دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 07:12 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي بيان غلط المتكلمين في فهم معنى التوحيد

وَبِهَذَا وَغَيْرِه يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَلَطِ فِي مُسَمَّى "التَّوْحِيدِ " فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلاَمِ وَالنَّظَرِ - غَايَتُهمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلاَثَةَ أَنْوَاعٍ، فَيَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لاَ قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لاَ شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفَعَالِهِ لاَ شَرِيكَ لَهُ. وَأشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلاَلِةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَا، وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، حَتَّى قَدْ يَجْعَلُونَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةَ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا، بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا، وَهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ، وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ، كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنَّ هَؤُلاَءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قَُدْرَتِهمْ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُمْ خَالِقُوا أَفْعَالِهمْ.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالطَّبْعِ وَالنُّجُومِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُبْدِعَةً لِبَعْضِ الْأُمُورِ، فَهُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلاَتِ مَصْنُوعَةً مَخْلُوقَةً، لاَ يَقُولُونَ إِنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنِ الخَالِقِ، مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ.
فَإِمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَلِكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِرْعَوْنُ، وَالْكَلاَمُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ، فَإِذًا هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي قَرَّرُوهُ لاَ يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلاَءِ الْمُشْرِكُونَ، بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلاَمِ.
وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لاَ شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ مَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ سَوَاءً قَالَ: إِنَّهُ مُشَارِكُهُ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ لاَ فِعْلَ لَهُ، بَلْ مَنْ شَبَّهَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّمَا يُشَبِّهُهُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، يُشَارِكُهُ فِيمَا يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَمْتَنِعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعُلِمَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا فَلاَ بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، كَاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى "الْوُجُودِ" وَ "الْقِيَامِ" بِالنَّفْسِ وَ"الذَّاتِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ، وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ الجَهْمِيَّةَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهمْ أَدْرَجُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى "التَّوْحِيد"ِ، فَصَارَ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً، أَوْ إِنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، أَوْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ.
وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلاَةُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلاَسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى، وَقَالُوا: مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ.
وَزَادَ غُلاَةُ الْغُلاَةِ، وَقَالُوا: لاَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَلاَ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْبِيهًا لَهُ.
وَهَؤُلاَءِ كُلُّهمْ وَقَعُوا مِنْ جِنْسِ التَّشْبِيهِ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِهِمْ - بِزَعْمِهِمْ - لَهُ بِالْأَحْيَاءِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ لاَ تَثْبُتُ لَهُ عَلَى حَدِّ مَا يَثْبُتُ لِمَخْلُوقٍ أَصْلًا، وَهُوَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لاَ فِي ذَاتِهِ وَلاَ فِي صِفَاتِهِ وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ إِثْبَاتُ مُمَاثِلَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَصَارَ هَؤُلاَءِ الجهميَّةُ الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هَذَا تَوْحِيدًا، وَيَجْعَلُونَ مُقَابِلَ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ وَيُسَمُّونَ نُفُوسَهُمْ "الْمُوَحِّدِينَ".
وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّالِثُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هُوَ وَاحِدٌ لاَ قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ لاَ جُزْءَ لَهُ، أَوْ لاَ بَعْضَ لَهُ - لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَفَرَّقَ، أَوْ يَتَجَزَّأَ، أَوْ يَكُونَ قَدْ رُكِّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ لَكِنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَمُبَايَنَتِه لِخَلْقِهِ، وَامْتِيَازِهِ عَنْهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيهِ وَتَعْطِيلِهِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّوْحِيدِ.
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ "تَوْحِيدًا" فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُه حَقًّا، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّه لَمْ يَخْرُجُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَاتَلَهمْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لاَ بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بـ "الْإِلَهِ "هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّه مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ شَهِدَ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُه. بَلِ الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ فَهُوَ إِلَهٌ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ، لاَ إِلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ. وَالتَّوْحِيدُ أَنْ يَعْبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.


  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 04:08 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ
وبهذَا التَّقْريرِ عن أقسَامِ التَّوْحيدِ يَتبيَّنُ غَلَطُ عامَّةِ المتكلِّمينَ في مُسَمَّى التَّوْحيدِ حيثُ جعلوهُ ثلاثةَ أَنْوَاعٍ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ واحدٌ في ذاتِهِ لا قسيمَ لهُ، أوْ لا جُزْءَ لَهُ، أو لاَ بَعْضَ لهُ.
الثَّاني: أنَّهُ واحدٌ في صفاتِهِ لا شَبيهَ لَهُ.
الثَّالِثُ: أنَّهُ واحدٌ في أفعالِهِ لاَ شريكَ لَهُ.

وبيانُ غَلَطِهِمْ مِنْ وُجوهٍ:
أَحَدُهَا: أنَّهُمْ لمْ يُدخِلُوا فيهِ توحيدَ الأُلوهيَّةِ وهوَ أنَّ اللهَ تعالى واحدٌ في أُلوهيَّتِهِ لا شَريكَ لَهُ فيُفْرَدُ وَحدَهُ بالعِبادَةِ، معَ أنَّ هذَا النٍَّوْعَ منَ التَّوحيدِ هوَ الذي منْ أَجْلِهِ خَلَقَ الجِنَّ والإِنْسَ لقولِهِ تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ)([1]).
ومنْ أجْلِهِ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتِ الكُتُبُ لقولِهِ تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدُونِ)([2]). وقولِهِ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)([3]). وَقَدْ قامَ الرُّسُلُ عليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بذلكَ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)([4]). أيْ ما لَكُمْ مِنْ معبودٍ حقٍّ غيرِ اللهِ، فجميعُ الآلهةِ سِوَاهُ باطلةُ كمَا قالَ تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)([5]).

ومنْ أجْلِهِ قامت المعاركُ الكلاميَّةُ، والقتاليَّةُ بينَ الرُّسُلِ وأقوامِهِمُ المُكَذِّبِينَ لهُمْ كمَا قالَ اللهُ تعالى عنْ قومِ نوحٍ: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)([6]). وقالَ عنْ قومِ هودٍ: (قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ*إِنْ نَقُولُ إِلاَ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ)([7]). وقالَ في إبْراهِيمَ وقومِهِ: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ*أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ*قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ*قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)([8]). وقالَ عنِ المكذِّبينَ لمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)([9]). وقالَ: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ*أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ*وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)([10]). وقالَ في أعدائِهِ: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)([11]).
والمهمُّ أنَّ هذَا التَّوحيدَ الّذِي هذَا شَأْنُهُ قدْ أغفَلَهُ عامَّةُ المتكلِّمينَ الذينَ يَتكلَّمونَ في أنواعِ التَّوْحِيدِ، وهوَ أحدُ وجوهِ غَلَطِهِمْ في مُسَمَّى التَّوحِيدِ.

الوجْهُ الثَّاني: قولُهُمْ: "إنَّ اللهَ واحدٌ في ذاتِهِ لا قَسِمَ لَهُ.." إلخ فيهِ إِجْمالٌ:
فإنْ أرادُوا بهِ أنَّ اللهَ تعالى لا يَتجَزَّأُ، ولاَ يَتَفَرَّقُ، ولا يكونُ مركَّباً منْ أجزاءٍ فهذَا حقٌّ، فإنَّ اللهَ تعالى أحدٌ، صمدٌ، لم يلدْ، ولم يُوْلَدْ، ولمْ يكنْ لهُ كُفُواً أحَدٌ.
وإنْ أرادُوا بهِ معَ ذلكَ نفيَ ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ كعلوِّهِ، واستوائِهِ على عرِشِهِ، ووجْهِهِ، ويديْهِ ونحوِ ذلكَ وهذَا مرادُهُمْ – فهوَ باطلٌ، لأنَّ اللهَ تعالى قدْ أثبتَ لنفسِهِ منْ صِفاتِ الكمالِ منْ هذا وغيرِهِ مَا هوَ أهْلٌ لهُ.
وتوحيدُهُ فيهَا إثباتُهَا لهُ على الوجْهِ اللاَّئِقِ بهِ بدونِ تمثيلٍ، لا أن تُنْفى عنْهُ بنوعٍ منَ التَّحرِيفِ والتَّعْطيلِ.

الوجْهُ الثَّالِثُ: قولُهُمْ: "واحدٌ في صفاتِهِ لا شبيهَ لَهُ" فيه إجْمَالٌ:
فإنْ أرادُوا بهِ إثباتَ صفاتِ اللهِ تعالى على الوجْهِ اللاَّئقِ بهِ منْ غَيرِ أنْ يماثِلَهُ أحدٌ فيمَا يَخْتَصُّ بهِ فهذَا حقٌّ، وهوَ مذْهَبُ السَّلَفِ لكنَّ عامَّةَ المتكلِّمينَ لاَ يُريدونَ ذلكَ.
وإنْ أرادُوا بهِ نَفْيَ أنْ يكونَ شيءٌ منَ المخلوقاتِ مماثِلاً لهُ منْ كلِّ وجهٍ فهذَا لغْوٌ لاَ حاجَةَ إليْهِ فهوَ كقولِ القائِلِ: السماءُ فوقَنَا والأَرْضُ تحتَنا لأنَّ مماثَلةَ الخالِقِ للمخلوقِ منْ كُلِّ وجْهٍ معلومُ الانتفاءِ، بَل الامتناعِ بضرورةِ العقلِ، والسَّمْعِ، وإجْماعِ العُقَلاَءِ. ولهذَا لمْ يُثْبِتْ أحدٌ منَ الأممِ أحداً مماثِلاً للهِ تعالى مِنْ كلِّ وَجْهٍ، وغايةُ منْ شَبَّهَ بهِ شيْئاً أنْ يُشَبِّهَهُ بهِ في بعضِ الأمورِ.
وإنْ أرادُوا بهِ نَفْيَ أنْ يكونَ بينَ صفاتِ الخالقِ والمخلوقِ قَدْرٌ مشتركٌ معَ تَمَيُّزِ كلٍّ منهُمَا بِمَا يَخْتَصُّ بهِ – وهذَا مرادُهُمْ – فهوَ باطلٌ، لأنَّهُ قدْ عُلِمَ بضرورةِ العقْلِ أنَّ كلَّ موجوديْنِ قائميْنِ بأنفُسِهِمَا لا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بينَهُمَا معَ تَمَيُّزِ كلِّ واحدٍ منْهُمَا بمَا يَخْتَصُّ بِهِ، كاتِّفاقِهِمَا في مسمَّى الوجودِ، والذَّاتِ والقِيامِ بالنَّفْسِ ونحوِ ذلكَ، ونفيُ هذَا القدرِ تعطيلٌ مَحْضٌ.
والقولُ بهذَا المرادِ لا يَمنعُ نَفْيَ ما يَجِبُ للهِ تعالى منِ صِفاتِ الكمالِ عندَ منْ يَرى أنَّ إثباتَ ذلكَ يَستلزِمُ التَّشْبيهَ، فقدْ سَبَقَ أنَّ أهلَ التَّعْطِيلِ منَ الجَهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ وغيرِهِمْ أَدْخَلُوا نفيَ الصِّفاتِ في مُسَمَّى التَّوحِيدِ وقالُوا منْ أَثْبَتَ للهِ عِلْماً، أوْ قُدْرةً ونحوَ ذلكَ فَهُوَ مشبِّهٌ غيرُ موحِّدٍ، وزادَ عليْهِمْ غُلاةُ الفلاسِفةِ، والقرامطَةِ فأَدْخلُوا فيهِ نَفْيَ الأسماءِ وقالُوا: منْ قالَ إنَّ اللهَ عليمٌ قديرٌ ونحوَ ذلِكَ فهوَ مشبِّهٌ غيرُ موحِّدٍ، وزادَ عليهِمْ غلاةُ الغُلاَةِ فقالُوا: إنَّ اللهَ لا يُوْصَفُ بما يَتضمَّنُ إثباتاً أوْ نفْياً، فمنْ نَفَى عنْهُ صفةً، أوْ أَثْبَتَ لهُ صِفَةً فهوُ مشبِّهٌ غيرُ موحِّدٍ.
وقدْ سَبَقَ الردُّ على هؤلاءِ الطَّوائِفِ في أوَّلِ الرِّسالةِ وللهِ الحمْدُ.
الوجْهُ الرَّابِعِ: قولُهُمْ: "واحدٌ في أفْعَالِهِ لاَ شرِيكَ لَهُ" وهذَا أشهرُ أنواعِ التَّوحِيدِ عندَهُمْ، ويَعنونَ بهِ أنَّ خالقَ العالَمِ واحدٌ، ويَظنُّونَ أنَّ هذَا هوُ التَّوحِيدُ المَطْلوبُ وأنَّ هذَا معْنى "لا إلهَ إلا اللهُ" فيَجعلونَ معنَاهَا: لاَ قادِرَ على الاختراعِ إلا اللهُ.

ومعلومٌ أنَّ هذَا خطأٌ منْ وَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ هذَا الَّذي قَرَّرُوهُ قدْ أقرَّ بهِ المشركونَ الّذينَ قاتَلَهُمُ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّهُمْ لمْ يَجْعَلُوا للهِ شَريكاً في أفعالِهِ كما قالَ تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)([12]). (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ([13]) ومعَ هذَا لمْ يكونُوا موحِّدِينَ بلْ همْ مشرِكونَ بدَلالةِ الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإِجماعِ المعلومِ بالضَّرُورَةِ منْ دينِ الإِسلامِ، لكونِهِمْ أَنكرُوا توحيدَ الألوهيَّةِ وقالُوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)([14]). ولهذَا قاتَلَهُمُ النَّبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسْتَبيحاً دماءَهُمْ وأموالَهُمْ، وسَبَى ذَراريهِمْ ونساءَهِم.

الثَّاني: أنَّ تفسيرَهُمْ "لا إلهَ إلا اللهُ" بهذَا التَّفسيرِ الذي ذَكَرُوهُ أيْ أنَّهُ لا قادِرَ على الاختراعِ إلا اللهُ، يَقتضِي أنَّ منْ أَقَرَّ بأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ القادرُ على الاختراعِ دونَ غيرِهِ فقدْ شهدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وعَصَمَ دمَهُ ومالَهُ.

ومعلومٌ أنَّ تفسيرَهَا بهذَا المعنى باطلٌ مخالِفٌ لما عَرَفَهُ المسلمونَ منْها فإنَّ تَفْسِيرَهَا الصَّحيحَ: أنْ لاَ معْبُودَ حقٍّ إلا اللهُ هذَا هُوَ الّذِي يَعْرِفُهُ المسلمونَ منْ معناهَا، بلْ والمشركونَ ألاَ ترى إلى قولِ اللهِ تعالى فيهِم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَوَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)([15]). وكانُوا لاَ يَستكبرونَ عنِ الإِقرارِ بقلوبِهمْ وأَلْسنتِهِمْ بأنَّ اللهَ هوَ الخالقُ وَحدَهُ ولاَ يَدَّعونَ أنَّ آلهتَهُمْ تَخْلُقُ شيْئاً فَتبيَّنَ بذلكَ أنَّ المشرِكين أَعْلَمُ وأَفْقَهُ بمعنى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ من هؤلاءِ المتكلِّمين وأن غايةَ ما يُقرِّرُهُ هؤلاءِ المتكلِّمُونَ مِنَ التَّوْحِيدِ توحيدُ الرُّبوبيَّةِ الذِي لا يُخَلِّصُ الإِنسانَ منَ الشِّرْكِ، ولا يَعْصِمُ بهِ دمَهُ ومالَهُ، ولا يَسْلَمُ بهِ مِنَ الخُلودِ في النارِ.
وَقَدْ سَلَكَ هذَا المسلكَ طوائفُ منْ أهلِ التَّصَوُّفِ المُنتَسِبينَ إلى المعرفةِ والتَّحقيقِ والتَّوحيدِ، فكانَ غايةُ ما عندَهُمْ مِنَ التَّوحيدِ أنْ يَشْهَدَ المرءُ أنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ، ومليكُهُ، وخالِقُهُ لا سِيَّما إِذَا غَابَ العارِفُ بموجودِهِ عنْ وجودِهِ، وبمشهودِهِ عنْ شُهُودِهِ، وبمعروفِهِ عنْ مَعْرِفَتِهِ، ودَخَلَ في فَناءِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ بحيثُ يَفْنَى منْ لمْ يكنْ ويَبْقَى منْ لمْ يَزَلْ.
ومعلومٌ أنَّ هذِهِ الغايةَ هيَ مَا أَقَرَّ بهِ المشرِكونَ منَ التَّوحيدِ وهيَ غايةٌ لا يكونُ بهَا الرَّجُلُ مسْلِماً، فضْلاً عنْ أنْ يكونَ مِنْ أولياءِ اللهِ تعالى وسَادةِ خَلْقِهِ.

([1]) سورة الذاريات، الآية: 56.

([2]) سورة الأنبياء، الآية: 25.

([3]) سورة النحل، الآية: 36.

([4]) سورة المؤمنون، الآية: 32.

([5]) سورة لقمان، الآية: 32.

([6]) سورة هود، الآية: 32.

([7]) سورة هود، الآيتان: 53، 54.

([8]) سورة الأنبياء، الآيات: 66-69.

([9]) سورة الأنبياء، الآية: 36.

([10]) سورة ص، الآيات: 4-6.

([11]) سورة الممتحنة، الآية: 2.

([12]) سورة العنكبوت، الآية: 61.

([13]) سورة الزخرف، الآية: 87.

([14]) سورة ص، الآية: 5.

([15]) سورة الصافات، الآيتان: 35، 36.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 06:26 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُه:
وبهذا وغيرِه يُعرفُ ما وَقعَ من الغلَطِ في مُسمَّى (التوحيدِ)، فإن عامَّةَ المتكلِّمين الَّذِينَ يُقرِّرون التوحيدَ في كُتبِ الكلامِ والنظَرِ، غايتُهم أن يَجعلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ، فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له، وواحدٌ في أفعالِه لا شريكَ له، وأشهرُ الأنواعِ الثلاثةِ عندَهم هو الثالثُ، وهو توحيدُ الأفعالِ، وهو أن خالقَ العالَمِ واحدٌ وهم يَحتَجُّون على ذلك بما يذكرونه من دلالةِ التمانُعِ وغيرِها، ويظنُّون أن هذا هو التوحيدُ المطلوبُ، وأن هذا هو معنى قولِنا (لا إله إلا اللهُ) حتى يَجعلوا معنى الإلهيَّةِ القدرةَ على الاختراعِ. ومعلومٌ أن المشركين من العربِ الَّذِينَ بُعثَ إليهم محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلاً لم يكونوا يُخالفونه في هذا، بل كانوا يُقرِّون بأن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، حتى أنهم كانوا يُقرِّون بالقدَرِ أيضاً، وهم مع هذا مشرِكون.

فقد تبيَّنَ أن ليس في العالَمِ من يُنازعُ في أصْلِ هذا الشرْكِ ولكن غايةُ ما يُقالُ: إن مِن الناسِ مَن جَعلَ بعضَ الموجوداتِ خلْقاً لغيرِ اللهِ كالقدريَّةِ وغيرِهم، ولكن هؤلاءِ يُقرُّون بأن اللهَ خالقُ العِبادِ وخالقُ قدرتِهم وإنْ قالوا إنهم خالِقوا أفعالِهم - وكذلك أهلُ الفلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الَّذِينَ يَجعلون بعضَ المخلوقاتِ مبدِعةً لبعض الأمورِ، هم مع الإقرارِ بالصانعِ يَجعلون هذه الفاعلاتِ مصنوعةً مخلوقةً، ولا يقولون إنها غنيَّةٌ عن الخالقِ، مشارِكةٌ له في الخلْقِ. فأما من أَنكرَ الصانعَ، فذاك جاحدٌ معطِّلٌ للصانعِ، كالقولِ الذي أَظهرَه فرعونُ، والكلامُ الآنَ مع المشرِكين باللهِ، المقرِّين بوجودِه فإن هذا التوحيدَ الذي قرَّره لا يُنازعُهم فيه هؤلاءِ المشركون، بل يُقرُّون به مع أنهم مشرِكون، كما ثَبتَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، وكما عُلمَ بالاضطرارِ من دِينِ الإسلامِ.

وكذلك النوعُ الثاني، وهو قولُهم (لا شبيهَ له في صفاتِه) فإنه ليس في الأمَمِ من أَثبتَ قديماً مماثِلاً له في (ذاتِه سواءً) قالَ إنه يُشارِكُه، أو قالَ إنه لا فِعلَ له، بل من يُشبِّهُ به شيئاً من مخلوقاتِه فإنما يشبِّهُه به في بعضِ الأمورِ. وقد عُلمَ بالعقلِ امتناعُ أنْ يكونَ له مِثلٌ في المخلوقاتِ يُشارِكُه فيما يَجبُ، أو يَجوزُ، أو يَمتنعُ عليه، فإن ذلك يَستلزمُ الجمْعَ بينَ النقيضَيْن، كما تَقدَّمَ. وعُلِمَ أيضاً بالعقلِ أن كلَّ موجودَيْن قائمَيْن بأنفسِهما فلا بدَّ بينَهما من قدْرٍ مشترَكٍ، كاتِّفاقِهما في مُسمَّى الوجودِ، والقيامِ بالنفسِ، والذاتِ، ونحوِ ذلك، وأن نفيَ ذلك يَقتضي التعطيلَ المحضَ، وأنه لابدَّ من إثباتِ خصائصِ الربوبيَّةِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على ذلك.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ بما تَقدَّمَ من تقريرِ توحيدِ المرسَلين الذي هو دِينُ الإسلامِ بمعناه العامِّ وأن ضدَّه الشرْكُ: وهو اتِّخاذٌ مع اللهِ آلهةً أُخرى يتَّضحُ خطأُ من غلَطَ من أربابِ الكلامِ، وأهلِ التصوُّفِ الَّذِينَ جَعلوا الإقرارَ بربوبيَّةِ اللهِ الشاملةِ هو النهايةُ في التوحيدِ، وأن معنى كلمةِ الإخلاصِ: هو القادرُ على الاختراعِ. وقد استدَلُّوا على أن توحيدَ الربوبيَّةِ هو الغايةُ بدليلِ التمانُعِ المشهورِ، وهو أنه لو كان للعالَمِ صانعان فعندَ اختلافِهما مثلُ أن يريدَ أحدُهما تحريكَ جسْمٍ وآخَرُ تسكينَه، أو يريدَ أحدُهما إحياءَه والآخَرُ إماتَته: فإما أن يَحصُلَ مرادُهما، أو مرادُ أحدِهما، أو لا يَحصُلُ مرادُ واحدٍ منهما، والأوَّلُ: ممتنِعٌ لأنه يَستلزمُ الجمْعَ بينَ النقيضَيْن، والثالثُ: ممتنِعٌ لأنه يَستلزمُ خلوَّ الجسْمِ عن الحركةِ والسكونِ وهو ممتنِعٌ ويَستلزمُ أيضاً عجْزَ كلٍّ منها والعاجزُ لا يكونُ إلهاً، وإذا حصَلَ مرادُ أحدِهما دونَ الآخَرِ كان هو الإلَهَ القادرَ, والآخَرُ عاجزاً لا يَصلُحُ للإلهيَّةِ، ولا رَيْبَ أن هذا غلَطٌ واضحٌ واعتقادٌ فاسدٌ فإن معنى (لا إلهَ إلا اللهُ) لا معبودَ بحقٍّ سوى اللهِ سبحانَه، كما قالَ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقالَ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فأَجابوه ردًّا عليه بقولِهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. فالإلهُ هو بمعنى المأْلُوهِ المعبودِ الذي يَستحِقُّ العبادةَ، ليس الإلهُ بمعنى القادرِ على الخلْقِ كما يقولُ ذلك من يقولُه من الأشاعرةِ وغيرِهم، فلو أَقرَّ الإنسانُ بما يَستحقُّه الربُّ تعالى من الصفاتِ، ونزَّهَهُ عن كلِّ ما يُنَزَّهُ عنه، وأقرَّ بأنه وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ لم يكن موحِّداً حتى يَشهدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فيُقرَّ بأن اللهَ وحدَه هو الإلهُ المستحِقُّ للعبادةِ، ويَلتزِمُ بعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فإن مشرِكِي العربِ كانوا مقرِّين بأن اللهَ وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ ومع ذلك كانوا مشرِكين. وقد أَنكروا ما جاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوحيدِ، وما نَفاه من الشركاءِ فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} أي صيَّرَها إلهاً واحداً وقَصرَها على اللهِ سبحانَه وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي لأَمْرٌ بالغٌ في العَجبِ إلى الغايةِ، فهم إذاً أعلَمُ بمعنى كلمةِ الإخلاصِ من أربابِ الكلامِ والتصوُّفِ، كما كان المشرِكون يقِرُّون بمشيئةِ اللهِ النافذةِ وقدْرتِه التامَّةِ.

وبما سَبقَ يتَّضِحُ أنه ليس أحدٌ من طوائفِ بني آدمَ يُنازِعُ في أصْلِ الربوبيَّةِ على اعتبارِ وجودَيْن متماثلَيْن من كلِّ وجْهٍ، بل غايةُ ما يُقالُ: إن بعضَ الطوائفِ المشرِكةِ تَنسِبُ شيئاً من التأثيرِ لغيرِ اللهِ كما تقولُ القدَريَّةُ في أفعالِ العِبادِ بأنها مخلوقةٌ لهم وإن كانوا يقِرُّون أن اللهَ هو خالقُ العِبادِ وخالقُ قُدرتِهم على الفعْلِ، وكما تقولُ المجوسُ بأن الظلْمَةَ تَخلُقُ الشرَّ مع إقرارِهم أن اللهَ خالقُ الخيرِ ويُعبِّرون عنه بالنورِ، وكما تقولُ الفلاسفةُ بأن الكواكبَ السبْعَ والاثْنَي عشرَ بُرْجاً تُحدثُ أموراً من غيرِ إحداثِ اللهِ لها وكما تقولُ المنانيَّةُ بأزليَّةِ الطبائعِ الأربعِ، وأنها كانت بسائطَ غيرَ ممتزِجةٍ، ثم حدثَ الامتزاجُ بينَها فحدَثَ العالَمُ بامتزاجِها. وكثيرٌ من المشركين قد يَظنُّ في آلهتِه شيئاً من نفْعٍ أو ضُرٍّ، بدون أن يَخلُقَ اللهُ ذلك، فهؤلاءِ جميعاً مشركون في الربوبيَّةِ بهذا الاعتبارِ مع اعتقادِ جميعِ هذه الطوائفِ أن العالَمَ بأسرِه مخلوقٌ مربوبٌ للكبيرِ المتعالِ، غيرَ أن هناك من يَجحدُ ربوبيَّةَ اللهِ سبحانَه عِنادًا وتَجاهُلاً كفرعونَ فهو أشهرُ من عُرِفَ تَجاهلُه وتَظاهرُه بإنكارِ الصانعِ وقد كان مستَيْقناً به في الباطنِ، كما قالَ موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وقالَ تعالى عنه وعن قومِه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} وما يُقِرُّ به هؤلاءِ النُّظَّارُ لا يُنازعُهم فيه المشركون الَّذِينَ بُعثَ إليهم الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم يَدْعون آلهتَهم كما يَدْعون اللهَ، ويَسجدون، ويَنسُكون لها، ويَتقرَّبون إليها، ثم يقولون: إن هذا ليس بشرْكٍ، وإنما الشرْكُ إذا اعتقدْنا أنها هي المدبِّرةُ لنا فإذا جَعلناها سبباً وواسِطةً لم نكن مشركين، ولكن الكلامَ هنا مع المقرِّين باللهِ مع اتِّخاذِهم آلهةً أُخْرَى، فهم إذاً مقرِّون بأن اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه ومع هذا فهُمْ غيرُ موحِّدين بل هم كفَّارٌ مشرِكون، كما هو معلومٌ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ. وقد دَلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ وإجماعُ الأمَّةِ، وقد سَبقَ الشيءُ الكثيرُ من الآياتِ والأحاديثِ المصرِّحةِ بذلك.

وقولُه: غايتُهم أن يَجعلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له، وواحدٌ في أفعالِه لا شريكَ له، معناه: أن هؤلاءِ المتكلِّمين يُقسِّمون التوحيدَ في عرفِهم إلى ثلاثةِ أقسامٍ: أشهرُها عندَهم توحيدُ اللهِ بأفعالِه، ويعبِّرون عنها بهذه العباراتِ المجملَةِ.
فقولُهم واحدٌ إن أرادوا به ما أرادَه اللهُ ورسولُه في قولِه تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} - وقولِه - {وَهُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ونحوِ ذلك فهذا حقٌّ، وإن أَرادوا بالواحدِ ما تريدُه الجهْمِيَّةُ نُفاةُ الصفاتِ من أنه ذاتٌ مجرَّدةٌ عن الصفاتِ فهذا باطلٌ، فإنهم يُدرِجون في هذا نفْيَ عُلوِّه على خلقِه، واستوائِه على عرشِه، ونفْيَ ما يَنفونَه من صفاتِه، ويقولون إن إثباتَ ذلك يَقتضي أن يكونَ مرَكبًّا مُنقسِماً. ومن المعلومِ أن من لا صفةَ له فلا حقيقةَ له في الخارجِ وإنما يُقدَّرُ في الأذهانِ لا في الأعيانِ.

وقولُهم: (واحدٌ في صفاتِه لا شبيهَ له) إن أَرادوا بذلك أنه سبحانَه مُسمًّى بالأسماءِ الحُسنى ومتَّصِفٌ بالصفاتِ الكاملةِ العُليا التي لا يُماثلُه فيها أحدٌ، فهذا حقٌّ، وقد عُلمِ بالضرورةِ أنه ليس هناك أحدٌ من بني آدمَ اعتَقدَ وجودَ إلهٍ قديمٍ مماثلٍ لربِّ العالمين في ذاتِه، سواءً كان المعتقِدُ لوجودِ إلهٍ آخَرَ يَنسبُ إليه نوعَ شِركةٍ مع اللهِ في أفعالِه، أو كان يَعتقدُ أن إلهَه ليس له شيءٌ من التدبيرِ، بل غايةُ ما يُقالُ إن من شبَّهَ به أحداً من خلقِه فإنما يُشبَّهُ به في شيءٍ دونَ شيءٍ، وأما إن أرادَ القائلُ المعنى الباطلَ من أنه سبحانَه غيرُ مستوٍ على عرشِه ولا يَنزلُ إلى السماءِ الدنيا، ولا يَجيءُ لفصْلِ القضاءِ يومَ القيامةِ، ولا يَفعلُ ما يريدُ إلى غيرِ ذلك فهو مُلحِدٌ ضالٌّ. ومما هو معلومٌ بصريحِ العقلِ الموافقِ لصحيحِ النقلِ أن اللهَ تباركَ وتعالى ليس كمثلِه شيءٌ لا في ذاتِه، ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، بل ذلك ممتنِع؛ فإنه يَلزمُ منه أن يَجوزَ على مثيلِه ما يَجوزُ عليه، ويَجبُ له ما يَجبُ له، ويَمتنِعُ عليه ما يَمتنِعُ عليه. وهذا جمْعٌ بين النقيضَيْن؛ لأنه يكونُ كلٌّ منهما واجبَ الوجودِ، ليس بواجبِ الوجودِ، خالقاً ليس بخالقٍ، قديماً ليس بقديمٍ إلى غيرِ ذلك، وقد سَبقَت الإشارةُ إلى هذا في آخِرِ القاعدةِ السادسةِ، كما سَبقَ أيضاً القولُ بأن كلَّ موجودَيْن فلابدَّ أن يكونَ بينَهما قدْرٌ مشترَكٌ يشتركان فيه كمدلولِ الوجودِ ومدلولِ القيامِ بالنفْسِ والذاتِ والعلْمِ والقدْرةِ، ونحوِ ذلك من المعاني العامَّةِ المشترَكةِ ويَختلفان في أن لكلٍّ منهما ما يُضافُ إليه ويَليقُ به، فالخالقُ وإن اتَّفقَ مع المخلوقِ في أن كلاّ منهما متَّصِفٌ بالصفاتِ إلا أنهما يَختلفان في أن لكلٍّ منهما ما يُناسبُه. أما اتِّصافُ كلٍّ منهما بالصفاتِ فليس فيه مماثلَةٌ بينَهما. وللهِ خصائصُه التي اختُصَّ بها وللمخلوقِ خصائصُه التي اختُصَّ بها فمن ادَّعى مشاركةَ المخلوقِ للخالقِ في شيءٍ من خصائصِه فهو المشَبِّهُ الممثِّلُ، والنوعُ الثالثُ سيأتي الكلامُ عليه في محلِّه قريباً.

قولُه:
ثم إنَّ الجهْمِيَّةَ من المعتزِلةِ وغيرِهم أَدْرَجُوا نفْيَ الصفاتِ في مُسمَّى ذلك، فصارَ من قالَ: إن للهِ علْماً أو قدْرةً، أو إنَّه يَرى، أو إنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ, يقولون إنه مشَبِّهٌ ليس بموحِّدٍ. وزادَ عليهم غُلاةُ الفلاسفةِ والقرامطةِ. فنَفَوْا أسماءَه الحُسْنَى، وقالوا: من قالَ إن اللهَ عليمٌ قديرٌ، عزيزٌ حكيمٌ، فهو مشَبِّهٌ ليس بموحِّدٍ، وزادَ عليهم غُلاةُ القرامطةِ وقالوا: لا يُوصفُ بالنفْيِ ولا بالإثباتِ، لأن في كلٍّ منهما تشبيهاً له. وهؤلاءِ كلُّهم وقَعُوا في جنسِ تشبيهٍ، هو شرٌّ مما فَرُّوا منه؛ فإنهم شبَّهُوه بالممتنِعاتِ والمعدوماتِ والجماداتِ، فِراراً من تشبيهِهم إيَّاهُ بزعمِهم بالأحياءِ. ومعلومٌ أن هذه الصفاتِ الثابتةَ للهِ لا تَثبُتُ له على حدِّ ما تَثبتُ لمخلوقٍ أصْلاً وهو سبحانَه ليس كمثلِه شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، فلا فرْقَ بينَ إثباتِ الذاتِ وإثباتِ الصفاتِ، فإذا لم يكنْ في إثباتِ الذاتِ إثباتُ مماثلَةِ الذواتِ لذاتِه لم يكنْ في إثباتِ الصفاتِ مماثلَةٌ في ذلك. فصارَ هؤلاءِ الجهْمِيَّةُ المعطِّلةُ يَجعلون هذا توحيداً، ويَجعلون مقابلَ ذلك التشبيهَ ويُسمُّون أنفسَهم الموحِّدين.


الشرْحُ:
يعني أن المعتزِلةَ وأشباهَهم من أهلِ التجَهُّمِ يُدخلون نفْيَ أسماءِ اللهِ وصفاتِه في مدلولِ التوحيدِ عندَهم، فيقولون من أَثبتَ للهِ سمْعاً، أو بصَراً، أو عِزَّةً، أو حكْمَةً، أو علْماً، أو قدرَةً، أو قالَ بأن المؤمنين يَرَوْنَه سبحانَه في الآخِرَةِ عِيَاناً بأبصارِهم، من أَثبتَ ذلك ونحوَه فهو عندَهم مشَبِّهٌ مجسِّمٌ، وقد تَبِعَهم في ذلك الفلاسفةُ والقرامطةُ بل زادوا على المعتزِلةِ في عدَمِ إثباتِ الاسمِ ولو كان غيرَ دالٍّ على صفةٍ وزادوا على بعضِ الجهْمِيَّةِ في إثباتِهم الاسمَ مَجازاً. وزادَ عليهم غُلاتُهم فقالوا من وَصفَ اللهَ بالإثباتِ فهو مشَبِّهٌ ومن وَصفَه بالنفيِ فهو مشَبِّهٌ. وهؤلاءِ جميعاً قد فَرُّوا من التشبيهِ على زعمِهم بالحيِّ المتَّصِفِ بأوصافِ الكمالِ فوَقَعوا في شرٍّ مما فَرُّوا منه؛ حيث شبَّهوه بالجمادِ أو المعدومِ أو الممتنِعِ. ومن المعلومِ أن اللهَ جلَّ وعلا متَّصِفٌ بما له من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ على وجهٍ لا يماثِلُ فيه أحـداً من خلقِه البتَّةَ؛ إذ هو سبحانَه الكاملُ في ذاتِه وصفاتِه {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وثبوتُ الصفاتِ هو فرْعُ ثبوتِ الذاتِ، فكما أن الذاتَ المقدَّسةَ ثابتةٌ بحقيقةِ الإثباتِ، فالأسماءُ الحسْنى والصفاتُ العُلى ثابتةٌ بحقيقةِ الإثباتِ، وليست الصفةُ كالصفةِ، كما أن الموصوفَ ليس مثلَ الموصوفِ. وهؤلاءِ النُّفاةُ قد زَعموا أن نفيَهم للصفاتِ هو تنزيهُ اللهِ عن النقْصِ وسَمُّوا أنفسَهم بالموحِّدين، وفي واقعِ الأمْرِ أنهم هم المعطِّلون الجاحِدون المشَبِّهون، وليس فيما وَصفَ اللهُ به نفسَه أو وَصفَه به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشبيهٌ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رحِمَه اللهُ في (الفقهِ الأكبرِ) (لا يُشْبِهُ شيئاً من خلقِه ولا يُشْبِهُه شيءٌ من خلقِه) ثم قالَ بعدَ ذلك (وصفاتُه كلُّها خلافُ صفاتِ المخلوقِين. يَعلمُ لا كعِلمِنا، ويَقدرُ لا كقدْرتِنا، ويَرى لا كرؤيتِنا)، وهكذا قولُ سائرِ الأئمَّةِ، كنُعيمِ بنِ حمَّادٍ، والشافعيِّ، وقد سَبقَ ذِكرُ نموذجٍ من ذلك، فسلَفُ الأمَّةِ وأئمَّةُ السنَّةِ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ هم وَرثةُ الرسُلِ وهم الموحِّدون، أما الجعْدِيُّون والواصِلِيُّون وأضرابُهم فهم الملحِدون المعطِّلون.

وقولُه عن النُّفاةِ الَّذِينَ يَصِفون من قالَ إن القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، بأنه مشَبِّهٌ معناه أن الجهْمِيَّةَ من المعتزِلةِ وإخوانِهم يقولون بأن كلامَ اللهِ مخلوقٌ غيرُ منَزَّلٍ، ويَستدِلُّون على ذلك بمِثلِ قولِه تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ويُدخلون كلامَ اللهِ في عمومِ كلِّ. وقد غَلَطوا غلَطاً فاحِشاً، وضلُّوا ضَلالاً مُبِيناً، فإن القرآنَ الكريمَ هو كلامُ اللهِ. وكلامُه من صفاتِه، وصفاتُه داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه كعلْمِه وقدْرتِه وحياتِه وسمْعِه وبصرِه ووجهِه، وحينئذٍ فطَرْدُ باطلِهم أن تكونَ جميعُ صفاتِه تعالى مخلوقةً كالعلْمِ والقدرَةِ والحياةِ وسائرِ الصفاتِ، ذلك صريحُ الكفرِ فإن علْمَه شيءٌ، وقدرتَه شيءٌ، وحياتَه شيءٌ، فيَدخلُ ذلك في عمومِ (كلِّ) فيكونُ مخلوقاً - تعالى اللهُ عمَّا يقولون عُلوًّا كبيراً - ولو صحَّ أن يُوصفَ أحدٌ بصفةٍ قامت بغيرِه لصحَّ أن يُقالَ للبصيرِ أَعمى وللأعمى بصيرٌ؛ لأن البصيرَ قد قامَ وصْفُ العمى بغيرِه، والأعمى قد قامَ وصْفُ البصرِ بغيرِه؛ إذا عُرفَ هذا فعمومُ (كلِّ) في كلِّ موضعٍ بحسْبِه، ويُعرفُ ذلك بالقرائنِ. ألا تَرى إلى قولِه تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} فمساكنُهم شيءٌ، ولم تَدخلْ في عمومِ كلِّ شيءٍ دمَّرَتْه الريحُ؛ وذلك لأن المرادَ في الآيةِ كلُّ شيءٍ يَقبلُ التدميرَ بالريحِ عادةً واستحَقَّ التدميرَ، وكذا قولُه تعالى حكايةً عن بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شِيْءٍ}، فإن المرادَ من كلِّ شيءٍ يَحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيْدُ يُفهمُ من قرائنِ الكلامِ؛ إذ مُرادُ الهدهدِ أنها ملِكَةٌ كاملةٌ في أمْرِ المُلْكِ غيرُ محتاجَةٍ إلى ما يَكمُلُ به أمْرُ مُلكِها، ونظائرُ هذا كثيرةٌ، فالمرادُ من قولِه تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كلُّ شيءٍ مخلوقٍ، وكلُّ موجودٍ سِوى اللهِ فهو مخلوقٌ ولم يَدخلْ في العمومِ (الخالقُ تعالى) وهو سبحانَه موصوفٌ بأوصافِ الكمالِ، وصفاتُه ملازِمةٌ لذاتِه المقدَّسةِ. وشيخُ المعتزِلةِ الجهْمِيَّةِ: الجعْدُ بنُ دِرْهَمٍ وتلميذُه الجَهْمُ بنُ صفوانَ هما أوَّلُ من نُقلَ عنه هذا الرأيُ الزائغُ الفاسدُ، قالَ الشيخُ: (والناسُ يَقرأُون القرآنَ بأصواتِهم ويَكتبونه بِمِدادِهم، وما بينَ اللوحَيْن كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدادُ الذي يُكتبُ به القرآنُ مخلوقٌ، والصوتُ الذي يُقرأُ به صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الذي يَقْرَؤه الخلْقُ كلامُ الباري والصوتُ صوتُ القاري).

قولُه:
وكذلك النوعُ الثالثُ، وهو قولُهم: هو واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه أو لا جزءَ له أو لا بعضَ له لفظٌ مجمَلٌ؛ فإن اللهَ سبحانَه أحدٌ صمَدٌ، لم يلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكن له كُفْواً أحدٌ، فيمتنِعُ عليه أن يَتفرَّقَ، أو يَتحيِّزَ، أو يكونَ قد رُكِّبَ من أجزاءٍ، لكنهم يريدون من هذا اللفظِ نفيَ عُلوِّه على عرشِه، ومباينتِه لخلقِه، وامتيازِه عنهم، ونحوَ ذلك من المعاني المستلزِمةِ لنفيِه وتعطيلِه، ويَجعلون ذلك من التوحيدِ، فقد تبيَّنَ أن ما يُسمُّونه (توحيداً) فيه ما هو حقٌّ، وفيه ما هو باطلٌ، ولو كان جميعُه حقًّا، فإن المشركين إذا أَقرُّوا بذلك كلِّه لم يَخرجوا من الشرْكِ الذي وَصفَهم اللهُ به في القرآنِ. وقاتَلَهم عليه الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لابدَّ أن يؤمنوا بأنه لا إلهَ إلا اللهُ، وليس المرادُ (بالإله) هو القادرُ على الاختراعِ - كما ظنَّه مَن ظنَّه مِن أئمَّةِ المتكلِّمين - حيث ظنَّ أن الإلهيَّةَ هي القدرةُ على الاختراعِ وأن من أَقرَّ بأن اللهَ هو القادرُ على الاختراعِ دونَ غيرِه، فقد شهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإن المشركين كانوا يُقرُّون بهذا وهم مشرِكون، كما تقدَّمَ بيانُه بل (الإلهُ) الحقُّ هو الذي يستحِقُّ أن يُعبدَ، فهو إلهٌ بمعنى (مألوهٌ) لا بمعنى (آلِهٌ) والتوحيدُ أن تَعبدَ اللهَ وحدَه لا شريكَ له، والإشراكُ أن تَجعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ.

الشرْحُ:
يعني أن النوعَ الثالثَ من أنواعِ التوحيدِ عندَ أربابِ الكلامِ والتصوُّفِ هو قولُهم: إن اللهَ واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له ولا جُزءَ له ولا بعضَ له، وهذا كلامٌ مُجمَلٌ مشتمِلٌ على حقٍّ وباطلٍ؛ فقد يُرادُ به معنًى صحيحٌ كما إذا قُصدَ به أن الله سبحانَه لا يَجوزُ عليه أن يتفرَّقَ بل هو أحدٌ صمَدٌ، وقد يُرادُ به نفيُ صفاتِه؛ وحينئذٍ فهُمْ إنما يَقصِدون تعطيلَ حقائقِ أسمائِه وصفاتِه التي هي من لوازمِ ذاتِه المقدَّسةِ زاعمين أن ذلك من التوحيدِ. وبما ذُكرَ يَنكشفُ زَيْغُهم ويتَّضِحُ باطلُهم؛ فإن هذه المعاني التي تَتناولُها عباراتُهم فيها ما يُوافقُ ما جاءَ به الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيها ما يُخالفُه. وليس الحقُّ الذي فيها هو الغايةُ التي جاءَ بها الرسولُ بل التوحيدُ الذي جاءَ به أمْرٌ يَتضمَّنُ الحقَّ الذي في هذا الكلامِ، وزيادةً أُخرى. ومقالتُهم هذه هي الكلامُ الذي لُبِسَ فيه الحقُّ بالباطلِ فلو أَقرَّ الإنسانُ بما يَستحقُّه الربُّ تعالى من الصفاتِ، ونزَّهَهُ عن كلِّ ما تَنزَّهَ عنه، وأقَرَّ بأنه وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ لم يكن موحِّداً حتى يقرَّ بأن اللهَ وحدَه هو الإلهُ المستحِقُّ للعبادةِ.

والإلهُ بمعنى المأْلُوهِ المعبودِ الذي يَستحقُّ العبادةَ ليس هو الإلهُ بمعنى القادرِ على الخلقِ. قالَ ابنُ جريرٍ: (الله أصلُه الألاه أُسقِطت الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ فالتَقَت اللامُ التي هي عينُ الاسمِ واللامُ الزائدةُ وهي الساكنةُ فأُدغِمَت في الأُخرى فصارتا في اللفظِ لاماً واحدةً مشدَّدةً. وأما تأويلُ (الله) فإنه على معنى ما رُويَ لنا عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (هو الذي يُأَلِّهُهُ كلُّ شيءٍ ويعبُدُه كلُّ خلْقٍ. وساقَ بسندِه عن الضَّحَّاكِ عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ قالَ: اللهُ ذو الألوهيَّةِ والعبوديَّةِ على خلقِه أجمعين) انتهى. فالإلهُ هو الذي تأْلَهُهُ القلوبُ عبادةً واستعانةً ومحبَّةً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً وإجْلالاً. وللهِ عزَّ وجلَّ حقٌّ لا يُشركُه فيه غيرُه، فلا يُعبدُ إلا اللهُ ولا يُدعى إلا اللهُ ولا يُخافُ إلا اللهُ، ولا يُطاعُ إلا اللهُ، وأوَّلُ ذلك أن لا تَجعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ, فلا تُحِبُّ مخلوقاً كما تُحبُّ اللهَ، ولا تَرجوه كما تَرجو اللهَ، ولا تَخشاه كما تَخشى اللهَ. ومن سَوَّى بينَ المخلوقِ والخالقِ في شيءٍ من ذلك فهو من الَّذِينَ بربِّهم يَعدِلون، وقد جَعلَ مع اللهِ إلهاً آخَرَ وإن كان مع ذلك يَعتقدُ أن اللهَ وحدَه خلَقَ السمواتِ والأرضَ، فإن مشركي العربِ كانوا مُقرِّين بأن اللهَ وحدَه خلَقَ السمواتِ والأرضَ وكانوا مع ذلك مشرِكين يَجعلون مع اللهِ آلهةً أُخْرَى، وقد سَبقَ ذكْرُ جملةٍ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلك، فتبيَّنَ أنَّ جَعْلَ هذا التوحيدِ الذي يُقرُّ به المتكلِّمون هو الغايةُ لا يُخرِجُهم عن الشرْكِ، فقد كان المشركون يُقرُّون به ومع ذلك وصفَهم اللهُ بالشرْكِ، وقاتَلَهم الرسولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتوحيدُ الذي بَعثَ اللهُ به رسُلَه وأَنزلَ به كُتبَه هو أن يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وضِدُّه الشرْكُ وهو أن يَتَّخِذَ مع اللهِ آلهةً أخرى.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 06:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


ذِكْرُ طوائفَ انْحَرَفَتْ في تقريرِ التوحيدِ.

أوَّلاً: التوحيدُ عندَ المُتَكَلِّمينَ.
قولُه: ( وبهذا وغيرِه يُعْرَفُ ما وَقَعَ من الغَلَطِ في مُسَمَّى" التوحيدِ"؛فإنَّ عامَّةَ المُتَكَلِّمينَ الذين يُقَدِّرُونَ التوحيدَ في كُتُبِ الكلامِ والنظَرِ غايتُهمأن يَجْعَلوا التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ، فيقولون: هو واحدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحدٌ في صفاتِه لا شَبيهَ له،وواحدٌ في أفعالِه لا شَريكَ له.

وأَشْهَرُ الأنواعِ الثلاثةِ عندَهم هو الثالثُ، وهو توحيدُ الأفعالِ، وهو أنَّ خالِقَ العالَمِ واحدٌ، وهم يَحْتَجُّونَ على ذلك بما يَذْكُرونه من دَلالةِ التمانُعِ وغيرِها، ويَظُنُّونَ أنَّ هذا هو التوحيدُ المطلوبُ، وأنَّ هذا هو معنى قولِنا:" لا إلهَ إلا اللهُ".حتى قد يَجْعَلُون معنى الإلهيَّةِ القُدْرةَ على الاختراعِ).

التوضيحُ

غايةُ أهلِ الكلامِ الْمُقَرِّرِينَ للتوحيدِ أنهم يَجْعَلُون التوحيدَ ثلاثةَ أنواعٍ،وهي:
(توحيدُ الذاتِ) وهو أنه واحدٌ في ذاتِه،لا قَسيمَ له.
(توحيدُ الصِّفاتِ) وهو أنه واحدٌ في صِفاتِه،لا شَبيهَ له.
(توحيدُ الأفعالِ) وهو أنه واحدٌ في أفعالِه،لا شَريكَ له.
وأَشْهَرُ الأنواعِ عندَهم هو توحيدُ الأفعالِ، أي:أنَّ خالِقَ العالَمِ واحدٌ،ويَحْتَجُّون له بدليلِ التمانُعِ،ويَظُنُّونَ أنه المطلوبُ،وأنه معنى " لا إلهَ إلا اللهُ"، ويَجعلون معنى الإلهيَّةِ القُدْرةَ على الاختراعِ.
ومعنى دليلِ التمانُعِ عندَهم:
استحالةُ وجودِ خالِقَيْنَ متكافِئَيْنِ،وذلك لو فَرَضْنَا أنَّ هناك جِسْمًا،وأَرادَ أحدُهما تَسْكِينَه والآخَرُ تحريكَه في وقتٍ واحدٍ فلا يَخْلُو الحالُ من أحدِ ثلاثةِ أمُورٍ:

أن يَحْصُلَ مُرادُهما معًا: وهذا مُحالٌ؛لأنه جَمَعَ بينَ النَّقِيضَيْنِ.

أن لا يَحْصُلَ مرادُهما، وهذا مُحالٌ؛لأنه خُلُوٌّ عن النقيضينِ،ولأنه يُؤَدِّي إلى عَجْزِهما وعَدَمِ كونِهما إِلَهًا.

أن يَحْصُلَ مرادُ أحدِهما فيَصيرُ الثاني عاجزًا،فلا يكونُ إلَهًا، فثَبَتَ أنَّ الإلهَ واحدٌ.

ويَستَدِلُّون عليه بقولِه تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا} فهم يَغْلَطُون من وَجْهَيْنِ:
أنهم يَظُنُّون أنَّ هذا غايةُ التوحيدِ مع إهمالِهم لتوحيدِ الأُلُوهِيَّةِ الذي جاءتْ به الرسُلُ.
وأنهم يَستَدِلُّونَ بالآيةِ السابقةِ ( على الربوبيَّةِ ) مع أنها في تقريرِ الأُلوهيَّةِ فإنها ذَكَرَت السماواتِ والأرضَ،فكانت موجودةً مَخلوقةً،وقد قالَ: { لَفَسَدَتَا } وهذا الفَسادُ بعدَ الوجودِ، والتمانُعُ يَمْنَعُ وُجودَ المفعولِ،ولا يُوجِبُ فَسادَه بعدَ وُجودِه، وقالَ أيضًا:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ } ولم يَقُلْ أَرْبَابًا فدَلَّ على أنَّ الْمُرادَ بالآيةِ الإلهُ المعبودُ،لا الربُّ الخالِقُ، والمعنى لو كان في السماواتِ والأرضِ إلهٌ مَعبودٌ إلا اللهُ لَفَسَدَ نِظامُ العالَمِ؛لأنه قامَ بالعَدْلِ،والشرْكُ أظْلَمُ الظلْمِ.

بيانُ غَلَطِ المُتَكَلِّمينَ

أوَّلاً: غَلَطُهُم في توحيدِ الأفعالِ
قولُه: ( ومَعلومٌ أنَّ الْمُشركينَ من العَرَبِ الذين بُعِثَ إليهم مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلاً لم يكونوا يُخالِفُونَه في هذا، بل كانوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، حتى إنهم كانوا يُقِرُّونَ بالقَدَرِ أيضًا، وهم مع هذا مُشرِكونَ.
فقد تَبَيَّنَ أن ليس في العالَمِ مَن يُنَازِعُ في أصْلِ هذا الشِّرْكِ، ولكنَّ غايةَ ما يُقالُ: إنَّ من الناسِ مَن جَعَلَ بعضَ الموجوداتِ خَلْقًا لغيرِ اللهِ كالقَدَرِيَّةِ وغيرِهم، لكنَّ هؤلاءِ يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالقُ العِبادِ وخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ، وإن قالوا: إنهم خالِقُو أفعالِهم.

وكذلك أهْلُ الفَلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الذين يَجعلونَ بعضَ المخلوقاتِ مُبْدِعَةً لبعضِ الأمورِ، هم مع الإقرارِ بالصانِعِ يَجعلون هذه الفاعلاتِ مَصنوعةً مَخلوقةً،لا يقولون إنها غَنِيَّةٌ عن الخالِقِ،مشارِكةٌ له في الخلْقِ. فأمَّا مَن أَنْكَرَ الصانِعَ فذاك جاحِدٌ مُعَطِّلٌ للصانِعِ كالقولِ الذي أظْهَرَه فرْعَوْنُ.

والكلامُ الآنَ مع الْمُشرِكِينَ باللهِ،الْمُقِرِّينَ بوجودِه، فإذا هذا التوحيدُ الذي قَرَّرُوه لا يُنازِعُهم فيه هؤلاءِ الْمُشْرِكُونَ بل يُقِرُّونَ به، مع أنهم مُشْرِكون كما ثَبَتَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ، وكما عُلِمَ بالاضطرارِ من دِينِ الإسلامِ ).

التوضيحُ

خُلاصَةُ هذه الفِقرةِ أنَّ غَلَطَ المُتَكَلِّمينَ يَظْهَرُ جَلِيًّا حينَما نَعْلَمُ أنه لم تَعْرِفْ طائفةٌ من الطوائفِ بإثباتِ خالِقَيْنِ متَمَاثِلَيْنِ، وهنا أمْثِلَةٌ لأرْبَعِ طوائفَ انْحَرَفَتْ في هذا البابِ مع أنها لم تَنْقُضْ أصلَه:
فمُشْرِكُو العرَبِ لم يكونوا يُخالِفونَهم في هذا كما مَرَّ قريبًا.
حتى مَن جَعَلَ بعضَ الأمورِ خَلْقًا لغيرِ اللهِ كالقدريَّةِ الذين يَجْعَلُونَ أفْعالَ العِبادِ خَلْقًا لهم، وغيرُهم يُقِرُّونَ أنَّ اللهَ خالِقُ العِبادِ وقُدراتِهِمْ.
وأَهْلُ الفلسفةِ والطبْعِ والنجومِ الذين يَجعلون بعضَ المخلوقاتِ مُبْدِعَةً لبعضِ الأمورِ يُقِرُّونَ بالخالِقِ،ويَجعلونَ هذه الفاعلاتِ مَخلوقةً،لا يقولون:إنها غَنِيَّةٌ عن الخالِقِ مُشَارِكَةٌ له.
وأمَّا مَن أَنْكَرَ الصانِعَ كفرعونَ فإنه جاحِدٌ، وكلامُنا الآنَ عن الْمُقِرِّينَ بوجودِه،ولكنهم يُشْرِكُونَ به.

فإذا هذا التوحيدُ الذي يُقَرِّرُه المُتَكَلِّمونَ لا يُنَازِعُهُمْ فيه الْمُشرِكون مع أنهم مُشْرِكون،فإنهم لم يُدْخِلُوا توحيدَ الأُلوهيَّةِ الذي من أَجْلِه خُلِقَ الخلْقُ،كما قالَ تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ } وبه أُرْسِلَ الرُّسُلُ كما قالَ تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ }.
ثانيًا: غَلَطُهُم في توحيدِ الصِّفاتِ
قولُه: ( وكذلك النوعُ الثاني، وهو قولُهم: لا شَبيهَ له في صِفاتِه فإنه ليس في الأُمَمِ مَن أَثْبَتَ قديمًا مُمَاثلاً له في ذاتِه سواءٌ قالَ: إنه يُشارِكُه، أو قالَ: إنه لا فِعْلَ له، بل مَن يُشَبِّهُ به شيئًا من مَخلوقاتِه فإنما يُشَبِّهُهُ به في بعضِ الأمورِ.
وقد عُلِمَ بالعقْلِ امتناعُ أن يكونَ له مِثْلٌ في المخلوقاتِ يُشارِكُه فيما يَجِبُ أو يَجوزُ أو يَمْتَنِعُ عليه، فإنَّ ذلك يَستلزِمُ الجمْعَ بينَ النقيضينِ - كما تَقَدَّمَ - وعُلِمَ أيضًا بالعَقْلِ أنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قائمينِ بأنفسِهما فلا بُدَّ بينَهما من قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كاتِّفاقِهما في مُسَمَّى الوجودِ، والقيامِ بالنفْسِ والذاتِ ونحوَ ذلك، وأنَّ مَن نَفَى ذلك يَقْتَضِي التعطيلَ الْمَحْضَ وأنه لا بُدَّ من إثباتِ خصائصِ الربوبيَّةِ، وقد تَقَدَّمَ الكلامُ على ذلك ).

التوضيحُ

وأيضًا القِسْمُ الثاني من التوحيدِ عندَ المُتَكَلِّمينَ وهو توحيدُ الصِّفاتِ، ويقولون فيه هو واحدٌ لا شَبيهَ له في صِفاتِه ويُدْخِلُونَ تَحتَه نَفْيَ الصفاتِ، وَجِهَةُ الغلَطِ عندَهم بالإضافةِ إلى نفيِهم للصفاتِ أو بعضِها أنه لم يُعْرَفْ من الأُمَمِ مَن أَثْبَتَ قديمًا شَبيهًا له في جميعِ الصفاتِ،بل مَن يُشَبِّهُهُ بمخلوقاتِه إنما يُشَبِّهُهُ في بعضِ الأُمورِ، لأنه كما سَبَقَ يَمتنِعُ عَقْلاً أن يُوجَدَ من مخلوقاتِه مَن يُماثِلُه في جميعِ الصفاتِ؛لأنه يَلْزَمُ من ذلك اجتماعُ النقيضينِ، لأنَّ المخلوقَ مُمْكِنٌ والخالِقَ واجبٌ فإنْ تَمَاثَلاَ لَزِمَ أن يكونَ المخلوقُ مُمْكِنًا واجبًا،والخالقُ واجبًا مُمْكِنًا كذلك. وهكذا في بقيَّةِ الصفاتِ التي يَخْتَصُّ بها الخالِقُ عن المخلوقِ مِمَّا يَجِبُ له ويَمْتَنِعُ عليه، هذا لتقريرِ عَدَمِ التمثيلِ، وأمَّا أنه لا بُدَّ أن يُوصَفَ بصفاتٍ قد يكونُ بينَها قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بينَ صِفاتِ المخلوقاتِ، فهذا واجبٌ عَقْلاً، ولا يَخْلُو موجودان من هذا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فإنَّ مُجَرَّدَ الوجودِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بينَ جميعِ الموجوداتِ، وكذلك القيامُ بالنفْسِ والذاتِ قَدْرٌ مشترَكٌ بينَ الخالِقِ وبعضِ المخلوقاتِ،وهذا لا يَقتضِي تَمْثِيلاً، بل نفيُ هذا القدْرِ يُعَدُّ تَعطيلاً، وقد سَبَقَ هذا مُسْتَوْفًى.

والحاصِلُ أنَّ هؤلاءِ فسَّرُوا توحيدَ الصِّفاتِ بما لا يُخالِفُهم فيه أحَدٌ،وإنما أَدْخَلُوا في هذا الأصْلِ نَفْيَ الصفاتِ وجَعَلُوه من تَمامِ التوحيدِ.
استطرادٌ في بيانِ فِرَقٍ ضَلَّتْ في هذا الأصْلِ

قولُه: ( ثم إنَّ الْجَهْمِيَّةَ من المُعتَزِلَةِ وغيرِهم أَدْرَجُوا نَفْيَ الصفاتِ في مُسَمَّى التوحيدِ، فصارَ مَن قالَ: إنَّ للهِ عِلْمًا أو قُدْرَةً أو أنه يَرَى، أو أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ يقولون: إنه مُشَبِّهٌ ليس بموَحِّدٍ، وزادَ عليهم غُلاةُ الجهميَّةِ والفلاسفةُ، والقَرَامِطَةُ فنَفَوْا أسماءَه الْحُسْنى، وقالوا: مَن قالَ: إنَّ اللهَ عليمٌ قديرٌ، عزيزٌ حكيمٌ، فهو مُشَبِّهٌ ليس بموَحِّدٍ،وزادَ عليهم غُلاةُ القَرَامِطَةِ، وقالوا: لا يُوصَفُ بالنفيِ ولا بالإثباتِ، لأنَّ في كلٍّ منهما تَشبيهًا له، وهؤلاءِ وَقَعُوا من جِنْسِ التشبيهِ ما هو شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا منه، فإنهم شَبَّهُوهُ بالمُمْتَنِعاتِ والْمَعدوماتِ والْجَماداتِ، فِرارًا من تَشبيهِهم إيَّاهُ بزَعْمِهم بالأحياءِ.
ومعلومٌ أنَّ هذه الصفاتِ الثابتةَ للهِ لا تَثْبُتُ له على حَدِّ ما ثَبَتَتْ لمخلوقٍ أصْلاً،وهو سبحانَه ليس كمِثْلِه شيءٌ،لا في ذاتِه،ولا في صِفاتِه،ولا في أفعالِه، فلا فَرْقَ بينَ إثباتِ الذاتِ، وإثباتِ الصِّفاتِ، فإذا لم يكنْ في إثباتِ الذاتِ إثباتُ مُمَاثَلَةِ الذواتِ لذاتِه لم يكنْ في إثباتِ الصفاتِ إثباتُ مُمَاثَلَةٍ له في ذلك. فصارَ هؤلاءِ الجهميَّةُ الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هذا توحيدًا،ويَجْعَلون مقابِلَ ذلك التشبيهَ ويُسَمُّونَ أنفسَهم الْمُوَحِّدِينَ).

التوضيحُ

ذَكَرَ هنا فِرَقًا ضَلَّتْ في بابِ الصفاتِ، وقد سَبَقَتْ مذاهبُهم وشُبُهَاتُهُمْ والردُّ عليهم، وخُلاصتُهم هنا:

المُعتَزِلَةُ: أَدْخَلَتْ في مُسَمَّى التوحيدِ نَفْيَ الصفاتِ،فمَن أثْبَتَها قالوا عنه مُشَبِّهٌ وليس بِمُوَحِّدٍ.

والْجَهميَّةُ: نَفَوْا أسماءَه وصِفاتِه، فمَن قالَ: إنه سميعٌ بصيرٌ قالوا عنه مُشَبِّهٌ وليس بِمُوَحِّدٍ.

والباطنيَّةُ: قالوا: لا يُوصَفُ بالنفيِ ولا بالإثباتِ؛لأنَّ في كلٍّ منهما تَشبيهًا.

وهؤلاءِ وَقَعُوا في شَرٍّ من التشبيهِ الذي فَرُّوا منه، فإنَّ المُعتَزِلَةَ فَرَّتْ من تَشبيهِه بالأحياءِ فشَبَّهَتْه بالْجَماداتِ، والْجَهميَّةَ فرَّتْ من تَشبيهِه بالأجسامِ الموجودةِ فشَبَّهَتْهُ بالمعدوماتِ، والباطنيَّةَ فَرَّتْ من تَشبيهِه بالموجوداتِ والمعدوماتِ فشَبَّهَتْهُ بالمُمْتَنِعاتِ، ويُرَدُّ على الجميعِ بالقاعدةِ السلفيَّةِ السابقةِ،وهي: أنَّ القولَ في الصفاتِ كالقولِ في الذاتِ.
وبعدَ كلِّ هذا التعطيلِ يَجعلون ما ابْتَدَعُوه توحيدًا،ومُقابِلَه تَشبيهًا،ويُسَمُّونَ أنفسَهم بالموَحِّدِينَ.
قولُه: ( ثم إنَّ الْجَهْمِيَّةَ من المُعتَزِلَةِ وغيرِهم ) أَدْخَلَ المُعتَزِلَةَ هنا في مُسَمَّى الْجَهْمِيَّةِ بالإطلاقِ العامِّ، وهو مُجَرَّدُ نفيِ الصفاتِ، كما سَبَقَ.
ثالثًا: غَلَطُهُم في توحيدِ الذاتِ:
قولُه: ( وكذلك النوعُ الثالثُ، وهو قولُهم: هو واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه، أو لا جُزْءَ له، أو لا بَعْضَ له. لفْظٌ مُجْمَلٌ. فإنَّ اللهَ سبحانَه أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفُوًا أحدٌ، فيَمْتَنِعُ عليه أن يَتَفَرَّقَ أو يَتَجَزَّأَ، أو يكونَ قد تَرَكَّبَ من أجزاءٍ، لكنَّهم يُريدُون من هذا اللفظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ على عَرْشِه، ومُبايَنَتَه لِخَلْقِه وامتيازَه عنهم، ونحوَ ذلك من المعاني الْمُسْتَلْزَمَةِ لنفيِه وتعطيلِه. ويَجْعَلُونَ ذلك من التوحيدِ ).

التوضيحُ

قولُهم واحدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه،أو لا جُزْءَ له،أو لا بَعْضَ له قولٌ مُجْمَلٌ فيَجِبُ فيه الاستفصالُ.
فإن أَرَادُوا أنه أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفُوًا أَحَدٌ،ويَمْتَنِعُ عليه أن يَتَفَرَّقَ أو يَتَجَزَّأَ،أو يكونَ قد رُكِّبَ من أجزاءٍ، فهذا صحيحٌ كما سَبَقَ في شُبْهَةِ التركيبِ.
ولكنَّهم يُدْرِجُونَ فيه نَفْيَ عُلُوِّهِ ومُبَايَنَتِه لِخَلْقِهِ ووَجْهِه ويدَيْهِ وغيرِها، فهذا باطِلٌ.

خُلاصَةُ ما في توحيدِ المُتَكَلِّمينَ.
قولُه: ( فقد تَبَيَّنَ أنَّ ما يُسَمُّونَه " توحيدا" فيه ما هو حَقٌّ،وفيه ما هو باطِلٌ، ولو كان جميعُه حقًّا؛فإنَّ الْمُشرِكينَ إذا أَقَرُّوا بذلك كلِّه لم يَخْرُجوا من الشرْكِ الذي وَصَفَهم اللهُ به في القرآنِ، وقاتَلَهُم عليه الرسولُ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،بل لا بُدَّ أن يُؤمِنُوا بأنه لا إلهَ إلا اللهُ ).

التوضيحُ

مِمَّا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ أنَّ ما يُسَمِّيهِ المُتَكَلِّمونَ "توحيدًا" فيه ما هو حَقٌّ لا يُنَازِعُهُمْ فيه أحَدٌ،كقولِهم: إنه ليس للعالَمِ صانعان متكافئان، وليس للهِ شبيهٌ له في جميعِ صِفاتِه، وليس للهِ قَسيمٌ له في ذاتِه،ولا جُزءَ له، وفيه ما هو باطِلٌ كإهمالِهم للألوهيَّةِ وتعطيلِهم للصفاتِ، ولا يُمْكِنُ أن يكونَ جميعُه حقًّا؛لأنَّ الْمُشْرِكِينَ لو أَقَرُّوا بهذه المسائلِ لَمَا خَرَجُوا عن الشرْكِ الذي اسْتَحَقُّوا بِسَبِبِه العِقابَ في الدنيا والآخِرَةِ، فلا بُدَّ من التركيزِ على كلمةِ التوحيدِ التي هي أصْلُ الألوهيَّةِ، وبهذا يَتَبَيَّنُ الْخَلَلُ العظيمُ عندَ المُتَكَلِّمينَ في توحيدِهم للعزيزِ الحكيمِ.
معنى الإلهِ.
قولُه: ( وليس الْمُرادُ " بالإلهِ" هو القادرَ على الاختراعِ – كما ظَنَّهُ مَن ظَنَّهُ من أئِمَّةِ المُتَكَلِّمينَ – حيث ظَنَّ أنَّ الإلَهِيَّةَ هي القُدْرةُ على الاختراعِ، وأنَّ مَن أَقَرَّ بأنَّ اللهَ هو القادِرُ على الاختراعِ دونَ غيرِه فقد شَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإنَّ المشرِكينَ كانوا يُقِرُّونَ بهذا، وهم مُشْرِكونَ، كما تَقَدَّمَ بيانُه،بل "الإلهُ " الْحَقُّ " هو الذي يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ، فهو إلهٌ بمعنى " مَأْلُوهٍ " لا بمعنى " آلِهٍ " والتوحيدُ أن تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَه لا شريكَ له، والإشراكُ أن تَجْعَلَ مع اللهِ إِلَهًا آخَرَ ).

التوضيحُ

الإلهُ: مأخوذٌ من الفِعْلِ أَلَهَ أي:تَذَلَّلَ، فالإلهُ أي:الْمُتَذَلَّلُ له. ومنه قولُ الشاعِرِ:

أَلَهْتُ إليه في بَلايَا تَنُوبُنَا = فأَلْفَيْتُه فيها كريمًا مُمَجَّدًا

فيكونُ المعنى الصحيحُ للإلهِ هو المألوهَ باسمِ المفعولِ،أي:المعبودُ المتذلَّلُ له قالَ في القاموسِ:" إلاهٌ كفِعالٍ بمعنى مألوهٍ، وكلُّ ما اتُّخِذَ مَعبودًا إلهٌ عندَ مُتَّخِذِه،وقيلَ: مِن أَلِهَ وأَصْلُه وَلِهَ وهو التحيُّرُ؛لأنَّ الخلْقَ إذا تَفَكَّرُوا في صفاتِه تَحَيَّرُوا.
وقيلَ:مِن وَلِهَ وهو الْحُبُّ. وقيلَ:من لاهَ بمعنى اسْتَتَرَ، لأنَّ حقيقتَه مَحجوبةٌ عن الخلْقِ،كما قالَ تعالى: { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}.
وقالَ الناظِمُ حَاكِيًا الأقوالَ في معنى الإلهِ.

أُلِهَ أي عُبِدَ أو من الأَلَهْ = وهو اعتمادُ الخلْقِ أو من الوَلَهْ
أو الْمُحَجَّبُ عن العِيانِ = مِن لاهَتِ العَرُوسُ في البُنيانِ
أو أَلِهَ الْحَيْرانُ من قولِ العَرَبْ = أو من أَلِهْتُ أي سَكَنْتُ لِلأَرَبْ

قالَ شيخُ الإسلامِ: " الإلهُ هو المألوهُ الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ، وكونُه يَسْتَحِقُّ الإلهيَّةَ مُسْتَلْزِمًا لصفاتِ الكمالِ فلا يَستحِقُّ أن يكونَ مَعبودًا محبوبًا لذاتِه إلا هو ".
وقد غَلِطَ المُتَكَلِّمونَ في تفسيرِهم للإلهِ بِناءً على غَلْطَتِهم في تقريرِ التوحيدِ، فإنهم لَمَّا غَلَوْا في الربوبيَّةِ واعْتَقَدُوا أنه غايةُ التوحيدِ فَسَّرُوا الإلهَ بأنه القادِرُ على الاختراعِ، والألوهيَّةَ بالقُدْرَةِ على الاختراعِ،فجَعَلُوا الأُلوهيَّةَ بمعنى الربوبيَّةِ، وجَعَلوا الإلهَ بمعنى الخالِقِ باسمِ الفاعلِ، فخالَفُوا بذلك اللغةَ والشرْعَ، فإنَّ الإلهَ هو المعبودُ لغةً وشَرْعًا،كما سَبَقَ. وقد قالَ تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدًّا } وقالَ تعالى: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.

ومعنى قولِ شيخِ الإسلامِ هنا: " فهو إلهٌ بمعنى مَأْلُوهٍ،لا إلهٌ بمعنى آلِهٌ ". أي:أنه" إلهٌ " يُرادُ به اسمُ المفعولِ، وهو المعبودُ، لا اسمُ الفاعلِ،أي:القادِرُ، كما فَسَّرَهُ به المُتَكَلِّمونَ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
بيان, غلط

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir