فهرسة مسائل القسم الأول من مقدمة التحرير والتنوير:
خطبة الحاجة:
-الثناء على القرآن بعظيم صفاته وآثاره في هداية الخلق وسعادتهم
-تفسير القرآن العظيم كان من أكبر أمنيات المصنف منذ زمن بعيد وسبب تأخره في ذلك
-غرض المصنف من تفسيره ورغبته في إضافة الجديد لمن سبقه مع الاعتراف بفضلهم وعظيم جهدهم
-بيان أهم التفاسير التى استعان بها المصنف في تفسيره وهى :الكشاف للزمخشرى والمحرر الوجيز لابن عطية ومفاتيح الغيب للرازي وتفسير البيضاوى المجموع من تفسيري الكشاف والرازى وتفسير الآلوسي وتفسير القرطبي و تفسير أبي السعود والموجود من تفسير ابن عرفة التونسي وهو في حقيقته تعليق على تفسير ابن عطية،وتفسير ابن جرير الطبري ودرة التنزيل المنسوب للفخر الرازي وربما للأصفهاني،مع العلم بأنه لايعزو الكلام لمن قاله منهم اختصارا
-مسلك المصنف في تفسيره :
اهتمامه في تفسيره ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الإستعمال لقلة اهتمام المفسرين ممن سبقوه بهذه الجوانب كما ذكر بحسب الإلهام والتدبروالفهم .
الاهتمام ببيان تناسب الآيات واتصال بعضها ببعض أما تناسب السور بعضها مع بعض فلايراه المصنف حقا على المفسر
بيان أغراض كل سورة لئلا يكون النظر في القرآن مقصورا على بيان معاني المفردات كأنها فقر مختلفة فيذهب بانسجام القرآن وروعة بلاغته وإعجازه وهذا فيه هضم لحق القرآن
تبيين معانى مفردات اللغة بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة
-الثناء على هذا التفسير بأنه :ساوى على اختصاره مطولات القماطير وتسميته بالتحرير والتنوير
المقدمة الأولى :في التفسير والتأويل وكون التفسير علما :
-أصل كلمة التفسير:
هو مصدر فسر بتشديد السين وهو مضاعف فسر بالتخفيف وكلاهما فعل متعد
-معنى الفسرفي اللغة :
الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر
وقيل الفعلان والمصدران متساويان في المعنى، وقيل الفعل المضعف يختص بإبانة المعقولات ووجه ذلك أن بيان المعقولات يكلف قائله كثرة القول ،وقد يكون التكثير مجازيا من جهة الكد في إعمال الفكر لتحصيل المعانى الدقيقة ثم اختيار أضبط الأقوال لإبانتها مما يحتاج إلى عمل كثير
استعمال التضعيف في الفعل المتعدى يفيد الدلالة على التكثير
-الفرق بين التفسير والتأويل :
جماع القول في ذلك أن من العلماء من جعله مساو له كما ذهب ثعلب وأبو عبيدة وابن الأعرابي وظاهر كلام الراغب
ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه
ومنهم من فسره بالمعنى الأصولي فقيل: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل
وهذه كلها اصطلاحات لامشاحة فيها إلا أن اللغة والآثار تشهد للقول الأول :
فمن جهة اللغة :التأويل مصدر أول الشيء إذا أرجعه غلى الغاية المقصودة وهو معناه وما أراد به المتكلم من المعانى فساوى التفسير
إلا إنه لايطلق إلا على مافيه تفصيل معنى خفي
ومن جهة النقل :قال تعالى {هل ينظرون إلا تأويله} أي بيانه الذي هو مراد منه
وفي حديث عائشة كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره}فقولها: "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله غلى جوار ربه
-معنى التفسير في الاصطلاح:
هو اسم للمعنى الباحث في معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع
-موضوع علم التفسير :
ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه وما يستنبط منه وبهذا خالف على القراءات المعني بألفاظ القرآن
-هل يطلق على التفسير علم التفسير :
يرى المصنف أن اعتبار التفسير علما يعد تسامحا وذلك لأمور منها :
أن العلم إذا أطلق إما أن يراد به نفس الإدراك (تصور أو تصديق)كماهو قول أهل المنطق أو يراد به العقل أو التصديق الجازم الذي هو ضد الجهل ،وهذا غير مراد في عد العلوم
وإما أن يراد بالعلم :مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهى قضايا كلية ،ومباحث هذا العلم ليست بقضايا كلية بل هى تصورات جزئية غالبال لأنه تفسير ألفاظ واستنباط معان وكلاهما ليس من القضايا الكلية
-يرى المصنف أن اعتبار التفسير علما مستقلا عند البعض لوجوه ستة:
1-لكون مباحثه تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها فهو أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما
2-أن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في ذلك العلم إنما هو شرط اشترطه العلماء في تقسيم العلوم المعقولة أما العلوم الشرعية والأدبية فلايشترط فيها ذلك بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمن يتناولها وكلام الله أعلاها في ذلك
3-أن التعاريف اللفظية وتفرع المعانى الجمة عنها ينزلها منزلة القضايا الكلية والاحتجاج عليها بشعر العرب يقوم مقام البرهان للمسألة
4-أن علم التفسير لايخلو من قواعد كلية في ضمنه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {ما ننسخ من آية} وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وما يعلم تأويله} وقواعد المحكم عند تقرير {منه آيات محكمات} فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا
5-أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ،لكن انشغال المفسرين بتقصي بيان معاني القرآن صرفهم عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة
6- أن التفسير أول علم اشتغل به علماء الإسلام قبل تدوين العلوم الأخرى فيحصل لمزاوليه من كثرة المناظرة فيه والدربة ملكة يعرف بها أساليب القرآن ودقائق نظمه فيفيد ذلك علوما كلية تختص بالقرآن المجيد
-تحقيق القول في مرتبة علم التفسير :
قال المصنف :أن هذا العلم إن أخذ من باب البيان والتفسير لمراد الله من كلامه فهو يعد من أصول العلوم الشرعية بل هو رأسها
وإن أخذ من باب بيان المكي والمدني والناسخ والمنسوخ والعام والخاص كان معدودا في متممات العلوم الشرعية ولايكون رئيسا لها
وعلم التفسير هو أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق
-نشأة علم التفسير:
علم التفسير هو أول العلوم ظهورا منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الصحابة يسألون عن بعض معانيه كما سأل عمر عن معنى الكلالة
ثم اشتهر فيه بعد ذلك عدد من الصحابة مثل على وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو وابن مسعود
ثم لما دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية لزم التصدي ببيان معاني القرآن للحد من الخوض فيه
وشاع عن النابعين وأشهرهم مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير
-أول من صنف في علم التفسير :
عبد الملك بن جريج المكي ت149 ه صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع آثارا
أكثر روايته عن أصحاب ابن عباس كعطاء ومجاهد
-المرويات في التفسير ونسبتها ومراتبها:
صنفت تفاسير نسبت روايتها إلى ابن عباس كتفسير محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن بن عباس وتكلم فيها أهل الأثر وهي أوهى الروايات لاتهام أبي صالح بالكذب ،ورواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي فهى سلسلة الكذب
وقيل إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل
وهناك رواية مقاتل ورواية الضحاك ورواية على بن أبي طلحة عن بن عباس وأصحها رواية على بن أبي طلحة عن بن عباس وهى التى اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عند تفسير المفردات على طريقة التعليق
والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد
هناك روايات تسند لعلى رضي الله عنه أكثرها من الموضوعات إلا ماروي بسند صحيح لأن له رضي الله عنه فهما في كتاب الله كما جاء في صحيح البخاري
-مسالك المفسرين في تفاسيرهم :
منهم من سلك مسلك نقل مايؤثر عن السلف وأولهم في ذلك :مالك بن أنس وكذلك الداودي تلميذ السيوطى وأشهرهم الإمام بن جرير الطبري
ومنهم من سلك مسلك النظر كالزجاج وأبي على الفارسي
وشغف كثير بنقل القصص والإسرائيليات فكثرت في كتبهم الموضوعات
إلى أن جاء عالمان جليلان أحدهما بالمشرق وهو الزمخشري والآخر بالغرب وهو ابن عطية الأندلسي فكلاهما عنى بالجانب البلاغي والعربي والغوص في معاني الآيات وذكر شواهدها من كلام العرب وأشعارهم إلا أن الزمخشري كان أخص في هذا الباب وكان ابن عطية أنحى لجانب الشريعة
المقدمة الثانية:استمداد علم التفسير :
-المراد باستمداد علم التفسير :
أي توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم لتكون عونا لهم على إتقان تدوين هذا العلم
-سبب تسميته بالاستمداد :
تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بالمدد
-مصادر استمداد علم التفسير :
استمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد هو جماع علم العربية وعلم الآثار وأصول الفقه وأخبار العرب
وقيل علم الكلام وعلم القراءات
-المصدر الأول قواعد العربية والمراد بها:
& هى مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان.
& ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم
&ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين
-أولا :علم العربية وعلوم اللسان العربي:
والمراد منه :معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة بالسجية والسليقة كالمعرفة الحاصلة للعربي القح أوبالتلقي والمشافهة بالتعليم كالمعرفة الحاصلة للمولدين
-أهمية معرفة قواعد العربية عموما وعلمى البيان والمعانى خصوصا:
أولا :أهمية معرفة قواعد العربية عموما :
معرفة العربية وقواعد اللغة أدعى للحفاظ على بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها
ثانيا :علم البلاغة وأهمه البيان والمعانى :
لعلمى البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية
كان هذان العلمان في القديم يسميان علم دلائل الإعجاز
قال السيد الجرجاني في شرحه: ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها فلا بد لمن أراد الوقوف عليها، إن لم يكن بليغا سليقة، من هذين العلمين إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة
وقال أيضا: كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة ومعاني غالية، لا يحصل الاطلاع على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه
قال السكاكى في آخر فن البيان من "المفتاح": "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة
قال المصنف:وعلم البلاغة به يحصل انكشاف بعض المعانى واطمئنان النفس له
وبه يترجح أحد الاحتمالين على الآخر في معانى القرآن ولذلك أمثلة كثيرة منها :ترجيح معنى كون الباء للتأكيد لا للتبعيض في قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم} إذا استشهد على ذلك بقول النابغة: لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا = وأصبح جد الناس يظلع عاثرا
وظهر له أن دخول الباء على المفعول للتأكيد طريقة مسلوكة في الاستعمال
-الاستشهاد بديوان العرب في التفسير معروف عند الصحابة والسلف:
قال عمر :عليكم بديوانكم لاتضلوا هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعانى كلامكم
وعن ابن عباس:الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم
وأما مايؤثر عن أحمدبن حنبل انه سئل عن الاستشهاد بالشعر في بيان معانى القرآن وقوله :مايعجبنى فهو عجيب فلعله يريد كراهة استعمال الشعر في إثبات صحة ألفاظ القرآن كمايفعل بعض الملاحدة
-الآثار المترتبة على الجهل بالعربية والبلاغة :
من يتعاطى التفسير وهو جاهل بهذه العلوم قد يتوهم ألباب الألفاظ الموضوعة للمجاز أنها على حقيقتها فيفسدوا المعنى ويبطلوا الغرض الذي سيقت من أجله
من لم يعرف هذين العلمين أعنى علمى المعانى والبيان إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج لطائفه أخطأ غالبا، وإن أصاب نادرا كان مخطئا في إقدامه عليه"،ذكرمعناه الجرجاني
وقال ابن رشد مجيبا على من قال أنه لايحتاج إلى لسان العرب:
هذا جاهل فلينصرف عن ذلك وليتب منه فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب يقول الله تعالى: {بلسان عربي مبين} إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيما
ثانيا: استعمال العرب المتبع من أساليبهم:
والمراد به :التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وعوائدهم وأمثالهم ليحصل عند المولد ذوق يقوم مقام السليقة والسجية التى للعربي القح
والذوق :هو كيفية للنفس بها تدرك المزايا التى للكلام البليغ
وشرط حصول ذلك الذوق هو تدبر الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة كما أشار الجد الوزير ،ففيه وجوب اختيار الممارس للكلام المشهود له بالبلاغة نحو المعلقات والحماسة ونهج البلاغة ومقامات الحريري ورسائل بديع الزمان
وقال صاحب المفتاح كلاما خلاصته أنه لابأس على الدخيل في علم المعانى أن يقلد صاحب الذوق إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق
-الوسيلة إلى إيجاد الذوق أو تكميله :
من ذلك:الاستشهاد على المراد من المعانى في الآية بنحو بيت شعر أو شىء من كلام العرب عند خفاء المعنى وليقنع السامع والمتعلم ممن لم يكمل لديهم الذوق في المشكلات
ويدخل في الاستعمال العربيما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين استعمالهم كما روى مالك في الموطأ عن عروة في سؤاله لعائشة عن معنى نفي الجناح عمن تطوف بين الصفا والمروة ورفع الشبهة في أن المراد برفع الجناح الإباحة دون الوجوب
-المصدر الثانى لاستمداد علم التفسير هو الآثار:
-وهو مانقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال كالإخبار عن المغيبات أو تفسير مجمل لاسبيل إليه إلا بتوقيف وذلك شىء قليل كما روى عن عائشة{ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل}
-وما نقل عن الصحابة من بيان سبب النزول أو الناسخ والمنسوخ أو تفسير مبهم مما طريقهم فيه الرواية عن رسول الله دون الرأي
فائدة :استعمال أسباب النزول كمادة للتفسير يعين على تفسير المراد ولايقصر المعنى فيه إذ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب
وقد يكون سبب النزول المروي مؤولا لظاهر غير مقصود كما فهم قدامة بن معظون رفع الجناح عن شارب الخمر إذا كان من المؤمنين المتقين
-وإجماع الأمة على تفسير معنى يدخل في الآثار كالإجماع عن أن المراد بالأخت في آية الكلالة الأولى الأخت لأم
-المصدر الثالث من مصادر استمداد علم التفسير :علم القراءات :
القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
فإنه يحتاج إليها عند الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها أو ترجيح أحد المعانى أو استظهارها؛فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب والسبب في ذلك:
أنها إن كانت قراءة مشهورة فلاشك في أنها حجة لغوية وإن كانت شاذة فحجتها من جهة الاستعمال العربي الصحيح لا من حيث الرواية
-المصدر الرابع:أخبار العرب:
وهى من جملة أدبهم وقد ذكرها المصنف معللا ذلك لئلا يتوهم أن الاشتغال بها من اللهو فيستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن حين يسوق تلك الأخبار ومن ذلك قوله تعالى {ولاتكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} وقوله {قتل أصحاب الأخدود}ففهم المعنى متوقف على معرفة تلك الأخبار
-المصدر الخامس :أصول الفقه
لايعد كله من مادة التفسيرولكن بعضه وذلك من جهتين :
الأولى :أنه قد أودعت فيه مسائل كثيرة هى من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة التى أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل فحوى الخطاب ومفهوم المخالفة
وقد عد الغزالى أصول الفقه من جملة العلوم التى تتعلق بالقرآن وأحكامه
الثانية :أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط فهو آلة المفسر في استنباط المعانى الشرعية من النصوص
-وقد أشار المصنف إلى علم الكلام وأنه يعتبر عند بعض أهل العلم من مصادر استمداد علم التفسير
قال :قال عبد الحكيم: لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما، وذلك يحتاج إلى علم الكلام،وقال الآلوسي : لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام (يريد آيات الصفات)كقوله تعالى {الرحمن على العرش استوى }
وجعل كلام الآلوسي أقرب توجيها ثم تعقب ذلك فقال :
-وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير
-ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير
-مالايعد من مادة التفسير:
-ومما لايعد من مادة التفسير أيضا :الفقه لعدم توقفه عليه فعلم الفقه فرع عن علم التفسير ومتأخر عنه وإنما يحتاجه المفسر عند قصد التوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعانى
-الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تفسير آيات إذ هو التفسير بعينه لا مادته
-وكذلك الآيات القرآنية التى يفسر بعضها بعضا لان ذلك من قبيل حمل الكلام بعضه على بعض كبيان المجمل وتقييد المطلق وفحوى الخطاب ومفهوم المخالفة
وأما ماذكره أبو علي الفارسي أن القرآن كله كالسورة الواحدة وأنه يذكر الشيء في السورة وجوابه في أخرى فإنه ليس على إطلاقه وليست كل آيات القرآن يحمل بعضها على بعض بل منها المستقل بمعانيه
- تنبيه:
استمداد علم التفسير من هذه المواد لاينفي كونه رأس العلوم الإسلامية فهو أصلها على الإجمال وإنما استمداده منها لقصد التفصيل على وجه أتم من الإجمال
المقدمة الثالثة :
الإجابة على تساؤل عن صحة التفسير بغير المأثور لمن استجمع من علوم التفسير حظا وافيا وذوقا في اللغة فيفسر بمعان تقتضيها تلك العلوم التى يستمد منها التفسير وماهو القول في شأن التفسير بالرأي والتحذير الذي جاء الخبر عنه ؟
ولكى يجاب عن هذا التساؤل فلننظر في فعل السلف ومنهجهم في التفسير وهم أئمتنا وقدوتنا :
-الواقع يشهد بكثرة أقوال الصحابة ومن تبعهم في التفسير وليس كل ماقاله الصحابة في التفسير كان مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال القرطبي والغزالى وذلك لوجهين:
-الأول:أنه لم يثبت عن النبي إلا تفسير آيات قليلة
-الثانى :أنهم قد اختلفوا في تفسير بعض المواضع اختلافا متباينا لايمكن فيه الجمع ويستحال أن يكون جميعها مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم
فيتبين أن كل مفسر منهم قال بما ظهر له من الاستنباط من الآية ويشهد لذلك قول على في الحديث الذي رواه البخارى في صحيحه حين سئل : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال: "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن
-ودعاء النبي لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقد أجمع العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن"
-ولو كان التفسير مقصورا على بيان معانى مفردات القرآن لكان التفسير نزرا ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف في التفسير
-وقد أمرنا بتدبر القرآن قال الغزالي في الإحياء: "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين
-قال الطيبي في شرح الكشاف : شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير
وقال الفخر الرازى : ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء
قال الغزالى :ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة".
-وقد كان استنباط الأحكام الشرعية في القرون الثلاثة الأولى من خلال تفسير آيات القرآن بما لم يسبق به تفسيرها قبل ذلك كما استنط الشافعى دليل الإجماع من قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين }
-الجواب عن الشبهة الناشئة من الخلط في فهم الآثار المروية في التحذير من التفسير بالرأي :
1-أن المراد بالرأى في هذه الآثار :الرأي المجرد عن النظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة ومالابد من معرفته كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ
2- ىأن لايتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما بدا له من أول وهلة دون النظر لجوانب الآية ومادة التفسير كمن يعتمد في تفسير الآية على جانب العربية فقط في تفسير قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله} على ظاهر معناها وأن المراد أن الخير من الله والشر من نفس الإنسان غافلا عما سبق من قوله {قل كل من عند الله}
3-أن يكون له ميل أو نزعة إلى مذهب فيتأول القرآن بما يوافق هواه ونزعته فيحمله على مالايساعد عليه المعنى المتعارف ويتعصب له
حتى وإن لاح له الحق كتفسير المعتزلة لقوله تعالى {إلى ربها ناظرة}وأن {إلى }مفرد آلاء وهو خلاف الظاهر والمقصود والمأثور من الآية وكقول البيانية في تفسير قوله {هذا بيان للناس }أنه بيان بن سمعان ونحو ذلك من التأويلات الباطلة
4-أن يفسر القرآن برأي مستند إلى مايقتضيه اللفظ دون غيره فيضيق على المتأولين
5-أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر ونبذ التسرع في ذلك وهذا المقام تفاوت فيه كثير من العلماء
فقد اشتد الغلو في الورع عند بعضهم كالأصمعي كان لايفسر كلمة من العربية إذا كانت واردة في القرآن
وقد يعترى بعض أهل العلم ذلك الخوف في أحوال دون أحوال ؛فهذا أبو بكر رضي الله عنه حين سئل عن تفسير الأب في قوله {وفاكهة وأبا }. فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي
وهو نفسه الذي سئل عن الكلالة في آية النساء فقال: أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان
-الرد على من جمدوا على القول بالتفسير بالمأثور وحسب:
-إن كان مرادهم بالمأثور ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من صحيح ما ورد في تفسير بعض الآيات فقد ضيقوا واسع معانى القرآن وناقضوا أنفسهم في مادونوه من التفاسير وغلطوا سلفهم من الصحابة فيما تأولوه من معانى القرآن مما لم يرد رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معانى آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن تكون مما بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
-وإن أرادوا بالمأثور ماروى عن النبي وأصحابه فقد وسعوا ذلك التضييق قليلا لأن أكثر الصحابة لم يرو في التفسير إلا قليلا سوى ماروى عن على بن أبي طالب على مافيه من الصحيح والضعيف والموضوع وما روى عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم
-وإن أرادوا بالمأثور ماروى قبل تدوين التفاسير من أصحاب ابن عباس وابن مسعود فقد بدؤوا يفتحون الباب على مصراعيه لأن التابعين من هؤلاء رويت عنهم أقوال في التفسير غير مسندة إلى الصحابة ولم يذكروا أنهم حذفوا أسانيدها إليهم وأنه قد اختلفت أقوالهم في بعض معانى الآيات اختلافا يدل على أنهم تأولوا معانى تلك الآيات من أفهامهم
-أقسام المفسرين من حيث التفسير بالمأثور :
-وممن إلتزم التفسير بالمأثور عن الصحابة والتابعين ابن جرير الطبري لكنه كان يعقب ذلك بالاختيار والترجيح بشواهد من كلام العرب متجاوزا بذلك ما حدده لنفسه من الرواية بالمأثور وقد انتهج نهجه ابن أبي حاتم والحاكم
-وأما الذين لم يحصروا أنفسهم في الاقتصار على التفسير بالمأثور وحسب مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين ثم الزجاج والرمانى من بعدهم وانتهج نهجهم صاحب الكشاف وابن عطية
-نموذج لطائفة إلتزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها:
النموذج الأول :الباطنية
أصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة ولقبوا بالباطنية نسبة إلى صفتهم ويعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية نسبة إلى جعفر الصادق الذي يعدونه إماما معصوما ويزعمون أنه لابد للمسلمين من إمام من آل البيت يقيم لهم الدين ويبين لهم مراد الله
مذهبهم مبنى على قواعد إشراقية والتناسخ والحلولية ومن طقوس اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة...
وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وكل علوي يحل فيه الإله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وهؤلاء صرفوا ألفاظ القرآن إلى معانى وصفوها بالباطن ليروجوا بدعتهم وانتهجوا ذلك في كل آي القرآن دفعا لاحتجاج أهل السنة عليهم بالتعصب والتحكم بتخصيص آيات بعينها تصرف عن ظاهرها إلى الباطن الذي ادعوه
فادعوا أن القرآن عبارة عن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ لها معان ظاهرة يشتغل بها عامة المسلمين
ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قوله تعالى {اذهبا إلى فرعون إنه طغى } فسروها بطغيان القلب
ومن التفاسير الباطنية تفسير القاشانى ولهم أقوال كثيرة مبثوثة في رسائل إخوان الصفاء
-الرد على هؤلاء الباطنية:
رد عليهم الغزالي في كتابه "المستظهري"وقال: إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى
وقال المصنف وما احتجوا به يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن الظاهر لايختلف عليه أحد لاستناده للغة الموضوعة من قبل وأما الباطن فهو قائم على الفهم وليس لأحد فيه الحجة المطلقة إلا إذا ادعوا أنهم يتلقون هذا الفهم عن الإمام المعصوم عندهم وهذا هو غالب الظن بهم ،والذي يؤيد هذا الظن أنه قد وقع في بعض قراطيسهم أنه إنما ينتقل من الأصل إلى البدل عند عدم الأصل قالوا والنظر بدل الخبر فالله خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته الذي يبين قوله فلاينتقل إلى النظر
-القول الفصل في الحديث المرفوع {إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا}
لايصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل مروى عن ابن عباس على أن بقية الرواية فيها تفسير المراد بالظاهر والباطن وأن الظاهر ألفاظه والباطن تأويله ومعانيه
-الفرق بين الباطنية وأهل الإشارات من الصوفية :
أهل الإشارات من الصوفية في كلامهم في بعض الآيات التى يؤولونها عن ظاهر اللفظ لايدعون أن ذلك تفسير للقرآن بل يقصدون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم ويدل على ذلك تسميتهم ذلك بالإشارات
-رأي علماء الحق في التفسيرالإشاري:
للعلماء فيها رأيان:
1- فالغزالي يرى أنها مقبولة
ومثاله ماذكره في قوله صلى الله عليه وسلم {إن الملائكة لاتدخل بيتا فيه صورة ولاكلب}وأن ظاهره أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقرآثارهم وأن الصفات الرديئة من الشهوة والغضب ونحوه كلاب نابحة في القلب فلاتدخل الملائكة القلب وهو مشحون بالكلاب
والشاهد على هذا هوقوله : ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر
قال المصنف :وهذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما جاء عن عمرو بن عطاء في الصحيح عند تفسير قوله تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قال هم كفار قريش ومحمد نعمة الله
2- وأما ابن العربي في كتابه العواصم فيرى إبطال هذه الإشارات وإبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره وتكلم في الغزالي ورماه بالتصوف بعد أن قد كان أثنى عليه حين رد على الباطنية
-رأي المصنف في هذه الإشارات :
يرى أنها لاتعدو واحدا من ثلاثة أنحاء :
1-نوع من الإشارات يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك العلم ومثاله عند قوله تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} فذكر المساجد إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى ومنعها من ذكره بالحيلولة بينها وبين وصول العلم اللدني
إليها ؛فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لايزكى نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه عن وصول المعارف الإلهية إليه بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله ؛فذكر الآية عند هذه الحال كالنطق بالمثل
2-ومنه ماهو من قبيل التفاؤل بانصراف ذهن السامع عند سماع الكلمة إلى ماهو مهم عنده وإن كان هذا المعنى الذي انصرف إليه ذهنه غير مراد بالآية كما في قولهم عند قوله تعالى {من ذا الذي يشفع} من ذل ذي ،إشارة إلى أن من ذل نفسه يصير من المقربين الشفعاء
3-نوع عبرة ومواعظ فإن أصحاب النفوس اليقظى شأنها أنها تستفيد من كل شيء تسمعه أو تراه فما بالك حين سماعها وتدبرها كلام الله مثال ذلك :مافهموه عند سماع قوله تعالى {وعصى فرعون الرسول } فاقتبسوا أن القلب الذي يعصي رسول المعارف يستحق العقاب الوبيل
فليست تلك الإشارات الثلاثة السابقة هى حق الدلالة اللفظية والإستعمالية حتى تكون من حد اللفظ وتوابعه
وكل إشارة خرجت عن حد هذه الإشارات الثلاثة فهى أقرب إلى قول الباطنية رويدا رويدا حتى تصير هى عينه
-أمور ليست من التفسير بالإشارة :
ومن ذلك دلالة الإشارة وفحوى الخطاب وفهم الاستغراق من لام التعريف ودلالة التضمن والإلتزام
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة
ومن ذلك:استدلالهم من تنبيهات القرآن على مشروعية أشياء، كالوكالة من قوله تعالى {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه }
واستدلالهم على مشروعية الضمان من قوله تعالى {وأنا به زعيم}
ومشروعية القياس من قوله {لتحكم بين الناس بما أراك الله }
ومنه أيضا:المعنى المجازى نحو {ياجبال أوبي معه}
ولا ماهو من قبيل تنزيل الحال منزلة المقال كقوله {وإن من شيء إلا يسبح بحمده }
لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية
-التنبيه على خطر التفسير بالرأي المذموم:
وهو ماكان فيه التفسير إلى غير مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء قول أو رأي عن غير ضلاعة في العلوم التى أشير إليها في المقدمة الثانية
وأن الواجب على أهل العلم تقويم الاعوجاج الحاصل من الذين يتصدون لتفسير معانى كتاب الله عن غير أهلية لئلا يختلط الحق بالباطل
المقدمة الرابعة :
بيان غرض المفسر من تفسير القرآن وفائدة ذلك:
-غرض المفسر بيان مايصل إليه من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان من كل مايوضح المراد من :مقاصد القرآن أو مايتوقف عليه فهمه أو يخدم المقصد تفصيلا أأو تفريعا مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء أو توقع مكابرة من معاند او جاهل
لذا كان حقا على المفسر أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن ويعرف إصطلاحه في إطلاق الألفاظ ؛فإن للتنزيل اصطلاح وعادات
- وفائدة هذا البيان :
ليعرف المطالع للتفاسير على اختلاف طرائقها مقدار اتصال تلك التفاسير بالغاية التى يرمى إليها المفسر وتقدير مقدار ماوفى به من المقصد ومقدار ماتجاوزه ،ومن ثم التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه وبين من يفصل معانيه
-المقصد من إنزال القرآن:
أنزل الله هذا الكتاب لصلاح أمر الناس رحمة لهم :
1-على مستوى الأفراد بتهذيب النفس وتزكيتها :
وعلى رأسها إصلاح العقائد والأفكار وإصلاح السرائر خاصة العبادات الظاهرة والباطنة
2-وعلى مستوى الجماعات الذي يبداأ بصلاح الأفراد
3-وشىء زائد على ذلك(المعاملات) :وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات والقوى النفسية
4-والصلاح العمراني :وهو حفظ نظام العالم الإسلامى وضبط تصرف الجماعات بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصلحة الجميع،ومراعاة المصالح الكلية وتقديم المصلحة الجامعة على المصلحة القاصرة عند التعارض وهو مايسمى بعلم العمران والاجتماع
-مراد الله من كتابه :
قد بينه الله تعالى لنا بقوله {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} وقد تعبدنا الله تعالى بمعرفة مراده والإطلاع عليه
-اختيار الله تعالى للسان العربي مظهرا لوحيه وأن يكون العرب أول المتلقين لشرعه وحمله لأسباب منها:
كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا وأكثرها تحملا للمعانى مع إيجاز لفظه
ولتكون الأمة المتلقية له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية
تنبيه : كون القرآن يخاطب العرب لايعنى أن يكون التشريع قاصرا عليهم :
لاريب أن من مقاصد القرآن تصفية نفوس العرب وإصلاحها إذ هم المتلقون الأول للخطاب الناشرون له فيما بعد
لكن لايعنى ذلك أن الخطاب القرآنى والتشريعات قاصرة عليهم بل إن معجزة القرآن المستمرة وعموم شريعته يبرهن على عالمية القرآن وشموله لجميع الخلق
-المقاصد الأصلية للقرآن بحسب استقراء المصنف:
1-إصلاح الإعتقاد الذي هو السبب الأعظم في إصلاح النفس لأنه يزيل عن النفس الإذعان لغير ماقام عليه الدليل وتطهير القلب من الإشراك والدهرية ومابينهما ..{فما أغنت عنهم آلهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جاء أمر ربك ومازادوهم غير تتبيب} فأسند التتبيب إلى الآلهة وليس من فعلها تنبيها على أثر الإعتقاد بها
2-تهذيب الأخلاق كما قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم} وروى مالك في الموطأ{إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}
3- التشريع:وهو الأحكام الخاصة والعامة وقد جمع القرآن الأحكام جمعا كليا في الغالب،قال الشاطبي:لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه فلايكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية
4-سياسة الأمة ومقصده حفظ الأمة ومصالحها بإرشادهم إلى الإجتماع والتآلف قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} وقوله {وأمرهم شورى بينهم}
5-التأسي بصالح أحوال الأمم السابقة من خلال القصص والأخبار القرآنية وأيضا التحذير من مساويهم
6-التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين ومايؤهلهم لتلقي الشريعة ونشرها وهو علم الشرائع وعلم الأخبار ،وهذان العلمان هما مبلغ علم مخالطى العرب من أهل الكتاب
لذا زاد القرآن على ذلك: تعليم ميزان العقول وصحة الاستدلال من خلال الدعوة إلى النظر والتفكر والتعقل ومن خلال مجادلة الضالين ولذا نوه عن الحكمة ومنزلتها فقال {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا }
وقد نبه القرآن على فضيلة العلم وفائدته في مواطن كثيرة جدا وقد كانت قصارى علوم العرب تجريبية فنبه القرآن إلى مزية الكتابة {ن،والقلم ومايسطرون}{قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون}
7-المواعظ والإنذار والترهيب والتبشير وهذا يجمعه آيات الوعد والوعيد،وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين وهو باب الترغيب والترهيب
8-الإعجاز بالقرآن ليدل على صدق الرسول فالتصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي،والقرآن معجز بلفظه ومتحدى بمعناه وقد وقع التحدي فيه {قل فأتوا بسورة مثله }
-طرائق المفسرين للقرآن ثلاث:
1- إما الإقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب وبيانه وإيضاحه وهو الأصل
2-وإما استنباط معانى من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يعارضها الاستعمال ولامقصد القرآن ومثاله :كون التأكيد يدل على إنكار المخاطب وتردده وفحوى الخطاب ودلالة الإشارة وهى من مباحث علم البلاغة
-والمفسر لايلام إذا أتى بشىء ن تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية مثل أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر ويذكر آداب العالم والمتعلم ،وكذلك تقرير مسائل من علم التشريح لزيادة بيان قوله تعالى {من نطفة ثم من علقة} فإنه يخدم مقاصد القرآن ببيان عظمة القدرة الإلهية
3- وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى ،أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لقصد التوسع لا على أنه مماهو مراد الله من تلك الآية
-وهذه الطريقة تجلب مسائل علمية من علوم لها تعلق بمقصد الآية كما يفسر أحدهم قوله تعالى { ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا } فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله {خيرا كثيرا} فبيان تفاصيل الحكمة ليس من المعنى الأصلي للآية ولكن تفاريع المعنى تعين على فهم المقصد الأصلى للآية
ومثال آخر كمافي قوله تعالى {كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم} فيؤخذ منها تفاصيل علم الاقتصاد السياسي و توزيع الثروة العامة ونعلل تشريعات الزكاة والمواريث والمعاملات فالآية تومىء لهذه الأمور إيماء
على أن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير الآية مثل برهان التمانع لتقرير قوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقوله {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها}فإن مقصد الآية الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر تلك الحالة بيانا وتفصيلا لكان فيه زيادة إيضاح وبيان للمقصد
-وقد تكون هذه الطريقة على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع
أو على وجه الاسترواح من الآية كمافي قوله {ويوم نسير الجبال} على أن فناء العالم سيكون بالزلازل ونحوه وشرط قبول هذا أن يكون على سبيل الإيجاز والخلاصة فيه
-آراء العلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة:
1- قول ابن رشد الحفيد خلاصته أن هناك اتصالا بين العلوم الشرعية والفلسفية وأنه لايجب أن تحمل جميع ألفاظ الشرع على ظاهرها ولا أن تخرج جميعها عن ظاهر التأويل وهذا هو السبب في ورود الشرع بظاهر وباطن
وممن وافق هذا الرأي الشيرازى والغزالى والرازى وابن العربي ،وقد ملؤا كتبهم بالاستدلال على المعانى القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها
فمثلا ابن جنى والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا تفاسيرهم من الاستلال على القواعد العربية
-وتعقب المصنف هذا الكلام وذكر أن معانى كلام الله تعالى لاتبنى على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق ؛فكل ماكان من الحقيقة في علم من العلوم وكان للآية تعلق به فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما وصلت إليه أفهام البشر أو ستصل وهو مبنى على توفر الفهم
وشرطه:
-ألا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية
-لايبعد عن الظاهر إلا بدليل
-لايكون تكلفا بينا ولايكون خروجا عن المعنى الأصلى فيقارب التفاسير الباطنية
2- رأي الشاطبي :يرى أنه لايصح في مسلك الفهم والإفهام إلا مايكون عاما لجميع العرب ؛فلايتكلف فيه فوق مايقدرون عليه
وقال :إن كثيرا من الناس تجاوزوا الحد في الدعوى على القرآن فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبيعة والمنطق والحروف ... وقد كان السلف الصالح أعلم الناس بالقرآن وعلومه وما أودع فيه وأنه لم يبلغنا أنهم تكلموا في شىء من هذا سوى ماثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة
-وقد تعقب المصنف هذا الكلام أيضا: فذكر أن رأي الشاطبي هذا مبنى على ما أسسه من أن القرآن خطابا للأميين وأن الشريعة أمية فإنه يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على قدرتهم وطاقتهم ،وأن هذا لرأي واه لوجوه ستة:
1-أن ما بناه يقتضي أن القرآن لم يقصد انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا}
2-مقاصد القر آن راجعة إلى عموم الدعوة وأنه معجزة باقية فذلك يقتضي أن يكون فيه مايصلح أن تتناوله أفهام من يأتى من الناس في عصور انتشار العلوم
3-كما أن السلف ذكروا أن القرآن لاتنقضي عجائبه أي معانيه ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار معانيه
4-من تمام إعجازه أنه مع إيجاز لفظه إلا إنه يتضمن من المعاني ما لم يف به كثير من الأسفار
5-أن مقدار أفهام المخاطبين متفاوتة وذلك يقتضي أن يكون المعنى الأصلي مفهوما عند الجميع وتتفاوت الأفهام فيما زاد على ذلك فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
6-أما عدم تكلم السلف على هذه العلوم فلايخلو من إحدى حالتين :إما أن يكون عدم تكلم السلف في علوم غير راجعة إلى مقاصد القرآن فنقر بذلك القول وإما أن يكون عدم تكلمهم في علوم راجعة إلى مقاصد القرآن فلا نسلم بوقوفهم على ظواهر الآيات فحسب لأنهم تكلموا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها ولايمنع أن نقفي على آثارهم في علوم أخرى مما يتعلق بمقاصد القرآن
وأما ماوراء ذلك فإن كان ذكره يفيد في إيضاح المعنى فهو تابع للتفسير وما زادعلى ذلك فليس من التفسير ولكنه من باب الاستطراد لمناسبة التفسير
3-رأي ابن العربي في كتابه العواصم :إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية ومعانى القرآن وتحقيره الفلسفة لأجل ما اختلطت به من الضلالات العقدية
وتعقبه المصنف بقوله وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء
-رأي المصنف في العلاقة بين العلوم ومعانى القرآن وأنها على أربع مراتب:
الأولى: علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية: علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة: علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي
المقدمة الخامسة:أسباب النزول:
-تعريف أسباب النزول :
-هى حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها أو لبيان حكمتها أو لإنكارها و...
-فائدة معرفة أسباب النزول :
في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.
-أحوال المفسرين مع أسباب النزول :
-أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن فصار الأمر دائرا بين القصد والإسراف
-فمنهم من يوهم الناس أن كل آية نزلت لها سبب وحتى رفعوا الثقة بماذكروا
-وليس الأمر كذلك ؛فإن بعض الآيات يأتى ذكر سبب نزولها صريحا في القرآن وأخرى ثبتت بالنقل
-فإن القرآن كتاب هدى وتشريع للأمة وهذا الهدى قد يكون واردا قبل الحاجة ،وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء وقد يكون مخاطبا به عموم الأمة
-وقد جاء القرآن في كل هذه الأحوال(أعنى السابق ذكرها) بتشريعات كلية والحكمة من ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها أسهل وليمكن تواتر الدين (فلايكون حكرا على قوم دون آخرين) وليكون العلماء مزية الاستنباط
-ولذا فإنه لايجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية ولايجوز تعميم ما أريد به الخصوص لأن ذلك يبطل مراد الله
-أهمية التكلم في هذا الباب :
-والذي دفع المصنف للتكلم في هذا الباب :أن غض الطرف عنه وإرسال الحبل فيه على غاربه خطر عظيم على فهم القرآن
-ولأجل ما قد وقع فيه عدد من أساطين المفسرين الذين قد حشوا كتبهم بذكر أسباب النزول وجميع الروايات فيها غير منبهين على الصحيح منها والضعيف حتى توهم الناس أنه مامن آية في القرآن نزلت إلا لسبب
-وهذا وهم باطل فإن القرآن أنزل لهداية الناس وصلاح حياتهم ونفوسهم ولايتوقف نزوله على حوادث تدعو لتشريع الأحكام
-عذر المتقدمين ممن فعلوا ذلك أن كل مصنف في علم لم يشبع فهو شغوف بالتوسع فيه فلاينفك عن الاستزادة في ما يلتقط ليثري قبسه
-قد بين العلماء القاعدة المشهورة في أسباب النزول وهى :العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص ،فأين المشكلة إذن؟
-المشكلة في بعض أسباب النزول التى قد رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أوإلجاء إلى محمل ؛فهذه التى تقف عقبة أمام معانى التفسير إذا لم يبين حالها من القوة والضعف
-وهذا كما فعل الخوارج في آيات الوعيد النازلة في المشركين فأطلقوها وعمموها حتى كفروا المسلمين بالذنوب والكبائر
-قال الواحدي: أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد"
وقال: "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل
-أقسام أسباب النزول من حيث تعلقها بالتفسير :
-إن منها ماليس للمفسر غنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي أو موجز
-ومنها مايكون وحده تفسيرا
-ومنها مايدل المفسر على طلب الأدلة التى بها يفسر الآية كما جاء في البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يسأله عن قوله تعالى {لايحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}
-ومنها ماينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات ؛فإن من أسباب النزول مايعين على تصور مقام الكلام وسيأتى في المقدمة العاشرة
-أقسام أسباب النزول التى صحت أسانيدها كما ذكر المصنف:
1- أن يكون المقصود من الآية يتوقف فهمه على العلم بسبب النزول فلابد للمفسر البحث عنه
ومثاله :تفسير مبهمات القرآن {قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها} وبعض الآيات التى فيها {ومن الناس}
2-حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام ،وصور تلك الحوادث لاتبين مجملا ولاتخالف مدلول الآية بتخصيص أو تعميم أو تقييد،بل إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآية التى نزلت بسببها كحادثة عويمر العجلانى وكعب بن عجرة
وهذا القسم لايفيد الحث فيه إلا زيادة تفهم للآية وذلك لأن العلماء كادوا أن يجمعوا على العبرة في سببالنزول بعموم اللفظ لابخصوص السبب،وأن أصل التشريع لايكون خاصا
3-هى حوادث تختص بشخص واحد لكن يكثر أمثالها وصورتها فتنزل الآية مبينة للحكم وزجر من يرتكبها
فكثير من المفسرين يقولون نزلت تلك الآية في كذا وكذا أي أحوال مشابهة لتلك الحالة الخاصة التى نزلت فيها الآية فيكون قولهم نزلت في كذا من باب التفسير بالمثال
كما جاء في صحيح البخاري كتاب الأيمان عن عبد الله بن مسعود ،ومثل الآيات النازلة في المنافقين في براءة وقوله تعالى ومنهم ومنهم
وهذا القسم لافائدة في ذكره إذ أن ذكره قد يوهم قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من تلك الآيات
4-هى حوادث حدثت وفي القرآن معان تناسب معانيها قد سبقت تلك الحوادث أو لحقتها فيقع في عبارات السلف مايوهم أن تلك الآيات نزلت سببا لتلك الحوادث وليست كذلك بل المراد أنها تدخل في معنى الآية
ويدل لهذا وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول(يرجع للإتقان المسألة الخامسة من هذا الباب)
مثاله ماجاء في صحيح البخاري في قصة اختصام الزبير والأنصارى في ماء شراج الحرة وقول الزبير فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في {فلاوربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}
-أشار السيوطي في الإتقان عن الزركشي : إلى أن الصحابة والتابعين إذا قال أحدهم نزلت هذه الآية في كذا ؛فإنهم يعنون أن ماذكروه يدخل في معنى الآية لا أنه السبب في نزولها
-موقف العلماء من قول الصحابي نزلت هذه الآية في كذا هل يجرى مجرى المسند؟
البخارى يدخله في المسند وأما أكثر أصحاب المسانيد فلايدخلونه فيه
بخلاف ما إذا وقعت حادثة فنزلت الآية عقبه فلاخلاف في أنه يدخل في المسند
5-قسم يبين مجملات ويدفع متشابهات مثل قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وبيان ذلك :
أن المشكل في هذه الآية أن يتوهم أن {من}في الآية شرطية فيكون المعنى أن كل من يجور في الحكم فهو كافر لكن إذا علم سبب النزول هم النصارى تبين أن {من}موصولة وأن الذين تركوا الحكم بالإنجيل وهم النصارى لايتعجب منهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم
ومثاله أيضا حديث ابن مسعود في قوله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} فمعرفة سبب النزول يدفع الإشكال المتوهم
-ومن هذا القسم أيضا ما يبين تناسب الآي بعضها مع بعض من غير تبيين مجمل أو تأويل متشابه كما في سورة النساء في قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ماطاب لكم من النساء } فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه
المقدمة السادسة :
-الغرض من هذه المقدمة:
-التعرف على مقدار تعلق اختلاف القراءات بالتفسير ومراتب القراءات قوة وضعفا
-أحوال تعلق القراءات بالتفسير حالتين:
الحالة الأولى :لاتعلق لها بالتفسير بحال لعدم تأثيره في اختلاف معنى الآي
وهى اختلاف القراء في وجوه النطق بالحركات والحروف كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق... وتعدد وجوه الإعراب
-مزية القراءات من هذه الجهة :
حفظت على أبناء العربية كيفية نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها
وبيان اختلاف لهجات العرب في تلقي القرآن عن قراء الصحابة بالأسانيد الصحيحة
وفيها بيان سعة وجوه الإعراب لذا فهى مادة كبرى لعلوم العربية
-علة اختلاف القراءات بعد الجمع العثمانى :
أئمة العربية قرؤوا القرآن بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التى وزعت عليها المصاحف
كان في هذه الأمصار قراؤها من الصحابة قبل وصول مصحف عثمان إليهم
فلما اجتمعوا على مصحف عثمان قرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء لا في زيادة الحروف ونقصانها ولا في اختلاف الإعراب
ويحتمل أن يكون القارىء الواحد قرأ بوجهين قصدا ليري صحتهما في العربية حفظا للعربية التى بها أنزل القرآن
ويترتب على معرفة هذا جواز أن يكون اختلاف القراءات في هذه الناحية اختيارا
-السبب في ماوقع في بعض كتب التفسير من نقد لبعض القراءات:
وقع في كتابي الزمخشرى وابن العربي نقد لبعض طرق القراء وفي بعضها نظر
منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النحاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد
كما كره مالك القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء وهى قراءة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بقراءتها أهل مصر
دلت كراهته لذلك على أنه يرى أن القارىء إنما قرأ بها اختيارا
-حكم القراءة اختيارا:
ذكر القرطبي في تفسيره مطلع سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج جواز أن يقرأ طسم بفتح النون وضم الميم كما يقال معد يكرب ،ولم يقل به أحد
عقب المصنف بقوله :لاضير في ذلك مادامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ماكتب في المصحف العثمانى الذي أجمعت عليه الأمة
-كيف كان الجمع العثمانى وكيف صارت القراءة بعده :
كان جمع عثمان القرآن إتماما لما فعل أبو بكر من جمعه للقرآن الذي كان يقرأ في عهد رسول الله
لما أمر عثمان بجمع المصحف وأمر بكتبه على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءة ماخالفه
فأمر بجميع المصاحف المخالفة له فأحرقها جميعا على علم ومرأى من الصحابة الذين وافقوه إلا نفر قليل جدا ثم رجعوا بعد ذلك
فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ماخالفه متروكا بما يقارب الإجماع
كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد والمهاجرين والأنصار واحدة وهى قراءة العامة التى قرأ بها رسول الله في العام الذي قبض فيه وزيد ممن شهد العرضة الأخيرة
ظل الذين كانوا يقرؤون قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرؤون بها لاينهاهم عنها أحد سوى أنهم لم يكتبوها في المصاحف بعد جمع عثمان وعدوا هذه القراءات شاذة
-وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان:
عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا
-سبب الاختلاف اليسير بين المصاحف التى وجهها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار وأنواع هذا الاختلاف :
هذا الاختلاف ناشىء عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد اثبته ناسخو المصحف العثماني فلاينافي التواتر إذ لاتعارض إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو ازمنة
أو قد كان أذن للناقلين أن يقرؤا باحد اللفظين او الألفاظ
وهذا الاختلاف بينها يسير ونادر جدا :مثل زيادة الواو في {وسارعوا إلى مغفرة }في مصحف الكوفة وزيادة الفاء في قوله {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}
-شروط قبول القراءة غير المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
اتفق علماء القراءات والفقهاء أن :
1-كل قراءة وافقت وجها في العربية،
2-ووافقت خط المصحف والمراد أحد المصاحف التى وجهها عثمان إلى أمصار الإسلام ،
3-وصح سند راويها غير أنها لم تبلغ حد التواتر فهي قراءة صحيحة لايجوز ردها
وهذا الشرط لابد منه فقد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها ليست مروية بسند صحيح كما ذكر أن حماد بن الزبرقان قرأ{بل الذين كفروا في غرة} وذلك أنه قرأ من المصحف ولم يقرأعلى أحد
أما القراءة المتواترة: فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية وغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه
وشاهد هذا الكلام :مايقرؤه جمع من أهل القراءات في قوله {وماهو على الغيب بظنين}مع أنها مكتوبة في المصحف بالضاد
قال أبو بكربن العربي : ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته (أي تواتر ألفاظه) وما دون ذلك فهو شاذ
وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم :
نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار
وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن
-حكم القراءة بمادون العشر :
قال مالك والشافعى :مادون العشر من القراءات لايجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف المتواتر فما خالفه فهو غير متواتر فلايعد قرآنا
القراءات التى تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح ولكنها غير متواترة ؛فإنه لايجوز لغير من سنعها من النبي أن يقرأ بها
وإذا كان الذي رواها قد بلغته قراءة تخالفها متواترة وتحقق من تواترها وجب عليه ترك القراءة بالآحاد والقراءة بماتواتر
-سبب قول المفسرين قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:
وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا علي القراءات غير المتواترة المروية عن النبي بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها غير منتسبة لقراءة أحد من أئمة الرواية في القراءة
وليس المراد بنسبتها للنبي أنها وحدها المأثورة عنه أو ترجيحها على غيرها من القراءات المشهورة التى تروى بأسانيد أقوى من تلك وهى متواترة على الجملة
وما كان ينبغي تسميتها بذلك لئلا يوهم من ليسوا بأهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم
ومن هؤلاء المفسرين : ابن جنى والطبري والزمخشري وابن عطية
-الحالة الثانية من القراءات :ماكان له نوع تعلق بالتفسير ومعانى القرآن:
ومنها :اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مالك يوم الدين }و{ملك يوم الدين} ونحو {ننشرها }و{ننشزها}
ومنها :اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل نحو قوله {إذا قومك منه يصدون } بضم الصاد على قراءة نافع وكسرها على قراءة حمزة ؛فلأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل
-فائدة هذا النوع:
أن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره
واختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعانى في الآية الواحدة مثل قوله {حتى يطهرن}بتخفيف الطاء وتشديدها بالفتح مع الهاء
والظن بأن الوحى نزل بالوجهين تكثيرا للمعانى إذا جزمنا بأن جميع وجوه القراءات مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال المصنف:لامانع من أن يجىء ألفاظ القرآن على نحو يحتمل تلك الوجوه فتقوم الآية الواحة مقام آيتين أو أكثر ،وهذا نظير التضمين في استعمال العرب والتورية والتوجيه في البديع ..وهو من زيادة ملائمة بلاغة القرآن
-عند اختلاف القراءة في اللفظ الواحد هل يتعين حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى ؟
يؤخذ من كلام أبي على الفارسي في كتابة الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى
مثال ذلك قوله في قراءة الجمهور {فإن الله هو الغني الحميد} وقراءة نافع وابن عامر {فإن الله الغنى الحميد} باعتبار هو ضمير فصل لامبتدأ ليتواءم المعنى مع قراءة من أسقط الضمير
وتعقبه أبو حيان فقال:
وما ذهب إليه ليس بشيء لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء أو سكونها
ويرى المصنف أنه ينبغي للمفسر أن يبين وجوه الاختلاف في القراءات المتواترة لأن في اختلافها تكثير لمعانى الآي فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن
-الأحرف السبعة ،أدلة ثبوتها ومعناها والغرض منها :
ورد في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال: أقرأنيها رسول الله، فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: ((اقرأ يا هشام)) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله: ((كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه)) اهـ
-اختلاف العلماء في معنى الأحرف السبعة :
اختلف العلماء في معناها واختلافهم مبني على اعتبارين :أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما
القول الأول :باعتبار الحديث منسوخا وهو قول أبو بكر الباقلاني وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب
قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أن يقرؤوا القرآن بلغاتهم التى جرى بها استعمال العرب تيسيرا عليهم
فلما كثر الحفظ وانتشرت الكتابة زال العذر ونسخ ذلك بجمع الناس على القراءة بلغة قريش وأن ذلك النسخ كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع من الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
ودليل هذا القول عندهم:قول عمر إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ (فتول عنهم عتى حين) وهي لغة هذيل في حتى،
وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها
واختلفوا معنى الأحرف السبعة المنسوخة عندهم على أقوال :
-القول الأول :أن الأحرف يراد بها الكلمات المترادفة للمعنى الواحد تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى
وعلى هذا القول فيكون العدد سبعة مرادا لذاته فلاتجاوز تلك المترادفات سبعة لهجات أو مرادفات أى سبع لغات لأنه لايستقيم لكلمة أن يكون لها ستة مرادفات أصلا ولا في كلمة يوجد بها سبع لهجات إلا قليلا جدا مثل {أف} و{جبريل}و{أرجه}
واختلفوا في تعيين اللغات السبع على ثلاثة اقوال :
الأول :قال أبو عبيدة وابن عطية والباقلانى :هى من عموم لغات العرب قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف
قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما،
وقال أبو علي الأهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر
-القول الثانى :أن العدد غير مراد بل يقصد به التعدد والتوسع وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقراءة {العهن المنفوش},{الصوف المنفوش}
وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة،
وقرأ ابن مسعود {انظرونا نقتبس من نوركم} "أخرونا"، "أمهلونا"، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إن شجرت الزقوم طعام الأثيم} فقال الرجل: (طعام اليتيم)، فأعاد له فلم يستطع أن يقول: {الأثيم} فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر? قال: نعم، قال: فاقرأ كذلك
-القول الثالث :المراد بالسبعة :التوسعة مثل أن يقرأ {سميعا عليما}{عليما حكيما }مالم يخرج عن المناسبة فيختم آية رحمة بعذاب أو عكسه ،وهذا قول ابن عبد البر
القول الثاني:الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فاختلفوا في معنى الأحرف :
1-فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد:أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي والحلال والحرام
أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء والحقيقة والمجاز
أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص والظاهر والمؤول
-ويعترض على هذا القول من جهة :عدم مناسبة هذا القول لسياق الحديث الذي يدل على الغرض من الأحرف وهو التيسير والتخفيف والرخصة
وقد تكلفوا حصر مازعموه من الأغراض في سبعة ولايسلم هذا القول من نقض
.2-وقيل المراد بالأحرف سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لا على تخيير من القارىء
واختلفوا في تعيين السبعة إلى نحو ماذهب إليه القائلون بالنسخ
-الفرق بين الفريقين :
القائلون بالنسخ ذهبوا إلى تخيير القارىء في الكلمة الواحدة
والقائلون بالإحكام ذهبوا إلى أن القرآن مبثوثة فيه تلك الكلمات على وجه التعيين لا التخيير
-وهذا القول يعترضه ما اعترض القول السابق من أن سياق الحديث الوارد بالتوسعة لايناسبه هذا التوجيه كما لايناسبه من جهة العدد إذ لغات العرب لاتنحصر في سبعة لأن المحققين ذكروا ان في القرىن كلمات كثيرة من لغات العرب أنهاها السيوطى نقلا عن الواسطي إلى خمسين لغة
3-وقيل المراد بالأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة والهمز والتخفيف والمد والقصر ففيه معنى الرخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن ،وهذا أحسن الأجوبة على قول المصنف
-وقد ذكرت أجوبة أخرى ضعيفة تصل إلى خمسة وثلاثين جوابا لاداعى لذكرها ولا التعريج عليها
-لكن يعترض هذا القول الذي رجحه المصنف الرواية الثابتة عن عمر وهشام بن حكيم وقد أجاب المصنف بقوله:
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة
-المراد بالقراءات السبع وهل هى نفسها الأحرف السبع؟
قال السيوطى :صنف ابن جبير المكى كتابا في القراءات اقتصر فيه على خمسة أئمة من كل مصرإماما لأن المصاحف التى أرسلت إلى الأمصار خمسة أمصار
قال ابن العربي في العواصم:أول من جمع القراءات في سبع مجاهد بن جبرغير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة
قال أبو شامة :انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل ولكنه امر حصل بدون قصدأو بقصد التيمن بعدد السبعة اوبقصد إيهام أن هذه السبعة هى المرادة بالاحرف السبعة
وقال ابن عمار: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها
وليست الأحرف السبعة هى القراءات السبعة ولم يقل أحد من أهل العلم ذلك بل الإجماع على خلاف ذلك
وممايدل على ذلك أن الاختلاف بين القراء كان سابقا على تدوين المصحف الإمام زمن عثمان وهو السبب في جمع المسلمين على مصحف واحد فتبين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيماعدا اللهجات
مراتب القراءة الصحيحة والترجيح بينها :
-المرتبة الأولى :المتفق على تواتره:
- اتفق الأئمة على أن القراءات التى لاتخالف الألفاظ التى كتبت في مصحف عثمان هى قراءات متواترة وتواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف
-المرتبة الثانية :المختلف في تواتره :
ماكان نطقه موافقا لرسم المصحف واختلف فيه فهو مقبول وليس بمتواتر لوجود الاختلاف المناف لدعوى التواتر
وخرج بذلك من القراءات ماكان مخالفا لمصحف عثمان مثل قراءة ابن مسعود
ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم صارت متواترة على التخيير وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا
-هل القراءات كلها متواترة ؟
-ليست القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها متواترة كيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد آحاد
وأقواها سندا ماكان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع عن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي وغيره أنها غير متواترة لأن تلك الأسانيد تقتضي أن فلانا قرأ بخلافه وأما اللفظ المقروء فغير محتاج لتلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه
-ويرى إمام الحرمين في البرهان انها متواترة ورد عليه الأبياري
-وقال المازرى في شرحه قولا وسطا :متواترة عند القراء غير متواترة عند عموم الأمة
أسانيد القراءات العشر:
-تنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم عمر وعلى وعثمان وابن مسعود وأبي بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى
-بعض هذه القراءات ينتهى إلى جميع الثمانية وبعضها ينتهى إلى بعضهم
- وجه ترجيح بعض القراءات العشر بعضها على بعض:
أولا :من جهة الإعراب:
-وجوه الإعراب في القرآن اكثرها متواتر إلا ماساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعانى
–أما ما خالف الوجوه الصحيحة في الإعراب ففيه نظر قوى إذ لاثقة لنا في انحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة لاسيما ماكان منه في قراءة مشهورة كقراءة ابن عامر (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) ببناء زين للمفعول وضم قتل ،مع مافى اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر
-ولو سلمنا أن فيه وجه مرجوح فهو لايناكد التواتر لأن الاختلاف في كيفية النطق
ثانيا : من جهة البلاغة والفصاحة والشهرة :
-القراءات العشر الصحيحة المتواترة قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة
وهذا التمايز متقارب فقل أن يكسب إحدى القراءات رجحانا على الأخرى
-لكن يرى كثيرا من العلماء أنه لامانع من ترجيح قراءة على غيرها ومن هؤلاء الطبري والزمخشرى وفي أكثر مارجح به نظر
-سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين على الأخرى وقولهم هى أحسن ؟فقال إن كان قولهم هى أحسن لكونها أحسن من جهة الإعراب وأيسر في اللفظ وأصح في النقل فلاينكر ذلك كرواية ورش المختارة في الأندلس لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها ولماروى أن مالك كره القراءة بالنبر
وقال ابن رشد جاء عن النبي أنه ماكان يقرأ بالهمز في الكلمات المهموزة بل كانت لغته التسهيل
-وهذا خلف البزار راوى حمزة اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة فعدت عاشرة القراءات وماهى إلا اختيار من قراءات الكوفيين
-هل ترجيح بعض القراءات على بعض معناه أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟
-لايلزم أن يتحقق الإعجاز في كل آية من آيات القرآن لأن التحدي وقع بسورة وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار من القرآن ينتظم ثلاث آيات فمجموعه معجز
-حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال وهو لايقبل التفاوت
-ومع ذلك يجوز أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن أو زيادة الفصاحة أو التفنن
-ويجوز أن يكون أحد القراءات نشأت عن ترخيص النبي للقارىء بأن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس فتروى تلك الأخرى للخلف فتتميز غيرها عليها بغاية البلاغة ولايعارض هذا كونها بالغة الطرف الأعلى من البلاغة
-منهج المصنف الذي سلكه في تفسيره بشأن القراءات:
-التعرض في التفسير لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة
-بناء أول التفسير على قراءة نافع(قالون) لأنها القراءة المدنية إماما وراويا
-ثم ذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة