التطبيق الأول: رسالة تفسيرية(أسلوب التقرير العلمي)
*تفسيرقولهتعالى: { سلامٌهيحتىمطلعالفجر }.(سورة القدر،5).
هذه هي الآية الخامسة والأخيرة من سورة القدر ، وهي سورة مكية ، موضوعهاالرئيسي هو الكلام عن ليلة القدر ، وهي الليلة الّتى تشرّفت بنزول القرآن الكريم كلّه فيهاإلى السماء الدنيا جملةً واحدة ، ثم تتابع نزوله مفصّلاً بحسب الوقائع والأحداث في ثلاثوعشرون سنة على رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، يتنزل به عليه الرسولالملكي الأمين جِبْرِيل عليه السلام وهو: (الروح) الذي جاء ذكره في هذه السورة: { تنزلالملائكةوالروحفيها } على أكثر الأقوال، حتى أن الطبري لم يورد غيره .
ليلةالقدر: كذا سُميت لعظم قدرها وفضلها عند الله تعالى، ولأن أقدار العباد وأرزاقهموآجالهم تقّدر فيها من العام إلى قابله .
وقد ورد في فضلها أحاديث عديدة تنوه على شرفها ومكانتها وعظم أجر وثواب إحيائهاحتى طلوع فجرها ، منها : عن أبي هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنهُ عنِ النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-أنَّه قال:(مَنيَقُمْليلةَالقَدْرِإيمانًاواحتسابًا،غُفِرَلهماتَقدَّمَمنذَنبِه). رواه البخاريُّ ومسلم.
وتأتي ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في أصح الأقوال فقد ورد عن عائشةَ -رضِيَ اللهُ عنها- قالتْ: كان رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- يُجاوِر في العَشْر الأواخِر منرمضانَ، ويقول: (تَحرُّواليلةَالقَدْرفيالعَشْرالأواخِرمنرمضانَ).رواه البخاريُّ ومسلم.
قولهتعالى:{سلامٌهِيّ} .
السلاملغةً: السلام مصدر ، أو اسم مصدر معناه السلامة ، قال عز من قائل :
{ قلناياناركونيبرداًوسلاماًعلىإبراهيم } ، ويطلق السلام على التحية والمدِحَة ،وفُسر بالخير، وكلا المعنيين حاصلين في هذه الآية ، وتنكير سلام يُرادُ به التعظيم ، وجاءتقديم المسند *سلام *على المسند إليه لإفادة ال ،أي الإختصاص والحصر ، أي: ماهيإلا سلام .
المعنى الاصطلاحي:: فيه قولان:
-القول الأول : هي ليلة سلامة ، لا شر فيها ولا آفة ولا أَذًى ، هي خير كلها فقد أورد جلالالدين بن عبد الرحمن السيوطي عن ابن عباس -رضي الله عنه- : "تلك الليلة تصفد مردة الشياطين ، وتُغلّ عفاريت الجنّ ، وتفتح أبواب السماء كلها ، ويقبل الله فيها التوبة لكلتائب؛ فلذلك : {سلامٌهي }".
ويُروى عن أبي بن كعب أنه قال : لا يستطيع الشيطان أن يُصيب فيها أحداً بخبلٍ أوضربٍ من ضروب الفساد ،ولا ينفذ فيها سحر ساحر .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه : ليلة القدر في العشر البواقي ، بركة كلها خير .
وقال مجاهد : -سالمة -لا يستطيع الشيطان أن يحدث فيها سوءاً أو أَذًى ، وعنه أيضاً : منكل أمرٍ سلام .
وقال قتادة وابن زيد : هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر ، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد.
وقال الطبري : سلام ليلة القدر من الشر كله إلى وقت طلوع فجر ليلتها.
وقال الضحاك : لا يقدر الله في تلك الليلة ولا يقضي إلا السلامة.
وقال ابن عطية : قال بعضهم : جعل { من كل أمر } متعلقٌ بقوله تعالى { سلامهي }؛ أيمن كل أمرٍ مخوف ينبغي أن يُسلم منه .
وقال السيوطي : لا يحل لكوكب أن يُرجم به فيها حتى يصبح .
القولالثانيفيمعنىقولهتعالى{ سلامٌهي} ؛ بمعنى التحية.
أورد البغوي عن عطاء قوله : يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته، وقال الشعبي : هي بمعنى التحية ، تسلّم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر ، وعنهأيضاً: تسلِّم الملائكة على المؤمنين؛ وفي قوله هذا أطلق وعمّ أهل الإيمان أينما كانوا، فلميرد ما يخصصّ التسليم للمصلين في المساجد ، بل جاء في الحديث الصحيح: ( منقامليلةالقدرإيماناًواحتساباً )، ولعلهم هم أهل الفضل في تلك الليلة العظيمة .
وقد جاء في الآية الرابعة من هذه السورة الكريمة ما يدل على دنوّ الملائكة وتنزلهم فيقوله تعالى : { تنزلالملائكةوالروحفيها } ، كما دلت عليه الأحاديث والآثار منها ما جاءفي الحديث الآخر عن أبي هُريرة -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال في ليلة القدر:(إنهاليلةسابعةأوتاسعةوعشرين،إنالملائكةتلكالليلةفيالأرضأكثرمنعددالحصى ).رواه الإمام أحمد .
وقال ابن رجب الحنبلي في ليلة القدر: تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطانالشياطين.
و بعد استعراض هذه الأقوال لأهل العلم و المفسرين ، يكون حمل المعنى المراد(بسلام) على القولين جميعاً هو الأولى والأصح ؛ وذلك لأن السلامة تشمل كل خير: سلامة من الشر والأذى ، فينتظم السلام والمغفرة وإجلال الثواب واستجابة الدعاء بخيريالدنيا والآخرة ، والسلام بمعنى التحية والقول الحسن والثناء من الملائكة على أهل ليلةالقدر كدأبهم مع أهل الجنة ، قال تعالى: { والملائكةيدخلون .....الآية.
وقبل أن أغادر هذا المعنى المقصود في رسالتى هذه، أشير إلى أن العلامة ابن عاشورفي تفسيره أورد معنىً ثالثاً لم يتعرض له غيره من المفسرين -فيما طالعت من تفاسير عندتتبعي لمعنى سلام - ؛ يقول رحمه الله :قد يكون المعنى خبرُ يُراد به الأمر، فيكون المصدربدلا من الفعل، والمعنى حينها هو : اجعلوها سلاماً بينكم فلا تنازعوا ولا تخاصموا ،ومضى يؤيد هذا المعنى بالإشارة إلى ماورد في الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامتقال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمينفقال: (خرجتلأخبركمبليلةالقدرفتلاحىفلانوفلانفرفعت،وعسىأنيكونخيرالكمفالتمسوهافيالتاسعةوالسابعةوالخامسة) رواه البخاري.
ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: { حتىمطلعالفجر} ؛أي جميع أجزاء تلك الليلةالعظيمة معمورة بنزول الملائكة والسلامة من كل شر والغنيمة من كل خير ، حتى يطلعفجرها.
وقد اختلف القُراء في قراءة مطلع؛ فقرأ عامة قُرّاء الأمصار: { مطلٓعالفجر } بفتح الّلام ، فيكون المعنى :سلام هي حتى طلوع الفجر، وقرأ يحيى بن وثاب، والكسائي، والأعمش:
{ مطلِعالفجر } بكسر الّلام ، فيراد عندها معنى الموضع الذي تطلع منه ، والمراد هنابالسياق هو الطلوع ، كذا قال الفراء ، وصوّب ابن جرير الطبري وغيره هذه القراءةلمناسبتها للسياق- كما ذكر الفراء- .
▫ المراجع
تفسير ابن عطية
تفسير الطبري
تفسير البغوي
تفسير السعدي
تفسير ابن عاشور
تفسير الأشقر