رسالة في تفسير قوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني }
قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبِبْكُمُ الله ويغفرْ لكم ذنوبكم والله غفورٌ رحيم () قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ فإنْ تولوا فإنّ اللهَ لا يُحبُّ الكافرين }
محبةُ الله - عز وجل - أملُ كل مؤمن بوجوده ، وكلٌ يدعي حب الله - عز وجل - ، وهذه الصورة حاصلةٌ في كل عصرٍ ؛ فقد ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه كما قال الله - عز وجل : { وقالت اليهود والنصارى نحنُ أبناء الله وأحباؤه } ، واحتجَ كفارُ قريش على عبادتهم للأصنام بأنهم ما عبدوها إلا لتقربهم إلى الله زلفى ، قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، وما ضلّ أصحاب البدع والأهواء إلا ظنًا منهم أن بدعتهم تقربهم إلى الله وأنهم ما فعلوها إلا حبًا لله - عز وجل - ، وجاءت هذه الآيات لتفرق بين من أحب الله حقًا ، ومن أحبه ادعاءً ، ولتبين السبيل إلى محبة الله - عز وجل - لعباده ؛ فإنه - كما قيل - : " ليس الشأن أن تُحب الله ، ولكن الشأن كل الشأن ، أن يحبك الله ".
ومن الردود في هذه الآيات على مدعي المحبة :
1: قوله تعالى :{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني }
جاءت الآية بصيغة أسلوب الشرط ؛ فعلقت حدوث فعل الشرط ؛ وهو حب العبد لله ، على جواب الشرط وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا سلمنا بصدقك في محبة الله - عز وجل - ، فما معنى هذه المحبة إذا لم تفعل ما يحبه محبوبك منك ؟ ، وما معنى هذه المحبة إذا لم تحب ما يحبه محبوبك ؟ ؛ فاللهُ أرسل إليك رسولا وأعلمك بأنه يحبه ، وبأنه يحب منك فعل ما يأمرك به ، فمن لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ باتباع دينه وهديه ، فأنى له تحقيق حب الله - عز وجل -؟!
قال ابن كثير في تفسيره :" هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ".
2: أن العباد إنما يأملون الحصول على حب الله لهم ؛ فبين الله - عز وجل - أن السبيل إلى تحقيق محبته هو في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بإيراد الفعل " يُحبِبْكم " مجزومًا في جواب الطلب : " فاتبعوني يحببكم ".
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى : " { يُحبِبْكم الله }فجزمه جوابًا للأمر فهو في معنى الشرط ، فتقديره إن تتبعوني يحببكم الله.
ومعلومٌ أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله ، فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول. "
3: { ويغفرْ لكم ذنوبكم }
جاء مجزومًا معطوفًا على الفعل " يُحببكم " ، لبيان أن من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ، نال مغفرة الله - عز وجل -.
4: { والله غفورٌ رحيم }
زيادةً في الترغيب ، خُتمت الآية باسمي الله - عز وجل - ، غفور رحيم.
قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير : " ولم يذكر متعلق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة ".
قلت : ومن هذه الأسباب تحقيق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
5: { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنّ الله لا يُحب الكافرين }
جاءت خاتمةُ هذه الآية بأسلوب يُعرف بالإظهار في موقع الإضمار ، فلم يقل سبحانه - : " فإن الله لا يحبهم " ، وإنما قال : " فإن الله لا يحب الكافرين " ، ويستفاد من ذلك :
- الحكم بالكفر على من أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله.
- أن الله لا يحب من أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله.
- أن كل كافر فإن الله لا يحبه.
فإن كان المدعي لمحبة الله - عز وجل - ومخالفًا مع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله قد بين له في هذه الآيات ، أنه بعيدٌ كل البعد عن محبته ، وبعيد عن الوصول إلى حب الله ، بل على العكس ينال مقته وغضبه بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
والناس في تحقيق المحبة متفاوتون تفاوتًا عظيمًا بحسب تحقيق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فمنهم من اتبعه في أصل الإسلام ، ومنهم من اتبعه في ظواهر سننه ، ومنهم من اتبعه في أدق تفاصيل هديه.
وكذلك الناس في مخالفة اتباعه متفاوتون :
- فمن اعتقد أنه لا تلزمه طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كليةً فقد كفر، قال تعالى :{ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين }.
- ومن خالف في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فعقوبته بحسب درجة مخالفته ، ولا يظلمُ ربك أحدًا.
قال تعالى :{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا }
وقال تعالى :{ ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}
فاللهم اهدنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.