رسالة تفسيرية في قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
بالأسلوب الوعظي.
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
مما قيل في
تعريف التقوى: أن يفعل الإنسان من الخير ما يقيه ويحول بينه وبين غضب الله، فمادة التقوى تدور حول اتخاذ الوقاية مما يوجب العذاب وهي تشمل فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
فكأن المتقي كالماشي في طريق ذا شوك يشمر ويجتهد ألا يدوس شوكا، فكذا التقوى اجتهاد المرء في اتقاء ما يضره وطلب ما ينفعه، وعلى هذا قول الشاعر:
خــل الذنــوب صغــيرها وكبيــرها ذاك التقــى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقــرن صغيــرة إن الجبال مــن الحصــى
والتقوى هي التي تدفع العبد لفعل الخير وتبعده عن كل شر. وقد روى ابن كثير عن عَنِ الإمامِ أحْمَدَ «فِي مَجِيءِ قَوْمٍ مِن مُضَرَ، مُجْتابَيِ الثِّمارِ والعَباءَةِ، حُفاةٍ عُراةٍ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَيَتَمَعَّرُ وجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ،
فَأمَرَ بِلالًا يُنادِي لِلصَّلاةِ، فَصَلّى ثُمَّ خَطَبَ النّاسَ وقَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ،
وقَرَأ الآيَةَ الَّتِي في سُورَةِ ”الحَشْرِ“: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ ا تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينارِهِ مِن دِرْهَمِهِ مِن ثَوْبِهِ مِن صاعِ بُرِّهِ مِن صاعِ تَمْرِهِ حَتّى قالَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ
قالَ: فَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ بِصُرَّةٍ كادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْها بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قالَ ثُمَّ تَتابَعَ النّاسُ حَتّى رَأيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعامٍ وثِيابٍ حَتّى رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَهَلَّلُ وجْهُهُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ
فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها بَعْدَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ "» الحَدِيثَ.
فهذه التقوى التي حملت الصحابي على بذل ماله حتى سُرَّ بذلك رسولنا الكريم وكان لهذا الصحابي الأجر العظيم، فقد سنّ سنّة حسنة أتى من بعده متتابعون ليتصدقوا هم أيضا.
وفي حَدِيثِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ آواهُمُ المَبِيتُ إلى الغارِ، ومِنهُمُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنَةِ عَمِّهِ لَمّا قالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ ولا تَفُضَّ الخاتَمَ إلّا بِحَقِّهِ، فَقامَ عَنْها وتَرَكَ لَها المالَ.
فهنا هذا الرجل لمّا ذُكِّرَ بتقوى الله انتهى فكانت التقوى رادعا له عن معصية الله.
وقد جعلها الشاعر جرير السعادة كل السعادة فقد قال:
وَلَسْتُ أرى السَّعادَةَ جَمْعَ مالٍ ولَكِنَّ التَّقِيَّ هو السَّعِيدُ
فَتَقْوى اللَّهِ خَيْرُ الزّادِ ذُخْرًا ∗∗∗ وعِنْدَ اللَّهِ لِلْأتْقى مَزِيدُ
والتقوى أمر قد أمر الله به.
قال تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقال تعالى :
{ فاتقوا الله يا أولي الألباب}
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأنه يحب المتقين، قال تعالى:
{ والله يحب المتقين}
وقد أخبرنا أنّ للمتقين ثوابٌ عظيم ألا وهو جنات النعيم، قال تعالى:
{ إنّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم}
وهذا كله يدلّ على عظم شأن هذه العبادة وأجرها العظيم وفضلها.
فهذه ثلاثة أمور، أمر الله بها وأخبرنا أنه يحب من اتصف بها وأخبرنا بإثابته جنات النعيم للمتقين، مما يدل على أنها عبادة، وبما أنها عبادة فلا بد فيها من إخلاص ومتابعة وعدم صرف هذه العبادة لغير الله
وننتقل للحديث عن الأمر بالتقوى في قول الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
يأمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا بينهم وبين ما يغضبه وقاية لهم، فيلتزموا تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه واجتناب ما عنه نهى وزجر والاستعداد ليوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،
ويأمرهم بمحاسبة أنفسهم قبل أن يُحاسبوا فيستحثهم ذلك على العمل والإحسان والإزدياد والإقلاع عن التقصير الذي وقعوا فيه وإصلاح عيوبهم وعلل قلوبهم، فيقدمّوا من الأعمال ما ينجيهم من عذاب الله،
والله هو الخبير بعباده الذي لا تخفى عنه منهم خافية، يعلم سرهم ونجواهم عليم بما تكنه صدورهم عليمٌ بنواياهم وأحوالهم ومجازيهم يوم القيامة على أعمالهم.
وفي هذه الآية لطائف نبينها فيما يلي:
اللطيفة الأولى : النداء مختص بالمؤمنين، فهم الذين ينتفعون بالتقوى وهم الذين يُشفقون لمّا يُذَكَّروا بالتقوى.
وقد روي عن ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلًا أتاهُ فَقالَ: اعْهَدْ لِي، فَقالَ: إذا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأرْعِها سَمْعَكَ فَإنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ أوْ شَرٌ تَنْهى عَنْهُ.
اللطيفة الثانية: تنكير النفس يفيد العموم في سياق الأمر، فالأمر بالنظر يعم كل نفس، وهذا العموم يفيد التحذير
اللطيفة الثالثة: يفيد تنكير الغد تعظيم أمره وهوله وإبهامه ، فالأنفس لا تعلم متى الساعة وعظم أمرها وأهوالها.
اللطيفة الرابعة: العرب تكني عن المستقبل بالغد، فالغد في الأصل هو اليوم الذي يلي الليلة ، وأطلق على يوم القيامة تقريبا له وذلك ينبه العباد على قرب الساعة ،
قال قتادة: ما زال ربكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغدٌ يوم القيامة. وكلُّ ما هو آت فهو قريب.
اللطيفة الخامسة: مجيء لفظ (قدمت) بصيغة الماضي أسلوب يفيد الحث على الإسراع في عمل الصالحات وعدم التسويف،
فإن كان الإنسان قد ملك ما قدّم في ماضيه، فإنّه لا يملك ما يكون في غده ولا يعلم كيف يكون عمله فيه.
اللطيفة السادسة: تكرار الأمر بالتقوى يفيد التأكيد ويوجه العبد للعناية والاهتمام بمراقبة الله تعالى ومباشرة أسباب حصول التقوى.
وقد يفيد الأمر بالتقوى في أول الآية النظر لما قدّم الإنسان من عمل في الماضي ومحاسبة النفس عليه وهذا الذي تفيده ( ما ) العامة
ولفظ (قدّمت) الذي هو بصيغة الماضي، أما الأمر الثاني بالتقوى فيكونُ مختصا بما يُستقبل ويدلّ على هذا ختام الآية
{واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، فعلى هذا لا يكون الأمر الثاني بالتقوى تكرارا لنفس المعنى.
فمن واجبنا أن نراقب الله سبحانه وتعالى في أفعالنا، ونسارع إلى التوبة من كل تقصير بدر منا، نسارع في إصلاح عيوبنا وآفات قلوبنا، نتعرف الداء ثم نجتهد ونستعين بالله ونأتي بما يرضي الله في تحصيل الدواء،
فإنّ الخبير يعلم ما في أنفسنا من خير وشر، ويعلم ما يكون في القلوب من إرادات لا ترضيه، ونوايا لا ترضيه، يعلم صدقنا إن صدقنا ويعلمُ تقصيرنا إن ابتعدنا.
ومن العلل والأمراض التي تكون في القلوب ما يحتاج معه من اجتهاد عظيم واستعانة بالله عظيمة حتى يتحقق الشفاء منه بإذن الله.
ولينظر الإنسان إلى عظمة من يعصيه، وإلى عظمة من جعله أهون الناظرين إليه وهو مقيم على ذنبه، يردد : سيغفر لنا وهو مقيم لا يحرك ساكنا ولا يتوب إلى الله من تقصيره،
فكيف يرى أنه سيغفر له وهو لا يحاول ولا حتى يريد أن يحاول، بل كان محتقرا للصغائر ويظن أنه سيغفر له ولم ينظر لعظمة من عصى، وقد قال الشاعر:
لا تحقــرن صغيــرة إن الجبال مــن الحصــى
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبيه محمد .