اختلف العلماء في المراد بمواقع النجوم على أقوال:
القول لأول: أنها منازل القرآن, وذلك أنه نزل على رسول الله نجوما متفرقة.
ومبنى القول وتفسير منشئه ذكره ابن عاشور فقال: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَواقِعِ جَمْعُ مَوْقِعٍ المَصْدَرُ المِيمِيُّ لِلْوُقُوعِ.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن تَأوَّلَ النُّجُومَ أنَّها جَمْعُ نَجْمٍ وهو القِسْطُ الشَّيْءُ مِن مالٍ وغَيْرِهِ كَما يُقالُ: نُجُومُ الدِّياتِ والغَراماتِ وجَعَلُوا النُّجُومَ، أيِ: الطَّوائِفَ مِنَ الآياتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ القُرْآنِ.
وهو قول ابن عباس, وله قول آخر يصب في نفس المعنى وهو أن المراد: مستقر الكتاب أوله وآخره.
وقال بذلك أيضا عكرمة, وقد فسر عكرمة كونه منجما بعدة تفسيرات: الأول: أنه نزل على ثلاث وأربع وخمس آيات متفرقات, فالنجوم هنا نزول الآيات متفرقات, والثاني: أن القرآن نزل جميعا فوضع بمواقع النجوم, فجعل جبريل يأتي بالسورة.
وقال بذلك السدي كذلك.
وقال به ابن مسعود, ومجاهد إلا أنهما خصصا القول بأنه محكم القرآن, ولم أجد لتخصيصه تفسيرا أبدا.
وقد قال به الثعلبي في تفسيره.
وإن مما يقوي هذا القول ما حكاه ابن عطية وأشار إلى مثله الفراء فقال: وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مِن عِنْدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في لَيْلَةِ القَدْرِ إلى السَماءِ الدُنْيا- وقِيلَ: إلى البَيْتِ المَعْمُورِ - جُمْلَةً واحِدَةً، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ نُجُومًا مُقَطَّعَةً في مُدَّةٍ مِن عِشْرِينَ سَنَةً، ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ عَوْدُ الضَمِيرِ عَلى القُرْآنِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، وذَلِكَ أنَّ ذِكْرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلّا عَلى هَذا التَأْوِيلِ.
وقد برر ابن عطية لمن لا يقول بهذا القول تبريرا آخر فقال: ومَن لا يَتَأوَّلُ هَذا التَأْوِيلَ يَقُولُ: إنَّ الضَمِيرَ يَعُودُ عَلى القُرْآنِ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ الأمْرِ ووُضُوحِ المَعْنى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: 32]، و﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: 26]، وغَيْرِ ذَلِكَ.
وقد رجح محمد المختار الأمين الشنقيطي هذا القول لأمرين :
أحدهما : أن الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى - موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم، وهو قوله : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون إلى قوله : تنزيل من رب العالمين.
والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. وقوله تعالى: حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والثاني : أن كون المقسم به المعبر بالنجوم هو القرآن العظيم - أنسب لقوله بعده : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة .
ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض . والعلم عند الله تعالى .
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ وجواب القسم هو القرآن تنويه ذكره ابن عاشور فقال: وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.
القول الثاني: أن المراد بالنجوم نجوم السماء لا آيات القرآن وسوره، وقد خصصها الضحاك بأنها الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا.
وتخريج قوله:
- ذكره الماوردي في النكت والعيون, والقرطبي في أحكام القرآن, وابن كثير في تفسيره دون إسناد, وقد حاولت العثور على إسناد له في الكتب والشبكة العنكبوتية فلم أستطع.
وقد ذكر ابن عطية أن القول بأن المراد بالنجوم هو الكواكب المعروفة هو: "قول جمهور كثير من المفسرين ", وقال ابن الجوزي: "قاله الأكثرون" لكن اختلف في المراد بمواقعها على أقوال:
الأول: أنها منازل النجوم. وهو قول قتادة, وعطاء بن أبي رباح.
وقد ذكر ابن عاشور في تفسير ذلك القول ومعرفة مبناه وأصله تفسيرا حسنا فقال: ويُطْلَقُ الوُقُوعُ عَلى الحُلُولِ في المَكانِ، يُقالُ: وقَعَتِ الإبِلُ، إذا بَرَكَتْ، ووَقَعَتِ الغَنَمُ في مَرابِضِها، فالمَواقِعُ مَحالُّ وُقُوعِها وخُطُوطُ سَيْرِها فَيَكُونُ قَرِيبًا مِن قَوْلِهِ ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البروج: 1] . والمَواقِعُ هي: أفْلاكُ النُّجُومِ المَضْبُوطَةِ السَّيْرِ في أُفُقِ السَّماءِ، وكَذَلِكَ بُرُوجُها ومَنازِلُها.
الثاني: أنها مساقط النجوم ومغايبها, وهو قول مجاهد, وقتادة, والحسن, وأبو عبيدة في مجاز القرآن, وهو ما رجحه ابن جرير, فقال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النجوم ومغايبها في السماء، وذلك أن المواقع جمع موقع، والموقع المفعل، من وقع يقع موقعًا، فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا: هو أولى معانيه به.
وقد ذكر ابن عاشور في ذلك كلاما حسنا فقال: ومَواقِعِ النُّجُومِ جَمْعُ مَوْقِعٍ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَكانَ الوُقُوعِ، أيْ: مَحالُّ وُقُوعِها مِن ثَوابِتَ وسَيّارَةٍ. والوُقُوعُ يُطْلَقُ عَلى السُّقُوطِ، أيِ الهَوى، فَمَواقِعُ النُّجُومِ مَواضِعُ غُرُوبِها فَيَكُونُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ [النجم: 1] والقَسَمُ بِذَلِكَ مِمّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ﴾ [المعارج: 40] . وجَعَلَ مَواقِعِ النُّجُومِ بِهَذا المَعْنى مُقْسَمًا بِهِ لِأنَّ تِلْكَ المَساقِطَ في حالِ سُقُوطِ النُّجُومِ عِنْدَها تُذَكِّرُ بِالنِّظامِ البَدِيعِ المَجْعُولِ لِسَيْرِ الكَواكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لا يَخْتَلُّ ولا يَتَخَلَّفُ، وتُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ الكَواكِبِ وبِتَداوُلِها خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرى، وذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ القَسَمُ بِهِ الرّاجِعُ إلى القَسَمِ بِمُبْدِعِهِ.
الثالث: وهو قول محدد في أن المراد بذلك انتثار النجوم عند قيام الساعة, وهو قول الحسن.
الرابع: وهو قول محدد كذلك, وهو أن المراد مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت. ذكره ابن عطية في تفسيره.
القول الثالث: أن المراد بمواقع النجوم السماء, وهو قول ابن جريج.
وقول ابن جريج قد أورده الماوردي في النكت والعيون, ولكني استقصيت قوله في كتاب جمع أقواله للمؤلف علي حسن عبدالغني وذلك بالرجوع للكثير من المصادر إلا أني لم أجده.
وتوجيه الأقوال والترجيح بينها وتحريرها تحريرا نهائيا سيتضح بإذن الله بشكل أكبر في الخطوات القادمة.