيّةٌ وحدها، فتصيبها الشّمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب، ولا تصيبها بالغداة؛ ولكنّها شرقيّةٌ غربيّةٌ، تطلع عليه الشّمس بالغداة، وتغرب عليها، فيصيبها حرّ الشّمس بالغداة والعشيّ. قالوا: وإذا كانت كذلك، كان أجود لزيتها)ا.هـ.
وقد رجّح ابن جرير هذا القول، فقال: (وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك قول من قال: إنّها شرقيّةٌ غربيّةٌ؛ وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقيّةً تطلع عليها الشّمس بالعشيّ دون الغداة، ولكنّ الشّمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقيّةٌ غربيّةٌ.
وإنّما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام، لأنّ اللّه إنّما وصف الزّيت الّذي يوقد على هذا المصباح بالصّفاء والجودة، فإذا كان شجره شرقيًّا غربيًّا كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ).


القول الثالث: المعنى: لا يصيبها ظلّ شرق، ولا ظلّ غرب، فيكون المراد بالشرقية شرقية الظلّ، والغربية غربية الظلّ، وهذه الشجرة ليست بشرقية ولا غربية.
وهذا قول قتادة، ورواية عن ابن عباس.
وهذا القول يؤول إلى معنى القول الثاني، لأن الشجرة الضاحية لا يصيبها ظلّ من الشرق ولا من الغرب.
- قال محمّد بن سعد العوفي: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (هي شجرةٌ لا يفيء عليهما ظلّ شرقٍ، ولا ظلّ غربٍ، ضاحيةٌ، ذلك أصفى للزّيت). رواه ابن جرير.
- وقال معمر: قال قتادة: (هي الشجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق، ولا ظل غرب، ضاحية للشمس، ذلك أصفى الزيت {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور}). رواه عبد الرزاق.

القول الرابع: ليست من شجر الدنيا، ولذلك لا توصف بأنها شرقية، ولا بأنها غربية.
وهذا قول الحسن البصري.
- قال معمر: قال الحسن: (ليست من شجرة الدنيا، ليست شرقية ولا غربية). رواه عبد الرزاق.
- قال بشر بن المفضّل: حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، في قول اللّه: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (واللّه لو كانت في الأرض لكانت شرقيّةً أو غربيّةً، ولكنّما هو مثلٌ ضربه اللّه لنوره). رواه ابن جرير.
- وقال عثمان بن الهيثم: حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، في قول اللّه: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (لو كانت في الأرض هذه الزّيتونة كانت شرقيّةً أو غربيّةً، ولكن واللّه ما هي في الأرض، وإنّما هو مثلٌ ضربه اللّه لنوره). رواه ابن جرير.

القول الخامس: موضعها ليس بشرقيّ الأرض ولا غربيّها، وتأولوا ذلك بأدنى أرض الشام إلى القبلة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورواية عن محمد بن كعب القرظي.
- قال ابن لهيعة: سُئل يزيد بن حبيبٍ عن هذه الآية: زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ كان محمّد بن كعبٍ يقول: (هي القِبليّة). رواه ابن أبي حاتم.
والقبلية من شجر الشام هي التي تلي القِبلة.
- قال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ، في قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (متيامنة الشّأم، لا شرقيّ، ولا غربيّ).

القول السادس: لا شرقية ولا غربية، مَثَل للعدْل الوسط الذي على الصراط المستقيم، وهو ما تحمل عليه رواية الضحاك عن ابن عباس.
- قال سلمة بن بشير النّيسابوريّ: أخبرني أبو هشام ابن حوشبٍ، عن أبي سنانٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: {توقد من شجرةٍ مباركةٍ} قال: رجلٍ صالحٍ، {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (لا يهودي ولا نصراني). رواه ابن أبي حاتم.

ما تفيده أوصاف الشجرة في الآية
الشجرة المذكورة في الآية وصفت بصفات تبيّن ما يُستمدّ منه نور الإيمان في قلب المؤمن
- فهي شجرة عظيمة دلّ على عظمها معنى التنوين.
- وهي شجرة مباركة فخيرها دائم متجدد، لا ينقطع ولا يضمحلّ.
- وهي شجرة وسط في أفضل المواضع وأحسنها.
- وهي شجرة معتدلة بين طرفين ذميمين، وكذلك الإيمان وسط بين الشرك والإلحاد، والغلوّ والتفريط، وكذلك المؤمن في سائر أبواب الدين على هدى بين ضلالتين.


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18 شعبان 1443هـ/21-03-2022م, 05:54 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}
معنى قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}
أي: يكاد زيت هذه الزيتونة المباركة من صفائه وحسنه ولمعانه يضيء ولو لم تمسسه نار، فإذا مسّته النار كان ذلك أقوى لإضاءته وانتشار نوره.

معنى المثل في قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء}
في معنى هذا الجزء من المثل أقوال:
القول الأول: المراد به نور النبي صلى الله عليه وسلم، يكاد يبين لمن رآه أنه على الحق ولو لم يتكلّم، وهذا قول كعب الأحبار، وسعيد بن جبير.
- قال جعفر بن أبي المغيرة، عن شمر بن عطيّة، قال: جاء ابن عبّاسٍ إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول اللّه: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ} قال: (يكاد محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يبيّن للنّاس ولو لم يتكلّم أنّه نبيٌّ كما يكاد ذلك الزّيت أن يضيء). رواه ابن أبي حاتم.
– قال يعقوب بن عبد اللّه الأشعريّ، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: {يكاد زيتها يضيء} قال: (يكاد من رأى محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم أنّه رسول اللّه وإن لم يتكلّم). رواه ابن أبي حاتم.

القول الثاني: المراد به نور المؤمن، وهذا قول عكرمة.
- قال حفص بن عمر: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: {يكاد زيتها يضيء} يقول: (من شدّة النّور)، قال عكرمة: (ذلك مثل المؤمن). رواه ابن أبي حاتم.

القول الثالث: المراد به نور القرآن في وضوح الحقّ فيه وجلائه، وهذا قول ابن جرير.
- قال ابن جرير: (وإنّما أريد بقوله: {يوقد من شجرةٍ مباركةٍ} أنّ هذا القرآن من عند اللّه، وأنّه كلامه، جعل مثله، ومثل كونه من عنده مثل المصباح الّذي يوقد من الشّجرة المباركة الّتي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية.
وعني بقوله: {يكاد زيتها يضيء} أنّ حجج اللّه تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكرّ فيها، ونظر، أو أعرض عنها ولها. {ولو لم تمسسه نارٌ} يقول: ولو لم يزدها اللّه بيانًا ووضوحًا بإنزاله هذا القرآن إليهم، منبّهًا لهم على توحيده، فكيف إذا نبّههم به، وذكّرهم بآياته، فزادهم به حجّةً إلى حججه عليهم قبل ذلك؟ فذلك بيانٌ من اللّه، ونورٌ على البيان، والنّور الّذي كان قد وصفه لهم ونصبه قبل نزوله).


القول الرابع: المراد به نور الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي تكاد تبيّن الحق وتقوم بالحجة، ولو لم ينزل بتأييدها وحي.


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19 شعبان 1443هـ/22-03-2022م, 09:39 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {نور على نور}
معنى "على" في قول الله تعالى: {نور على نور}
اختلف في معنى "على" في قوله تعالى: {نور على نور} هل تفيد الحديث عن نوعين من النور أو أنوار متعددة على قولين.
وما روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس يدلّ على إرادة أنوار متعددة كما ورد نظيره في قول الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن}، وقوله: {فباؤوا بغضب على غضب}، وقوله تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق}، وكما يقال: قرن من بعد قرن، وجيلٌ من بعد جيل، والمراد قرون وأجيال متعددة.
وروي عن مجاهد والسدّي ما يدل على أنّ المراد نوران: نور النار على نور الزيت.

- وقال ابن كاسب الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق قال: سمعت ابن عباس وكان على الموسم فخطب الناسَ ثم قرأ سورةَ النُّور فجعل يفسِّرها {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ثم قال: (النور في قلب المؤمن وفي سمعه وبصره مِثْل ضوء المصباح، كضوء الزجاجة، كضوء الزيت، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} والظلمات في قلب الكافر كظلمة الموج كظلمة البحر كظلمات السحاب).
فقال صاحبي: (ما رأيتُ كلاماً يخرج من رأس رجل!! لو سمعت هذا التركُ لأسلمت). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة لأبيه.
فهذا يدلّ على أنه ذهب إلى أنها أنوار متعددة: نور الزجاجة، و نور المصباح، ونور الزيت.
- وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {نورٌ على نورٍ} قال: (النّار على الزّيت). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال عامر بن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {نورٌ على نورٍ} قال: (نور الزّيت ونور النّار حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحدٌ بغير صاحبه). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال ابن جرير: (وقوله: {نورٌ على نورٍ} يعني النّار على هذا الزّيت الّذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النّار).

وجه التمثيل في قوله تعالى: {نور على نور}
ثم اختلف المفسرون في وجه التمثيل في قوله تعالى: {نور على نور} على أقوال:
القول الأول: نور قول المؤمن، ونور عمله، ونور مدخله، ونور مخرجه
وهذا قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقريب منه رواية العوفيين وابن جريج عن ابن عباس.
- قال أبو جعفرٍ عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ في هذه الآية: {نورٌ على نورٍ} فهو يتقلّب في خمسةٍ من النّور فكلامه نورٌ، وعمله نورٌ ومدخله نورٌ، ومخرجه نورٌ، ومصيره إليّ النّور يوم القيامة إلى الجنّة). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال محمّد بن سعد بن عطيّة العوفيّ العوفي: حدّثني أبي، حدّثني عمّي، عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ قوله: {نورٌ على نورٍ} (يعنى بذلك إيمان العبد وعمله). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال ابن جريجٍ: قال ابن عبّاسٍ: قوله: {نورٌ على نورٍ} يعني: (إيمان المؤمن وعمله). رواه ابن جرير.

القول الثاني: نور قلب المؤمن، ونور سمعه، ونور بصره.
وهذه رواية عن ابن عباس، وقد تقدّم ذكرها.

القول الثالث: نور القرآن على نور الهدى، وهذا قول قتادة، وفي معناه رواية عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
- قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزّيت الصّافي يضيء قبل أن تمسّه النّار، فإذا مسّته النّار ازداد ضوءًا على ضوءٍ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدًى على هدًى، ونورًا على نورٍ). رواه ابن جرير.
- وقال الحسين بن محمّدٍ المروزيّ: حدثنا شيبان، عن قتادة: {نورٌ على نورٍ} (هذا مثلٌ ضربه اللّه للقرآن، يقول: قد جاء منّي نورٌ وهُدًى متظاهرٌ). رواه ابن أبي حاتم.

القول الرابع: أي نور القرآن يضيء بعضُه بعضاً، وهو قول زيد بن أسلم.
- قال ابن وهبٍ: أخبرني عبد اللّه بن عيّاشٍ، قال: قال زيد بن أسلم، في قوله: {نورٌ على نورٍ} قال: (يضيء بعضه بعضًا، يعني القرآن). رواه ابن جرير.

القول الخامس: نور القرآن على نور الإيمان، وهو قول السدّي.
- قال عامر بن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {نورٌ على نورٍ} قال: (نور الزّيت ونور النّار حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحدٌ بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحدٌ منهما إلا بصاحبه). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (نور الإيمان، ونور القرآن، نور صريح المعقول، ونور صحيح المنقول.
كما قال بعض السلف: يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا جاء الأثر كان نوراً على نور).

القول السادس: نور القرآن على نور الفطرة، وهذا قول ابن جرير الطبري.
- قال ابن جرير: (وهو عندي كما ذكرت مثل القرآن، ويعني بقوله: {نورٌ على نورٍ} هذا القرآن نورٌ من عند اللّه، أنزله إلى خلقه يستضيئون به، {على نورٍ} على الحجج والبيان الّذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن، وإنزاله إيّاه، ممّا يدلّ على حقيقة وحدانيّته؛ فذلك بيانٌ من اللّه، ونورٌ على البيان، والنّور الّذي كان وصفه لهم ونصبه قبل نزوله).

والصواب أنّ معنى الآية يعمّ هذه الأقوال كلّها فهي داخلة في عموم قوله تعالى: {نور على نور}
- قال ابن القيّم: (فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود وأنه {نور على نور}: نور الوحي، ونور العقل، نور الشريعة، ونور الفطرة، نور الأدلة السمعية، ونور الأدلة العقلية).


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 21 شعبان 1443هـ/24-03-2022م, 09:10 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء}
معنى الهداية في الآية
الهداية في قول الله تعالى: {يهدي الله لنوره} هداية التوفيق والإلهام.

معنى اللام في قوله تعالى: {يهدي الله لنوره}
وعدّي فعل الهداية باللام في قوله تعالى: {لنوره} لتحقيق معنى التوفيق، وحصول الهداية لمن يشاء الله من عباده، فتكون الهداية متحققة لهم بتوفيق الله وإلهامه وتسديده، كما قال الله تعالى: {قل الله يهدي للحقّ} ، وقال تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا}.

مراتب الهداية لنور الله تعالى
والنور المذكور هنا يفسّر المراد بالنور في قوله تعالى: {مثل نوره}، فهو نورٌ يُهدى له ويوفَّق إليه.
والهداية لنور الله تعالى في الدنيا التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، والتبصّر ببصائر القرآن، والاستقامة على أمر الله، واتّباع سنّة النبي صلى الله عليه وسلم.
والهداية لنور الله تعالى في الآخرة التوفيق لما يحصل به ذلك النور العظيم ويتمّ فينوّر للمؤمن في قبره، وعلى الصراط حتى يدخل الجنّة دار النور والسلام، ويرى نور ربّه جلّ وعلا في دار المقامة.
فكل ذلك مما تشمله الهداية لنور الله تعالى.

دلالة قوله تعالى: {من يشاء}
وفي قوله تعالى: {من يشاء} ما يدلّ على أنّ الهداية منّة من الله تعالى لا ينالها العبد إلا بتوفيق ومشيئة من الله تعالى، وفيها حثّ على سؤال الله تعالى التوفيق للهداية لنوره، فإنه هو الذي بيده الهداية والإضلال، والتوفيق والخذلان.
فاللهم اهدنا لنورك، ووفقنا بتوفيقك، وألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.


رد مع اقتباس
  #12  
قديم 21 شعبان 1443هـ/24-03-2022م, 09:34 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس}
ذكر بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من الأمثال
هذه الآية العظيمة تضمنت أمثالاً في مثلٍ ببيان بديع موجز لا تبلغه بلاغة بليغ من البشر، وذلك من دلائل إعجاز القرآن.
ففيها مثل لنور الله تعالى في قلب المؤمن، وتنبيه على ما يزداد به ذلك النور، ويعظم أثره.
وفيها مثل لنور البيوت التي يُذكر فيها اسم الله عزّ وجلّ؛ فالذكر فيها كالمصباح، وهي كالمشكاوات.
وفيها مثلٌ لاستنارة الكون بنور التسبيح بحمده.
بل مما يشمله معنى الآية ما يكون في قبور المؤمنين من النور؛ فقبر المؤمن كالمشكاة، وعمله كالمصباح المضيء، والله تعالى أعلم.
- قال ابن جرير: (وقوله: {ويضرب اللّه الأمثال للنّاس} يقول: ويمثّل اللّه الأمثال والأشباه للنّاس، كما مثّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في هذه الآية من الأمثال)ا.هـ.
وفي ضرب الأمثال للناس تبصير لهم وتذكير، وتنبيه على سبيل الهدى، وبيان لما يتيسّر به اتّباعه، والله بكلّ شيء عليم.

فائدة ختم الآية بقوله تعالى: {والله بكلّ شيء عليم}
وختم الآية بقوله تعالى: {والله بكلّ شيء عليم} له دلائل عظيمة:
منها: أنّ هذه الأمثال المضروبة في الآية قد فصّلها الله تعالى على علمٍ.
ومنها: أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ومن ذلك ما يكون لأعمال المؤمنين من النور؛ ففيها معنى قوله تعالى: {وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم . وتقلّبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم}، وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}.
وذلك أنّ الله تعالى قد دلّ المؤمنين في هذه الآية على ما يزدادون به من النور، وعرّفهم بأنّ لإيمانهم نوراً، ولأعمالهم نوراً، ولأقوالهم نوراً؛ فكان في ذلك ما يحضهم على الازدياد من النور.
ومنها: أنّ الفصل بالواو الاستئنافية قائم مقام التعليل بالجملة الخاتمة لما في الآية من الأمثال المحكمة.


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 21 شعبان 1443هـ/24-03-2022م, 09:50 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

إيجاز شرح معنى المثل الذي ضربه الله في الآية
لتتميم الفائدة سأذكر أقوالاً لبعض أهل العلم في إيجاز شرح هذا المثل أرجو أن يحصل بمجموعها فهم حسن لمعاني الآية، وتبصّر بسعة دلائلها.

قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه
- قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ: {مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ} قال: (مثل المؤمن قد جُعل الإيمانُ والقرآنُ في صدره {كمشكاةٍ} قال: المشكاة: صدره، {فيها مصباحٌ} قال: والمصباح القرآن والإيمان الّذي جعل في صدره، {المصباح في زجاجةٍ}، قال: والزّجاجة: قلبه، {الزّجاجة كأنّها كوكبٌ درّيٌّ يوقد} قال: فمثله ممّا استنار فيه القرآن والإيمان كأنّه كوكبٌ درّيٌّ، يقول: مضيءٌ، {يوقد من شجرةٍ مباركةٍ} والشّجرة المباركة، أصل المباركة: الإخلاص للّه وحده، وعبادته، لا شريك له. {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: فمثله مثل شجرةٍ التفّ بها الشّجر، فهي خضراء ناعمةٌ، لا تصيبها الشّمس على أيّ حالٍ كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيءٌ من الغير، وقد ابتلي بها فثبّته اللّه فيها، فهو بين أربع خلالٍ: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق؛ فهو في سائر النّاس كالرّجل الحيّ يمشي في قبور الأموات. قال: {نورٌ على نورٍ} فهو يتقلّب في خمسةٍ من النّور: فكلامه نورٌ، وعمله نورٌ، ومدخله نورٌ، ومخرجه نورٌ، ومصيره إلى النّور يوم القيامة في الجنّة). رواه ابن جرير.

قول ابن عباس رضي الله عنهما
- قال ابن كاسب الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق قال: سمعت ابن عباس وكان على الموسم؛ فخطب الناسَ ثم قرأ سورةَ النُّور فجعل يفسِّرها {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ثم قال: (النور في قلب المؤمن وفي سمعه وبصره مثل ضوء المصباح، كضوء الزجاجة، كضوء الزيت {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} والظلمات في قلب الكافر كظلمة الموج، كظلمة البحر، كظلمات السحاب).
فقال صاحبي: (ما رأيتُ كلاماً يخرج من رأس رجل!! لو سمعت هذا التركُ لأسلمت). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة لأبيه.
- وقال معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: {مثل نوره كمشكاةٍ} قال: مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزّيت الصّافي يضيء قبل أن تمسّه النّار، فإذا مسّته النّار ازداد ضوءًا على ضوءٍ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدًى على هدًى، ونورًا على نورٍ، كما قال إبراهيم صلوات اللّه عليه قبل أن تجيئه المعرفة: قال {هذا ربّي} حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحدٌ أنّ له ربًّا، فلمّا أخبره اللّه أنّه ربّه ازداد هدًى على هدًى). رواه ابن جرير.

قول قتادة بن دعامة السدوسي
- قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح} قال: هو مثل نور الله الذي في قلب المؤمن {كمشكاة} والمشكاة: الكوة، {فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى} كوكب مضيء؛ فهذا مثل لهذا ضربه الله {يوقد من شجرة مبركة زيتونة لا شرقية ولا غربية}.
- وقال معمر: قال قتادة: (هي الشجرة لا يفيء عليها ظلّ غرب، ضاحية للشمس، ذلك أصفى الزيت {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور}). رواه عبد الرزاق.

قول السدي
- قال عامر بن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: {الزّجاجة كأنّها كوكبٌ درّيٌّ} قال: (فالزّجاجة هي القلب، والمشكاة هي الصّدر، فلمّا دخل هذا المصباح في الزّجاجة فأضاء، فكذلك أضاء القلب، ثمّ خرج من الزّجاجة فأضاءت المشكاة فكذلك أضاء الصّدر، ثمّ نزل الضّوء من الكوّة فأضاء البيت، فكذلك نزل النّور من الصّدر فأضاء الجوف كلّه فلم يدخله حرامٌ). رواه ابن أبي حاتم.

قول ابن القيّم رحمه الله:
لابن القيّم رحمه الله كلام حسن في مواضع من كتبه في تفسير هذه الآية، ومن أجمعها وأجودها موضعان:
أحدهما في "الوابل الصيب"، والآخر في "اجتماع الجيوش الإسلامية".
- فقال رحمه الله في "الوابل الصيب": (وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلاً لا يعقله إلا العالمون فقال سبحانه وتعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم}.
قال أبي بن كعب: (مثل نوره في قلب المسلم).
وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والايمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر.
فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا، فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نوراً على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا؛ فأعطى على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عياناً.
ولما لم يكن للمنافق نورٌ ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهراً لا باطناً أعطى نوراً ظاهراً مآله إلى الظلمة والذهاب.
وضرب الله عزّ وجل لهذا النور ومحلّه وحاملِه ومادّته مثلاً بالمشكاة، وهي الكوّة في الحائط؛ فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه، وهي مثل القلب، وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافاً هي في قلب المؤمن وهي: الصفاء، والرقة؛ فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقّته، ويجاهد أعداء الله تعالى، ويغلظ عليهم، ويشتدّ في الحقّ ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفةً أخرى ولا تعارضها، بل تساعدها وتعاضدها، {أشداء على الكفار رحماء بينهم}، وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وفي أثر: "القلوب آنية الله تعالى في أرضه، فأحبها إليه وأرقها وأصلبها وأصفاها".
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض:
أحدهما: قلب حجري قاسٍ، لا رحمة فيه، ولا إحسان، ولا برّ، ولا له صفاء يرى به الحق، بل هو جبار جاهل، لا علمَ له بالحق، ولا رحمةَ للخلق.
وبإزائه: قلبٌ ضعيفٌ مائيٌّ، لا قوّة فيه ولا استمساك، بل يقبل كلَّ صورة، وليس له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره، وكلّ ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف، وطيب خبيث.
وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته.
ولذلك النور مادّة، وهو زيت قد عُصِرَ من زيتونة في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أوّل النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت، وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح.
وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية، بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء، فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت بها اضاءته وقويت مادة ضوء النار به، كان ذلك نوراً على نور.
وهكذا المؤمن قلبه مضيئٌ، يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادةَ له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته؛ فازداد نوراً بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، {نور على نور}؛ فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه بأثر، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته؛ فيكون نوراً على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة.
فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة)ا.هـ.

- وقال رحمه الله في "اجتماع الجيوش الإسلامية": (وقوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح..} الآية.
هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره، وقد اختلف في تفسير الضمير في {نوره}:
فقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم أي: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: تفسيره المؤمن، أي: مثل نور المؤمن.
والصحيح أنه يعود على الله عز وجل، والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا مع ما تضمنه عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتمّ معنى ولفظاً.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد إذ هو محلّه وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل، ومحلّ وحامل ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلّها على وجه التفصيل.
فالفاعل: هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء، والقابل: العبد المؤمن، والمحلّ: قلبه، والحامل: همته وعزيمته وإرادته، والمادة: قوله وعمله.
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقرّ به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:
أحدهما: طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذاً وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمّتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامّة أمثال القرآن الكريم.
فتأمل صفة مشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادّته من أصفى الأدهان وأتمّها وقوداً من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به.
والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته.
وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله
تعالى ويغلظ على أعداء الله تعالى ويقوم بالحق لله تعالى، وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: القلوب آنية الله في أرضه وأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها.
والمصباح هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى، ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها، والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع " ما " فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه " أن " الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه " أمواج " الشبه الباطلة، والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات، فهي في صدره كما قال الله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.
فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائف بني آدم كلهم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال)ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 23 شعبان 1443هـ/26-03-2022م, 06:11 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الجواب عما روي عن ابن عباس في تخطئة كتاب المصاحف في هذه الآية
- قال شبل بن عبّادٍ، عن قيس بن سعدٍ، عن عطاءٍ عن ابن عبّاسٍ: {اللّه نور السماوات والأرض مثل نوره} قال: (هي خطأٌ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة قال: مثل نور المؤمن كمشكاةٍ). رواه ابن أبي حاتم
وهذا الإسناد رجاله ثقات، لكنّه غريب في جميع طبقات الإسناد، وعطاء هو ابن أبي رباح.
وقد روى يحيى بن سلام البصري من طريق: أشعث، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: ({اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره} لا مثل لنور اللّه، مثل نور المؤمن كمشكاةٍ).
لكن أشعث بن سعيد البصري متروك الحديث.
وقد رويت هذه القراءة من طرق متعددة عن أبيّ بن كعب، وهي من الأحرف التي تركت القراءة بها؛ فهي إما منسوخة، وإما متروكة بالجمع العثماني، وهذا لا إشكال فيه.
- قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هي في قراءة أبي بن كعب [مثل نور من آمن به] أو قال: [مثل من آمن به]. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام.
- وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا زكريا، عن عامر قال: (في قراءة لأبي بن كعب: [مثل نور المؤمن كمشكاة]).
عامر هو ابن شراحيل الشعبي.
- وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد أنه كان يقرؤها: [مثل نور المؤمن كمشكاة فيها مصباح].
وحجاج هو ابن محمد المصيصي.
ولعل مجاهداً إنما قرأها هكذا بالحرف الأول تفسيراً؛ لأن مجاهداً لم يكن ليخفى عليه إجماع الصحابة على ترك الإقراء بما خالف المصاحف العثمانية، وقد قرأ ابنُ كثير المكي على مجاهد ما يوافق قراءة العامة.

ولا ريب أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قد قرأ بالقراءة المشهورة [مثل نوره ] وأقرأ بها، وهذا ثابت عنه بإسناد القراءة التي قرأ بها ابن كثير المكي؛ فإنه كان يقرأها [ مثل نوره ] وقد أخذ القراءة عن مجاهد، ومجاهد أخذ القراءة عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب رضي الله عنهم.
وكون ابن عباس كان يقرأ بالحرف الأوّل لا إشكال فيه، فإنّ قراءته على أبيّ بن كعب كانت متقدّمة على الجمع العثماني.

وإنما المشكل تخطئة كتّاب المصاحف في القراءات الصحيحة المثبتة في رسم المصاحف العثمانية، ولهذا الأثر نظائر عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد أجيب عنها من وجوه:
أحدها: إنكار ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وإعلال الإسناد أو المتن، لأنّ العلم بصحّة القراءة المتواترة، وصحّة نسبتها إلى ابن عباس أقوى من هذا الإسناد، وهذا موقف أبي بكر ابن الأنباري.
وقد احتجّ ابن الأنباري بما صحّ عن ابن عباس من القراءة الموافقة للجماعة؛ فكيف يقرأ بما يراه خطأ؟!! أم كيف ينكر ما يقرأ به؟!!
والثاني: أنّ إنكار ابن عباس كان إنكار اختيار لا إنكار صحة، بمعنى أنه كان يرى القراءة بالحرف الأوّل أولى، لكن لما رأى اجتماع الناس على حرف صحيح صار إلى ما أجمعوا عليه، وهذا تقريب توجيه ابن أشتة.
والثالث: القول بأن الإنكار وقع من ابن عباس في أوّل الأمر ثم رجع إلى موافقة عامة القراء، وانتفى الخلاف، ورفع الإشكال.
والرابع: تجويز الخطأ على ابن عباس في إنكاره مع التماس العذر له، إذ ليس لأفراد الصحابة عصمة من الخطأ، وإنما العصمة لإجماعهم، وقد أجمعوا على صحة القراءة المشهورة، وثبت عن ابن عباس القراءة بها، فما خالف ذلك فلا عبرة به، مع جزمنا بأن ابن عباس إنما قال ذلك عن اجتهاد معتبر في ذلك الوقت.
والخامس: أن إنكار ابن عباس كان متوجهاً لمصحف واحدٍ، وغاب عنه أنه كذلك في جميع المصاحف العثمانية، فإنّ من نشأ على قراءة واعتادها ربما أنكر ما يخالفها إذا جاءه من طريق غير معروف، والمصحف الذي أنكره ابن عباس لا يُجزم أنه عين المصحف المكي الذي بعث به عثمان إلى أهل مكة، ووجود خطأ في آحاد المصاحف المستنسخة وارد.
والذي نجزم به أنه لو قيل لابن عباس عند ذلك أنها كذلك في جميع المصاحف العثمانية لما كان له أن ينكرها.
فهذه خمسة أوجه فيها كفاية في الجواب عن هذا الإشكال، وكلّها تؤول إلى أن ما كُتب في المصاحف صواب لا خطأ فيه، وأن ابن عباس رضي الله عنهما قد قرأ به، وما خالف ذلك فله أجوبة ترفع الإشكال بحمد الله.


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 23 شعبان 1443هـ/26-03-2022م, 11:14 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

● ذكر بعض ما تضمنته هذه الآية الكريمة من الفوائد السلوكية
في هذه الآية فوائد سلوكية جليلة منها:
1: تبصير المؤمن بأنّ كلّ نور حسّيّ ومعنوي في السموات والأرض فإنما هو من الله تعالى أمراً وتدبيراً أو خلقاً وتقديراً.
2: التنبيه إلى أنّ واهب النور أعظم نوراً، بل لو جمعت أنوار المخلوقات من أوّلها إلى آخرها ثمّ نُسبت إلى نوره لكانت نسبة ضعيفة لا تكاد تذكر، أو كما وصفها ابن القيم رحمه الله كنسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.
3: في الآية إخبار بما يملأ قلب المؤمن محبّة لله تعالى، وتعظيماً لشأنه، وتسليماً لحكمته في تدبيره وتقديره؛ فالله نور السموات والأرض الذي لولا نوره وتنويره لكان الكون في ظلام مطبق، وحيرة مهلكة، واضطراب مقلق، وكذلك نوره تعالى في قلب المؤمن يستنير بتوحيده وعبادته وذكره، ويكون له فرقان بين الحق والباطل، وتمييز بين الهدى والضلال.
4: التنبيه على ما يزداد به المؤمن نوراً، لأن ذلك النور وصف بصفات تطابق أحوال المؤمن ويقع فيها التفاضل؛ فذكر مثل مداد النور من شجرة الإخلاص، والإخلاص يتفاضل؛ وكذلك نور المصباح الذي هو مثل القرآن والإيمان في قلب المؤمن يتفاضل نوره بتفاضل الإيمان، والتبصّر ببصائر القرآن والاهتداء بهداه، وكذلك الزجاجة التي ضرب بها المثل في صفائها ورقّتها وصلابتها وهذه الأمور مما تتفاضل فيه القلوب كثيراً؛ فمن عقل هذا المثل عرف كيف يعظم نوره ويزداد، واجتهد في تعظيم نصيبه من ذلك النور.
5: بيان توافق أنوار الفطرة والوحي والعقل الرشيد وعدم تعارضها؛ فهي أنوار مصدرها من نور الله تعالى؛ فهو الذي فطر الناس على الدين الخالص، وخلق العقول التي تميز الصواب من الخطأ، وأنزل الوحي حاكماً على الناس ومبيّناً للهدى أتم بيان؛ فلا يمكن أن يقع بين هذه الأنوار تعارض، ومتى وجد تعارض واختلاف فهو لفساد في الفطرة أو خطأ في الفهم، أو أنّ الدليل المعارض به غير صحيح.
6: في الآية الجمع بين الشرع والقدَر، والردّ على الجبرية والقدرية، وذلك في قوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} فجعل الهداية إليه تعالى هو الذي يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، وفي ذلك ردّ على القدرية، ومقصد قوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس} أي ليعقلوها ويتّبعوا ما فيها من الهدى ردّ على الجبرية.
7: بيان إحكام الدين واطّراد قواعده وانتظامها وتناسبها، ولذلك صلحت لأن يضرب بها الأمثال المعروفة المنتظمة التي يبصرها الناس في عالمهم.

تمّ تفسير هذه الآية الجليلة، واللهَ أسأل العفو والقبول، والتوفيق لفهم كتابه، والاهتداء بهداه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:03 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir