رسالة تفسيرية في قوله تعالى : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا .
قال تعالى في أول آية من سورة الإنسان : ( هل أتى على الإنسان حيناً من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) أي زمناً طويلاً لم يكن شيئاً يذكر .
ثم ذكر سبحانه أول نعمة امتن بها عليه وهي نعمة الخلق والإيجاد وبين له بداية خلقته من ماء مهين على الوصف الذي ذكر (من نطفة أمشاج ) ثم مازال ينتقل طوراً من بعد طور إلى أن جعله ( سميعاً بصيرا) , سمعاً يسمع به آيات الله المتلوة ويدرك به حقائق الأمور وبصيراً يبصر آيات الله الكونية وآثار وحدانيته وقدرته . فقال سبحانه وتعالى : ( إنا خلقناه من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا )
وجاءت هذا الكلمة ( نبتليه ) بين أحوال الإنسان المختلفة بين قوله : (من نطفة أمشاج ) وقوله : ( فجعلناه سميعاً بصيراً )
أي جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه , أي : مريدين ابتلائه . فقد أعطيناه ما يصح معه الاختبار من السمع والبصر .
ولعل المسألة التي ترد هنا : ما الحكمة من التقديم والتأخير؟ , لما لم يقل : ( فجعلناه سميعاً بصيراً نبتليه ), و الابتلاء والتكليف لا يكون إلى بعد اكتمال إدراك نصوص الوحي بحاستي السمع والبصر والبلوغ ؟
ذكر ابن عاشور : " وقد وقعت هذه الحال " يقصد نبتليه " بين جملة ( خلقنا ) وبين ( فجعلناه سميعاً بصيراً ) , لأن الإبتلاء أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير , فكان مقتضى الظاهر أن يقع ( نبتليه ) بعد جملة ( إنا هديناه السبيل ) , ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة "
ثم ذكر سبحانه ثاني أعظم نعمة أنعم بها عليه وهي نعمة الهداية فقال سبحانه : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً )
والهداية في القرآن تتناول أمران :
1) هداية بيان وإرشاد , ومنها قوله تعالى في سورة فصلت : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى )
2) هداية الإلهام والتوفيق وهي المقصودة في طلب الهداية في سورة الفاتحة في قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم )
والسبيل هو : الطريق
وابن السبيل : المسافر .
والإنسان ابن سبيل مسافر إلى ربه مطيته الليل والنهار وطريقه منهج الله وسنة نبيه يقتدي بأثر الرسول وصحبه يدعو كل يوم مفتقر إلى ربه ( اهدنا الصراط المستقيم ) . يخشى التيه والضياع .
والمراد بالهداية هنا : ( إنا هديناه السبيل ): هداية البيان والإرشاد والدلالة .
والمراد بالسبيل في الآية :
قال الفراء : " هديناه السبيل , وإلى السبيل , وللسبيل , كل ذلك جائز في اللغة . "
والسبيل اسم لجنس الطريق ( طريق الخير والشر والهدى والضلال والسعادة والشقاوة ) قال تعالى في سورة النحل : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر )
أو هو طريق الهدى فقط , يقول الرازي صاحب كتاب التفسير الكبير : " لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق , فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل الإضافة , ألا ترى إلى قوله تعالى : (إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا ) وإنما أضلوهم سبيل الهدى . "
وقوله تعالى : ( إما شاكراً وإما كفوراً )
ففيها أوجه :
1) إما أن تكون حال منصوبة للمفعول هديناه , وهي في بيان حال الإنسان من هذا البيان والهداية , إما شاكراً مطيعاً مستجيباً للبيان أو كفوراً جاحداً لهذه النعمة عاصياً لأمر ربه معرضاً مستكبراً .
2) أو قد يكون حالين من السبيل , سبيلاً شاكراٍ وسبيلاً كفورا . ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز .
3) وقرأ أبو السمال بالفتح ، ( أما وأما ) للتقسيم , يحتمل في هذا أن تكون للجزاء ( إما سبيلاً شاكراً فمثاب , وإما سبيلاً كفوراً فمعاقب . وهذه الأقوال جميعها أوردها أهل التأويل في كتبهم .
وجاءت ( كفورا) على وزن فعول من صيغة المبالغة, دون ( شاكرا) فلم يقل ( شكورا ) كا ( كفورا )
ذلك أن من طبع الإنسان الجحود والكفران ولا يوفق للشكر إلا القليل ( وقليل من عبادي الشكور ) .
وهذه اللفتات البيانية في الآية بعض ما فتح الله به على أهل العلم وتيسر لنا جمعه ولا شك أن خزائن كتاب الله ملئ وكنوزه وخيراته لا تنفذ .
المراجع :
تفسير الطبري
تفسير القرطبي
التحرير والتنوير لابن عاشور
الكشاف للزمخشري
التفسير الكبير للرازي
نظم الدرر للبقاعي
أضواء البيان للشنقيطي