دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 4 ذو الحجة 1429هـ/2-12-2008م, 04:37 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي معنى وصف القرآن بأنه محكم وبأنه متشابه وبأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّه بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ، وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ.
قَالَ تَعَالِيَ: ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا، وَقَالَ تَعَالَى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّه مُتَشَابِهٌ.
وَالْحَكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْحِكْمَةُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا، إِذَا مُيِّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ، فَيُقَالُ: حَكَمْتُ السَّفِيهَ وَأَحْكَمْتُهُ إِذَا أَخَذْتُ عَلَى يَدِهِ، وَحَكَمْتُ الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتُهَا إِذَا جَعَلْتُ لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنَ اللِّجَامِ، وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إِتْقَانُه، فَإِحْكَامُ الْكَلاَمِ إِتْقَانُه بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنَ الكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ، وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنَ الغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ.
وَالْقُرْآنُ كُلُّه مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ، فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ: ( قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) أَيْ: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ).
وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلاَفِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، وَهُوَ الِاخْتِلاَفُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ).
فَالتَّشَابُهُ هُنَا هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلاَمِ وَتَنَاسُبُهُ، بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُه بَعْضًا، فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ يَنْهَى عَنْهُ، أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ، أَوْ عَنْ لَوَازِمِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ، بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ، أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِه، وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ، بَلْ يَنْفِيه، أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَه، بِخِلاَفِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُه بَعْضًا، فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً وَيَنْفِيه أُخْرَى، أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَمْدَحُ أَحَدَهمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ، فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا هِيَ الْمُتَضَادَّةُ، وَالْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ.
وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا - كَانَ الْكَلاَمُ مُتَشَابِهًا، بِخِلاَفِ الْكَلاَمِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُه بَعْضًا.
وَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ لاَ يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ، بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ، فَإِنَّ الْكَلاَمَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُه بَعْضًا، لاَ يُنَاقِضُ بَعْضُه بَعْضًا.
بِخِلاَفِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ، فَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لاَ يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَهَذَا التَّشَابُهُ إِنَّمَا يَكُونُ لِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى ذَلِكَ، فَالتَّشَابُه الَّذِي لاَ تَمْيِيزَ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ، بِحَيْثُ يشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهَ، كَمَا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ، فَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مِثْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، حَتَّى يَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ.
وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لاَ يَشْبَهُهُ فِيهِ، فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ.


  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 02:54 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ
اعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ القرآنَ بأنَّهُ مُحْكَمٌ، وبأنَّهُ مُتشابِهٌ، وبأنَّ بعضَهُ محكَمٌ وبعضَهُ متشابِهٌ.
فالأوَّلُ كقولِهِ تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)([1]).
الثَّاني: كقولِهِ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً)([2]).
والثَّالِثُ كقولِهِ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)([3]).
فالإحْكامُ الَّذِي وَصَفَ بهِ جميعَ القرآنِ هوَ: الإِتقانُ والْجَوْدَةُ في اللَّفْظِ والمعْنى، فأَلْفاظُ القرآنِ كلِّهِ في أكْمَلِ البيانِ، والفصاحةِ، والبلاغةِ، ومعانيهِ أكملُ المعانِي، وأجلُّهَا، وأنفعُهَا للخَلْقِ حيثُ تَتَضَمَّنُ كمالَ الصِّدْقِ في الأَخبارِ وكمالَ الرُّشْدِ والعدْلِ في الأحكامِ كمَا قالَ اللهُ تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً)([4]).
والتَّشابُهُ الَّذي وَصَفَ بهِ جميعَ القرآنِ هوَ تشابُهُ القرآنِ في الكمالِ والإِتقانِ، والائْتِلاَفِ، فلا يُناقِضُ بعضُهُ بعْضاً في الأَحْكَامِ، ولا يُكَذِّبُ بعضُهُ بعضاً في الأَخبارِ كمَا قالَ اللهُ تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)([5]).
والإِحكامُ الَّذي وَصَفَ بهِ بعضَ القرآنِ هوَ: الوُضوحُ، والظُّهُورُ بحيثُ يكونُ معنَاهُ واضِحاً بيِّناً لاَ يَشْتَبِهُ على أحدٍ وهذَا كثيرٌ في الأخبارِ والأحكامِ.
مثالُهُ في الأَخْبَارِ قولُهُ تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)([6]). فكلُّ أحدٍ يَعْرِفُ شهْرَ رمضانَ وكلُّ أحَدٍ يَعرِفُ القرآنَ.
ومثالُهُ في الأحْكَامِ قولُهُ تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)([7]). فكلُّ أحدٍ يَعرِفُ والديْهِ وكلُّ أحَدٍ يَعرِفُ الإِحسانَ.
وأمَّا التَّشَابُهَ الذِي وَصَفَ بهِ بعضَ القرآنِ فهوَ: الاشْتِبَاهُ أيْ خَفاءُ المعنى بحيثُ يَشتبهُ على بعضِ النَّاسِ دونَ غيرِهِمْ، فيَعلمُهُ الرَّاسخُونَ في العلْمِ دونَ غيرِهِمْ.

مَوْقِفُنَا منِ اخْتِلافِ هذِهِ الأوصَافِ وكيْفيَّةُ الجَمْعِ بَيْنِهَا
موقفُنَا منِ اخْتِلاَفِ هذِهِ الأوْصَافِ وكيْفَ نَجْمَعُ بينَها أنْ نَقُولَ:
إنَّ وصْفَ القرآنِ جميعِهِ بالإحكامِ، ووصفَهُ جميعِهِ بالتَّشابُهِ لاَ يَتعارضَانِ والجَمْعُ بينَهُمَا: أنَّ الكَلاَمَ المُحْكَمَ المُتْقَنَ يُشْبِهُ بعضُهُ بعْضاً في الكمالِ، والصِّدْقِ فلا يَتناقَضُ في أحكامِهِ، ولا يَتكاذَبُ في أخْبَارِهِ.
وأَمَّا وصْفُ القُرْآنِ بأنَّ بعضَهُ مُحْكَمٌ وبعْضَهُ مُتَشَابِهٌ فلاَ تَعارُضَ بينَهُمَا أَصْلاً، لأنَّ كلَّ وصْفٍ واردٌ على مَحَلٍّ لمْ يَرِدْ عليْهِ الآخَرُ، فبعضُ القُرآنِ محكَمٌ ظاهِرُ المعنى، وبَعضُهُ متشابِهٌ خَفِيُّ المَعْنى، وقدِ انْقَسَمَ النَّاسُ في ذلكَ إلى قِسْمَيْنِ:
فالرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يقولونَ: آمنَّا بهِ كلٌّ مِنْ عنْدِ ربِّنَا، وإذَا كانَ منْ عنْدِهِ فلنْ يَكُونَ فيهِ اشتباهٌ يَستلزِمُ ضَلالاً، أوْ تَناقُضاً، ويَردُّونَ المتشابِهَ إلى الْمُحْكَمِ فصارَ مآلُ المتشابِهِ إلى الإِحكامِ.
وأمَّا أهلُ الضَّلالِ والزَّيْغِ فاتَّبَعُوا المتشابِهَ وجَعَلوهُ مَثاراً للشَّكِّ والتَّشْكِيكِ فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا وتوهَّمُوا بهذا المُتشابِهِ مَا لاَ يَلِيقُ باللهِ عزَّ وجلَّ ولاَ بكتابِهِ ولاَ برسولِهِ.
مثالُ الأوَّلِ([8]): قولُهُ تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى)([9]). وقولُهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)([10]). ونحوِهِمَا مما أَضافَ اللهُ فيهِ الشَّيْءَ إلى نفسِهِ بصفةِ الجَمْعِ، فاتَّبَعَ النَّصْرَانيُّ هذَا المتشابِهَ وادَّعى تَعدُّدَ الآلِهَةِ وقالَ: إنَّ اللهَ ثالِثُ ثلاثةٍ، وتَرَكَ الْمُحْكَمَ الدَّالَّ على أنَّ اللهَ واحدٌ.

وأمَّا الرّاسِخُونَ في العِلْمِ: فيَحملونَ الجَمْعَ على التَّعْظِيمِ لتعدُّدِ صفاتِ اللهِ وعِظَمِهَا، يَرُدُّونَ هذَا المتشابِهَ إلى الْمُحْكَمِ في قولِهِ تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ)([11]). ويقولونَ للنَّصْرَانِيَّ: إنَّ الدَّعْوى التَّي ادَّعَيْتَ بمَا وَقَعَ لكَ منَ الاشْتِبَاهِ قدْ كَفَّرَكَ اللهُ بهَا وكذلكَ فيهَا فاسْتَمِعْ إلى قولِهِ تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)([12]). أيْ كَفَرُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ.

ومثالُ الثَّاني([13]): قولُهُ تعالى لِنَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)([14]). وقولُه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)([15]). فَفِي الآيتيْنِ مُوهِمُ تَعَارُضٍ فيَتَّبِعُهُ منْ في قلْبِهِ زَيْغٌ ويَظُنُّ بَيْنَهُمَا تَناقُضاً وهُوَ النَّفْيُ في الأُولى، والإِثباتُ في الثَّانِيَةِ. فيقولُ: في القرآنِ تَناقُضٌ.

وأمَّا الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ فيقولونَ: لا تَناقُضَ في الآيتيْنِ فالمرادُ بالهدايةِ في الآيةِ الأُولى هدايةُ التَّوْفِيقِ، وهذِهِ لا يَمْلِكُهَا إلاّ اللهُ وحدَهُ فلاَ يَملِكُهَا الرَّسُولُ ولاَ غيرُهُ. والمرادُ بهَا في الآيةِ الثَّانيةِ هدايةُ الدَّلالةِ وهذِهِ تكونُ منَ اللهِ تعالى، ومنْ غيْرِهِ فتكونُ منَ الرُّسُلِ وَوَرَثَتِهِمْ منَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ.

ومثالُ الثَّالثِ([16]): قولُهُ تعالى لنبيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)([17]). فَفِي الآيةِ مَا يُوهِمُ وُقوعَ الشَّكِّ مِنَ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ممَّا أُنْزِلَ إليهِ فيَتَّبِعُهُ من في قلبِهِ زَيْغٌ فيَدَّعِي أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ منْهُ ذلكَ فيَطْعَنُ في رسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا الرَّسِخُونَ في العِلْمِ فيقولَونَ: أنَّ النَّبيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمْ يَقَعَ منْهُ شكٌّ ولا امْتراءٌ فيمَا أُنْزِلَ إليْهِ، كيْفَ وقدْ شَهِدَ اللهُ لَهُ بالإيمانِ في قولهِ تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)([18]). وقولِهِ: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)([19]).
ويقولونَ: إنَّ مثلَ هذَا التَّعبيرِ (فإن كنتَ في شكٍ)- لا يَلْزَمُ منهُ وُقوعُ الشَّرْطِ بلْ ولاَ إمكانُهِ كقولِهِ تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)([20]). فإنَّ وجودَ الولدِ للهِ عزَّ وجَلَّ مُمتنِعٌ غايةَ الامتِناعِ كمَا وقالَ تعالى: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)([21]) ([22])فكذلكَ الشَّكُّ والامْتِراءُ منْ رسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمَا أُنْزِلَ إليْهِ ممتنِعٌ غايةَ الامتِناعِ ولكنْ جاءَت العِبارَةُ بهذِهِ الصِّيغَةِ الشَّرْطيَّةِ لتأكيدِ امتناعِ الشَّكِّ والامْتِراءِ منْ رسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمَا أُنْزِلَ إليْهِ منَ اللهِ عزَّ وجَلَّ.

فإنْ قُلْتَ: مَا الحِكْمَةُ منْ كَوْنِ بعضِ القرآنِ متشَابِهاً؟
فالجوابُ: أنَّ الحكمةَ منْ ذلكَ ابتلاءُ العِبادِ واختبارُهُم ليَتبيَّنَ الصَّادِقُ في إيمانِهِ الرَّاسِخُ في عَمَلِهِ الَّذي يُؤْمِنُ باللهِ وكلماتِهِ، ويَعلَمُ أنَّ كلامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ ليسَ فيهِ تناقضٌ، ولا اخْتِلافٌ، فَيَرُدُّ مَا تَشابَهَ منْهُ إلى مَا كَانَ مُحْكَماً، ليَصيرَ كلُّه مُحكَماً مِنَ الشَّاكِّ الجاهِلِ الزَّائِغِ الَّذي يَتَّبِعُ مَا تَشابَهَ منْهُ، ليَضرِبَ كتابَ اللهِ تعالى بعضَهُ ببعْضٍ، فيَضِلَّ، وَيُضِلَّ، ويكونَ إماماً في الضَّلالِ والشَّقَاءِ فَيَفْتِنَ النَّاسَ في دِينِهِمْ، ويُوقِعَهُمْ في الشَّكِّ والْحَيْرَةِ، ويَفْتِنَ بعضَهُمْ بِبَعْضٍ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)([23])

([1]) سورة يونس، الآية: 1.

([2]) سورة الزمر، الآية : 23.

([3]) سورة آل عمران، الآية: 7.

([4]) سورة الأنعام، الآية: 115.

([5]) سورة النساء، الآية: 82.

([6]) سورة البقرة، الآية: 185.

([7]) سورة النساء، الآية: 36.

([8]) تهم ما لا يليق بالله عز وجل.

([9]) سورة يس، الآية: 12.

([10]) سورة الحجر، الآية: 9.

([11]) سورة البقرة، الآية: 163.

([12]) سورة المائدة، الآية: 73.

([13]) توهم ما لا يليق بالقرآن.

([14]) سرة القصص، الآية: 56.

([15]) سورة الشورى، الآية: 52.

([16]) توهم ما لا يليق برسول الله، صلى الله عليه وسلم.

([17]) سورة يونس، الآية: 94.

([18]) سورة البقرة، الآية: 285.

([19]) سورة الأعراف، الآية: 158.

([20]) سورة الزخرف، الآية: 81.

([21]) في معنى هذه الآية أقوال. أظهرها أنه إن كان للرحمن ولد على سبيل الفرض الممتنع فإن ذلك لن يحملني على عبادة ذلك الولد بل سأكون أول العابدين لله ولن أعبد الولد وذلك لأن المعبود لم يذكر فيها فنصرف المعنى إلى من لا تصح العبادة إلا له وهو الله تعالى.

([22]) سورة مريم، الآية: 92.

([23]) سورة آل عمران، الآية: 7 : 8 .

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 03:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


قولُه:
ومما يوضِّحُ هذا أن اللهَ وَصفَ القرآنَ كلَّه بأنه مُحْكَمٌ وبأنه مُتَشابِهٌ، وفي موضعٍ آخَرَ جَعلَ منه ما هو محكَمٌ ومنه ما هو متشابِهٌ، فينبغي أن يُعرَفَ الإحكامُ والتشابُهُ الذي يعُمُّهُ، والإحكامُ والتشابُهُ الذي يَخُصُّ بعضَه. قالَ تعالى: {الر. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فأخبرَ أنه أحكَمَ آياتِه كلَّها. وقالَ تعالى: {اللهُ أَنْزَلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} فأخبرَ أنه كلَّه متشابِهٌ. والحكْمُ هو الفصْلُ بين الشيئين؛ فالحاكِمُ يَفصِلُ بينَ الْخَصْمين، والحكْمُ فصلٌ بينَ المتشابِهاتِ علْماً وعَمَلاً – إذا ميَّزَ بينَ الحقِّ والباطلِ، والصدْقِ والكَذِبِ، والنافعِ والضارِّ، وذلك يَتضمَّنُ فعْلَ النافعِ وترْكَ الضارِّ، فيُقالُ: حكَمْتُ السفيهَ وأَحْكَمْتُه، إذا أخَذْتَ على يديه، وحكَمْتُ الدابَّةَ وأَحْكَمتُها، إذا جعَلْتَ لها حِكمةً وهي ما أحاطَ بالحنَكِ من اللِّجامِ. وإحكامُ الشيءِ إتقانُه. فإحكامُ الكلامِ إتقانُه بتمييزِ الصدْقِ من الكذِبِ في أخبارِه، وتمييزِ الرُّشْدِ من الغيِّ في أوامرِه، والقرآنُ كلُّه مُحْكَمٌ بمعنى الإتقانِ، فقد سمَّاه اللهُ حكيماً بقولِه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فالحكيمُ بمعنى الحاكمِ، كما جعلَه يَقُصُّ بقولِه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. وجَعلَه مُفْتِياً في قولِه: {قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي: ما يُتْلَى عليكم يُفْتِيكُم فيهن، وجَعلَه هادياً ومبشِّراً في قولِه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ}.

وأما التَّشابُهُ الذي يَعُمُّه فهو ضِدُّ الاختلافِ المنفيِّ عنه في قولِه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} وهو الاختلافُ المذكورُ في قولِه: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}. فالتشابُهُ هنا هو تَماثُلُ الكلامِ وتَناسُبُه، بحيث يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، فإذا أَمَرَ بأمْرٍ لم يَأْمُرْ بنَقِيضِه في موضعٍ آخرَ, بل يَأمرُ به أو بنظيرِه أو بملزوماتِه، وإذا نَهَى عن شيءٍ لم يَأمُرْ به في موضعٍ آخرَ، بل يَنْهَى عنه أو عن نظيرِه أو عن ملزوماتِه، إذا لم يكنْ هناك نسْخٌ.

وكذلك إذا أَخبرَ بثُبوتِ شيءٍ لم يُخْبِرْ بنقيضِ ذلك، بل يُخْبِرُ بثبوتِه أو بثبوتِ ملزوماتِه، وإذا أَخبرَ بنفيِ شيءٍ لم يُثْبِتْه، بل يَنْفِيه أو يَنْفِي لوازمَه، بخلافِ القولِ المختلِفِ الذي يَنْقُضُ بعضُه بعضاً، فيُثْبِتُ الشيءَ تارةً ويَنفيه أخرى, أو يَأمرُ به ويَنْهَى عنه في وقتٍ واحدٍ، ويُفرِّقُ بين المتُماثِلَيْن، فيَمدَحُ أحدَهما ويَذُمُّ الآخرَ.
فالأقوالُ المختلِفةُ هنا هي: المتضادَّةُ, والمتشابِهةُ: هي المتوافِقَةُ. وهذا التشابُهُ يكونُ في المعاني وإن اخْتلَفَت الألفاظُ، فإذا كانت المعاني يُوافِقُ بعضُها بعضاً، ويُعَضِّدُ بعضُها بعضاً، ويُناسِبُ بعضُها بعضاً، ويَشْهَدُ بعضُها لبعضٍ، ويَقتضي بعضُها بعضاً: كان الكلامُ مُتَشَابِهاً، بخلافِ الكلامِ المتناقِضِ الذي يُضَادُّ بعضُه بعضاً. فهذا التشابُهُ العامُّ لا يُنافي الإحكامَ العامَّ، بل هو مصدِّقٌ له، فإن الكلامَ المحكَمَ المُتْقَنَ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، لا يُنافي بعضُه بعضاً.





الشرْحُ:
يعني: ومما يُوَضِّحُ أننا نَجْهَلُ الكيفيَّاتِ والحقائقَ التي استأثرَ اللهُ بعلْمِها، ونعلَمُ معانيَ ما خوطِبْنا به ونُفَسِّرُه، وأن الأسماءَ تكونُ مترادِفةً من جهةِ دَلالتِها على شيءٍ واحدٍ ومتباينةً من جهةِ تغايُرِ معانيها, مما يوضِّحُ ذلك كلَّه أن اللهَ سبحانَه وَصَفَ القرآنَ كلَّه بأنه محكَمٌ؛ كما في آيةِ هودٍ، ووَصَفَه كلَّه بأنه متشابِهٌ كما في آيةِ الزُّمَرِ.

وفي قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. بيَّنَ أن بعضَه محكَمٌ وبعضَه متشابِهٌ، فهذه الأوصافُ كلُّها نعوتٌ لشيءٍ واحدٍ هو كتابُ اللهِ المنزَّلُ على عبدِه ورسولِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولا منافاةَ بينَ وصفِه كلِّه بالإحكامِ ووصفِه كلِّه بالتشابُهِ؛ فإن المرادَ بإحكامِه إتقانُه وعدمُ تطرُّقِ النقْصِ والاختلافِ إليه، وبتشابُهِه كونُه يُشبِهُ بعضُه بعضاً في الحقِّ والصدْقِ والإعجازِ.

والمحكَمُ لغةً مأخوذٌ من حَكَمْتُ الدابَّةَ. وأحكَمْتُ بمعنى مَنَعْتُ، والحكْمُ: هو الفصْلُ بينَ الشيئين، فالحاكِمُ يَمنعُ الظالِمَ ويَفصِلُ بينَ الخَصْمين، ويُميِّزُ بينَ الحقِّ والباطلِ، والصدْقِ والكذِبِ، ويُقالُ: حكَمْتُ السفيهَ وأَحكمتُه إذا أخذْتَ على يدِه، وحَكَمْتُ الدابَّةَ وأَحكمتُها، إذا جعلْتَ لها حَكَمَةً. وفسَّرَ الحَكَمةَ بقولِه: (وهي ما أحاطَ بالحَنَكِ من اللِّجامِ)؛ لأنها تَمنعُ الفرَسَ عن الاضطرابِ, ومنه الحِكْمةُ، لأنها تَمنعُ صاحبَها عمَّا لا يَليقُ، وإحكامُ الشيءِ إتقانُه. والمُحْكَمُ المُتْقَنُ، فإحكامُ الكلامِ إتقانُه بتمييزِ الصدْقِ من الكذِبِ في أخبارِه, والرُّشْدِ من الغيِّ في أوامرِه. والمحكَمُ منه ما كان كذلك. وقد سَمَّى اللهُ القرآنَ حكيماً كما في آيةِ يونُسَ، كما أنه يَقُصُّ ويُفْتِي، ويَهْدِي ويُبَشِّرُ. وقد استشْهَدَ المؤلِّفُ على ذلك بآيةِ يوسُفَ، والنساءِ، والإسراءِ، فالقرآنُ كلُّه محكَمٌ أي: أنه كلامٌ مُتْقَنٌ فصيحٌ يُميِّزُ بينَ الحقِّ والباطلِ والصدْقِ والكذِبِ، وهذا هو الإحكامُ العامُّ.

والمتشابِهُ لغةً مأخوذٌ من التشابُهِ، وهو أن يُشبِهَ أحدُ الشيئين الآخرَ، لما بينَهما من التَّناسِبِ. وتشابُهُ الكلامِ هو تَماثلُه وتَناسُبُه، بحيث يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً. وقد وَصفَ اللهُ القرآنَ كلَّه بأنه متشابِهٌ على هذا المعنى كما في آيةِ الزُّمَرِ. فالقرآنُ كلُّه متشابِهٌ, أي: يُشْبِهُ بعضُه بعضاً في الكمالِ والجودةِ، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضاً في المعنى، وهذا هو التشابهُ العامُّ. وكلٌّ من المحكَمِ والمتشابِهِ بمعناه المُطلَقِ لا يُنافي الآخَرَ. فالقرآنُ كلُّه محكَمٌ بمعنى الإتقانِ، وهو متُماثِلٌ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً, فإذا أمَرَ بأمْرٍ لم يَأْمُرْ بنقيضِه في موضعٍ آخَرَ، وإنما يَأمُرُ به أو بنظيرِه أو ما يُلازِمُه كأمْرِه بالصلاةِ فإنك لا تَجِدُه في موضعٍ آخَرَ يَنْهَى عنها، وإنما يَأمُرُ بها نفسِها, أو يَأمُرُ بنظيرِها من العباداتِ كالزكاةِ، أو يأمرُ بشيءٍ من لوازمِها كالوضوءِ، وكذلك الشأنُ في نواهيهِ وأخبارِه. فإذا نَهَى عن الشرْكِ لم تَجِدْه في موضعٍ آخرَ يأمرُ به, وإنما يَنهى عنه أو عن نظيرِه؛ كنهيِهِ عن ضرْبِ الأمثالِللهِالمذكورِ في قولِه تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواللهِالْأَمْثَالَ} أو يَنْهَى عن شيءٍ من لوازمِه؛ كنهيِه عن الوسائلِ المُفْضِيَةِ إليه، وإذا أَخبرَ عمن أطاعَه أو عصاه من الأممِ, وماذا عمِلَ بهم أو أَعدَّ لهم لم تَجِدْه في موضعٍ آخرَ يَنْفِي هذا الخبرَ. كما أنه إذا نفَى عن نفسِه النَّديدَ والشريكَ، والسِّنَةَ والنومَ، وأشباهَ ذلك، لم تَجِدْه في موضعٍ آخَرَ يُثبِتُ ما نفَى. وقولُه: (إذا لم يكنْ هناك نسْخٌ) يعني: كما في آيةِ التخييرِ للمُقيمِ بينَ الصومِ والفطْرِ مع الفديَةِ مع إيجابِ آيةِ الصومِ عزْماً. وكالوصيَّةِ للوالدَيْنِ والأقربين المنسوخةِ بآيةِ المواريثِ، وكالصلاةِ إلى القدْسِ المنسوخةِ بالتوجُّهِ إلى الكعبةِ.

والكلامُ المحكَمُ المتقَنُ تتَّفِقُ معانيه وإن اختلفَتْ ألفاظُه فلا تَضَادَّ, فيه ولا اختلافَ ,{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } والمرادُ بالاختلافِ التناقضُ والاضطرابُ فلا يَتناوَلُ وجوهَ القراءاتِ. واختلافَ مقاديرِ السوَرِ والآياتِ، واختلافَ الأحكامِ من الناسخِ والمنسوخِ، والأمرِ والنهيِ، والوعدِ والوعيدِ، ووَصَفَ القرآنَ بالمثاني لتثنِيَةِ القصَصِ فيه وتكريرِ المواعظِ والأحكامِ، ولأنه يُثَنَّى في التلاوةِ فلا يَمَلُّ سامعُه, ولا يَسْأَمُ قارئُه.

قولُه:
بخلافِ الإحكامِ الخاصِّ، فإنه ضِدُّ التشابُهِ الخاصِّ، والتشابُهُ الخاصُّ هو مشابَهةُ الشيءِ لغيرِه من وجهٍ مع مخالِفتِه له من وجهٍ آخرَ، بحيثُ يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ أنه هو أو هو مثلَه وليس كذلك. والإحكامُ هو الفصْلُ بينَهما، بحيث لا يَشْتَبِهُ أحدُهما بالآخرِ، وهذا التشابُه إنما يكونُ بقدرٍ مشترَكٍ بينَ الشيئين مع وجودِ الفاصلِ بينَهما. ثم من الناسِ من لا يَهتدي للفصْلِ بينَهما فيكون مُشْتَبِهاً عليه، ومنهم من يَهتدي إلى ذلك. فالتشابُهُ الذي لا يَتَميَّزُ معه قد يكونُ من الأمورِ النِّسبيَّةِ الإضافيَّةِ، بحيث يَشتبهُ على بعضِ الناس دونَ بعضٍ، ومثلَ هذا يَعْرِفُ منه أهلُ العلْمِ ما يُزِيلُ عنهم هذا الاشتباهَ، كما إذا اشتبَه على بعضِ الناسِ ما وُعِدوا به في الآخِرَةِ بما يَشْهَدونه في الدنيا, فظَنَّ أنه مثلَه، فعَلِمَ العلماءُ أنه ليس مثلَه, وإن كان مُشْبِهاً له من بعضِ الوجوهِ.

الشرْحُ:
بعدَ أن ذكَرَ المؤلِّفُ أنه لا منافاةَ بينَ الإحكامِ العامِّ والتشابُهِ العامِّ، بيَّنَ أن الإحكامَ الخاصَّ والتشابُهَ الخاصَّ غيرُ متَّفقَيْن، بل هما ضِدَّان، وهما المذكوران في قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وقد عَرَّفَ التشابُهَ الخاصَّ بقولِه: وهو مشابَهةُ الشيءِ لغيرِه من وجهٍ مع مخالَفتِه له من وجهٍ آخرَ، كما عرَّفَ الإحكامَ الخاصَّ بقولِه: (والإحكامُ هو الفصْلُ بينَهما) والوجهُ الذي يَحصُلُ به الاشتباهُ هو القدْرُ المشترَكُ بينَ المُشْتَبِهَيْن. أما الوجْهُ الذي تَحْصُلُ به المخالَفةُ فهو القدرُ الفارِقُ المميِّزُ، فأسماءُ اللهِ تعالى وصفاتُه تتَّفِقُ مع أسماءِ المخلوقين وصفاتِهم في اللفظِ وفي المعنى الكلِّيِّ المشترَكِ. قالَ تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقالَ سبحانَه: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقالَ عزَّ وجلَّ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.

فالذين لا يُفرِّقون بينَ الأمورِ وإن اتَّفقَتْ من وجهٍ واختلَفَتْ من وجهٍ آخَرَ يَظُنُّون أنهم إذا أَثبَتوا الصفاتِللهِشبَّهوه بالمخلوقاتِ، ومن الناسِ من يَهْتَدِي لمعرفةِ ما يَحصُلُ به الاشتراكُ وما يَحصُلُ به الاختلافُ بينَ المتشابِهَيْن، وهؤلاءِ هم الذين أَثبَتواللهِما أَثبتَه لنفسِه، وما أَثبتَه له رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونَفَوْا عنه ما نَفاه عن نفسِه، أو نَفاه عنه رسولُه كما قالَ تَبارَكَ وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وحينئذٍ فالتشابُه, الخاصُّ إنما يُعتَبَرُ متشابِهاً بالنسبةِ لبعضِ الناسِ دونَ بعضٍ, وليس في حدِّ ذاتِه مُتَشابِهاً غيرَ أن من الناسِ مَن يَهْتَدِي للتمييزِ بينَ الأمورِ المتشابِهةِ، ومنهم من لا يَهتدي إلى ذلك، ومثَّلَ المؤلِّفُ لذلك: باشتباهِ موجوداتِ الآخرةِ، من لبنٍ وعسلٍ، وماءٍ وخمرٍ، وذهبٍ وفِضَّةٍ، وحُورٍ ومساكنَ بموجوداتِ الدنيا؛ فإن بعضَ الناسِ تشتَبِهُ عليهم هذه الأمورُ فيَظُنون أن هذه الحقيقةَ مماثِلةٌ لتلك الحقيقةِ من كلِّ وجهٍ. أما أهلُ العلْمِ بكتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيَفْهَمون من النصوصِ ما يُزِيلُ عنهم هذا الاشتباهَ ويَعْلَمون أن ما أعَدَّه اللهُ في دارِ البقاءِ والخلودِ من أنواعِ النعيمِ أكمَلُ وأعظَمُ مما يَشهدونه في دارِ الفناءِ والزَّوالِ. وقولُه: (والتشابُهُ الذي لا يَتميَّزُ معه) معناه أن التشابُهَ الخاصَّ الذي لا يَتَّضِحُ معه المعنى بسببِ ما بينَ الأمرين المُشْتَبِهَيْن من القدْرِ المشترَكِ ليس هو في حدِّ ذاتِه مُتَشابِهاً وإنما يَشْتبِهُ على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ بخلافِ المتشابِهِ لذاتِه، كحقيقةِ ذاتِ اللهِ وكُنْهِها، وكيفيَّةِ أسمائِه وصفاتِه وحقيقةِ المعادِ؛ فإن هذا من المتشابِهِ بالنسبةِ لكلِّ الخلْقِ؛ إذ هو داخلٌ تحتَ قولِه تباركَ وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ}.

قولُه:
ومن هذا البابِ الشُّبَهُ التي يَضِلُّ بها بعضُ الناسِ، وهي ما يَشتبِهُ فيها الحقُّ والباطلُ، حتى تَشتبِهَ على بعضِ الناسِ، ومَن أُوتِيَ العلْمَ بالفصْلِ بينَ هذا وهذا لم يَشتبِهْ عليه الحقُّ بالباطلِ. والقياسُ الفاسدُ، إنما هو من بابِ الشُّبُهاتِ؛ لأنه تشبيهٌ للشيءِ في بعضِ الأمورِ بما لا يُشْبِهُهُ فيه. فمن عرَفَ الفصْلَ بينَ الشيئين اهتَدَى للفرْقِ الذي يزولُ به الاشتباهُ والقياسُ الفاسدُ. وما من شيئين إلا ويَجْتَمِعان في شيءٍ, ويَفْتَرِقان في شيءٍ، فبينَهما اشتباهٌ من وجهٍ وافتراقٌ من وجهٍ، فلهذا كان ضلالُ بني آدمَ من قِبَلِ التشابُهِ. والقياسُ الفاسدُ لا يَنْضَبِطُ كما قالَ الإمامُ أحمدُ: (أكثرُ ما يُخْطِئُ الناسُ من جهةِ التأويلِ والقياسِ) فالتأويلُ في الأدلَّةِ السمْعيَّةِ، والقياسُ في الأدلَّةِ العقليَّةِ، وهو كما قالَ: والتأويلُ الخطأُ إنما يكونُ في الألفاظِ المتشابِهةِ، والقياسُ الخطأُ إنما يكونُ في المعاني المتشابِهةِ.

الشرْحُ:
يعني: من قبيلِ الضلالِ بسببِ الاشتباهِ، وعدمِ معرفةِ الفرْقِ بينَ الأمورِ التي يَحصُلُ بينَها اشتراكٌ من وجهٍ واختلافٌ من وجهٍ آخَرَ من هذا القبيلِ الشُّبَهُ التي سَرَتْ في الناسِ فضَلُّوا بسببِها. ثم عرَّفَ الشُّبَهَ بقولِه: (وهي ما يَشتبِهُ فيها الحقُّ والباطلُ) فهي إذاً أقوالٌ مُشْتَبِهَةٌ يكونُ فيها ما يَقتضي تناوُلَها الحقَّ والباطلَ، يعارِضُ أصحابُها بما فيها من الباطلِ نصوصَ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم.

وهذا مَنْشَأُ ضلالِ من ضَلَّ من الأممِ قبلَنا وهو منشأُ البِدَعِ؛ فإن البدعةَ لو كانت حقًّا مَحْضاً لا شَوْبَ فيه لكانت موافِقةً للسنَّةِ، ولو كانت باطلاً مَحْضاً لم تَخْفَ على أحدٍ، ولكنَّ البدعةَ تَشْتَمِلُ على حقٍّ وباطلٍ. ولهذا قالَ تعالى فيما يُخاطِبُ به أهلَ الكتابِ على لسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قولِه: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فنهاهم عن لَبْسِ الحقِّ بالباطلِ. ولَبْسُهُ به خلْطُه به حتى يَلتَبِسَ أحدُهما بالآخَرِ.

وأوَّلُ شبهةٍ وَقعتْ في الخليقةِ شبهةُ إبليسَ لعَنَهُ اللهُ، ومصدرُها استبدادُه بالرأيِ في مقابَلةِ النصِّ، واختيارُه الهَوَى في معارَضةِ الأمْرِ، واستكبارُه بالمادَّةِ التي خُلِقَ منها – وهي النارُ – على مادَّةِ آدمَ عليه السلامُ – وهي الطِّينُ – وانْشَعَبَتْ من هذه الشبهةِ عدَّةُ شُبَهٍ سَرَتْ في أذهانِ الناسِ حتى صارتْ مذاهبَ بدعةٍ وضلالٍ، وأَصبحَتْ تلك الاعتراضاتُ بمثابةِ البُذورِ، وظهَرَتْ منها الشُّبهاتُ كالزروعِ.

فمقالاتُ أهْلِ الزَّيْغِ لا تَعْدُو شُبْهَةَ إبليسَ وإن اختَلَفَت العباراتُ وتبَايَنَت الطُّرُقُ، ويَرْجِعُ جملتُها إلى إنكارِ الأمرِ بعدَ الاعترافِ بالحقِّ، وإلى الجُنُوحِ إلى الهوى في مقابَلةِ النصِّ. هذا ومن جادَلَ نُوحاً وهُوداً وصالحاً وإبراهيمَ ولوطاً وشُعَيْباً وموسى وعيسى ومُحَمَّداً صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين، وكلُّهم نَسَجُوا على مِنوالِ اللَّعينِ الأوَّلِ في إظهارِ شُبُهاتِهِم، فحاصِلُها يرجعُ إلى دفْعِ التكاليفِ عن أنفسِهم وجَحْدِ أصحابِ الشرائعِ والتكاليفِ بأسرِهم؛ إذ لا فرْقَ بينَ قولِهم: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وبينَ قولِه: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}.

فالشيطانُ لَمَّا أن حكَّمَ العقلَ على من لا يَحْتَكِمُ عليه العقلُ لزِمَه إجراءُ حُكْمِ الخالقِ في الخلْقِ وحُكْمِ الخلْقِ في الخالقِ؛ والأوَّل غُلُوٌّ، والثاني تقصيرٌ. فثارَ من الشبهةِ الأُولى مذاهبُ الْحُلوليَّةِ والتَّناسُخِيَّةِ، والمشبِّهَةِ، والغُلاةِ مِن الرَّوافضِ؛ حيث غَلَوْا في حقِّ شخصٍ من الأشخاصِ حتى وَصَفُوه بصفاتِ الجلالِ. وثارَ من الشبهةِ الثانيةِ مذاهبُ القَدَريَّةِ والجَبْريَّةِ. فالمعتزلِةُ غَلَوْا في توحيدِهم حتى وَصَلُوا إلى التعطيلِ بنفيِ الصفاتِ، والروافضُ غَلَوْا في النبوَّةِ والإمامةِ حتى وَصلوا إلى الحُلولِ. وقد قالَ تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

وقد جاءَ في الآثارِ تَشبيهُ كلِّ أمَّةٍ ضالَّةٍ من هذه الأمَّةِ بأمَّةٍ ضالَّةٍ من الأممِ السابقةِ, فشُبِّهَت القدريَّةُ بالمجوسِ، والمشبِّهَةُ باليهودِ، والروافضُ بالنصارى. وبعدَ أن عرَّفَ المؤلِّفُ الشُّبُهَاتِ ذكَرَ أن القياسَ الفاسدَ من جملتِها، وعرَّفَ بقولِه: (لأنه تشبيهٌ للشيءِ في بعضِ الأمورِ بما لا يُشبِهُه فيه) ومن أُوتِيَ العلمَ بالفصْلِ بين الأمورِ المتشابِهةِ لم يَلْتَبِسْ عليه الحقُّ بالباطلِ.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 03:48 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


معنى الإحكامِ والتَّشَابُهِ

قولُه : ( ومِمَّا يُوَضِّحُ هذا : أنَّ اللهَ وَصَفَ القرآنَ كلَّه بأنه مُحْكَمٌ وأنه مُتَشَابِهٌ، وفي موضِعٍ آخَرَ جَعَلَ منه ما هو مُحْكَمٌ ومنه ما هو مُتَشَابِهٌ، فيَنْبَغِي أن يُعْرَفَ الإحكامُ والتَّشَابُهُ الذي يَعُمُّهُ ، والإحكامُ والتَّشَابُهُ الذي يَخُصُّ بعْضَه، قالَ اللهُ تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فأَخْبَرَ أنه قد أُحْكِمَتْ آياتُه كلُّها، وقالَ تعالى : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} فأَخْبَرَ أنه كلَّه مُتَشَابِهٌ) .

التوضيحُ

أي: ومِمَّا يُوَضِّحُ اختلافَ الأوصافِ للشيءِ الواحدِ أنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ القرآنَ بأنه مُحْكَمٌ كلُّه كما في قولِه تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ووَصَفَه بأنه مُتَشَابِهٌ كلُّه كما في قولِه : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} .
وأَخْبَر بأنَّ منه ما هو مُحْكَمٌ ومنه ما هو مُتَشَابِهٌ كما سَبَقَ في آيةِ آلِ عِمرانَ.

كيفيَّةُ الجمْعِ بينَ الوَصْفَينِ

أوَّلاً : معنى الإحكامِ .
قولُه : ( والْحُكْمُ هو الْفَصْلُ بينَ الشيئينِ، فالحاكِمُ يَفْصِلُ بينَ الْخَصْمَيْنِ، والحكْمُ فَصْلٌ بينَ المُتَشَابِهاتِ، عِلمًا وعَمَلاً، إذا مَيَّزَ بينَ الحقِّ والباطِلِ، والصِّدْقِ والكَذِبِ، والنافِعِ والضارِّ، وذلك يَتَضَمَّنُ فعْلَ النافِعِ وتَرْكَ الضارِّ، فيُقالُ: حَكَمْتُ السَّفِيهَ وأَحْكَمْتُه إذا أَخَذْتَ على يَدَيْهِ ، وحَكَمْتُ الدابَّةَ وأَحْكَمْتُها : إذا جَعَلْتَ لها حِكَمَةً، وهي ما أَحاطَ بالحَنَكِ من اللِّجامِ، وإحكامُ الشيءِ إتقانُه، فإحكامُ الكلامِ إتقانُه بتمييزِ الصدْقِ من الكَذِبِ في أخبارِه، وتمييزِ الرَّشَدِ من الغَيِّ في أوامرِه، والقرآنُ كلُّه مُحْكَمٌ بمعنى الإتقانِ، فقد سَمَّاهُ اللهُ حَكِيمًا بقولِه: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فالحكيمُ بمعنى الحاكِمِ، كما جَعَلَه يَقُصُّ بقولِه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وجَعَلَه مُفْتِيًا في قولِه: { قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي: ما يُتْلَى عليكم يُفْتِيكم فيهنَّ، وجَعَلَه هاديًا ومُبَشِّرًا في قولِه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} .

التوضيحُ

يَتَبَيَّنُ الجمْعُ بتعريفِ كلٍّ من الإحكامِ والتَّشَابُهِ
أوَّلاً : الإحكامُ : مأخوذٌ من الْحُكْمِ وأصْلُه مَعْنَيان 1) الْمَنْعُ ومنه الفَصْلُ بينَ الشيئينِ ،والحِكْمَةُ فَصْلٌ بينَ الْمُشْتَبِهَيْنِ عِلْمًا وعَمَلاً ، حَكَمْتُ السَّفِيهَ وأَحْكَمْتُهُ إذا أَخَذْتَ على يَدَيْهِ؛ لأنَّ فيه الْمَنْعَ من السَّفَهِ ، وحَكَمْتُ الدابَّةَ جَعَلْتُ لها الْحِكَمَةَ, وهي ما يُحِيطُ بالْحَنَكِ من اللِّجامِ 2), وإحكامُ الشيءِ إتقانُه.

- والمرادُ هنا : إحكامُ الكلامِ, أي: إتقانُه بتمييزِ الصدْقِ من الكَذِبِ في أَخبارِه, والغَيِّ من الرَّشَدِ في أوامرِه، فبهذا الاعتبارِ: القرآنُ كلُّه مُحْكَمٌ .
لذلك سَمَّاهُ اللهُ حَكِيمًا وجَعَلَه يَقُصُّ الْحَقَّ وجَعَلَه مُفْتِيًا وهَادِيًا ومُبَشِّرًا ، ومِن هذا يُؤْخَذُ جَوازُ نِسبةِ الأفعالِ للقرآنِ, فيقالُ : أَمَرَ القرآنُ وقَصَّ وهَدَى بمعنى مُتَضَمِّنٍ للأمْرِ والقَصَصِ وغيرِه، وأَدِلَّةُ ذلك ما يَلِي.
قولُه:{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} وقولُه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقولُه : { قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وقولُه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
وهذا ما يُسَمَّى بالإحكامِ العامِّ

ثانيًا : معنى المُتَشَابِهِ

قولُه : ( وأمَّا التَّشَابُهُ الذي يَعُمُّه: فهو ضِدُّ الاختلافِ الْمَنْفِيِّ عنه في قولِه : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} وهو الاختلافُ المذكورُ في قولِه : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فالتَّشَابُهُ هنا: هو تَمَاثُلُ الكلامِ وتَنَاسُبُه، بحيث يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا ، فإذا أَمَرَ بأمْرٍ لم يَأْمُرْ بنقيضِه في مَوْضِعٍ آخَرَ، بل يَأْمُرُ به أو بنظيرِه أو بملزوماتِه، وإذا نَهَى عن شيءٍ لم يَأْمُرْ به في مَوْضِعٍ آخَرَ، بل يَنْهَى عنه أو عن نَظِيرِه أو عن ملزوماتِه ، إذا لم يكنْ هناك نَسْخٌ ، وكذلك إذا أَخْبَرَ بثُبوتِ شيءٍ لم يُخْبِرْ بنقيضِ ذلك . بل يُخْبِرْ بثبوتِه أو بثبوتِ ملزوماتِه ، وإذا أَخْبَرَ بنَفْيِ شيءٍ لم يُثْبِتْهُ ، بل يَنْفِيه أو يَنْفِي لوازِمَه ، بخِلافِ القولِ المُختلِفِ الذي يَنْقُضُ بعضُه بعضًا ، فيُثْبِتُ الشيءَ تارةً ويَنْفِيهِ أخرى ، أو يَأْمُرُ به ويَنْهَى عنه في وقتٍ واحدٍ، ويُفَرِّقُ بينَ المُتَمَاثِلَينِ، فيَمْدَحُ أحدَهما ويَذُمُّ الآخَرَ.

فالأقوالُ المُختلِفةُ هنا: هي الْمُتَضَادَّةُ، والمُتَشَابِهةُ: هي الْمُتَوَافِقَةُ ، وهذا التَّشَابُهُ يكونُ في المعانى, وإن اختَلَفَت الألفاظُ، فإذا كانت المعاني يُوَافِقُ بعضُها بعضًا ويُعَضِّدُ بعضُها بعضًا، ويُنَاسِبُ بعضُها بعضًا ، ويَشْهَدُ بعضُها لبَعْضٍ ، ويَقْتَضِي بعضُها بعضًا: كان الكلامُ مُتَشَابِهًا ، بخِلافِ الكلامِ الْمُتناقِضِ الذي يُضَادُّ بعضُه بَعْضًا) .

التوضيحُ

ثانيًا : التَّشَابُهُ : هو تَنَاسُبُ الكلامِ وتَمَاثُلُه، والمقصودُ بكونِ القرآنِ مُتَشَابِهًا, أي: يَتَنَاَسبُ بعضُه مع بعضٍ, ويُصَدِّقُ بعضُه بعضًا ، وهو ضِدُّ الاختلافِ الذي نَفَاهُ اللهُ تعالى بقولِه : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} فالمَنْفِيُّ مُجَرَّدُ الاختلافِ والتضارُبُ والكثيرُ من بابِ أَوْلى ، وفي قولِه سبحانَه وتعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فإذا أَمَرَ بأمرٍ لم يأمُرْ بنَقِيضِه في مَوْضِعٍ آخَرَ، بل يَأْمُرُ به أو بنظيرِه أو بملزوماتِه ، ثم قَيَّدَه بشرْطِ أن لا يكونَ نَسْخًا؛ فالنسْخُ دالٌّ على أنَّ الأمْرَ الأوَّلَ مُوَقَّتٌ بوَقْتٍ, ثم جاءَ الأمْرُ الثاني بشيءٍ مِثْلِه أو أَحْسَنَ منه؛ فمَثلاً الصلاةُ إِمَّا أنْ يَأْمُرَ بها أو بنظيرِها كالصيامِ والزكاةِ، أو بما تَسْتَلْزِمُها كالوضوءِ، كذلك إذا نَهَى عن شيءٍ كالشرْكِ مَثلاً فإنه لا يَأْمُرُ به بعدَ ذلك, بل يَنْهَى عنه أو عن نَظيرِه ، كنَهْيِه عن ضَرْبِ الأمثالِ للهِ أو عن لوازمِه الْمُفْضِيَةِ إليه كالْغُلُوِّ والذرائعِ والوسائلِ الشِّرْكِيَّةِ، وإذا أَخْبَرَ عن خَبَرٍ ما فإنه لا يَنْبَغِي ذلك الخبرُ، وهكذا مِمَّا يَدُلُّ على تصديقِ بعضِه لبعضٍ ، وتَنَاسُبِ آياتِه ، لذلك قالَ سبحانَه تعالى : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ } وقولُه : { مَثَانِيَ } لتَثْنِيَةِ القَصَصِ وتكريرِه للأحكامِ والمواعِظِ، ولأنه يُثَنَّى في التلاوةِ فلا يَمَلُّ سامعُه, ولا يَسْأَمُ قَارِئُه.

أنواعُ التَّشَابُهِ والإحكامِ والعَلاقَةُ بينَها
قولُه : ( وهذا التَّشَابُهُ العامُّ لا يُنَافِي الإحكامَ العامَّ بل هو مُصَدِّقٌ له؛ فإنَّ الكلامَ المُحْكَمَ الْمُتْقَنَ: يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، لا يُناقِضُ بعضُه بَعْضًا، بخِلافِ الإحكامِ الخاصِّ فإنه ضِدُّ التَّشَابُهِ الخاصِّ) .

التوضيحُ

من خلالِ ما سَبَقَ تَبَيَّنَ لنا أنَّ الإحكامَ نوعان والتَّشَابُهَ نوعان:
إحكامٌ عامٌّ بمعنى الإتقانِ ، وإحكامٌ خاصٌّ أو نِسْبِيٌّ, وهو الذي سَبَقَ في آيةِ آلِ عِمرانَ، وتَشابهٌ عامٌّ بمعنى التناسُبِ والتَّمَاثُلِ في الصِّحَّةِ والفَصاحةِ، وتشابُهٌ نِسْبِيٌّ, وهو الذي سَبَقَ في آيةِ آلِ عِمرانَ.

- والإحكامُ العامُّ لا يُنَافِي التَّشَابُهَ العامَّ؛ فإنه كُلَّمَا كان الكلامُ مُتْقَنًا كان مُصَدِّقًا بعضُه لبعضٍ ومُتَنَاسِبًا ، فلذلك وُصِفَ القرآنُ بأنه مُحْكَمٌ كلُّه ، وكلُّه مُتَشَابِهٌ؛ لأنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُتوافقان بل ومُتلازِمان.

- وأمَّا الإحكامُ الخاصُّ فإنه ضِدُّ التَّشَابُهِ الخاصِّ، لذلك ذَكَرَ اللهُ تعالى أنَّ بَعْضَ القرآنِ مُتَشَابِهٌ وبعضَه مُحْكَمٌ، وقد وَقَعَ الخِلافُ في معنى كُلٍّ من المُحْكَمِ الخاصِّ والمُتَشَابِهِ الخاصِّ، وتفصيلُه في الفِقْرَةِ التاليةِ :

الخِلافُ في الإحكامِ والتَّشَابُهِ في آيةِ آلِ عِمرانَ
قولُه : ( والتَّشَابُهُ الخاصُّ : هو مُشَابَهَةُ الشيءِ لغيرِه من وجهٍ، مع مخالَفَتِه له من وجهٍ آخَرَ، بحيث يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ أنه هو هو ، أو هو مِثْلُه ، وليس كذلك, والإحكامُ: هو الفصْلُ بينَهما بحيث لا يَشْتَبِهُ أحدُهما بالآخَرِ، وهذا التَّشَابُهُ إنما يكونُ لِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بينَ الشيئينِ مع وجودِ الفاصِلِ بينَهما، ثم مِن الناسِ مَن لا يَهْتَدِي للفَصْلِ بينَهما فيكونُ مُشْتَبِهًا عليه، ومنهم مَن يَهْتَدِي إلى ذلك.
فالتَّشَابُهُ الذي لا تَمَيُّزَ معه قد يكونُ من الأمورِ النِّسْبِيَّةِ الإضافيَّةِ ، بحيث يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ. ومِثلَ هذا يَعْرِفُ منه أهْلُ العلْمِ ما يُزيلُ عنهم الاشتباهَ) .

التوضيحُ

أوَّلاً: المعنى اللُّغَوِيُّ : التَّشَابُهُ: من الشَّبَهِ: وهو أن يُشْبِهَ أَحَدُ الأمْرَيْنِ الآخَرَ حتى يَلْتَبِسَا.
وعَرَّفَه شيخُ الإسلامِ بأنه: مشابَهَةُ الشيءِ لغيرِه من وجهٍ مع مخالَفَتِه له من وَجهٍ آخَرَ ، بحيث يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ أنه هو هو أو هو مِثْلُه ، وليس كذلك ، وأمَّا المُحْكَمُ في اللغةِ فقد سَبَقَ أنه على مَعْنَيَيْنِ: الْمَنْعُ والفَصْلُ بينَ الشيئين أو الإتقانُ ، وأمَّا معنى المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ الوَارِدَيْنِ في الآيةِ ففيهما أقوالٌ كثيرةٌ, وخُلاصَتُها ما يَلِي:

قيلَ: المُحْكَمُ ما اسْتَقَلَّ بنفسِه وظَهَرَ معناه، والمُتَشَابِهُ ما احتاجَ إلى بيانٍ فيَدْخُلُ فيه الْمُجْمَلُ وغيرُه. وهو قولُ مُجاهِدٍ واختيارُ الإمامِ أحمدَ والشافعيِّ.

وقيلَ: المُحْكَمُ هو المعمولُ به والمُتَشَابِهُ هو المنسوخُ, وهو قَوْلُ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وغيرِهما.
المُحْكَمُ ما فَهِمَهُ العلْماءُ والمُتَشَابِهُ ما اسْتَأْثَرَ اللهُ بعِلْمِه كالغَيْبيَّاتِ والحروفِ الْمُقَطَّعَةِ ، وهو قولُ جابِرٍ والثوريِّ, ورَجَّحَه ابنُ جَريرٍ والقُرْطُبيُّ.
المُحْكَمُ ما أَحْكَمَهُ اللهُ وفَصَّلَه كالمواريثِ والقَصَصِ وغيِرها ، والمُتَشَابِهُ ما اشْتَبَهَت الألفاظُ فيه.
الإحكامُ والتَّشَابُهُ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ من حيث الْمَعْنَى, يُفْهَمُ بِحَسَبِ تفاوُتِ أَفهامِ الناسِ ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ حيث قالَ هنا : " فالتَّشَابُهُ الذي لا تَمْيِيزَ معه قد يكونُ من الأمورِ النِّسْبِيَّةِ الإضافيَّةِ بحيث يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ .
ومن أَدِلَّةِ هذا القوْلِ :
- قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ . وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )) .
- ويَشْهَدُ له كذلك أَجوبةُ ابنِ عبَّاسٍ لنافِعِ بنِ الأزْرَقِ, وقد سألَه عن آياتٍ في مُختلَفِ الأبوابِ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ التَّشَابُهَ نِسْبِيٌّ إضافيٌّ ، ومِثْلَه كذلك ما ذَكَرَه الإمامُ الْمَلْطِيُّ من عشراتِ الآياتِ في مُختلَفِ الموضوعاتِ, ثم قالَ :" فهذه جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ من تفسيرِ المُتَشَابِهِ بَيِّنَةٌ كافيةٌ نافِعَةٌ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ " .
ومُنَاقَشَةُ هذه الأقوالِ يَطُولُ, والذي تَجْتَمِعُ عليه الأَدِلَّةُ والأقوالُ هو القولُ الأخيرُ, واللهُ أعلَمُ.

والخُلاصَةُ:
إنَّ الإحكامَ الخاصَّ ضِدُّ التَّشَابُهِ الخاصِّ، فالمُتَشَابِهُ الخَاصُّ هو مُشَابَهَةُ الشيءِ لغيرِه من وجهٍ مع مخالَفَتِه له من وَجْهٍ آخَرَ بحيث يَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ.
والإحكامُ هو الْفَصْلُ بينَ الشييئينِ بحيث لا يَشْتَبِهان, وهما أَمران نِسْبِيَّانِ.

صُوَرٌ من التَّشَابُهِ الخَاصِّ
قولُه: ( كما إذا اشْتُبِهَ على بعضِ الناسِ ما وُعِدُوا به في الآخِرَةِ بما يَشْهَدُونَه في الدنيا, فَظَنَّ أنه مِثْلُه، فعَلِمَ العُلَماءُ أنه ليس مِثْلَه، وإن كان مُشَابِهًا له من بعضِ الوُجوهِ، ومن هذا البابِ : الشُّبَهُ التي يَضِلُّ بها بعضُ الناسِ، وهي ما يَشْتَبِهُ فيها الحقُّ والباطلُ حتى تَشْتَبِهَ على بعضِ الناسِ، ومَنْ أُوتِيَ العلْمَ بالفَصْلِ بينَ هذا وهذا لم يَشْتَبِهْ عليه الحقُّ بالباطلِ، والقياسُ الفاسدُ إنما هو من بابِ الشُّبُهَاتِ؛ لأنه تَشْبِيهٌ للشيءِ في بعضِ الأمورِ بما لا يُشْبِهُهُ فيه، فمَن عَرَفَ الفصْلَ بينَ الشيئينِ اهْتَدَى للفَرْقِ الذي يَزُولُ به الاشتباهُ والقياسُ الفاسِدُ) .

التوضيحُ

ذَكَرَ هنا من صُوَرِ التَّشَابُهِ ثلاثَ صُوَرٍ:

أحدُها : اشتباهُ ما أَخْبَرَ اللهُ تعالى به في اليومِ الآخِرِ بما هو موجودٌ في الدنيا ، فيَظُنُّ بَعْضُ الناسِ أنهما مُتَمَاثِلان فيَهْتَدِي أهْلُ العلْمِ إلى التفاوُتِ العظيمِ بِناءً على ما دَلَّتْ عليه النصوصُ, كما سَبَقَ عن ابنِ عبَّاسٍ.

ثانيها: الشُّبَهُ التي يُلْقِيهَا أهلُ الباطِلِ على أهلِ الحقِّ هي من قَبِيلِ المُتَشَابِهِ حيث تَشْتَبِهُ على بعضِ الناسِ فيَظُنُّه حقًّا ، ولكنَّ أهلَ العلْمِ يَرُدُّونَ ذلك فيُمَيِّزُونَ بينَ الحقِّ والباطلِ، والْمَلِيءِ والعَاطِلِ ، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحريفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ )) .

ثالثًا: القياسُ الفاسِدُ من المُتَشَابِهِ كذلك ، فإنه كما قالَ شيخُ الإسلامِ: تَشْبِيهٌ للشيءِ في بعضِ الأمورِ بما لا يُشْبِهُهُ فيه، كما سَبَقَ في قياسِ الْمُتَكَلِّمِينَ استواءَ اللهِ باستواءِ خَلْقِه, فكلُّ ذلك من المُتَشَابِهِ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معنى, وصف

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:56 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir