دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > الفتاوى القرآنية > فتاوى ابن تيمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 جمادى الأولى 1431هـ/28-04-2010م, 12:04 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي معنى كلام الله في آيتي: {وإن أحد من المشركين استجارك ...} و {إنه لقول رسول كريم}.

سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ فسماه هنا كلام الله، وقال في مكان آخر‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19‏]‏ فما معنى ذلك‏؟‏ فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم، ثم يقولون‏:‏ أنتم تعتقدون أن موسى ـ صلوات الله عليه ـ سمع كلام الله ـ عز وجل ـ حقيقة من الله من غير واسطة، وتقولون‏:‏ إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة، فما الفرق بين هذا وهذا‏؟‏ وتقولون‏:‏ إن القرآن صفة لله ـ تعالى ـ وإن صفات الله ـ تعالى ـ قديمة، فإن قلتم‏:‏ إن هذا نفس كلام الله ـ تعالى ـ فقد قلتم بالحلول، وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا، ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله ـ تعالى‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، هذه الآية حق كما ذكر الله، وليست /إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه، ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل، وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل، وذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيه دلالة على أنه يسمع كلام الله من التالي المبلغ، وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله، كما في حديث جابر في السنن‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعْرِض نفسه على الناس في الموقف ويقول‏:‏ ‏(‏ألا رَجُلٌ يحملني إلى قومه لأبلِّغَ كلام ربي‏؟‏ فإن قريشًا منعوني أن أبلّغ كلام ربي‏)‏، وفي حديث أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏1ـ 3‏]‏ قالوا له‏:‏ هذا كلامك أم كلام صاحبك‏؟‏ فقال‏:‏ ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي، ولكنه كلام الله‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏11 ـ 25‏]‏ فمن قال‏:‏ إن هذا القرآن قول البشر، كان قوله مضاهيًا لقول‏:‏ ‏[‏الوحيد‏]‏ الذي أصلاه الله سقر‏.‏ ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول /النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏ إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا‏:‏ هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولو قال المبلغ‏:‏ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس؛ لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئًا منشئًا، لا لمن أداه راويا مبلغًا‏.‏ فإذا كان مثل هذا معلومًا في تبليغ كلام المخلوق، فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق، الذي هو أولى ألا يجعل كلامًا لغير الخالق جل وعلا‏؟‏‏!‏
وقد أخبر ـ تعالى ـ بأنه منزل منه، فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1، 2‏]‏، ‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏1، 2، الأحقاف‏:‏1، 2‏]‏‏.‏ فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، والله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، وكلاهما مبلغ له، كما قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏27، 28‏]‏ وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء، كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك، لم يحدثوا شيئًا من حروفه ولا معانيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98 ـ 103‏]‏‏.‏
كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة، إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره، كما ذكر ذلك المفسرون، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ يضيفون إليه التعليم لسان ‏{‏أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ فكيف يتصور أن يعمله أعجمي وهذا الكلام عربي‏؟‏ وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق، فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه؛ إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه، وبيان أن هذا الذي تعلمه من غيره نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لم ينزل معناه دون حروفه‏.‏
ومن المعلوم أن من بلَّغ كلام غيره كمن بلَّغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس، أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لَبِيد‏:‏
/ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
أو قول عبد الله بن رواحة، حيث قال‏:‏
وهذا الشعر قاله منشئه، لفظه ومعناه، وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه، ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله، مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه، وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول، وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد‏.‏ والمحدث عن النبي /صلى الله عليه وسلم إذا روى قوله‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ بلغه بحركته وصوته، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته، وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حركته كحركته، والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه‏.‏
فإذا كان هذا معلوما معقولا، فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏‏[‏الفاتحة‏:‏2-4‏]‏ أن يقال‏:‏ هذا الكلام كلام البارئ،وإن كان الصوت صوت القارئ‏.‏ فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر، مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، قائل قولاً لم يقله أحـد من أئمـة المسـلمين، بل قد أنكر الإمـام أحمـد وغيره على من قال‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق وبَدَّعُوه، كما جَهَّمُوا ‏[‏أي‏:‏ نسبوه إلى طائفة الجهمية أتباع جهم بن صفوان الضال‏]‏‏.‏ من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق‏.‏ وقالوا‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق، كيف تصرف، فكيف من قال‏:‏ لفظي به قديم أو صوتي به قديم‏؟‏ فابتداع هذا وضلاله أوضح‏.‏ فمن قال‏:‏ إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئًا من ذلك، فهو ضال مبتدع‏.‏
وهؤلاء قد يحتجون بقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏ ويقولون‏:‏ هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع /إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم؛ فإن سماع كلام الله، بل وسماع كل كلام، يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة، ويكون بواسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏‏.‏
ومن قال‏:‏ إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا‏.‏ ولو قال قائل‏:‏ إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحًا، فكيف من يقول‏:‏ أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى‏؟‏‏!‏ وإن كان الله كلم موسى تكليمًا بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتًا للخالق‏.‏ وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا، وأمثال ذلك ـ مما جاءت به النصوص والآثار ـ كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق، بل ولا مثلها، بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق، فليس كلامه مثل كلامه، ولا معناه مثل معناه، ولا حرفه مثل حرفه، ولا صوته مثل صوته، كما أنه ليس علمه مثل علمه، ولا قدرته مثل قدرته، ولا سمعه مثل سمعه، ولا بصره مثل بصره؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله‏.‏
/ولما استقر في فِطَر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه، كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب‏.‏ وقد بين أئمة السنة والعلم ـ كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال، وغيرهما من أئمة السنة ـ من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره، ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين‏.‏
وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏ فهذا قد ذكره في موضعين، فقال في الحاقة‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40 ـ 42‏]‏ فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في التكوير‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19 ـ 23‏]‏ فالرسول هنا جبريل، فأضافه إلى الرسول من البشر تارة، وإلى الرسول من الملائكة تارة، باسم الرسول، ولم يقل‏:‏ إنه لقول ملك ولا نبي؛ لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ / عن غيره لا منشئ له من عنده ‏{‏وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏54، العنكبوت‏:‏18‏]‏، فكان قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ بمنزلة قوله‏:‏ لتبليغ رسول، أو مبلغ من رسول كريم، أو جاء به رسول كريم، أو مسموع عن رسول كريم؛ وليس معناه‏:‏ أنه أنشأه، أو أحدثه، أو أنشأ شيئًا منه، أو أحدثه رسول كريم؛ إذ لو كان منشئًا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه، وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه، ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقًا‏.‏
وأيضًا، فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه، امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشئ المؤلف لها، فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه، ولو جاز أن تكون الإضافة هنا لأجل إحداث الرسول له أو لشيء منه، لجاز أن نقول‏:‏ إنه قول البشر، وهذا قول ‏[‏الوحيد‏]‏ الذي أصلاه الله سَقَر‏.‏
فإن قال قائل‏:‏ فالوحيد جعل الجميع قول البشر، ونحن نقول‏:‏ إن الكلام العربي قول البشر، وأما معناه فهو كلام الله‏.‏
فيقال لهم‏:‏ هذا نصف قول الوحيد، ثم هذا باطل من وجوه أخرى‏:‏
وهو أن معاني هذا النظم معان متعددة متنوعة، وأنتم تجعلون ذلك / المعنى معنى واحدًا هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وتجعلون ذلك المعنى إذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من العقل والدين؛ فإن التوراة إذا عربناها لم يكن معناها معنى القرآن، والقرآن إذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن معناه معنى التوراة‏.‏
وأيضًا، فإن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدَّيْن، وإنما يشتركان في مسمى الكلام، ومسمى كلام الله، كما تشترك الأعيان في مسمى النوع، فهذا الكلام وهذا الكلام وهذا الكلام، كله يشترك في أنه كلام الله، اشتراك الأشخاص في أنواعها، كما أن الإنسان وهذا الإنسـان وهذا الإنسـان يشتركون في مسـمى الإنسـان، وليس في الخارج شخص بعينه هو هذا وهذا وهذا، وكذلك ليس في الخارج كلام واحد هو معنى التوراة والإنجيل والقرآن، وهو معنى آية الدَّيْن وآية الكرسي‏.‏
ومن خالف هذا كان في مخالفته لصريح المعقول من جنس من قال‏:‏ إن أصوات العباد وأفعالهم قديمة أزلية‏.‏ فاضرب بكلام البدعتين رأس قائلهما، والزم الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏
/وبسبب هاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الفتن وعظمت الإحن، وإن كان كل من أصحاب القولين قد يفسرونهما بما قد يلتبس على كثير من الناس كما فسر من قال‏:‏ إن الصوت المسموع من العبد أو بعضه قديم‏:‏ أن القديم ظهر في المحدث من غير حلول فيه‏.‏
وأما ‏[‏أفعال العباد‏]‏ فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها، وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم، وهي مشروعة مقدرة، ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه، ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته‏.‏ والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام، لفظه ومعناه، ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد ـ فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعًا له فقد خالف ضرورة العقل، وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود واحد؛ إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين؛ فإن انقسام ‏[‏الموجود‏]‏ إلى القديم والمحدث، والواجب والممكن، والخالق والمخلوق، والقائم بنفسه والقائم بغيره، كانقسام ‏[‏الكلام‏]‏ إلى الأمر والخبر، أو إلى الإنشاء والإخبار، أو إلى الأمر والنهي والخبر ـ فمن قال‏:‏ الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر، فهو كمن قال‏:‏ الوجود واحد هو الخالق والمخلوق، أو الواجب والممكن‏.‏ وكما أن حقيقة هذا تؤول إلى تعطيل الخالق فحقيقة /هذا تؤول إلى تعطيل كلامه وتكليمه‏.‏
وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى؛ ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون،وتوليه وتصديقه في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏ بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
وأيضًا، فيقال‏:‏ ما تقول في كلام كل متكلم إذا نقله عنه غيره ـ كما قد ينقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم وبسمع من الرواة أو المبلغين ـ إن ذلك المسموع من المبلغ بصوت المبلغ هو كلام المبلغ أو كلام المبلغ عنه ‏؟‏ فإن قال‏:‏ كلام المبلغ لزم أن يكون القرآن كلامًا لكل من سمع منه، فيكون القرآن المسموع كلام ألف ألف قارئ لا كلام الله ـ تعالى ـ وأن يكون قوله‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ ونظائره كلام كل من رواه لا كلام الرسول، وحينئذ فلا فضيلة للقرآن في ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40، التكوير‏:‏19‏]‏ فإنه على قول هؤلاء قول كل منافق قرأه،والقرآن يقرؤه المؤمن والمنافق، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة طَعْمُهَا طَيِّب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيْحَانة ريحها طيب وطعمها مُرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن /مثل الحَنْظَلَة طعمها مر ولا ريح لها‏)‏‏.‏ وعلى هذا التقدير فلا يكون القرآن قول بشر واحد، بل قول ألف ألف بشر وأكثر من ذلك‏.‏ وفساد هذا في العقل والدين واضح‏.‏
وإن قال‏:‏ كلام المبلغ عنه، علم أن الرسول المبلغ للقرآن ليس القرآن كلامه ولكنه كلام الله؛ ولكن لما كان الرسول الملك قد يقال‏:‏ إنه شيطان بين الله أنه تبليغ ملك كريم، لا تبليغ شيطان رجيم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19ـ 25‏]‏ وبين في هذه الآية أن الرسول البشري الذي صحبناه وسمعناه منه ليس بمجنون، وما هو على الغيب بمتهم‏.‏ وذكره باسم ‏[‏الصاحب‏]‏ لما في ذلك من النعمة به علينا، إذ كنا لا نطيق أن نتلقى إلا عمن صحبناه وكان من جنسنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏128‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏9‏]‏‏.‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1، 2‏]‏ وبين أن الرسول الذي من أنفسنا والرسول الملكي، أنهما مبلغان، فكان في هذا تحقيق أنه كلام الله‏.‏
فلما كان الرسول البشري يقال‏:‏ إنه مجنون أو مفتر، نزهه عن هذا وهذا، وكذلك في السورة الأخرى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الحاقة‏:‏40 ـ 43‏]‏ وهذا مما يبين أنه أضافه إليه؛ لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وأنشأه، فإنه قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏192، 193‏]‏ فجمع بين قوله‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ والضميران عائدان إلى واحد، فلو كان الرسـول أحدثه وأنشأه لم يكن تنزيلا من رب العالمين، بل كان يكون تنزيلا من الرسول‏.‏
ومن جعل الضمير في هذا عائدًا إلى غير ما يعود إليه الضمير الآخر، مع أنه ليس في الكلام ما يقتضى اختلاف الضميرين، ومن قال‏:‏ إن هذا عبارة عن كلام الله ـ فقل له‏:‏ هذا الذي تقرؤه أهو عبارة عن العبارة التي أحدثها الرسول الملك أو البشر على زعمك‏؟‏ أم هو نفس تلك العبارة‏؟‏ فإن جعلت هذا عبارة عن تلك العبارة جاز أن تكون عبارة جبريل أو الرسول عبارة عن عبارة الله، وحينئذ فيبقى النزاع لفظيًا؛ فإنه متى قال‏:‏ إن محمدًا سمعه من جبريل جميعه، وجبريل سمعه من الله جميعه، والمسلمون سمعوه من الرسول جميعه، فقد قال الحق‏.‏ وبعد هذا فقوله‏:‏ عبارة، لأجل التفريق بين التبليغ والمبلغ عنه، كما سنبينه‏.‏
وإن قلت‏:‏ ليس هذا عبارة عن تلك العبارة، بل هو نفس تلك العبارة، فقد جعلت ما يسمع من المبلِّغ هو بعينه ما يسمع من المبلَّغ /عنه إذ جعلت هذه العبارة هي بعينها عبارة جبريل، فحينئذ هذا يبطل أصل قولك‏.‏
واعلم أن أصل القول بالعبارة‏:‏ أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام‏:‏ إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله‏.‏ فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة، وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله ـ تعالى ـ وخالف المعتزلة في ذلك، وأثبت العلو لله على العرش ومباينته المخلوقات، وقرر ذلك تقريرًا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده‏.‏ وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلام غيره، هل يقال له حكاية عنه أم لا‏؟‏ وأكثر المعتزلة قالوا‏:‏ هو حكاية عنه، فقال ابن كلاب‏:‏ القرآن العربي حكاية عن كلام الله، ليس بكلام الله‏.‏
فجاء بعده أبو الحسن الأشعري، فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات، وفي مسألة القرآن أيضًا، واستدرك عليه قوله‏:‏ إن هذا حكاية، وقال‏:‏ الحكاية إنما تكون مثل المحكي فهذا يناسب قول المعتزلة، وإنما يناسب قولنا أن نقول‏:‏ هو عبارة عن كلام الله؛ لأن الكلام ليس من جنس العبارة، فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور‏:‏
/أحدها‏:‏ قولهم‏:‏ إن المعنى كلام الله، وإن القرآن العربي ليس كلام الله، وكانت المعتزلة تقول‏:‏ هو كلام الله وهو مخلوق، فقال هؤلاء‏:‏ هو مخلوق وليس بكلام الله؛ لأن من أصول أهل السنة أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، فإذا قام الكلام بمحـل كان هو المتكلـم به، كمـا أن العلـم والقـدرة إذا قامـا بمحـل كان هو العالـم القادر، وكذلك الحركة‏.‏ وهذا مما احتجوا به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية في قولهم‏:‏ إن كلام الله مخلوق، خلقه في بعض الأجسام، قالوا لهم‏:‏ لو كان كذلك لكان الكلام كلام ذلك الجسم الذي خلقه فيه، فكانت الشجرة هي القائلة‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏30‏]‏، فقال أئمة الكلابية‏:‏ إذا كان القرآن العربي مخلوقًا لم يكن كلام الله، فقال طائفة من متأخريهم‏:‏ بل نقول‏:‏ الكلام مقول بالاشتراك بين المعنى المجرد وبين الحروف المنظومة، فقال لهم المحققون‏:‏ فهذا يبطل أصل حجتكم على المعتزلة، فإنكم إذا سلمتم أن ما هو كلام الله حقيقة لا يمكن قيامه به بل بغيره، أمكن المعتزلة أن يقولوا‏:‏ ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره‏.‏
الثاني‏:‏ قولهم‏:‏ إن ذلك المعنى هو الأمر والنهي والخبر، وهو معنى التوراة، والإنجيل والقرآن، وقال أكثر العقلاء‏:‏ هذا الذي قالوه معلوم الفساد بضرورة العقل‏.‏
/الثالث‏:‏ أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه محمد لأمته من المعنى واللفظ، ليس هو كلام الله‏.‏
ومسألة القرآن لها طرفان‏:‏ أحدهما‏:‏ تكلم الله به وهو أعظم الطرفين‏.‏ و الثاني‏:‏ تنزيله إلى خلقه‏.‏ والكلام في هذا سهل بعد تحقيق الأول‏.‏ وقد بسطنا الكلام في ذلك في عدة مواضع، وبينا مقالات أهل الأرض كلهم في هذه المسائل، وما دخل في ذلك من الاشتباه، ومأخذ كل طائفة، ومعنى قول السلف‏:‏القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم قصدوا به إبطال قول من يقول‏:‏ إن الله لم يقم بذاته كلام؛ ولهذا قال الأئمة‏:‏ كلام الله من الله ليس ببائن عنه، وذكرنا اختلاف المنتسبين إلى السنة، هل يتعلق الكلام بمشيئته وقدرته أم لا‏؟‏ وقول من قال من أئمة السنة‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، وأن قول السلف‏:‏ منه بدأ، لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره؛ فإن كلام المخلوق، بل وسائر صفاته، لا تفارقه وتنتقل إلى غيره، فكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه أو غيره من صفاته‏؟‏‏!‏ بل قالوا‏:‏ منه بدأ، أي‏:‏ هو المتكلم به ردًا على المعتزلة والجهمية وغيرهم، الذين قالوا‏:‏ بدأ من المخلوق الذي خلق فيه‏.‏ وقولهم‏:‏ إليه يعود، أي يسري عليه، فلا يبقى في المصاحف منه حرف، ولا في الصدور منه آية‏.‏
/والمقصود هنا الجواب عن مسائل السائل‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة، وتقولون‏:‏ إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة، فما الفرق بين ذلك‏؟‏
فيقال له‏:‏ بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق‏.‏ فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه بغير واسطة ـ كسماع الصحابة منه ـ وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس‏.‏ وكل من السامعين سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أوغيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا، وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره، والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة، وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه‏.‏
/فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه، فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله‏؟‏ وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب، فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء، وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم، فهذا لا يقوله ذو حس سليم، بل ما بين لوحي المصحف كلام الله، وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال‏:‏ إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره، فهو ملحد مارق‏.‏
ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف، أو أن المداد قديم أزلي ـ فهو أيضًا ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله ـ تعالى‏؟‏‏!‏
والشبهة تنشأ في مثل هذا من جهة‏:‏ أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد‏.‏ مثال ذلك‏:‏ أن الإنسان يقول‏:‏ رأيت الشمس والقمر والهلال، إذا رآه بغير واسطة، وهذه ‏[‏الرؤية المطلقة‏]‏‏.‏ وقد يراه في ماء أو مرآة، فهذه ‏[‏رؤية مقيدة‏]‏، فإذا أطلق قوله‏:‏ رأيته، أو ما رأيته، حمل على مفهوم اللفظ المطلق، وإذا قال‏:‏ لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة، فهو كلام صحيح مع التقييد، واللفظ يختلف معناه بالإطلاق /والتقييد، فإذا وصـل بالكـلام ما يغير معنـاه كالشـرط والاستثناء ونحوهمـا من التخصيصـات المتصلـة كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس‏.‏
ومن قال‏:‏ إن هذا مجاز فقد غلط؛ فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام؛ ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، مع أن قول القائل‏:‏هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد، فإنه قال فيما كتبه من ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ هذا من مجاز القرآن‏.‏ وأول من قال ذلك مطلقًا أبو عبيدة معمر بن المثني في كتابه الذي صنفه في ‏[‏مجاز القرآن‏]‏، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يَجُوز في اللغة ويَسُوغ، فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء‏:‏ عقد لازم وجائز، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة‏.‏
/والمقصود أن القائل إذا قال‏:‏ رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة، فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة، وإذا قال قائل‏:‏ ما رأى ذلك، بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة، وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من رآني في المنام فقد رآني حقًا؛ فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي‏)‏، هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقًا، فمن قال‏:‏ ما رآه في المنام حقًا فقد أخطأ، ومن قال‏:‏ إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ؛ ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك‏.‏
وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام، وليس هذا كالسماع منه في اليقظة، وقد يرى الرائي في المنام أشخاصًا ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك، وإنما رأى مثالهم، ولكن يقال‏:‏ رآهم في المنام حقيقة، فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس‏.‏
فإن الرؤيا ثلاثة أقسام‏:‏رؤيا بشرى من اللّه،ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام‏.‏ وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، /ولكن الـرؤيا يظهـر لكـل أحـد من الفـرق بينهـا وبين اليقظـة مـا لا يظهـر فـي غيرهـا، فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك، حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا كانت كبيرة مستديرة رؤى كذلك، وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رؤى كذلك، فكذلك في ‏[‏السماع‏]‏ يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ، ففي الموضعين المقصود سماع كلامه، كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي، لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين، كما يختلف المرئي باختلاف المرايا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏‏.‏
فجعل التكليم ثلاثة أنواع‏:‏ الوحي المجرد، والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى ـ عليه السلام ـ والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة، وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن، ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن، وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن، فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول، فهذا تكليم مقيد بالإرسال، وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلِّغ لا منه، وهذا القرآن كلام الله مبلغًا عنه مؤدىً عنه، وموسى سمع كلامه مسموعًا منه لا مبلغًا /عنه ولا مؤدا عنه، وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة‏.‏
والنبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه، ويخبر عن ربه، ويحكى عن ربه، فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيًا عنه‏.‏ فلو قال من قال‏:‏ إن القرآن ‏[‏حكاية‏]‏‏:‏ أن محمدًا حكاه عن الله، كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله، لكان قد قصد معنى صحيحًا، لكن يقصدون ـ ما يقصده القائل بقوله‏:‏ فلانا يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو ـ أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل، قال الله تعالى‏:‏‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏88‏]‏‏.‏
ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة، لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرآة حصل مقصوده وقال‏:‏ رأيت الوجه، وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة ـ وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يختلف باختلاف الصائتين‏.‏والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود،كما في ‏[‏الاسم والمسمى‏]‏ فإن القائل إذا قال‏:‏ جاء زيد، وذهب عمرو لم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن ‏[‏المسمى‏]‏، /ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك‏.‏
فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل‏:‏ هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو، وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته، فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا؛ ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ‏:‏‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ وسأله‏:‏هل هذا كلام الله، وهل هو مخلوق‏؟‏ فأجابه بأنه كلام الله، وأنه غير مخلوق، فنقل عنه أبو طالب ـ خطأ منه ـ أنه قال‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق، فاستدعاه وغضب عليه، وقال‏:‏ أنا قلت لك‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن قرأت عليك‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وقلت لك‏:‏ هذا غير مخلوق، فقلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فلم تحكي عني ما لم أقل‏؟‏ لا تقل هذا؛ فإن هذا لم يقله عالم ـ وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروزي وفوران، وبسطها الخلال في كتاب ‏[‏السنة‏]‏ وصنف المروزي في ‏[‏مسألة اللفظ‏]‏ مصنفًا ذكر فيه أقوال الأئمة‏.‏
وهذا الذي ذكره أحمد من أحسن الكلام وأدقه؛ فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به، لا إلى /ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم‏.‏ فإذا قيل‏:‏ لفظي، جعل نفس الوسائط غير مخلوقة، وهذا باطل، كما أن من رأى وجهًا في مرآة فقال‏:‏ أكرم الله هذا الوجه وحياه، أو قبحه، كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال‏:‏ قد أبدر أو لم يبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله، وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال‏:‏ هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق‏.‏ فلو قال‏:‏ هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى‏.‏
وكان بعضهم يقول‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق، فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة، فأوجعه بالضرب، فقال له‏:‏ لا تضربني، فقال‏:‏ أنا ما أضربك، وإنما أضرب الفروة، فقال‏:‏ إنما يقع الضرب علي، فقال‏:‏ هكذا إذا قلت‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق، فالخلق إنما يقع على القرآن‏.‏ يقول‏:‏ كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة، فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة، فإذا قلت‏:‏ مخلوق، وقع ذلك على المقصود، كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت‏:‏ أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا، انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر؛ ولهذا قال الأئمة‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما /تصرف، بخلاف أفعال العباد وأصواتهم، فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعًا ضالا‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ تقولون‏:‏ إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة، فإن قلتم‏:‏ إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا‏.‏
فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله؛ فإن منشأ الشبهة أن قول القائل‏:‏ هذا كلام الله، يجعل أحكامه واحدة، سواء كان كلامه مسموعًا منه أو كلامه مبلغًا عنه‏.‏
ومن هنا تختلف طوائف من الناس‏.‏
طائفة قالت‏:‏ هذا كلام الله، وهذا حروف وأصوات مخلوقة، فكلام الله مخلوق‏.‏
وطائفة قالت‏:‏ هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق، فهذا ليس كلام الله‏.‏
وطائفة قالت‏:‏ هذا كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا ألفاظنا وتلاوتنا، فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة‏.‏
/ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا فأنت تقول‏:‏ هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب، وهو كلام حكيم، وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول‏:‏ هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم، فالمشار إليه في الموضعين واحد، وتقول ـ أيضًا ـ‏:‏ إن هذا صوت حسن، وهذا كلام من وسط القلب، ثم إذا سمعته من الناقل تقول‏:‏ هذا صوت حسن، أو كلام من وسط القلب، فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه هناك، بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه، وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه، وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كل منهما‏:‏ هذا قرآن كريم، وهذا كتاب مجيد، وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد، ثم تقول‏:‏ هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث، وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر‏.‏
فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق، وعلم أن من قال‏:‏ هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق، أن المشار إليه الكلام من حيث هو، مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم، ومن قال‏:‏ هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته، لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارئ من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق، من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل‏.‏
/ويقال لهذا‏:‏ هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودًا قبل أن يخلق هذا القارئ، فهب أن القارئ لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودًا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه‏؟‏ فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارئ من أفعاله وأصواته، فالقرآن غني عن هذا القارئ وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه، وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد، وبلغه محمد لأمته، وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقًا، فإنه لو كان مخلوقًا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاماً لله؛ ولأنه لو كان ـ سبحانه ـ إذا خلق كلاماً كان كلامه ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود، بل كل كلام في الوجود، وهذا قول الحلولية الذين يقولون‏:‏
وكل كلام في الوجود كلامه**سواء علينا نثره ونظامه
ومن قال‏:‏ القرآن مخلوق فهو بين أمرين‏:‏ إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلاً، فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه، وشبهه بالأصنام والجمادات والموات، كالعجل الذي لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، فيكون قد فرَّ عن إثبات /صفات الكمال له حذرًا في زعمه من التشبيه، فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات‏.‏
وكذلك قول القائل‏:‏ هذا نفس كلام الله، وعين كلام الله، وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله، ونفس كلام الله، و أمثال هذه العبارات‏.‏ هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره، وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان؛ فإن من ينقل كلام غيره ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص، كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل‏:‏ هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص؛ يعني‏:‏ لم يزد فيه الكاتب ولا نقص‏.‏ وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل‏:‏ هذا الكلام كلام فلان بعينه؛ يعني لم يزد فيه ولم ينقص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه كما سمعه ‏)‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏(‏فبلغه كما سمعه‏)‏ لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها، ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولا ينقص، فيكون قد بلغه كما سمعه‏.‏ فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله صلى الله عليه وسلم، ويكون قد سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله‏.‏ وذلك معنى قولهم‏:‏ هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه‏.‏ /لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته، وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء، ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجئ أصحابه إلى القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات‏.‏
ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة، فإذا رأى الناس كلامًا صحيحًا، فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل‏:‏ إن نفس ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته، وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه، ولا فارقته وحلت في الورق، بل ولا يقول‏:‏ إن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق، بل ولا يقول‏:‏ إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه، فهذه الأمور كلها ظاهرة، لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب، فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه ـ سبحانه ـ كما كتب التوراة لموسى، وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ، وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم‏.‏
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه، بل شعر مخلوق، كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء، ويقول الناس‏:‏ هذا شعرحسان بعينه،وهذا هو نفس شعر حسان، وهذا شعر لبيد بعينه كقوله‏:‏
/ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم، بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين، فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته، وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت فيه‏؟‏‏!‏ وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلـم بنور السـراج يقتبس منـه المتعلـم ولا ينقص مـا عنـد العالـم، كمـا يقتبس المقتبـس ضـوء السـراج فيحـدث الله له ضـوءًا‏)‏، كما يقال‏:‏ إن الهوى ينقلب نارًا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح،والمقرئ والمعلم يقرئ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء، بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده‏.‏
ولهذا يقال‏:‏ فلان ينقل علم فلان، وينقل كلامه، ويقال‏:‏العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك، كما يقال‏:‏ نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب، أو نقلت الكتاب أو نسخته، وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني، بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام، وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني /مثل مافي الأول، فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخًا وإن كان لم يتغير الأول، بخلاف نقل الأجسام وتوابعها؛ فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول‏.‏
وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني، ولها ثبوتها في العلم، ثم في اللفظ المطابق للعلم، ثم في الخط‏.‏ وهذا الذي يقال‏:‏ وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان؛ وجود عيني، ووجود علمي، ولفظي، ورسمي؛ ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1 ـ 5‏]‏، فذكر الخلق عمومًا وخصوصًا، ثم ذكر التعليم عمومًا وخصوصًا، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق العلم، والعلم هو المطابق للمعلوم‏.‏
ومن هنا غلط من غلط، فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق، فظن أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏}‏‏[‏الواقعة‏:‏77، 78‏]‏ كقوله‏:‏‏{‏الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏ فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف، وهذا غلط؛ إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام، وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال، أو كإثبات القرآن في /زبر الأولين، قال تعالى‏:‏‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏196‏]‏ فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل؛ ولهذا قيد ـ سبحانه ـ هذا بلفظ ‏[‏الزبر‏]‏ و ‏[‏الكتب‏]‏ زبر‏.‏ يقال‏:‏ زبرت الكتاب‏:‏ إذا كتبته، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره،كما أن محمدًا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره، فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم، بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف؛ فإن نفس القرآن أثبت فيها، فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني، وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول، وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله، لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدًا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه، ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع، كما في الاسم مع المسمى؛ فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون‏:‏ إنه اسم واحد لمسمى واحد، فإذا قال المؤذن‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله،/أشهد أن محمدًا رسول الله، وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن، وقاله غير المؤذن، فالناس يقولون‏:‏ إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله، كما أن المسمى هو الله ورسوله‏.‏
وإذا قال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1‏]‏ وقال‏:‏‏{‏ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ‏}‏‏[‏هود‏:‏41‏]‏ وقال‏:‏‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏1‏]‏ وقال‏:‏‏{‏بِسْمِ اللّهِ‏}‏ ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر، فالخبر الواحد من المخبر الواحد من مخبره، والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه، هذا في المركب نظير هذا في المفرد، وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر، وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ إن قلتم‏:‏ إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد‏.‏ مثاله مثال رجل ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل في بدن غيره، فقال‏:‏ أنتم تقولون‏:‏ إن المحدث يقرأ كلامه، وأن ما يقرؤه هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد‏.‏
/والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد، ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم، أو في هذا الورق‏.‏ وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استذكروا القرآن، فلَهُوَ أشد تَفَلُّتًا من صدور الرجال من النَّعَم في عُقُلِهَا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب‏)‏ وأمثال ذلك، وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال‏:‏ الله في صدورنا وأجوافنا؛ ولهذا لما ابتدع شخص ـ يقال له‏:‏ الصوري ـ بأن من قال‏:‏ القرآن في صدورنا، فقد قال بقول النصارى، فقيل لأحمد‏:‏ قد جاءت جهمية رابعة ـ أي‏:‏ جهمية الخلقيـة، واللفظيـة، والواقفيـة، وهـذه الرابعـة ـ اشـتد نكيـره لـذلك، وقال‏:‏ هـذا أعظم من الجهمية‏.‏ وهو كما قال‏.‏
فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال‏:‏ القرآن في الصدور، ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة؛ فإن النصارى يقولون‏:‏ الأب والابن وروح القدس إله واحد، وأن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت ‏[‏أي‏:‏ دخلت في الناسوت‏]‏‏.‏ الناسوت، وهو عندهم إله يخلق ويرزق؛ ولهذا كانوا يقولون‏:‏ إن الله هو المسيح ابن مريم، ويقولون‏:‏ المسيح ابن الله؛ ولهذا كانوا متناقضين، فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه، وإن كان هو صفة من /صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها، والمسيح عندهم إله، ولو قال النصارى‏:‏ إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر‏.‏
فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر، كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ، أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان، وهو ـ سبحانه ـ ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره، أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها، أو قال‏:‏ وجوده وجود المخلوقات أو نحو ذلك‏.‏
فأما قول القائل‏:‏ إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين، وإن الرسل بلغت كلام الله، والذي بلغته هو كلام الله، وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك، فهذا لا يسمى حلولا، ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلاً للحقائق‏.‏ وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره، فكيف صفة الخالق ـ تبارك وتعالى ـ‏؟‏‏!‏
ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه، هل يقال‏:‏ إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور‏؟‏ وهل يقال‏:‏ كلام الناس المكتوب حـال في المصحـف أو حـال في قلـوب حافظيـه ونحـو ذلك‏؟‏ فمنهـم طائفـة نفت الحلول كالقاضي /أبي يعلى وأمثاله وقالوا‏:‏ ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول‏:‏ حل؛ لأن حلول صفة الخالق في المخلوق، أو حلول القديم في المحدث ممتنع‏.‏ وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي ـ الملقب بشيخ الإسلام ـ وغيره، وقالوا‏:‏ ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه، بل نطلق القول بأن الكلام فى الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان، كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته، وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا‏:‏ لا نطلق الحلول نفيًا ولا إثباتًا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفى ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال‏.‏
وأما قول القائل‏:‏ إن قلتم‏:‏ إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول، وإن قلتم غير ذلك، قلتم بمقالتنا، فجواب ذلك‏:‏ أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور، فإذا زالت لم يبق منكرًا‏:‏
أحدها‏:‏ من يقول‏:‏ إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد، والله خلقه في غيره‏.‏
الثاني‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن كلام الله ليس إلا معنى واحدًا هو /الأمر والنهي والخبر، وأن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وكذلك معنى آية الدَّيْن وآية الكرسي، كمن يقول‏:‏ إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد، فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد، فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته‏.‏
الثالث‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله، وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين‏.‏ فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها‏.‏
وأما قول من قال‏:‏ إن القرآن العربي كلام الله، بلغه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تارة يسمع من الله، وتارة من رسله مبلغين عنه، وهو كلام الله حيث تصرف، وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره، ولا يكون كلام الله مخلوقًا، ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه‏.‏ وقال مع ذلك‏:‏ إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه، وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى، لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله ـ تعالى ـ وليس هو ولا شيء منه كلامًا لغيره، ولكن بلغته عنه رسله، وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه، ومع العلم بأن شيئًا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا في كلام الخالق أولى وأظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وهو منزل من الله، كما قال تعالى‏:‏‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏‏.‏ فأخبر ــ سبحانه ـ أنهم يعلمون ذلك، والعلم لا يكون إلا حقًا‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏1، الجاثية‏:‏2، الأحقاف‏:‏2‏]‏،‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏1، 2‏]‏،‏{‏حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1، 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏13‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏129‏]‏ ونحو ذلك، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏‏.‏
فأخبر ـ سبحانه ـ أنه منزل من الله، ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه؛ بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك‏.‏
ولهذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فإن من قال‏:‏ إنه مخلوق يقول‏:‏ إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها، فمن ذلك المخلوق نزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله ـ تعالى ـ أنه منزل من الله يناقض أن يكون قد نزل من غير الله؛ ولهذا فسر الإمام أحمد قوله‏:‏ ‏[‏منه بدأ‏]‏ أي‏:‏ هو المتكلم به‏.‏ وقال أحمد‏:‏ كلام الله من الله ليس ببائن عنه‏.‏
وأيضًا، فلو كان مخلوقًا في غيره لم يكن كلامه، بل كان يكون كلامًا لذلك المخلوق فيه، وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور، لو كان مخلوقًا في غيره لم يكن الرب ـ تعالى ـ متصفًا به، بل كان يكون صفة لذلك المحل؛ فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره، فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفًا بصفة موجودة قائمة بغيره؛ لأن ذلك فطـري، فما وصف به نفسـه من الأفعـال اللازمـة يمتنع أن يوصـف الموصـوف بأمـر لم يقم به، وهذا مبسوط في مواضع أخر‏.‏
/ولم يقل السلف‏:‏ إن النبي سمعه من الله ـ تعالى ـ كما يقول ذلك بعض المتأخرين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏اقرأ علَيَّ القرآن‏]‏‏.‏ قلت‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏]‏‏.‏ فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت إلى هذه الآية ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا‏}‏
‏[‏النساء‏:‏41‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏حَسْبُكَ‏]‏، فنظرت فإذا عيناه تذْرِفان من البكاء‏[‏‏[‏تذرفان‏]‏‏:‏ أي تدمعان‏]‏‏.‏
والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله ـ تعالى ـ كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏193ـ 195‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ َواللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏101، 102‏]‏ فأخبر ـ سبحانه ـ أنه نزله روح القدس ـ وهو الروح الأمين، وهو جبريل
ـ من الله بالحق، ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله، وإنما قال ذلك بعض المتأخرين‏.‏
/وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏17ـ 19‏]‏،
هو كقوله تعالى‏:‏‏{‏نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏3‏]‏ ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته؛ فإن لفظ نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه، فالرب ـ تعالى ـ خلق الملائكة وغيرها، تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه، فهو ـ سبحانه ـ أحق باسم ‏[‏نحن‏]‏ و ‏[‏فعلنا‏]‏ ونحو ذلك من كل ما يستعمل‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عباس قـال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعَالِج ‏[‏أي‏:‏ يحصل له ألم‏]‏ من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس‏:‏ أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏16، 17‏]‏ قال‏:‏ جمعه لك في صدرك وتقرأه ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏
فإذا قرأه رسولنا، وفي لفظ‏:‏ فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏19‏]‏ أي نقرؤه‏.‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه‏.‏
/وقد بين الله ـ تعالى ـ أنواع تكليمه لعباده في قوله‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏ فبين ـ سبحانه ـ أن التكليم تارة يكون وحيًا، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولا فيوحى الرسول بإذن الله ما يشاء، وقال تعالى‏:‏‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏75‏]‏ فإذا أرسل الله ـ تعالى ـ رسولا كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به، كما قال تعالى‏:‏‏{‏قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 94‏]‏ وإنما نبأهم بواسطة الرسول والرسول مبلغ به، كما قال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54، العنكبوت‏:‏ 18‏]‏‏.‏
والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه‏.‏ ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بلَّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم ـ لما خطب المسلمين ـ‏:‏ ‏(‏ليبلِّغ الشاهد الغائب،فرُبَّ مُبلَّغ أوْعَى من سامع‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل غير فقيه، ورب حامل فِقْهٍ إلى من هو أفقه منه‏)‏، /وفي السنن عن جابر قال‏:‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يعْرِض نفسه علـى النـاس بالموسم فيـقول‏:‏ ‏(‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ‏؟‏ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي‏)‏‏.‏
وكما لم يقل أحد من السلف‏:‏ إنه مخلوق، فلم يقل أحد منهم‏:‏ إنه قديم، لم يقل واحدًا من القولين أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من ‏[‏الأئمة الأربعة‏]‏ ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون‏:‏ القرآن كلام الله‏.‏ ولما ظهر من قال‏:‏ إنه مخلوق، قالوا ردًا لكلامه‏:‏ إنه غير مخلوق، ولم يريدوا‏)‏ بذلك أنه مفترى، كما ظنه بعض الناس، فإن أحدًا من المسلمين لم يقل‏:‏ إنه مفترى، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا‏:‏ إنه مخلوق، خلقه الله في غيره، فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنف في ذلك مصنفات متعددة، وقالوا‏:‏ منه بدأ وإليه يعود‏.‏
وأول من عرف أنه قال‏:‏ مخلوق‏:‏ الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان، وأول من عرف أنه قال‏:‏ هو قديم‏:‏ عبد الله بن سعيد بن كُلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول‏.‏
فمنهم من قال‏:‏ الكلام معنى واحد قائم بذات الرب، ومعني القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه هو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به، /بل هو مخلوق خلقه في غيره‏.‏ وقال جمهور العقلاء‏:‏ هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار‏.‏ فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى ‏[‏آية الكرسي‏]‏ ليس معنى ‏[‏آية الدين‏]‏ ولا معني ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏1‏]‏ معني ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏1‏]‏، فكيف بمعاني كلام الله كله في الكتب المنزلة، وخطابه لملائكته، وحسابه لعباده يوم القيامة، وغير ذلك من كلامه‏؟‏‏!‏
ومنهم من قال‏:‏ هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، لم يزل ولا يزال موصوفًا بها‏.‏
وكلا الحزبين يقول‏:‏ إن الله ـ تعالى ـ لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول‏:‏ يا نوح، يا إبراهيم، يأيها المزمل، يأيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين‏.‏ ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إن هذا القرآن عبارة عن كلام الله، ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلا عن أن يقول‏:‏ إن صوتي به قديم أو غير مخلوق، بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله، والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم، وما بين اللوحين كلام الله، وكلام الله غير مخلوق‏.‏
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تسافروا /بالقرآن إلى أرض العدوِّ‏)‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏21 ،22‏]‏، والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق، والصوت الذي يقرأ به هو صوت العبد، والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الباري، والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زَيِّنُوا القرآن بأصواتكم‏)‏، فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة‏:‏ يحسنه الإنسان بصوته، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو علمتُ أنك تسمع لَحَبَّرْتُه لك تحبيرًا‏)‏‏.‏
فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقًا للكتاب والسنة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏، ففرق ـ سبحانه ـ بين المداد الذي تكتب به كلماته وبين كلماته، فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات /مخلوق وكلمات الله غير مخلوقة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏27‏]‏، فالأبحر إذا قدرت مداداً تنفد، وكلمات الله لا تنفد؛ ولهذا قال أئمة السنة‏:‏ لم يزل الله متكلمًا كيف شاء وبما شاء، كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما‏.‏
هذا وقد أخبر ـ سبحانه ـ عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏62 ،74‏]‏، ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏65‏]‏،وذكر ـ سبحانه ـ نداءه لموسى ـ عليه السلام ـ في سورة ‏[‏طه‏]‏ و‏[‏مريم‏]‏ والـ ‏[‏طس الثلاث‏]‏ وفي سورة ‏[‏والنازعات‏]‏ وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏15، 16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏46‏]‏‏.‏
واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه ـ سبحانه ـ ينادي بصوت، نادى موسى، /وينادى عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال‏:‏ إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم‏:‏ إن الصوت الذي سمعه موسى قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به وبين أصوات العباد‏.‏
وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية، كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال‏:‏ إن الله لا يتكلم بصوت، فقال‏:‏ هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل‏.‏ وذكر بعض الآثار المروية في أنه ـ سبحانه ـ يتكلم بصوت‏.‏ وقد ذكر من صنف في السنة‏.‏‏.‏‏.‏ من ذلك قطعة، وعلى ذلك ترجم عليه البخاري في صحيحه بقوله تعالى‏:‏‏{‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏ وقد ذكر البخاري في كتاب ‏[‏خلق الأفعال‏]‏ مما يبين به الفرق بين الصوتين آثارًا متعددة‏.‏وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره بعد موت أحمد بسنين، ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه‏.‏
/وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه‏:‏ ‏[‏الفصول في الأصول‏]‏ قال‏:‏ سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول‏:‏ سمعت أبا حامد الإسفرائيني يقول‏:‏ مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار‏:‏ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال‏:‏ مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا؛ مسموعًا، ومكتوبًا، ومحفوظًا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال‏:‏ مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين‏.‏
وقد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة تنازعوا في اللفظ بالقرآن، هل يقال‏:‏ إنه مخلوق‏؟‏ ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره أن يقال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا‏:‏ من قال‏:‏ إنه مخلوق، فهو جهمي، ومن قال‏:‏ إنه غير مخلوق، فهو مبتدع‏.‏ وأما صوت العبد فلم يتنازعوا أنه مخلوق؛ فإن المبلغ لكلام غيره بلفظ صاحب الكلام إنما بلغ غيره، كما يقال‏:‏ روى الحديث بلفظه، وإنما يبلغه بصوت نفسه لا بصوت صاحب الكلام‏.‏
و‏[‏اللفظ‏]‏ في الأصل‏:‏ مصدر لفظ يلفظ لفظًا،وكذلك ‏[‏التلاوة /والقراءة‏]‏ مصدران، لكن شاع استعمال ذلك في نفس الكلام الملفوظ المقروء المتلو، وهو المراد باللفظ في إطلاقهم، فإذا قيل‏:‏ لفظي أو اللفظ بالقرآن مخلوق، أشعر أن هذا القرآن الذي يقرؤه ويلفظ به مخلوق، وإذا قيل‏:‏ لفظي غير مخلوق أشعر أن شيئًا مما يضاف إليه غير مخلوق، وصوته وحركته مخلوقان، لكن كلام الله الذي يقرؤه غير مخلوق، و ‏[‏التلاوة‏]‏ قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعهما‏.‏ فإذا أريد بها الكلام نفسه الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام، فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره‏.‏
ولم يكن أحد من السلف يريد بالتلاوة مجرد قراءة العباد، وبالمتلو مجرد معنى واحد يقوم بذات الباري ـ تعالى ـ بل الذي كانوا عليه أن القرآن كلام الله، تكلم الله به بحروفه ومعانيه، ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما، بل قد كفر الله من جعله قول البشر، مع أنه ـ سبحانه ـ أضافه تارة إلى رسول من البشر وتارة إلى رسول من الملائكة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الحاقة‏:‏ 40ـ43‏]‏، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى‏:‏/‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏التكوير‏:‏19ـ 27‏]‏‏.‏ فالرسول هنا جبريل‏.‏
وأضافه ـ سبحانه ـ إلى كل منهما باسم رسول؛ لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره، وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئًا منه؛ إذ لو كان قد أحدث منه شيئًا لم يكن رسولا فيما أحدثه، بل كان منشئًا له من تلقاء نفسه،وهو ـ سبحانه ـ يضيفه إلى رسول من الملائكة تارة ومن البشر تارة، فلو كانت الإضافة لكونه أنشأ حروفه لتناقض الخبران؛ فإن إنشاء أحدهما له يناقض إنشاء الآخر له‏.‏ وقد كفر الله ـ تعالى ـ من قال‏:‏ إنه قول البشر، فمن قال‏:‏ إن القرآن أو شيئًا منه قول بشر أو ملك، فقد كذب، ومن قال‏:‏ إنه قول رسول من البشر ومن الملائكة، بلغه عن مرسله ليس قولا أنشأه، فقد صدق، ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إن جبريل أحدث ألفاظه ولا محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولا أن الله ـ تعالى ـ خلقها في الهواء أو غيره من المخلوقات، ولا أن جبريل أخذها من اللوح المحفوظ، بل هذه الأقوال هي من أقوال بعض المتأخرين‏.‏
وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على تنازع المبتدعين الذين اختلفوا في الكتاب وبين فساد أقوالهم، وأن القول السديد هو قول /السلف وهو الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، وإن كان عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه، ولا وحدوه في كتاب من الكتب التي يتداولونها؛ لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها؛ ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالا مبتدعة؛ إما قولين، وإما ثلاثة، وإما أربعة، وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره؛ لأنه لا يعرفه؛ ولهذا تجد الفاضل من هؤلاء حائرًا مقرًا بالحيرة على نفسه وعلى من سبقه من هؤلاء المختلفين؛ لأنه لم يجد فيما قالوه قولا صحيحًا‏.‏
وكان أول من ابتدع الأقوال ‏[‏الجهمية المحضة النفاة‏]‏ الذين لا يثبتون الأسماء والصفات، فكانوا يقولون أولاً‏:‏ إن الله ـ تعالى ـ لا يتكلم، بل خلق كلاما في غيره، وجعل غيره يعبر عنه، وأن قوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏10‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل، فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏)‏ معناه‏:‏ أن ملكا يقول ذلك عنه، كما يقال‏:‏ نادى السلطان، أي أمر مناديا ينادي عنه، فإذا تلا عليهم ما أخبر الله ـ تعالى ـ به عن نفسه من أنه يقول ويتكلم‏.‏ قالوا‏:‏ هذا مجاز؛ كقول العربي‏:‏
/امتلأ الحوض وقال‏:‏ قطني
وقالت‏:‏ اتساع بطنه، ونحو ذلك‏.‏
فلما عرف السلف حقيقته، وأنه مُضَاهٍ لقول المتفلسفة المعطلة الذين يقولون‏:‏ إن الله ـ تعالى ـ لم يتكلم، وإنما أضافت الرسل إليه الكلام بلسان الحال كَفَّروهم وبينوا ضلالهم، ومما قالوا لهم‏:‏ إن المنادي عن غيره ـ كمنادي السلطان ـ يقول‏:‏ أمر السلطان بكذا، خرج مرسومه بكذا، لا يقول‏:‏ إني آمركم بكذا وأنهاكم عن كذا، والله ـ تعالى ـ يقول في تكليمه لموسى‏:‏‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14‏]‏ ويقول تعالى ـ إذا نزل ثلث الليل الغابرـ‏:‏ ‏(‏من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏)‏، وإذا كان القائل ملكا قال ـ كما في الحديث الذي في الصحيحين ـ‏:‏ ‏(‏إذا أحب الله العبد نادى في السماء‏:‏ يا جبريل، إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في السماء‏:‏ إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض ‏)‏، فقال جبريل في ندائه عن الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله يحب فلانا فأحبوه‏)‏، وفي نداء الرب يقول‏:‏ ‏(‏من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏)‏‏.‏
/فإن قيل‏:‏ فقد روى أنه يأمر مناديا فينادي، قيل‏:‏ هذا ليس في الصحيح، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر مناديا ينادي، أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول، مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول‏:‏ ‏(‏من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له‏؟‏ ‏[‏فلا يجوز‏.‏
وكذلك جَهْم كان ينكر أسماء الله ـ تعالى ـ فلا يسميه شيئًا ولا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز، قال‏:‏ لأنه إذا سمى باسم تسمى به المخلوق كان تشبيهًا، وكان جهم ‏[‏مجبرًا‏]‏ يقول‏:‏ إن العبد لا يفعل شيئًا؛ فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادرًا؛ لأن العبد عنده ليس بقادر‏.‏
ثم إن المعتزلة الذين اتبعوا عمرو بن عبيد على قوله في القَدر والوعيد دخلوا في مذهب جهم، فأثبتوا أسماء الله ـ تعالى ـ ولم يثبتوا صفاته، وقالوا‏:‏ نقول‏:‏ إن الله متكلم حقيقة، وقد يذكرون إجماع المسلمين على أن الله متكلم حقيقة؛ لئلا يضاف إليهم أنهم يقولون‏:‏ إنه غير متكلم، لكن معنى كونه ـ سبحانه ـ متكلمًا عندهم‏:‏أنه خلق الكلام في غيره، فمذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء،لكن هؤلاء يقولون‏:‏هو متكلم حقيقة،وأولئك ينفون أن يكون متكلمًا حقيقة‏.‏وحقيقة قول الطائفتين أنه غير /متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام، ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولا محب ولا راض ولا مبغض ولا رحيم إلا من قامت به الإرادة والمحبة والرضى والبغض والرحمة، وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب فـي الفقـه إلـى أبـي حنيفة من المعتزلة‏.‏ وغيرهم من أئمة المسلمين ليس فيهم من يقول بقول المعتزلة، لا في نفي الصفات، ولا في القدر، ولا المنزلة بين المنزلتين، ولا إنفاذ الوعيد‏.‏
ثم تنازع المعتزلة والكلابية في حقيقة ‏[‏المتكلم‏]‏، فقالت المعتزلة‏:‏ المتكلم من فعل الكلام ولو أنه أحدثه في غيره، ليقولوا‏:‏ إن الله يخلق الكلام في غيره وهو متكلم به‏.‏ وقالت الكُلابيّة‏:‏ المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلمًا بمشيئته وقدرته، ولا فعل فعلاً أصلا، بل جعلوا المتكلم بمنزلة الحي الذي قامت به الحياة، وإن لم تكن حياته بمشيئته ولا قدرته ولا حاصلة بفعل من أفعاله‏.‏
وأما السلف وأتباعهم وجمهور العقلاء فالمتكلم المعروف عندهم من قام به الكلام، وتكلم بمشيئته وقدرته‏.‏ لا يعقل متكلم لم يقم به الكلام، ولا يعقل متكلم بغير مشيئته وقدرته، فكان كل من تينك الطائفتين المبتدعتين أخذت بعض وصف المتكلم؛ المعتزلة أخذوا أنه فاعل، والكلابية أخذوا أنه محل الكلام، ثم زعمت المعتزلة أنه يكون فاعلا للكلام في غيره، وزعموا هم ومن وافقهم من أتباع الكلابية كأبي الحسن /وغيره أن الفاعل لا يقوم به الفعل، وكان هذا مما أنكره السلف وجمهور العقلاء، وقالوا‏:‏ لا يكون الفاعل إلا من قام به الفعل، وأنه يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول، وذكر البخاري في كتاب ‏[‏خلق أفعال العباد‏]‏ إجماع العلماء على ذلك‏.‏
والذين قالوا‏:‏ إن الفاعل لا يقوم به الفعل، وقالوا مع ذلك‏:‏ إن الله فاعل أفعال العباد كأبي الحسن وغيره، وأن العبد لم يفعل شيئًا وأن جميع ما يخلقه العبد فعل له، وهم يصفونه بالصفات الفعلية المنفصلة عنه ويقسمون صفاته إلى صفات ذات وصفات أفعال، مع أن الأفعال عندهم هي المفعولات المنفصلة عنه، فلزمهم أن يوصف بما خلقه من الظلم والقبائح مع قولهم‏:‏ إنه لا يوصف بما خلقه من الكلام وغيره، فكان هذا تناقضًا منهم تسلطت به عليهم المعتزلة‏.‏ ولما قرروا ما هو من أصول أهل السنة، وهو أن المعنى إذا قام بمحل اشتق له منه اسم ولم يشتق لغيره منه اسم كاسم المتكلم، نقض عليهم المعتزلة ذلك باسم الخالق والعادل، فلم يجيبوا عن النقض بجواب سديد‏.‏
وأما السلف والأئمة فأصلهم مطرد، ومما احتجوا به على أن القرآن غير مخلوق ما احتج به الإمام أحمد وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ والمخلوق لا يستعاذ به، فعورضوا بقوله‏:‏ ‏(‏أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك /منك‏)‏، فطرد السلف والأئمة أصلهم وقالوا‏:‏ معافاته‏:‏ فعله القائم به، وأما العافية الموجودة في الناس فهي مفعوله‏.‏
وكذلك قالوا‏:‏ إن الله خالق أفعال العباد، فأفعال العباد القائمة بهم مفعولة له لا نفس فعله، وهي نفس فعل العبد، وكان حقيقة قول أولئك نفي فعل الرب ونفي فعل العبد، فتسلطت عليهم المعتزلة في ‏[‏مسألة الكلام والقدر‏]‏ تسلطًا بينوا به تناقضهم كما بينوا هم تناقض المعتزلة‏.‏
وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيًا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقًا لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وممن له قلب يعقل به وأذن يسمع بها، بخلاف الذين قالوا‏:‏‏{‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏10‏]‏‏.‏
وقد وافق الكلابية على قولهم كثير من أهل الحديث والتصوف، ومن أهل الفقه المنتسبين إلى الأئمة الأربعة، وليس من الأئمة الأربعة /وأمثالهم من أئمة المسلمين من يقول بقولهم
وحدث مع الكلابية ونحوهم طوائف أخرى من الكرامية وغير الكرامية من أهل الفقه‏.‏ والحديث والكلام فقالوا‏:‏ إنه ـ سبحانه ـ متكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته، ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا‏:‏ إنه لم يكن يمكنه في الأزل أن يتكلم، بل صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، من غير حدوث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه، وهذا القول مما وافق الكرامية عليه كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل قولهم‏.‏ وهذا مما شاركوا فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن هؤلاء كلهم يقولون‏:‏ إنه لم يكن الكلام ممكنًا له في الأزل ثم صار ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه من غير حدوث سبب أوجب إمكانه، لكن الجهمية والمعتزلة يقولون‏:‏ إنه خلق كلامًا في غيره من غير أن يقوم به كلام؛ لأنه لو قام به كلام بمشيئته وقدرته لقامت به الحوادث، قالوا‏:‏ ولا تقوم به الحوادث‏.‏ قالت الجهمية والمعتزلة‏:‏ لأن الحوادث هي من جملة الصفات التي يسمونها الأعراض، وعندهم لا يقوم به شيء من الصفات، قالوا‏:‏ لأن الصفات أعراض، والعَرَض لا يقوم إلا بجسم وليس هو بجسم؛ لأن الجسم لا يخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث‏.‏
/وقالت الكلابية‏:‏ بل تقوم به الصفات ولا تقوم به الحوادث، ونحن لا نسمى الصفات أعراضًا؛ لأن العرض عندنا لا يبقى زمانين، وصفات الله ـ تعالى ـ باقية‏.‏ وقالوا‏:‏ وأما الحوادث فلو قامت به لم يخل منها؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث‏.‏
فقال الجمهور المنازعون للطائفتين‏:‏ أما قول أولئك‏:‏ أنه لا تقوم به الصفات؛ لأنها أعراض والعَرَض لا يقوم إلا بجسم وليس بجسم، فتسمية ما يقوم بغيره عرضًا اصطلاح حادث، وكذلك تسمية ما يشار إليه جسما اصطلاح حادث أيضًا، و‏[‏الجسم‏]‏ في لغة العرب هو البدن وهو الجسد كما قال غير واحد من أهل اللغة، منهم الأصمعي وأبو عمرو، فلفظ الجسم يشبه لفظ الجسد وهو الغليظ الكثيف‏.‏ والعرب تقول‏:‏ هذا جسيم، وهذا أجسم من هذا،أي أغلظ منه، قال تعالى‏:‏‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏247‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏4‏]‏، ثم قد يراد بالجسم نفس الغلظ والكثافة، ويراد به الغليظ الكثيف‏.‏
وكذلك النُّظَّار يريدون بلفظ ‏[‏الجسم‏]‏ تارة المقدار، وقد يسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر، وهو الجسمي الطبيعي، والمقدار المجرد عن المقدر كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا /في الأذهان دون الأعيان‏.‏ وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا كان هذا معنى الجسم بلغة العرب، فهو أخص من المشار إليه؛ فإن الروح القائمة بنفسها لا يسمونها جسمًا، بل يقولون‏:‏ خرجت روحه من جسمه، ويقولون‏:‏ إنه جسم وروح، ولا يسمون الروح جسمًا، ولا النفس الخارج من الإنسان جسمًا، لكن أهل الكلام اصطلحوا على أن كل ما يشار إليه يسمى جسمًا، كما اصطلحوا على أن كل ما يقوم بنفسه يسمى جوهرًا، ثم تنازعوا في أن كل ما يشار إليه هل هو مركب من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو ليس مركبًا لا من هذا ولا من هذا، على أقوال ثلاثة، قد بسطت في غير هذا الموضع؛ ولهذا كان كثير منهم يقولون‏:‏ الجسم عندنا هو القائم بنفسه، أو هو الموجود لا المركب‏.‏
قال أهل العلم والسنة‏:‏ فإذا قالت الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات‏:‏إن الصفات لا تقوم إلا بجسم، والله ـ تعالى ـ ليس بجسم،قيل لهم‏:‏إن أردتم بالجسم ما هو مركب من جواهر فردة أو ما هو مركب من المادة والصورة لم نسلم لكم ‏[‏المقدمة الأولى‏]‏، وهي قولكم‏:‏ إن الصفات لا تقوم إلا بما هو كذلك، قيل لكم‏:‏ إن الرب ـ تعالى ـ قائم بنفسه، والعباد يرفعون أيديهم إليه في الدعاء، ويقصدونه بقلوبهم، وهو العلي الأعلى ـ سبحانه ـ ويراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة عيانا،كما يرون القمر ليلة /البدر، فإن قلتم‏:‏ إن ما هو كذلك فهو جسم وهو محدث، كان هذا بدعة مخالفة للغة والشرع والعقل، وإن قلتم‏:‏ نحن نسمى ما هو كذلك جسمًا ونقول‏:‏ إنه مركب، قيل‏:‏ تسميتكم التي ابتدعتموها هي من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان‏.‏
ومن عمد إلى المعاني المعلومة بالشرع والعقل وسماها بأسماء منكرة لينفر الناس عنها، قيل له‏:‏ النزاع في المعاني لا في الألفاظ، ولو كانت الألفاظ موافقة للغة، فكيف إذا كانت من ابتداعهم‏؟‏ ومعلوم أن المعاني التي يعلم ثبوتها بالشرع والعقل لا تدفع بمثل هذا النزاع اللفظي الباطل‏.‏
وأما قولهم‏:‏ إن كل ما كان تقوم به الصفات، وترفع الأيدي إليه، ويمكن أن يراه الناس بأبصارهم، فإنه لابد أن يكون مركبًا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهذا ممنوع؛ بل هو باطل عند جمهور العقلاء؛ من النظار والفقهاء وغيرهم، كما قد بسط في موضعه‏.‏
قال الجمهور‏:‏وأما تفريق الكلابية بين المعاني التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته ـ التي تسمى الحوادث، ومنهم من يسمى الصفات أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين ـ فيقال‏:‏ قول القائل‏:‏ إن العَرَض ـ الذي هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو ذلك ـ لا يبقى زمانين قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع /الطوائف، بل من الناس من يقول‏:‏ إنه معلوم الفساد بالاضطرار، كما قد بسط في موضع آخر‏.‏
وأما تسمية المسمى للصفات أعراضًا، فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام، ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم، والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيه اختلاف الاصطلاحات، بل يعد هذا من النزاعات اللفظية، والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف، فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين، وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
وأما قول الكلابية‏:‏ ما يقبل الحوادث لا يخلو منها، و ما لم يخل من الحوادث فهو حادث ـ فقد نازعهم جمهور العقلاء في كلا المقدمتين، حتى أصحابهم المتأخرون نازعوهم في ذلك، واعترفوا ببطلان الأدلة العقلية التي ذكرها سلفهم على نفي حلول الحوادث به، واعترف بذلك المتأخرون من أئمة الأشعرية والشيعة والمعتزلة وغيرهم، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏
وحدثت طائفة أخرى من السالمية وغيرهم ـ ممن هو من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، ومنهم كثير ممن هو ينتسب إلى /مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكثر هذا في بعض المتأخرين المنتسبين إلى أحمد بن حنبل ـ فقالوا بقول المعتزلة وبقول الكلابية، وافقوا هؤلاء في قولهم‏:‏ إنه قديم، ووافقوا أولئك في قولهم‏:‏ إنه حروف وأصوات، وأحدثوا قولاً مبتدعًا ـ كما أحدث غيرهم ـ فقالوا‏:‏ القرآن قديم، وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لنفس الله ـ تعالى ـ أزلا وأبدًا‏.‏
واحتجوا على أنه قديم بحجج الكلابية، وعلى أنه حروف وأصوات بحجج المعتزلة‏.‏ فلما قيل لهم‏:‏ الحروف مسبوقة بعضها ببعض، فالباء قبل السين والسين قبل الميم، والقديم لا يسبق بغيره، والصوت لا يتصور بقاؤه فضلا عن قدمه، قالوا‏:‏ الكلام له وجود وماهية، كقول من فرق بين الوجود والماهية من المعتزلة وغيرهم‏.‏ قالوا‏:‏ والكلام له ترتيب في وجوده، وترتيب ماهية الباء للسين بالزمان هي في وجوده وهي مقارنة لها في ماهيتها لم تتقدم عليها بالزمان، وإن كانت متقدمة بالمرتبة كتقدم بعض الحروف المكتوبة على بعض؛ فإن الكاتب قد يكتب آخر المصحف قبل أوله، ومع هذا فإذا كتبه كان أوَّله متقدما بالمرتبة على آخره‏.‏
فقال لهم جمهور العقلاء‏:‏ هذا مما يعلم فساده بالاضطرار؛ فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الموجود في الخارج دعوى /فاسدة، كما قد بسط في موضع آخر، والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية، والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني، بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول‏:‏ يعني بالقديم أنه بدأ من الله، وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح، لكن الذين نازعوا‏:‏ هل هو قديم أو‏[‏ليس بقديم‏]‏، لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم‏:‏ إنه قديم وأراد هذا المعنى، قد أراد معنًى صحيحًا، لكنه جاهل بمقاصد الناس، مضل لمن خاطبه بهذا الكلام، مبتدع في الشرع واللغة‏.‏
ثم كثير من هؤلاء يقولون‏:‏ إن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف، ومنهم من يقول‏:‏ بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول‏:‏ بل يسمع من القارئ شيئان‏:‏الصوت القديم، وهو ما لابد منه في وجود الكلام، والصوت المحدث، وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون‏:‏ المداد الذي في المصحف مخلوق، لكن الحروف القديمة ليست هي المداد، بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر، وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد‏:‏ إنه قديم أو /مخلوق، وقد يقول‏:‏ لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق، لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا يهجر من يتكلم بالحق، ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض‏.‏
وخوض الناس وتنازعهم في هذا الباب كثير، قد بسطناه في مواضع، وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع يبين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام، والله تعالى أعلم‏.‏


التوقيع :

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معنى, كمال

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:19 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir