معنى قول الله عز وجل: {الرحمن فاسأل به خبيرًا}
قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} [سورة الفرقان: 56- 60]
جاء قول الله تعالى :{الرحمنُ فاسأل به خبيرا} في سياق آيات تتحدث عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل ربوبية الله -عز وجل- وألوهيته، وتكذيب المشركين وتعنتهم؛ فجاءت هذه الجملة، على ترتيب بديعٍ لمفرداتها لتحتمل معاني وافرة، رغم قلة ألفاظها؛ فاحتملت من المعاني ما يثبِّتُ الذين آمنوا، ويرشد الذين كفروا سبيل الهدى، وفي ضمنها وعدٌ للمؤمنين بالنصر والكفاية ووعيدٌ للكافرين الذين يُصرون على كفرهم ويستكبرون عن اتّباع الحق، فسبحان من تكلم بالقرآن، العليم الحكيم.
ويمكن تصنيف هذه المعاني حسب معنى السؤال في {فاسأل}، والمخاطب بالأمر، ومعنى الباء في {به}، ومرجع الضمير فيها، والمقصود بالخبير.
وسأجعل التصنيف الرئيس في معنى السؤال، وأصنف بقية المسائل تحته، وأسأل الله التوفيق والسداد، فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل، وما كان فيها من خطإ فمني ومن الشيطان.
معنى السؤال في قول الله تعالى: {الرحمنُ فاسأل به خبيرا} يحتمل -والله أعلم- معنيان:
المعنى الأول: أنه بمعنى الاستعلام أي طلب العلم:
- وعلى هذا المعنى يحتمل تعلق الجار والمجرور (بـه) بكلمةـ (خبيرا)، أي: (اسأل خبيرا به).
- ويحتمل تعلق الجار والمجرور (به) بالفعل (فاسأل)، أي: (فاسأل به خبيرا).
وتعدية الفعل (سأل) بمعنى الاستعلام بالباء يحتمل معنيين حسب اختلاف المفسرين والنحاة في تعدية الأفعال بحروف الجر:
المعنى الأول: أن الباء بمعنى عن؛ فيكون المعنى: (فاسأل عنه خبيرا)، وهو قول الأخفش وأبو عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة والزجاج، وابن الجوزي وابن كثير وابن عاشور، وذكره عدد من المفسرين احتمالا منهم أبو الليث السمرقندي والواحدي وأبو المظفر السمعاني والبغوي وابن عطية وغيرهم.
وأفاد تعدية السؤال بالباء التي بمعنى (عن) البحث والتفتيش ففيه معنى التحري، قال بنحو هذا الواحدي والبيضاوي.
المعنى الثاني:تضمن الفعل سأل معنى فعل آخر يتعدى بالباء، وهنا يتضمن السؤال معنى الاعتناء والاهتمام؛ أي: فاسأل معتنيا ومهتما بسؤالك الخبير، قاله البيضاوي وتبعه النسفي وأبو السعود، والقول بالتضمين أرجح كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة التفسير.
واختلف المفسرون في تعيين مرجع الضمير الهاء في (به) على أقوال:
الأول: الهاء في (به) يعود على (الرحمن)، والمعنى طلب العلم عن الله عز وجل.
الثاني: أن المعنى أعم من طلب العلم عن الله عز وجل، وإنما هو طلب للعلم عن كل ما سبق ذكره في الآيات السابقة، خاصة خلق السماوات والأرض واستواء الله على العرش.
- قال سُنيد: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {فاسأل به خبيرًا} قال: (يقول لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا أخبرتك شيئًا، فاعلم أنّه كما أخبرتك، أنا الخبير). رواه ابن جرير.
- قال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول الله: فسئل به خبيرًا قال: (ما أخبرتك من شيءٍ فهو كما أخبرتك). رواه ابن أبي حاتم.
الثالث: فاسأل بسؤالك الله عز وجل خبيرا، فمرجع الضمير هو السؤال، والخبير هو الله عز وجل، نقله الزجاج ومكي بن أبي طالب والواحدي عن علي بن سُليمان.
قال الواحدي: (فاسأله تسل بسؤالك إياه خبيرًا. كما تقول: سل؟ تريد عالمًا. والمسؤول هو زيد، أي: سل زيدًا تسأل بسؤالك إياه عالمًا. وكان علي بن سليمان، يذهب إلى أن الكناية في {بِهِ} تعود إلى السؤال. وقوله: {فَاسْأَلْ} يدل على السؤال. والمعنى: فأسأل عالمًا بسؤالك).
وهو قريب من القول الثاني.
واختلف أصحاب القول بأن معنى السؤال في الآية هو طلب العلم في المقصود بالخبير الذي علينا سؤاله، حسب الخلاف في تعيين المخاطب بالأمر:
- فمن قال أن المخاطب بالأمر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فالمقصود بالخبير هو الله عز وجل أو جبريل عليه السلام.
والمعنى: اطلب العلم عن الرحمن وسعة رحمته بعباده، وعن خلقه، من الله عز وجل فهو الخبير بصفات كماله وجماله وجلاله، أو من جبريل عليه السلام فهو الملك الموكلُ بالوحي، يخبرك بلطف الله وعنايته برسله وبعباده المؤمنين وكيف نصرهم وتولى أمرهم.
وهذا المعنى مناسب لأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في الآية السابقة: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}
فمما يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بأعباء الرسالة، استحضاره لصفات الله عز وجل العليا، ومنها سعة رحمته سبحانه، كما دلَّ عليها اسم الله (الرحمن).
- ومن قال أن عموم الأمة داخلة في الأمر (فاسأل):
فالمقصود بالخبير يحتمل أن يكون:
1. الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أعلم الخلق بالله عز وجل، وهو المبلّغ عنه لعباده.
2. القرآن: وفي القرآن بيان صفات الله عز وجل وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده.
قال شمر بن عطيّة: {الرّحمن فسئل به خبيرا} قال: (هذا القرآن خبيرًا). رواه ابن أبي حاتم.
وفي هذين القولين إرشادٌ للمؤمنين إلى سبيل العلم بالله عز وجل: القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علم عن الله وعظيم صفاته وعمل بمقتضى هذا العلم، تحصل له الهدى والسداد والثبات بفضل الله عز وجل.
3. مسلمي أهل الكتاب، وهذا بالنسبة للمشركين المكذبين برسول الله صلى الله عليه وسلم المعرضين عن القرآن؛ فقيل لهم: اسألوا أهل الكتاب يخبرونكم عن الرحمن.
وهذا القول مناسب لما جاء في الآيات التالية حكاية عن المشركين، قال الله عز وجل: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمنُ أنسجدُ لما تأمرُنا وزادهم نفورًا}
وأما إعراب كلمة (خبيرا) على القول بأن معنى السؤال هو طلب العلم:
فتحتمل وجهين:
الأول: النصب على المفعولية، وهو قول جمهور النحاة والمفسرين.
الثاني: حال من الهاء في (به)، فيكون المعنى: فاسأله حال كونه خبيرا، وعلى القول بأن الخبير هو الله عز وجل فالحال مؤكدة وليست متنقلة لأن الله عز وجل له الصفات العليا والأسماء الحسنى.
قال ابن جرير: (و(الخبير) في قوله: {فاسأل به خبيرًا} منصوبٌ على الحال من الهاء الّتي في قوله {به}). اهـ
قال ابن عطية: "وقَوْلُهُ تَعالى: {فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا} يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: فاسْألْ عنهُ، و "خَبِيرًا" -عَلى هَذا- مَنصُوبٌ بِوُقُوعِ السُؤالِ عَلَيْهِ، والمَعْنى: اسْألْ جِبْرِيلَ والعُلَماءَ وأهْلَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ. والثانِي أنْ يَكُونَ المَعْنى كَما تَقُولُ: لَوْ لَقِيتُ فُلانًا لَقِيتُ بِهِ البَحْرَ كَرَمًا، أيْ: لَقِيتُ مِنهُ، والمَعْنى: فاسْألِ اللهَ عن كُلِّ أمْرٍ، و "خَبِيرًا" -عَلى هَذا- مَنصُوبٌ إمّا بِوُقُوعِ السُؤالِ، وإمّا عَلى الحالِ المُؤَكَّدَةِ، كَما قالَ تَعالى: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: ٩١]، ولَيْسَتْ هَذِهِ بِحالٍ مُنْتَقِلَةٍ؛ إذِ الصِفَةُ العَلِيَّةُ لا تَتَغَيَّرُ". اهـ
وأفاد تنكير كلمة (خبيرًا) العموم، لتعم كل خبير، قاله ابن عاشور.
وفائدة استعمال كلمة (خبيرا) هنا أن الخبير هو العالم بالشيء، ففيه حثٌ على السؤال لا لمجرد التنطع وإنما سؤال من يعلم ليتبين له الحق؛ فيتبعه، قال بنحو هذا الواحدي.
والله عز وجل -ليس كمثله شيء-؛ فصفاته لا تشبه صفات المخلوقين بل هي في أعلى درجات الكمال، وسيأتي بيان معنى اسم الله الخبير، ومعنى نسبة الخبرة للمخلوقين، لكن المقصود أن يحرص الإنسان على طلب الحق والعلم بالله عز وجل وآياته، حرص من يريد اتباع الحق والثبات عليه، ويدل على هذا الحرص البحث والتحري عن الخبير بسؤاله والاعتناء والاهتمام بالسؤال، والله أعلم.
المعنى الثاني: السؤال بمعنى الدعاء:
ومرجع الضمير في: {به} الرحمن، و (خبيرا) حال من الضمير.
وهذا مثل قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة الإسراء: 110]
وتعدية الفعل بالباء تضمن معنى الاستعانة؛ فهو بمعنى اسأل الرحمن واستعن به فالحال أنه الخبير.
وهذا المعنى مناسب لما سبق من أمر الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}
وهذا التوكل متضمن لمعنى الاستعانة به -سبحانه-، وفي الآيات السابقة تأكيد على أن الناس سينقسمون أمام دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مؤمن وكافر، فإن الله عز وجل أرسله مبشرًا للمؤمنين يبشرهم بالنصر والكفاية والجنة، ونذيرًا للكافرين، ينذرهم النار وسوء الحساب، ثم أمره -سبحانه- بالتوكل عليه أي الاعتماد عليه في تبليغ دعوته ودفع ما يضره من أذى المشركين المكذبين به، ووصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت؛ مع ما يتضمنه وصف الحياة من العلم والقوة، وتأكيد هذا الوصف بأنه لا يموت، وهذا مما يزيد اليقين لأنك إذا اعتمدت على مخلوق في تحقيق مرادك، فإذا صدق هذا المخلوق وثبت على عهده ووعده بإعانتك إلا أنه معرضٌ للفناء بالموت في أي لحظة، ولكن الله عز وجل هو الحي الذي لا يموت، وهذا يزيد العبد رجاء ويقينا وثباتًا.
ثم جاء ختام الآية: {وكفى به بذنوب عباده خبيرًا}
فإذا كان خبيرا بها، فهو خبيرٌ بأعمالهم فيحصيها لهم، وخبير بجزائهم في الدنيا والآخرة، فلا ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله عن دعوته وإنما عليه البلاغ.
والخبير من أسماء الله عز وجل ويعني أنه المحيط علما بكل شيء، بظواهر الأمور وبواطنها وعاقبة الأمور ومآلاتها.
ولكً أن تتصورَ إنسانًا يسأل طبيبا عن مريضٍ قريب له: هل من أمل في شفائه؟ متى يبرأ من مرضه؟ متى يخرج من المشفى؟
فإذا أجاب الطبيب بأن الشفاء متوقف على استجابة المريض للعلاج، ولا علم لنا بذلك فالشافي هو الله عز وجل، يعود السائل بسؤال آخر -مؤكدًا على إيمانه بأن الله عز وجل هو الشافي-: " إنما أسأل بواقع خبرتك، وما رأيته من حالات مماثلة" !
وخبرة البشر قائمة على ما مروا به من تجارب تحتمل الفشل والنجاح، وما اكتسبوه من علم بعد اجتهاد ومشقة في تحصيله، فهم إن مُدحوا بها لكنها دالة على نقصهم.
وأما الله عز وجل، فليس كمثله شيء، سبحانه، أسماؤه وصفاته دالة على كماله؛ فهو الخبير لأنه الذي أحاط علمًا بكل شيء، بما كان وما سيكون، بالسر والعلن، بل وما هو أخفى من السر، كما قال تعالى: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرَّ وأخفى} [سورة طه: 7].
وهو الذي أحاط علمًا بعاقبة الأمور، ما سرّك وما ساءك، وأحاط علمًا بعباده؛ محسنهم ومسيئهم، وجزاء كل منهم.
قال ابن القيم: (" الخَبِيرُ " الذي انْتَهَى عِلْمُهُ إلى الإحَاطَةِ ببَوَاطِنِ الأشْياءِ وخَفَايَاهَا كما أَحَاطَ بظَوَاهِرِها)
ففي الآية أمر بدعاء الله عز وجل باسمه الرحمن مستعينا به وتأكيد هذا بأنه الخبير، ولك أن تتصور أن تسأل من وسعت رحمته كل شيء، وهو الخبير، مع ما سبق بيانه من معنى اسم الله الخبير!
أليس في هذا عونٌ على تحقيق التوكل على الله عز وجل؟
فسبحان من تكلم بالقرآن الحكيم العليم، كيف جاءت هذه العبارة موجزة الألفاظ، واسعة المعنى، مناسبة في سياقها لكل المخاطبين بها، فيها إرشاد لهم لسبيل الهدى والتقى، والعزة والنصر.
والله أعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ربِّ أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.