دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الطحاوية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30 ذو القعدة 1429هـ/28-11-2008م, 03:54 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي معنى الاستطاعة التي يكون بها الفعل والاستطاعة التي يتعلق بها الخطاب

والاستطاعةُ التي يَجِبُ بها الفِعْلُ، مِن نحوِ التوفيقِ الذي لا يَجُوزُ أنْ يُوصَفَ المخلوقُ بهِ – فَهِيَ مع الفعلِ، وأمَّا الاستطاعةُ من جِهَةِ الصحَّةِ والوُسْعِ، والتَّمَكُّنِ وسَلاَمَةِ الآلاتِ – فَهِيَ قبلَ الفعلِ، وبها يَتَعَلَّقُ الخِطَابُ، وهو كَمَا قالَ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وأفعالُ العبادِ خَلْقُ اللهِ، وَكَسْبٌ من العبادِ.
ولم يُكَلِّفْهُم اللهُ تعالى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ.
ولا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُم.
وهو تَفْسِيرُ: ( لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ). نَقُولُ: لاَ حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلاَ حَرَكَةَ لِأَحَدٍ وَلاَ تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ، ولا قُوَّةَ لأحدٍ على إقامةِ طَاعَةِ اللهِ والثباتِ عليها إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللهِ.

  #2  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 07:54 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات على الطحاوية لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز


التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل. وبها يتعلق الخطاب وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}([1]).
وأفعال العباد خلق لله، وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون([2]) إلا ما كلفهم وهو تفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله) نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.


([1]) سورة البقرة الآية 286.

([2]) هذا غير صحيح بل المكلفون يطيقون أكثر مما كلفهم به سبحانه ، ولكنه عز وجل لطف بعباده ويسر عليهم ولم يجعل عليهم في دينهم حرجا فضلا منه وإحسانا والله ولي التوفيق.


  #3  
قديم 1 ذو الحجة 1429هـ/29-11-2008م, 07:56 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التعليقات المختصرة للشيخ: صالح بن فوزان الفوزان

(1) والاستطاعةُ التي يَجِبُ بها الفِعْلُ، مِن نحوِ التوفيقِ الذي لا يَجُوزُ أنْ يُوصَفَ المخلوقُ بهِ – فَهِيَ مع الفعلِ، وأمَّا الاستطاعةُ من جِهَةِ الصحَّةِ والوُسْعِ، والتَّمَكُّنِ وسَلاَمَةِ الآلاتِ – فَهِيَ قبلَ الفعلِ، وبها يَتَعَلَّقُ الخِطَابُ، وهو كَمَا قالَ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
(2) وأفعالُ العبادِ خَلْقُ اللهِ، وَكَسْبٌ من العبادِ.
(3) ولم يُكَلِّفْهُم اللهُ تعالى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ.
(4) ولا يُطِيقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُم.
(5) وهو تَفْسِيرُ: ( لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ). نَقُولُ: لاَ حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلاَ حَرَكَةَ لِأَحَدٍ وَلاَ تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ، ولا قُوَّةَ لأحدٍ على إقامةِ طَاعَةِ اللهِ والثباتِ عليها إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللهِ.



(1) الاستطاعةُ هي القدرةُ من الإنسانِ، وهي على قِسْمَيْنِ:
الأَوَّلُ: استطاعةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا التكليفُ والأمرُ والنهْيُ.
الثاني: استطاعةٌ يَسْتَطِيعُ بِهَا الإنسانُ الفِعْلَ والتنفيذَ.
القسمُ الأَوَّلُ: الاستطاعةُ التي يَتَعَلَّقُ بها التكليفُ، معناهَا: الوُسْعُ، أنْ يكونَ عندَ الإنسانِ وُسْعٌ، أن يَفْعَلَ أو لا يَفْعَلَ، عندَهُ إمكانيةٌ وَتَمَكُّنٌ، فالتكليفُ يَتَعَلَّقُ بهذهِ الاستطاعةِ، فالإنسانُ الذي لَيْسَ عندَهُ تَمَكُّنٌ وَاسْتِطَاعَةٌ لا
يُكَلَّفُ، كالمجنون
ِ والصغيرِ، فلا يُكَلَّفُ فلا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ولكنَّ الصغيرَ إنْ بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ فَإِنَّ عندَهُ استطاعةً فَيُؤْمَرُ بالصلاةِ من بابِ الاستحبابِ والتربيةِ، والتدريبِ على فِعْلِ العِبَادةِ، فلا تَجِبُ عليهِ إِلاَّ إذا بَلَغَ فَيُكَلَّفُ، وهذا النوعُ يكونُ قبلَ الفعلِ.

القسمُ الثاني: الاستطاعةُ التي يَكُونُ فيها التنفيذُ، وإِيجَادُ الشيءِ، فهذهِ تكونُ مع الفعلِ: فالحجُّ مثلًا فيهِ الاستطاعَتَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ....} (آل عِمْرَان: 97) فهذهِ استطاعةُ تَمَكُّنٍ، فَيَجِبُ الحَجُّ عَلَى مَن يَسْتَطِيعُ، والسبيلُ هو الزادُ والراحلةُ، فَيَجِبُ عليهِ الحَجُّ إِذَا وَجَدَهُمَا؛ لأَنَّ عندَهُ تَمَكُّنًا، هذه استطاعةٌ قبلَ الفعلِ، أَمَّا الاستطاعةُ مع الفعلِ – وهو مباشرةُ الحَجِّ – فقدْ لا يكونُ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ مثلَ المريضِ المُزْمِنِ أو الكَبِيرِ الهَرِمِ، فهذا لا يَسْتَطِيعُ استطاعةَ تَنْفِيذٍ وَفِعْلٍ، ويستطيعُ استطاعةَ تَكْلِيفٍ، فهذا يَجِبُ عليهِ الحَجُّ في ذِمَّتِهِ.
ومثلَ دُخُولِ وَقْتِ الصلاةِ يُوجِبُ الصلاةَ عَلَى المُكَلَّفِ، ويكونُ التنفيذُ بِحَسَبِ استطاعَتِهِ، فالمريضُ يُصَلِّي قائِمًا، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، فالصلاةُ تَجِبُ عليهِ على كُلِّ حالٍ؛ لِأَنَّهُ في استطاعتِهِ ذلكَ، وهذهِ الاستطاعةُ قبلَ الفعلِ، أَمَّا التي مَعَ الفعلِ قد تكونُ مَعْدُومَةً نِهَائِيًّا، وقد تكونُ موجودةً، ولكنْ لَيْسَتْ تَامَّةً، فَيَجِبُ عليهِ على قَدْرِ استطاعتِهِ.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهَ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
وفيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الاسْتِطَاعَتَيْنِ:
فالأُولَى يَتَعَلَّقُ الخطابُ بها، كما قَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، والثانيةُ يَتَعَلَّقُ بها التنفيذُ.

(2) هذهِ المسألةُ حَصَلَ فيها نِزَاعٌ ومَزَلَّةُ أَقْدَامٍ ومَضَلَّةُ أَفْهَامٍ، هل الأفعالُ مَخْلُوقةٌ للهِ أو هيَ مِن خَلْقِ العِبَادِ؟
القولُ الأَوَّلُ: قولُ الْجَبْرِيَّةِ والْجَهْمِيَّةِ: إنَّ العبدَ مَجْبُورٌ، لَيْسَ لَهُ دَخْلٌ في الأفعالِ، فهيَ مَحْضُ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فصلاتُهُ التي يُؤَدِّيهَا لَيْسَ باختيارِهِ، إِنَّمَا هو مجبورٌ, وهؤلاءِ غَلَوا في إثباتِ قُدْرَةِ اللَّهِ.
وقولُهُم هذا ضلالٌ مُبِينٌ، ومعناهُ أنَّ اللَّهَ يَظْلِمُهُم ويُعَذِّبُهُم على شَيْءٍ لَيْسَ لَهُم فيهِ اختيارٌ، ولَيْسَ لهم فيهِ استطاعةٌ، وإِنَّمَا اللَّهُ يُعَذِّبُ العبدَ على فِعْلِ غيرِهِ، ويُثِيبُهُ على شَيْءٍ لم يَفْعَلْهُ، وهذا المذهبُ أَخْبَثُ المذاهبِ.
القولُ الثاني: وهو مُضَادٌّ للقولِ الأَوَّلِ تَمَامًا، وهو قولُ الْمُعْتَزِلَةِ، يقولونَ: الأفعالُ مِن إنتاجِ العبدِ وإرادتِهِ المُطْلَقَةِ ومَشِيئَتِهِ، ولَيْسَ للهِ تَدَخُّلٌ فيها، وإِنَّمَا العبدُ هو الذي يَخْلُقُ فِعْلَ نفسِهِ، فهؤلاءِ غَلَوا في إثباتِ قُدْرَةِ العَبْدِ.
وَيَلْزَمُ مِن قولِهِم أنَّ اللَّهَ عاجِزٌ، وأنَّ اللَّهَ يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ في الخلقِ والإيجادِ، وهذا قولُ المجوسِ، ولذلكَ الْمُعْتَزِلَةُ
سُمُّوا: مَجُوسَ هذهِ الأُمَّةِ، فالمجوسُ يقولونَ: إنَّ للكونِ خَالِقَيْنِ
؛ خالِقٌ للخيرِ وخالقٌ للشرِّ، والْمُعْتَزِلَةُ زَادُوا عليهِم وقالوا: كُلٌّ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ، فَأَثْبَتُوا خالِقِينَ.

والمذهبُ المُتَوَسِّطُ مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، على ضوءِ الكتابِ والسُّنَّةِ، قالوا: أَفْعَالُ العِبَادِ هي فِعْلُهِم بِإِرَادَتِهِمْ ومَشِيئَتِهِم، وهي خَلْقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافَّات: 96) {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزُّمَر: 62) {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3) فاللَّهُ مُنْفَرِدٌ بالخلقِ والتقديرِ، والعبدُ لَهُ مَشِيئَتُهُ وإرادَتُهُ، ولَهُ فِعْلٌ، فهو باخْتِيَارِهِ يَذْهَبُ إلى المسجدِ، وباختيارِهِ يَذْهَبُ إلى المسارحِ؛ لأَنَّ عندَهُ قُدْرَةً، والإنسانُ الذي لم يُعْطِهِ اللَّهُ قُدْرَةً ولا استطاعَةً فهذا قدْ عَذَرَهُ اللَّهُ، مثلَ المجنونِ والمُكْرَهِ، فلَيْسَ عندَهُ إرادةٌ، ولَيْسَ عندَهُ قَصْدٌ، أَمَّا مَن عندَهُ إرادةٌ وقصدٌ، فهذا الذي يَخْتَارُ الفعلَ لنفسِهِ، والعقابُ والثوابُ يَقَعُ على فعلِهِ، ولَيْسَ على فِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 62) (النساء: 59)، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عِمْرَان: 116) أَسْنَدَ الْإِيمَانَ إِلَيْهِم، وكذلكَ أَسْنَدَ الكُفْرَ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
(النور: 52) أَسْنَدَ الأفعالَ إلى العِبَادِ.

والدليلُ على أنَّ العبدَ لَهُ إرادةٌ وقَصْدٌ قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الإنسان: 30)، فَأَثْبَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ مَشِيئَةً وللعبدِ مَشِيئةً، وجَعَلَ مشيئةَ العبدِ تحتَ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28) شَاءَ، أي: بِاخْتِيَارِهِ، وفي هذا رَدٌّ على الْجَبْرِيَّةِ. {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: 30) في هذا رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ.

(3) قَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
(البقرة: 286)، { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(البقرة: 185)، فاللَّهُ لا يُكَلِّفُ العِبَادَ ما لا يُطِيقُونَ، إِلاَّ مِن بابِ العقوبةِ، كما حَمَّلَ بَنِي إسرائيلَ بِسَبَبِ تَعَنُّتِهِم {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} (النساء: 161،160)، فاللَّهُ عَاقَبَهُم فَكَلَّفَهُمْ بِمَا لا يُطِيقُونَ، ولذلكَ جَاءَ في الدعاءِ {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (البقرة: 286) فاللَّهُ – فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا – لا يُكَلِّفُ العِبَادَ إِلاَّ ما يُطِيقُونَ، رَحْمَةً مِنْهُ، فهو رَحِيمٌ {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة: 143).


(4) هذا فيهِ نَظَرٌ؛ بل يُطِيقُونَ أكثرَ مِمَّا كَلَّفَهُم، ولكنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِهِم اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِهِم العُسْرَ، فاللَّهُ وَضَعَ عَنْهُم
المَشَقَّةَ، وشَرَعَ لهم الدينَ اليُسْرَ، ونَهَاهُم عن الزيادةِ على الاعتدالِ، فلا يَجُوزُ للإنسانِ أنْ يُصَلِّي
َ كُلَّ الليلِ، وكذلكَ لا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الزواجِ، قَالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: (أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فلَيْسَ مِنِّي)، فَاللَّهُ لا يُكَلِّفُ ما يَشُقُّ عَلَيْهِم، واللَّهُ لو كَلَّفَهُم لاَطَاقُوا، ولكن لا يَرْضَى لهم المَشَقَّةَ والعُسْرَ.


(5) (لا حَوْلَ ) أي: لا تَحَوُّلَ مِن حالٍ إلى حالٍ (إلا باللَّهِ) عَزَّ وَجَلَّ وإِعَانَتِهِ. وكذلكَ: لَيْسَ لكَ قوَّةٌ إِلاَّ مِن قُوَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفِي هذا تَسْلِيمٌ وبَرَاءَةٌ من الحَوْلِ والقوَّةِ، فالإنسانُ لا يُعْجَبُ بِحَوْلِهِ ولا بِقُوَّتِهِ، وإِنَّمَا يَرْجِعُ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَسْتَعِينُ باللَّهِ، فَيُعِينُكَ على الطاعةِ، وَمِن التَّحَوُّلِ من المعصيةِ إلى الطاعةِ، وَمِن الكفرِ إلى الإسلامِ، فكُلُّ شَيْءٍ بِحَوْلِ اللَّهِ وقوَّتِهِ، ولو وَكَّلَكَ إلى حَوْلِكَ لم تَسْتَطِعْ، وكذلكَ الكَدُّ والكسبُ لِطَلَبِ المالِ، هذا الكدُّ والتعبُ مِنْكَ، ولكنَّ التوفيقَ وَوَضْعَ البَرَكَةِ مِن اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.


  #4  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 10:43 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي


قوله: ( والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا [ يجوز أن ] يوصف المخلوق به - [تكون] مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات - فهي قبل الفعل، وبما يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ش: الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع، ألفاظ متقاربة. وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين، كما ذكره الشيخ رحمه الله، وهو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط. وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل. وقابلهم طائفة من أهل السنة [ فقالوا لا تكون إلا مع الفعل.
والذي قاله عامة أهل السنة ]: أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.
وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات - فقد تتقدم الأفعال. وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج ! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام. وكذلك قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم. فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولم يعاقب من لم يتق ! وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: لو استطعنا لخرجنا معكم. وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الإستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل - ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم دل [ على ] أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال، على ما بين تعالى بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى، إلى أن قال: إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء. وكذلك قوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم. والمراد: استطاعة الآلات والأسباب. ومن ذلك قول صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب. إنما نفى استطاعة الفعل معها.
وأما ثبوت الإستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. والمراد نفي حقيقة القدرة، لا نفي الأسباب والآلات، لأنها كانت ثابتة. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: ولا يطيقون إلا ما كلفهم، إن شاء الله تعالى. وكذا قول صاحب موسى: إنك لن تستطيع معي صبراً. وقوله: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً. والمراد منه حقيقة قدرة الصبر، لا أسباب [ الصبر] وآلاته، فإن تلك كانت ثابتة له، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك ؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع من الفعل لتضييع قدرة الفعل، لاشتغاله بغير ما أمر به، أو [ لعدم ] شغله إياها بفعل ما أمر به. ومن قال: إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل - يقولون: ان القدرة لا تصلح للضدين، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له، لا توجد بدونه. وما قالته القدرية - بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية ! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق -: وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية، خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر. كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فالقدرية يقولون: إن هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق. والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن، ولهذا قال: أولئك هم الراشدون. والكفار ليسوا راشدين. وقال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين أن سبحانه هدى هذا وأضل هذا. قال تعالى: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.
وأيضاً فقول القائل: يرجح بلا مرجح - إن كان لقوله: يرجح، معنى زائد على الفعل، فذاك هو السبب المرجح، وان لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح ! وهذا مكابرة للعقل ! ! فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء - امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك، وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى. وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك، فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ! وهذا باطل مطلقاً، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل. فنقيض قولهم حق، وهو: أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة.
لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين: حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم أن القدرة عرض، فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل. والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل، يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، كما تقدم. وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه. فالشارع ييسر على عباده، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع، لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان قد يسمى مستطيعاً. فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإن كان الفعل ممكناً بالمفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك. فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز ؟ ولكن هذه الاستطاعة -مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن، مثل جعل الفاعل مريداً، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة واردة، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه. وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة، لزم وجود الفعل. وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل -يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للإشتغال بضده، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ! ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة.

قوله: ( وأفعال العباد [هي] خلق الله وكسب من العباد ).

ش: اختلف الناس في أفعال العباد الإختيارية. فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية، كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز ! وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله ! وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الإختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى. واختلفوا فيما بينهم: أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا ؟!
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد [ أصلاً ]، كما عملت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا. والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى. ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين، وهم أثبتوا خالقين ! ! وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الإختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى - فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والافعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم.
وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر. ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل:
فما استدلت به الجبرية، قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. فنفى الله عن نبيه الرمي، وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل.
ومما استدل به القدرية، قوله تعالى: فتبارك الله أحسن الخالقين. قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض، كما قال تعالى: جزاء بما كانوا يعملون. وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. ونحو ذلك.
فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى - فهو دليل عليهم، لأنه تعالى أثبت لرسوله [صلى الله عليه وسلم] رمياً، بقوله: إذ رميت، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء: فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم: وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب. وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى ! وما صمت إذ صمت ! وما زنيت إذ زنيت ! وما سرقت إذ سرقت ! ! وفساد هذا ظاهر.
وأما ترتب الجزاء على الأعمال، فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة. فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل الجنة أحد بعمله - باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله ! بل ذلك برحمة الله وفضله. والباء التي في قوله تعالى: جزاء بما كانوا يعملون وغيرها، باء السبب، أي بسبب عملكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: فتبارك الله أحسن الخالقين - فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين. و الخلق يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا، بدليل قوله تعالى: الله خالق كل شيء، أي الله خالق كل شيء مخلوق، فخدلت أفعال العباد في عموم: كل. وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم: كل، الذي هو صفة من صفاته، يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً ! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم: كل ! ! وهل يدخل في عموم: كل إلا ما هو مخلوق ؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها. وكذا قوله تعالى: والله خلقكم وما تعملون. ولا نقول إن: ما مصدرية، أي خلقكم وعملكم - إذ سياق الآية يأباه، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت، لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير. وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله - ضروري. وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عنده عدمه - ضروري، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة -غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق. فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها. فقوله: فألهمها فجورها وتقواها - إثبات للقدر بقوله: فألهمها، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك: قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها - إثبات أيضاً لفعل العبد. ونظائر ذلك كثيرة.
وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي: أنهم قالوا ؟ كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم ؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم ؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق: فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل، وسدت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل ! جعلت الثواب [ والعقاب ] عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين، ومفعول بين فاعلين ! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه ! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.
والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً. يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة اليه، كما قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإن لم يفعل ما خلق له وفطر عليه، من محبة الله وعبوديته، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين. وقال إبليس: فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين. وقال الله عز وجل: هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله، فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك، تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.
فإن قلت: فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قيل: هذا سؤال فاسد، فإن العدم كاسمه، لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك. وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة، حين يقول الله له: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك. وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه - عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص. فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الاخلاص.
فإن قلت: إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض ؟ قيل: ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه، فهذا قد يقال: إنه أمر وجودي، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل. فلله فيه عقوبتان: إحداهما: جعله مذنباً خاطئاً، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها، لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. والثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات. وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء.
فهذه العقوبة الأولى، ثم قال: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فهذه العقوبة الثانية.
فإن قيل: فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده - من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له ؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها ؟ قيل: لا، بل هو محض منته وفضله، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده، والخير كله في يديه، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.
فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم، عاد السؤال ؟ وكان منعهم منه ظلماً، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؟ قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه، وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالماً بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه، كما هوالمحسن المنان بعطائه.
فإن قيل: فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة، فهلا كان العمل له والغلبة، كما أن رحمته تغلب غضبه ؟ قيل: المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع، والمنع المستلزم للعقوبة - ليس بظلم، بل هو محض العدل. وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل ؟ وهذا السؤال حاصله: لم تفضل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقوله: لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد، حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه، وأمره وثوابه وعقابه، وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محال ذلك، استدل بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص، قالوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ قال تعالى مجيباً لهم: أليس الله بأعلم بالشاكرين. فتأمل هذا الجواب، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
فإن قيل: إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد، فإذا لا فعل للعبد أصلاً ؟ قيل: العبد فاعل لفعله حقيقة، [ وله قدرة حقيقة ]. قال تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله. فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلاً، فأفعاله نوعان: نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد، كالحركات الإختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً، وهو الذي يقدرعلى ذلك وحده لا شريك له. ولهذا أنكر السلف الجبر، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز، فلا يكون إلا مع الإكراه، يقال: للأب [ ولاية ] إجبار البكر الصغيرة على النكاح، وليس له إجبار الثيب البالغ، أي: ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار، لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد، قادر على أن يجعله مختاراً بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع. الجبل دون الجبر، كما قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القبس: إن فيك لخلتين يحبهما الله: الحلم والأناة فقال: أخلقين تخلقت بهما ؟ أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال: بل خلقان جبلت عليهما فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى. والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الإختياري. والفرق بين العقاب على الفعل الإختياري وغير الإختياري مستقر في الفطر والعقول.
وإذا قيل: خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم ؟! كان بمنزلة أن يقال. خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم ! ! فكما أن هذا سبب للموت، فهذا سبب للعقوبة، ولا ظلم فيهما.
فالحاصل: أن فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله تعالى، ليس هو نفس فعل الله. ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله: وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد - أثبت للعباد فعلاً وكسباً، وأضاف الخلق لله تعالى. والكسب: هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفغ أو ضرر، كما قال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

قوله: ( ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ماكلفهم. وهو تفسير لا حول ولا قوة الا بالله، نقول: لا حيلة لأحد، [ ولا تحول لأحد ]، ولا حركة لأحد عن معصية الله، الا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، [ وعكست إرادته الإرادات كلها ]، وغلب قضاؤه الحيل كلها. يفعل ما في يشاء، وهو غير ظالم أبداً. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (.

ش: فقوله: لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون -قال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. [ لا نكلف نفساً إلا وسعها ]. وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه [ أنه ]: هل ورد به الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، [ وانه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين، وهو محال. والجواب عن هذا بالمنع: فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [ بأنه لا يؤمن ]، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة. ولا يلزم قوله تعالى للملائكة: نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. مع عدم علمهم بذلك، ولا للمصورين يوم القيامة: احيوا ما خلقتم، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفاً، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت. وقال ابن الأنباري: أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه، قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه. ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته، لأن ذلك لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، بخلاف هذا.
ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده - بدعة في الشرع واللغة. فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا: كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.
وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل، فذلك ليس شرطاً في التكليف، مع أنه في الحقيقة [ إنما ] هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى: ما كانوا يستطيعون السمع. إنك لن تستطيع معي صبراً. وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع ! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى، ولكن هؤلاء لبغضهم الحق وثقله عليهم، إما حسداً لصاحبه، وإما اتباعاً للهوى - لا يستطيعون السمع. وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم، فمن يبغض غيره يقال: إنه لا يستطيع الإحسان إليه، ومن يحبه يقال: إنه لا يستطيع عقوبته، لشدة محبته له، لا لعجزه عن عقوبته، فيقال ذلك للمبالغة، كما تقول: لأضربنه حتى يموت، والمراد الضرب الشديد. وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السماوات والأرض، قال تعالى: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
وقوله: ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، إلى آخر كلامه - أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه. وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، و لا حول ولا قوة إلا بالله - دليل على إثبات القدر. وقد فسرها الشيخ بعدها. ولكن في كلام الشيخ إشكال: فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد، ولا يصح ذلك، لأنهم يطيقون فوق ما كلفم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وقال تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم. وقال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج. فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، ولكنه تفضل علينا ورحمنا، وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات، ففي العبارة قلق، فتأمله.

  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 03:03 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)


قال الطحاوي رحمه الله:"والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي – يعني: الاستطاعة – مع الفعل , وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب , كما قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}".

يريد رحمه الله أن يقرر أن مسألة الاستطاعة , وهي القدرة والطاقة , اختلف فيها الناس ما بين الجبرية إلى القدرية , والقول الوسط فيها هو قول أهل السنة المتابعين لظاهر القرآن والحديث في أن الاستطاعة منقسمة إلى قسمين: استطاعة قبل الفعل , واستطاعة مع الفعل , يعني: استطاعة يُتَكلم عنها قدرة , وطاقة يوصف العبد بها قبل أن يفعل الفعل , وتستمر معه إلى أن يفعل , وطاقة وقدرة أخرى استطاعة أخرى.هذه تكون مع الفعل , ولا يجوز أن ينفك الفعل عنها أو الفاعل عنها.

وهذا الذي ذكر هو الذي دلت عليه الآيات ودلت عليه السنة؛ من أن الإنسان المكلف يوصف بأنه مستطيع ويوصف بأنه غير مستطيع , فقال جل وعلا في الوصف بالاستطاعة: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقال جل وعلا: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} يعني: ما تستطيع , الوسع الاستطاعة هي الوسع والطاقة والقدرة , وقال جل وعلا أيضا في هذا الباب: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} وفيما يقابل في الاستطاعة المنفية قال جل وعلا في سورة هود: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} وقال جل وعلا: {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} وقال عليه الصلاة والسلام: ((صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً , فإن لم تستطع فعلى جنب)) ونحو ذلك.
فإذن الشريعة فيها استطاعة مثبتة , وفيها استطاعة منفية , وواجب إذن أن ينظر إلى هذه النصوص بالفهم , وهي أن المثبت غير المنفي , فإذن لابد أن تكون الاستطاعة على قسمين , وهذا هو الذي أراده هنا , وهو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة , وسيأتي مزيد تقرير لها , إِنْ شَاءَ اللَّهُ , في المسائل.

وقوله هنا: "والاستطاعة التي يجب بها الفعل" يعني: يجب بها حصول الفعل وإيقاع الفعل ووجود الفعل , يعني: العمل فيه استطاعة قدرة إذا وجدت وجد الفعل , لهذا قال هنا:"من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به" وذلك أن الله جل وعلا هو الخالق لأفعال العباد , فقوله هنا: "من نحو التوفيق" هذه جملة اعتراضية , وسبك الكلام (غير مسموع): والاستطاعة التي يجب بها الفعل فهي مع الفعل.
وقوله: "من نحو التوفيق" هذا ليدلل على أن الاستطاعة هذه التي يجب معها حصول الفعل هذه فيها أمر غيبي زائد فيها إعانة ثانية فيها شيء زائد عن الظاهر , ولهذا قال: "الاستطاعة التي يجب معها الفعل هي مع الفعل"؛ لأنه لا يمكن أن يحدث الفعل إلا بقدرة , وهذه القدرة لا يمكن أن تكون قبله , ثم تنعدم وقت الفعل. فكيف يمكن أن يحصل الفعل بلا قدرة للفاعل على فعله؟
لكن هل يستقل بهذه القدرة أم ثم أمر زائد؟ لا بد هناك أمر زائد يأتي بيانه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.

وقوله: "في الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب" وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة المثبتة , وهي التي يتعلق الحساب والعقاب والخطاب والأمر والنهي؛ لأن الله جل وعلا جعل للمكلفين من المشركين , جعل لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة وجعل لهم قدرة على أن يصلوا , قدرة على أن يتأملوا , قدرة على تبين ما أُيِّدَ به عليه الصلاة والسلام من المعجزات و الآيات والبراهين.

لكنهم لا يريدون أن يسمعوا مع وجود الآلات ووجود الصحة ووجود القدرة.إذن فالمنفي ليس هو الآلة المنفي في عدم الاستطاعة , هو ما يكون مع الفعل من التوجه إلى الخير والهدى والسماع النافع لما معهم مما يصده وينفيه من الهوى واتباع الشهوات.
إذا تبين هذا , فإيضاح هذه الجمل في مسائل الأولى.
هذه المسألة متصلة بالقدر والإيمان به , وأصل بحثها من المعتزلة , وذلك أنهم قعدوا قاعدة وهي: أن الناس في فعل الله جل وعلا سواء , وهو أن العاصي والمؤمن الكافر والمؤمن العاصي والمطيع كلهم أعطوا شيئا واحدا , فهذا فعل هذا فعل الخير , وهذا فعل الشر بمحض قدرته , فهذه التسوية بين الجميع جعلتهم ينفون أن يكون هناك أمر زائد خص به هذا , وضع ذاك فجعلوها جميعا قبل الفعل , وأما مع الفعل في أثناء الفعل , فعندهم العبد هو الذي يخلق فعل نفسه , وبالتالي فلو جعل هذا مستطيعا للفعل وهذا غير مستطيع للفعل لكان الناس ليسوا سواسية فيما أعطاهم الله جل وعلا , وبالتالي يترتب على هذا أن هذا ظلم , وهذا أعطي ما لم يعط غيره.

فإذن أصل بحث المسألة هي عند المعتزلة , ولماذا بحثوها للقاعدة (اللي) قعدوها؟ وهي أن الجميع يجب أن يكونوا في فعل الله واحد حتى لا يظلم هذا ويترك ذاك. إذا فهمت هذا الأساس تفهم لماذا افترق الناس في هذه المسألة؟ فلما قالوا الاستطاعة لا تكون إلا على هذا النحو , وهي أن تكون قبل , أما المقارنة فالعبد الذي يخلق فعل نفسه , هو (اللي) يقدر , هو (اللي) يفعل.
الله جل وعلا لا يجعل هذا مستطيعا وذاك غير مستطيع؛ لأن هذا ظلم.
وإذا كانوا كذلك , فقابلهم من يثبت الاستطاعة المقارنة , وهم الجبرية , ونفوا أصلا أن يكون للإنسان قدرة على فعل أي شيء , لهذا قالوا: ليس هناك استطاعة سابقة , وإنما الاستطاعة هي أنه يقدر على الفعل , وهذه القدرة هي في الواقع من الله جل وعلا لهذا الإنسان أصلا لا يستطيع؛ لأن الله نفى , قال: [ما كانوا يستطيعون سمعا]* , وقال: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} , ونفى أيضا عنهم الرمي قال: {وما رميت إذ رميت}.
إذن لا يمكن أن يفعلوا شيئا , فقابلوا القدرية في مسألة الاستطاعة , لا في مسألة القدر والجبر , القدر والجبر أصلا , القدر والجبر أصلا الجبرية سبقوا القدرية في مسألة الجبر المعين , أما القدر (اللي) هو نفي العلم فهو (اللي) كان أولا , يعني: الجهمية , (اللي) هم الجبرية , سابقين المعتزلة , (اللي) هم القدرية , يعني: كفرقة الجهمية هم (اللي) أظهروا الجبر ونصروه من جهة وجود الجهمية قبل وجود المعتزلة الذين هم القدرية.
فإذن الجهمية نقول إن الجبرية قبل لأن (اللي) مثلهم الجهمية , وأولئك مثلهم المعتزلة وهم متأخرون عنها , أما من جهة القدر والجبر كقول القدرية سابقون؛ لأن نفاة العلم ظهروا في زمن الصحابة , وأما الجبرية فجاءوا بعد ذلك , لكن تفاصيل أقوال الجبرية والقدرية ما نشأت إلا مع ترسخ المذهبين في الجهمية وفي القدرية المعتزلة.

المسألة الثانية: قرر الطحاوي هنا أن الاستطاعة على قسمين: استطاعة مقارنة يجب بها الفعل يعني: إذا وجدت الاستطاعة حصل الفعل دون تأخر , واستطاعة متقدمة وهذه لا يجب أن تكون مع الفعل , بل تتقدم , وهي المتعلق بها الأمر والنهي ((صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً)) عدم الاستطاعة هنا هل هي خاضعة لأن يجرب إذا أراد أن يصلي؟ أو في تمكن آلته من القيام معروف قبل أن يدخل أصلا في الصلاة {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} يبدأ يحج (وبعدين) (يشوف) هو مستطيع (ولّا) لا , وإلا الاستطاعة هي الزاد والراحلة وغير هذين أيضا , هذه تكون قبله تكون قبله , إذن هذه معلومة قبل , فإن التكليف الأمر والنهي والعذر إلخ , هذه متقدمة الاستطاعة القدرة وسع , الآت سلامة صحة... إلخ متقدمة أيضا , وهذا أوضحت لكم أن الدليل دل عليه.

أيضا ليست الاستطاعة المرادة في الشرع هي الاستطاعة الكونية , بل المراد الاستطاعة الشرعية , والاستطاعة الكونية هذه أخص من الاستطاعة الشرعية , فإنه قد يكون مستطيعا كونا , قد يكون المرء مستطيع كونا , ولكنه ليس بمستطيع شرعاً.
مثاله يمكن له أن يسيل الماء على جرحه الذي لم يندمل , يمكن أن يغتسل ويسيل الماء عليه هذا يمكنه كونا , ويستطيع يمد يده ويصب الماء عليه إلخ , يمكنه أن يصلي الصلوات قائما؛ لأنه غير مشلول , لكنه شرعاً لا يسمى مستطيعا؛ لأن الأول يورثه زيادة في المرض , والشريعة متشوفة للتيسير , والثاني يورثه أيضا عدم الخشوع في الصلاة والتعب وإلخ ومجاهدة النفس , وربما أورثه زيادة في المرض , والشريعة متشوفة في الصلاة إلى خشوعه وحضور قلبه , و إلى ألا يزيد مرضه إلى إلخ.

فإذن مما لم ينظروا إليه في البحث أيضا أن الاستطاعة , التي هي سلامة الآلات المرادة في القدر والمرادة في تحقيق المسألة , هي الاستطاعة الشرعية , لا الاستطاعة الكونية , أما كونه يقدر سليم الآلات... إلخ , هذا قد يدخلنا في تكليفه ما هو فوق طاقته , أو فوق ما فيه مصلحته شرعاً , ولهذا نقول: الاستطاعة , التي هي قبل الفعل , نقسمها إلى قسمين: استطاعة كونية واستطاعة شرعية , والاستطاعة الشرعية هي: المرادة أنها هي التي تعلق بها التكليف والأمر والنهي , فحصل إذن من هذه المسألة أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل , والتي قبل الفعل تنقسم إلى قسمين.واضح؟ يعني: من حيث النظر إليها , أما الاستطاعة التي مع الفعل , وهي المهمة في هذا الباب , فالفعل لا يكون ولا يحصل لأي إنسان إلا ما يمكن أن يفعل الشيء , ولا أن يحدث هذا الشيء إلا بوجود ثلاثة أشياء , إذا تخلف واحد منها ما حصل هذا الشيء أبداً.

الأول: القدرة التامة على إيجاد الفعل , يعني هذا , من غير نظر إلى مسألة القدر , وجود الشيء مطلقاً فيه , يأتينا بعد ذلك بحث القدر , هذه مسألة عرضها في الكتب غير واضح , ويدخلون بعض البحث في بعض.
أنا أرتبها لك وكن حاضر القلب معي حتى تستوعب الخطوات.لا يكون إلا بثلاثة أشياء القدرة التامة ما معناها؟ معناه: أنه إذا لم يكن عنده القدرة على الفعل , فإنه لا يمكن أن يحصل الفعل الأعمى.
إذا أراد أن يقرأ كتابا يأخذ الكتاب هذا الذي معي ويقرؤه , والحروف هي التي يقرؤها المبصر غير الحروف الثانية يستدل بها باللمس , لو وضعه أما عينيه فإنه لا يمكنه , لو أخذ المصحف ووضعه أمام عينيه فإنه لا يمكن أن يقرأ شيئا.
واضح , لماذا؟ لأنه ليس عند القدرة.
الذي لم يتعلم الكتابة لو أخذ القلم بيده بين أنامله وأراد أن يخط جملة لم يستطع , لماذا؟ لأنه يتعلم.

المتعلم للكتابة في اللغة العربية لا يمكن أن يكتب باللغة الصينية؛ لأنه , وإن كان يعرف الحروف باللغة العربية , يعرف كيف يخطط ويعرف , لكن لا يمكن؛ لأنه لا يقدر على هذا بالخصوص.
فإذن القدرة التامة هي التي يحصل بها الفعل.

الثاني: الإرادة الجازمة , ونعني بالجازمة غير المترددة , فإذا وجدت الإرادة الجازمة مع بقية الشروط وجد الفعل , لكن لو وجدت الإرادة فقط , ولم توجد بقية الشروط , ونذكر مثالاً الآن , و(اللي) ذكرنا القدرة فهل يمكن أن يحصل الفعل؟ لا يمكن أن يحصل الفعل. يريد أن يذهب إلى مكة , لكن ما عنده قدرة مالية , يمكن يذهب؟ ما يمكن. يريد أن يكون حافظا لكتاب الله , لكن ليس عنده القدرة على الحفظ , فهل يمكن؟ ولو كانت إرادته جازمة ويتمنى و..و.. إلخ.لا يمكن.
فإذن الإرادة الجازمة غير المترددة شرط في حصول إلى الفعل , لا يمكن أن يحصل الفعل بإرادة مترددة.(انقطاع) , وهو أن يشاء الله جل وعلا حصول هذا الفعل , فما شاء كان , وما لم يشأ لم يكن , ومشيئته الكونية في هذا إذا شاء أن يكون الفعل ممن عنده قدرة وإرادة , فإنه يعين العبد على حصول هذا الفعل.
كيف يعين العبد؟ يعينه بأشياء:
الأول: التوفيق.
الثاني: أن يعدم المعارض , مثل هو يريد أن يذهب إلى مكة , وعنده القدرة المالية وعنده الإرادة الجازمة (ماشي) , ويريد أن يحج هذا العام , المعارض الذي يعارض أن يكون هذا من حصول خلل له في بدنه , من حصول خلل في الطائرة , من عدم تمكن من سرقة المال من من.
أسباب كثيرة لا تحصى من المعارضات.
إذن هل هذه في قدرة العبد؟ ليست في قدرة العبد , إذن هذا يدخل في الأمر الغيبي الذي لا يدخل العبد فيه , إذا اجتمعت هذه الثلاثة حصل الفعل , إذا تخلف واحدا منها لم يحصل الفعل.
فإذن الاستطاعة التي يجب بها الفعل وهي القدرة التي يجب بها الفعل , يعني: يحصل معها الفعل المراد بوجوب حصول الفعل مع وجود الإرادة الجازمة ووجود إعانة الله جل وعلا ومشيئته وتوفيقه ودفع المعارض إلى آخر الأسباب (اللي) هو الأمر الغيبي المختص بالرب بأمر الله جل جلاله.
القدرة في نفسها قدرة العبد على الفعل , هل هو الذي أوجدها في نفسه, أم الله الذي خلقها فيه؟ الله جل وعلا الذي خلقها فيه.
الإرادة الجازمة للفعل , توجه العبد للفعل , هذا اختيار منه , أم هو مفروض عليه؟ هو اختيار منه , ولذلك جاءت الجبرية وقالت: القدرة منفية , لا قدرة له , والإرادة هو مرغم على أن يريد , والمشيئة خاضعة , العبد خضع للمشيئة , فعمل ما يريده الرب , فإذن الفعل كله فعل الرب جل وعلا بلا اختيار , فصار فعل العبد بعد أن حدث كحركات الأشجار , والورقة في الماء , والريشة في مهب الريح... إلخ.
جاءت القدرية في المقابل , وقالت: القدرة بيد العبد , والإرادة عنده هو , ولا علاقة لفعل الله جل وعلا به , بل العبد هو الذي يقدر , فالقدرة خلقه هو الذي خلق الفعل بقدرته , والإرادة توجهت إليه , والقدرة والإرادة يستوي الناس فيها , فهذا خلق أفعال الطاعات , وهذا خلق أفعال المعاصي , فنفوا الجزء الثاني.

أما أهل السنة والجماعة , فنظروا إلى الأدلة فوجدوا فيها الثلاثة جميعاً فأثبتوها , فإذن حقيقية بحث القدر وبحث الاستطاعة وبحث تكليف ما لا يطاق إلى آخره من المباحث مبنية على الفعل إذا وجد كيف وجد؟ فبحثوا الفعل إذا وجد كيف وجد؟ منهم من بحث في أوائله يتكلم في الاستطاعة المقارنة والاستطاعة السابقة وإلى آخره في الكلام الذي بحثنا , ومنهم من نظر إلى نتائجه , وهو أن هذا فيه فعل طاعة سينتج عنه الجنة , وهذا فيه فعل كفر سينتج عنه النار , فلما نظر إلى نتائجه والظلم والعدل إلى آخره , نظر حكم على المسألة بالنتائج.

والذي ذهب إليه أهل الوسط {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وسط في الملل , ووسط في المذاهب , وهم أهل السنة والجماعة , قالوا: الفعل لا يوجد إلا بهذه الثلاثة أشياء.
لهذا الطحاوي هنا أشار إلى هذا بإدخال التوفيق بقوله: "من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به)" , وهذه الجملة , في الواقع , ليس لها علاقة بالكلام , والشارح عندكم- شارح الطحاوية- ما تكلم على هذه الجملة , لماذا أدخلها الطحاوي؟
وإلا الكلام يستقم بدونها , أن يقول والاستطاعة التي يجب بها الفعل فهي مع الفعل , وأما الاستطاعة من هو- يريد الطحاوي- أن يقول لك: إن الفعل لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة والإرادة , وفعل الله جل وعلا الذي فيه المشيئة , وفيه التوفيق والإعانة , وفيه دفع المعارض.. إلخ من المسائل.

المسألة الثالثة.. (مداخلة غير مسموعة) لا , هذا أمر خارج , هذا فعل الله جل وعلا , فتنظر الآن في شيء ظاهر من العبد يملكه وهو قدرته وإرادة , لكن في شيء ما يملكه شيء لا يملكه وهو دفع المعارض , واحد أخذ ركب طيارة جديدة من أحسن الطائرات جديدة سليمة , ما طار عليها , وكل أجهزتها جديدة , و إلى أخره , وهذه الطائرة جاءتها زوبعة , ويعني: احترقت أو ضربت في الأرض أو.إلخ , تحطمت , أو جاءتها طائرة ثانية , وهو ما يدري جاءتها طيارة وضربتها , هذا من جهة من؟ ليس من جهة العبد.
الآن سيارة استعملتها سيارة جديدة إلخ , من جميع الآلات سليمة , احتطت بجميع الاحتياطات , وجاء في الطريق أخذت بوسائل السلامة , هل ستنتج السلامة بهذه الأشياء (اللي) عملتها؟ لا , (آلا) ما (يجي) جمل في الطريق تصدمه , و أنت ما تدري , أيضا سيارة و أنت ماشي ما دريت أنها (تريلا) جات (قدامك) وضربتك, إلخ.
ولهذا من أعظم النظر في الأسباب أن تنظر في هجرة النبي عليه الصلاة والسلام.
النظر في الهجرة يعطيك ما يجب على العبد أن يفعله , وما ليس للعبد أن يحققه من أسباب السلامة.
النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر أراد الهجرة إلى المدينة استأجر , عمل جميع الاحتياطات , (شاف) الطريق البعيد (اللي) ولا يمكن أن يظن المشركون أن النبي-صلى الله عليه وسلم- يسير فيه , (شاف) الطريق البعيد , واستأجر رجلا هاديا خريفا , يقال له ابن أرقط ليدل على هذا الطريق البعيد , ثم بعد ذلك أيضا , مع هذا الطريق أمر راعي الغنم أن يمشي على أثره هو وأبو بكر (واللي) معهم حتى ما ينظرون إلى الأقدام , واختبؤوا في غار , الغار ما حد يعني الغار يختبأ فيه , لا يمكن أحد أن ينظره العادة , هذا (اللي) يمشى (بينتقل) من بلد لبلد , يمشى في الطريق الساعات يمشى أما يختبأ في غار.. الخ.

هذه الأشياء التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام , وواجب عليه أن يفعلها؛ لأن الله أمر باتخاذ الأسباب , وقف المشركون على رأس الغار ما فيه , يقول أبو بكر رَضِي اللهُ عَنْهُ:"لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا".
هذا الآن الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويتحقق بها قدر السلامة , فعلها أولم يفعلها؟ فعل.
لكنها نفعت؟ ما نفعت. وقفوا على رأس الغار , أقرب شيء ليس تحت الجبل لكن لو أبصر أحدهم تحت قدمه لرآنا , ما فيه أحد قدر أنه ينزل عينيه إلى أسفل , هذا ليس من جهة فعل العبد.
ولهذا المعتزلة في ضلالهم لما جعلوا العبد يخلق فعل نفسه فقط يخلق فعل نفسه , وهو الذي يتصرف في نفسه في مثل هذا لا يستطيعون تفسيره , كيف أنه هو لم يستطع أن ينزل رقبته تحت؟ كأنه كأن في رقبته غلا يمنعه من أنه , أنهم ينظرون , وهم عدد , ما فيه واحد ينظر تحت ولو بالغلط.
إذن هنا فعل هذا شيء لا يملكه العبد , ولهذا المؤمن ينظر في باب الاستطاعة وباب الأفعال إلى ما يفعله هو وما يكرمه الله جل وعلا , ولهذا {من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً}

المسألة الثالثة: المسائل هذه البحوث فيها يعني: تطول , لكن (باذكر) هذه المسألة , وننتقل للتي بعدها؛ لأن نريد نخلص من مسائل القدر الليلة , فاصبروا معنا , إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

المسألة الثالثة والأخيرة أهم المسائل هنا: الاستطاعة التي هي قبل الفعل , كما ذكر هي مناط التكليف الأمر والنهي والاستطاعة التي مع الفعل. ولم يذكر هي مناط الثواب والعقاب , والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة , ومن جهة

الـوجـه الـثـانـي

المسألة الثالثة والأخيرة أهم المسائل هنا: الاستطاعة التي هي قبل الفعل , كما ذكر هي مناط التكليف الأمر والنهي والاستطاعة التي مع الفعل. ذكر هي مناط الثواب والعقاب , والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة , ومن جهة
البلوغ مثلاً واليقظة , إلخ من جميع الأسباب.
هذه هي (اللي) تتعلق بها الأوامر والنواهي , وهي التي يتكلم عنها الفقهاء , أما التي مع الفعل , وهي المنوط بها الثواب والعقاب , فمعلوم أن فعل العبد , كما ذكرنا , لم يستقل بتحصيل النتيجة , وبالتالي فالثواب إذن لم يستقل العبد بتحصيل أسبابه , ولهذا فتقول إذن: إن إثابة الله جل وعلا لعبده هو منة من الله على عبده , لما؟ لأن أصل تحقيق الفعل لم يكن مجرداً باختيار العبد , بل هناك أمر زائد وهو منة الله وفضله على العبد وإعانته عليه.

ولهذا سألني أحد الإخوان الأسبوع الماضي سؤالا متعلق بهذا المبحث , وهو: أن رضا الله جل وعلا على العبد وإثباته للعبد هو نتيجة لشيء فعله الله جل وعلا , وهو هداية العبد لأن يفعل , ولهذا المؤمن الصالح كلما زاد علما علم أنه ليس منه شيء , وليس إليه شيء , مثلما كان يقول ابن تيمية: "اللهم ليس مني شيء , ولا في شيء , ولا إلى شيء" , لكن مع ذلك ليس مجبورا , وينظر إلى أنه يختار وعنده قدرة , ويعرف أنه محاسب. لكن إن أعانه الله جل وعلا ووفقه على الفعل , وصار من أهل الطاعة , فإنه يعلم أنه بسبب أحدثه الله جل وعلا له وهداه إليه.

وهذا معنى نصوص الهداية في القرآن , ليس معنى نصوص الهداية ونصوص القدر السابق أنها إجبار على العبد , وإنما معناها: أن الله هيأ لهذا العبد الأسباب التي تعينه على تحصيل المراد وأعانه عليها , وهذا هو تفسير أهل السنة للتوفيق في المقابل من جهة العاصي , فإن الله جل وعلا منعه أسباب الهدى , لماذا منعه؟ لأمر يرجع إلى نفسه وفعله؛ لأنه كما أعطى ذاك بسبب , فإنه منع هذا بسبب , وهو أنه رغب في هواه وترك التخلي من هواه ومن شهوته , ولهذا قال جل وعلا في وصف الكفار: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} وقال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة الجاثية: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله} أضله الله على إذن فالذي أعطي أعين , والذي حرم عومل بسبب فعله هو {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.

فإذن نظر المعتزلة في المسألة , وهي أن الذي أعطي والذي منع إنما هم من أنفسهم , لم يعط الله هذا ولم يمنع هذا , هذا في الواقع نظر منهم إلى الظلم والعدل بما يحكمون فيه فعل العبد , مثل أن هذا يعطي ولده هذا ويمنع هذا , ويقول: هذا تزوج وهذا ما تزوج , هذا فيه تفريق؛ لأنه أعطى هذا ومنع هذا , لكن هنا الإعطاء صار للجميع , أين الإعطاء الذي صار للجميع؟ هو ما قبل الفعل وهو الاستطاعة المثبتة.
لم يكلف الله جل وعلا المجنون الكافر , ورفع التكليف عن المجنون المؤمن , الجميع سواء؛ لأن هذا تكليف واستطاعة قبل الفعل , لكن الاستطاعة التي مع الفعل , التي مع الفعل ينتج عنها الفعل , فأعين هذا بسبب , وحرم ذاك بسبب , ولو أن الكافر أو الذي ضل لو أنه سلك سبيل الهدي ورغب بإرادته لأعانه الله جل وعلا ووفقه , لكن كما قال الله جل وعلا في وصفهم: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا}.
ويمثل هذا قول الوليد , بل قول أبي جهل , قال: "حتى إذا تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف , وكنا كفرسي رهان , قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء , وليس منكم نبي , والله لا نؤمن به أبدا" هنا دخل الهوى , دخل الشهوة ودخلت الدنيا فصدت.

فإذن تحقيق القول في المسألة هنا أن سبب ضلال المعتزلة في باب الاستطاعة وباب القدر في هذه أنهم جعلوا الظلم واحدا , واضح؟ جعلوا هذا وهذا متساويين في القدرة والآلات , فلهذا نفوا خلق الله جل وعلا للأفعال , وقالوا: العبد يخلق فعل نفسه لأجل ألا ينتج عنها أن الله ظلم , فأدخل الجنة هذا وأدخل النار ذاك.
ونظر أهل السنة أن الله جل وعلا ساوى بين الناس في التكليف في الآلات , في الاستطاعة التي هي قبل الفعل , أما الاستطاعة التي مع الفعل فلا يحدث الفعل إلا بأشياء , الله سبحانه وتعالى أعان هذا بأسباب , وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل في هذا كله.
الجملة التي بعدها قال رحمه الله: "وأفعال العباد خلق الله وكسب , وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد" يريد أن فعل العبد ليس مخلوقا له , بل الله جل وعلا هو الذي خلق فعل العبد , وهذا يعني: أن العبد يفعل ولا يُنفى عنه الفعل , بل هو يفعل ويعمل , وأفعاله منه صدرت , وهو الذي فعلها , وهو الذي اختارها , وهو الذي أنتجها بإرادته وقدرته , وأما نتيجة الفعل , يعني مع اجتماع الأسباب القدرة والإرادة إلى آخره. فالله جل وعلا هو الذي خلق الفعل , وهذا يخالف مذهب القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه.
وقوله: "وكسب من العباد" , "خلق الله وكسب من العباد" يعني: فعل وعمل من العباد فالعبد ينسب إليه الفعل , ولا ينسب إليه خلق الفعل , فهو يفعل حقيقة والله جل وعلا هو الخالق لفعله.
ودليل ذلك لأهل السنة والجماعة قول الله جل وعلا: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} , وقال أيضا جل وعلا: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} , وقال جل وعلا: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
إذن فإثبات عمل العبد وكسب العبد , وأنه هو الذي حصل الفعل هذا واضح , وكذلك إثبات أن الله جل وعلا خلق كل شيء. هذا دليل هذه المسألة.
ونذكر عدة مسائل تفصيلية , المسألة الأولى: خلق الله جل وعلا لأفعال العباد , اختلف الناس فيه على أقوال ثلاثة: القول الأول هو قول أهل الحق والسنة والهدى: إن الله جل وعلا خلق العبد وخلق عمله أيضا , أعمال العبد من الخير والشر من الحسنات والسيئات هي خلق من الله جل وعلا؛ لأنه لا يحدث في ملك الله شيء إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى.
القول الثاني: قول المعتزلة بأن الله جل وعلا لا يخلق فعل المكلفين , أما غير المكلفين فهو خالق كل شيء , أما فعل المكلف فلا يخلقه سبحانه وتعالى , بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه , ويستدلون لذلك بأدلة عقلية واضحة على مذهبهم , وأدلة نقلية محتملة.
أما الأدلة العقلية فهم يقولون: إن الله لا يوصف بأنه يخلق فعل العبد لسببين:

الأول: أن فعل العبد فيه الأشياء المشينة , فيه الكفر , وفيه الزنا , وفيه السرقة , وفيه القتل , وفيه... إلخ , ولو قيل: إن الله هو الذي يخلق هذه الأشياء لصار نسبة للأشياء السيئة إلى الله , وهو منزه عنها.

والسبب الثاني: أن خلق الفعل من الله يقتضي التفريق بين المكلفين , هذا خلق فعل طاعته فأدخله الجنة , وهذا خلق فعل معصيته فأدخله النار , وهذا ظلم؛ لأنه لم يساو بينهم في خلقه وفعله.

والمذهب الثالث: بأن العبد لا يخلق فعل نفسه , بل الله يخلق فعله , وهو ليس له فعل حقيقة , وليس له تصرف حقيقة , ولا كسب حقيقة , وإنما هذه أمور مجازية , وهو فعل العبد هو في الحقيقة فعل الله جل وعلا , لكن أضيف للعبد اقترانا , ولم يضف له حقيقة , وأخرجوا لفظ الكسب , كما سيأتي , وعللوا به.

المسألة الثانية: قول أهل السنة: إن العبد فعله مخلوق لله جل وعلا , استدلوا له بأدلة نقلية وأدلة عقلية.
أما الأدلة النقلية فقوله تعالى:{الله خالق كل شيء} , وهذا عموم؛ لأن كلمة كل في الأصول من الألفاظ الظاهرة في العموم , وهي في عموم كل شيء بحسبه , فهنا لم يدخل في ذلك وصف الله جل وعلا صفات الرب سبحانه وتعالى , يعني: الله جل وعلا ذاته وصفاته لم تدخل؛ لأنه سبحانه ليس بمخلوق بذاته وصفاته وأفعاله جل جلاله؛ لأن المخلوق حادث , والله جل وعلا متنزه عن أن يكون حادثا , بل هو , جل وعلا , الأول والآخر والظاهر والباطن.
ويستدل أيضا لهم بقوله تعالى في قصة إبراهيم:{والله خلقكم وما تعملون} , والعلماء يبحثون كلمة (ما) هنا {ما تعملون} هل (ما) هنا مصدرية , أم موصولة بمعنى الذي؟ فقالت طائفة: ما هنا مصدرية , فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم , فعند هؤلاء واضح الاستدلال بأن العمل مخلوق لله جل وعلا , وقال آخرون , وهم أحظى بالتحقيق: إن (ما) هنا ليست مصدرية , بل بمعنى: الذي , فتقدير الآية: والله خلقكم والذي تعملون فمن قال: إنها مصدرية , وليست موصولة ففيه ضعف , من جهة أنه احتج عليهم في عبادتهم لما نحت , فقال جل وعلا في قول إبراهيم في سورة الصافات: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون} , فإذا كانت مصدرية صار المعنى: والله خلقكم وعملكم , وعملهم (إيش) , النحت , فيصير معنى الكلام: والله خلقكم ونحتكم , وهم لم يعبدوا النحت , وإنما عبدوا المنحوت.
والقول الثاني: إنها موصولة أوضح في الاستدلال وموافق لقصة إبراهيم الخليل عليه السلام {والله خلقكم وما تعملون} يعني: والذي تعلمون , والاستدلال على هذا واضح , وهو موافق للسياق. وتقدير (ما) بمعني: الذي أفاد فائدتين؛ الفائدة الأولى: أنه موافق لقوله: {أتعبدون ما تنحتون} , والذي يعملون هو ما ينحتون , وهي الأصنام , يعني: يقول: إن الله خلقكم وخلق الأصنام الذين تعلمونها. واضح؟ الثاني: أنه في إثبات هذا إثبات أن الأصنام هذه التي عملوها عملوها أنها مخلوقة أيضا؛ لأنهم مخلوقون , قال: {والله خلقكم} وخلقهم يشمل خلق ذواتهم وخلق تصرفاتهم , فرجع الأمر إلى أن هذه الأصنام التي تعملونها مخلوقة لله , وأيضا هي عملكم الذي هذا مخلوق؛ لأنكم مخلوقون , فتحصل من هذا القول أنه مناسب للسياق , ويشمل خلق الأصنام والاحتجاج عليهم بعبادتها , يعني في عدم عبادتها , وكذلك فعلهم لذلك.
أما الدليل العقلي: فهو أن الفعل لا يكون , مثلما ذكرنا , إلا بقدرة وإرادة , وقدرة العبد لم يخلقها هو وإنما خلقها الله , والإرادة اختياره , والإرادة نفسها وجودها في العبد لم يخلقها هو , وإنما خلقها الله , ثم الثالث: وهو مشيئة الله.
هذه الثلاث يحصل بها الفعل , والأول والثاني مخلوقة لله جل وعلا , والثالث: هو فعل الله جل وعلا مشيئته صفته سبحانه وتعالى , فإذن ما ينتج عنها , فإذن يكون مخلوقا , فإذا كان عمل حصل بقدرة وإرادة القدرة مخلوقة , الإرادة مخلوقة إذن العمل مخلوق , وهذا استدلال عقلي صحيح , وهو موافق للأدلة.أما كلام المعتزلة والرد عليهم , فله مكان آخر؛ لأن المقام يضيق عن بسطه.
آخر جملة "وكسب من العباد" قوله: "وكسب من العباد" الكسب هذا –(غير مسموع) أي مسألة (غير مسموع)

الثالثة: قوله: "كسب من العباد" , أنا إذا جئت في الأخير أبداً , يعني: أمشي بسرعة , لكن ممكن (تخدون) المحصلة- الكسب- من الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة بأسرع لكم (شوي) , استوعبوا من الألفاظ التي جاءت في القرآن والسنة , فأضيف الكسب إلى القلب , فقال جل وعلا: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} , وأضيف الكسب إلى العبد , فقال جل وعلا:{أنفقوا مما...} {يا آيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} , وأضيف في التكليف أيضا في قوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} {جزاء بما كانوا يكسبون} ونحو ذلك.
وتفسيره في الآيات , أن يقال: كسب القلب هو عمله وهو قصده وإرادته , يعني: عمل القلب هو قصده وإرادته وتوجهه وعزمه... إلخ يعني: في اليمين {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} , يعني: بما قصدتم أن توقعوه , ولهذا في الآية الأخرى في المائدة قال: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته..} الآية.

أما كسب العمل {من طيبات ما كسبتم} يعني: من طيبات ما تمولتم من الأموال ومن التجارات , ومما أخرج لكم من الأرض نتيجة لعملكم , أما الكسب (اللي) هو نتيجة التكليف {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فالكسب هنا بمعنى: العمل , ولهذا في الآية قال: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} وفي الآية الأخرى من سورة آل عمران قال: {ما عملت ثم توفى كل نفس ما عملت} {وهم لا يظلمون} فإذن كسبت وعملت تتناوع في القرآن.

فالكسب الذي هو مناط (اللي) هو نتيجة التكليف هو العمل , لكن قيل عنه: كسب تفريقا ما بينه وبين الاكتساب؛ لأن الله جل وعلا لما ذكر التكليف في آية البقرة قال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ليبين جل وعلا أن عمل العمل الصالح كسب سهل يمكن أن يعمله بدون كلفة منه , ويعني: ومشقة عليه , أما عمل السيئات التي عليه , فيعملها بكلفة منه ومخالفة وزيادة اعتمال وتصرف في مخالفة ما تأمره به فطرته , بهذا قالوا: زاد المبنى في اكتسبت؛ لأنه يحتاج إلى جهد منه ومشقة , بخلاف العمل الصالح , فإنه يقبل عليه بنفسه.

فإذن العمل هو الكسب وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة للكسب على ما دلت عليه الآيات , وأما الآخرون من الفرق الجبرية والقدرية ففسروا الكسب بتفسيرات آخر.
أما القدرية فإنهم قالوا: الكسب هو خلق العبد لفعله؛ لأنه يوافق لمعتقدهم في ذلك , والجبرية الذين هم الأشاعرة , في هذا الباب فأخرجوا للكسب مصطلحا جديدا غير ما دل عليه الكتاب والسنة , وقد ذكرته لكم عدة مرات في أن الكسب عندهم هو اقتران الفعل بفعل الله جل وعلا , اقتران ما يحدثه العبد بفعل الله جل وعلا , فعندهم أن الفعل حقيقة هو فعل الله , والعبد حصل له العمل , لكن النتيجة هي الكسب , فالعبد في الظاهر مفعول به , فالعبد في الظاهر مختار , العبد في الظاهر يعمل , العبد في الظاهر يحصل ما يريد , لكنه في الباطن مفعول به , والكسب هنا عندهم , مما اختلفوا فيه , على أقوال كثيرة جداً , وليس تحتها حاصل.

المقصود من الكلام أن الكسب عندهم- عند الجبرية عند الأشاعرة-ما يفسر بتفسير صحيح , وهو من الألفاظ المبتدعة التي ضلوا بسببها في باب القدر , أحدثها الأشعري , ولم يفسره بتفسير صحيح وأصحابه أيضا , لم يفسروه بتفسير صحيح إلا بدعوى الاقتران إذا تبين هذا.

فإذن حقيقة الكسب الذي أثبته الطحاوي هنا بقوله: "خلق الله وكسب من العباد" نحمله على قول أهل السنة والجماعة , مع أنه يمكن أن يحمل على قول الأشاعرة والماتريدية في ذلك , والأولى أن يحمل على الأصل , وهو ما يوافق السنة ما يوافق القرآن والسنة؛ لأنه هو في جل عقيدته يوافق طريقة أهل السنة والحديث.
أنا كان بودي أن أذكر يعني: تفصيل أكثر , ولكن على كل حال لها , إِنْ شَاءَ اللَّهُ , موضع آخر ومناسبة أخرى. نكتفي بهذا القدر الجملة هذه ما أعطيناها حقها (اللي) هي خلق الله المفروض أن نتكلم على ردود على المعتزلة في قولهم بأن العبد يخلق فعل نفسه , ونبطل مسألة الظلم والعدل والقياس في الأفعال , ونتكلم عن الكسب عند الأشعرية بتفصيل أكثر؛ لأني سبق أن أوضحته لكم أكثر من هذا في الواسطية , صحيح لكن على كل حال بعض العلم يخدم بعضا. نكتفي بهذا القدر , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

(غير مسموع)
الشيخ: السلام عليكم
الطلاب: وعليكم السلام.
معلق: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات , وحيث تبقى عنا متسع فقد أكملناه بالمادة التالية:

قارئ:... محمد بن عبد الوهاب في أصول الإيمان: باب معرفة الله عز وجل والإيمان به:
عن أبي هريرة , رَضِي اللهُ عَنْهُ , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك , من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم.
الشيخ: هذا الكتاب , كتاب أصول الإيمان , جمع فيه الإمام المجدد-رحمه الله-الأحاديث التي في الإيمان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وما يتصل بذلك من الأمور.وهو جمع أحاديث متنوعة أصول في هذا المبحث العظيم , مبحث الإيمان.
والإيمان أركانه ستة كما هو معلوم , الركن الأول: هو الإيمان بالله , والإيمان بالله ثلاثة أقسام: إيمان بربوبية الله بأنه واحد جل وعلا في ربوبيته لا شريك معه ,
والثاني: إيمان بألوهية الله , وأنه في إلهيته , يعنى: في استحقاقه للعبادة , لا ند له ,
الثالث: الإيمان بالأسماء والصفات , وأنه سبحانه واحد في أسمائه وصفاته , لا مثيل له , الشيخ رحمه الله هنا يذكر من الأحاديث الآن ما يرجع إلى كل واحدة من هذه ينبهك على أصول الإيمان , فذكر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) وهذا يفيد فوائد في الإيمان.
الفائدة الأولى: توحيد الربوبية إذ قوله: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) وذلك لتمام ربوبيته سبحانه وانفراده بها.
فلكونه الرب وحده هو أغنى الشركاء عن الشرك؛ إذ الإشراك به جل وعلا باطل؛ لأنه هو الرب وحده دونما سواه. وقوله: {من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري}.هذا فيه توحيد الإلهية , وهذا مبسوط في شرح كتاب التوحيد وغيره , المقصود التنبيه على أن الحديث يدل على نوعين من التوحيد:توحيد الربوبية , توحيد الإلهية وبه يصلح الاستشهاد على تفسير الإيمان بالله , بالله يعني بربوبيته وإلهيته. نعم
القارئ: وعن أبي موسى الأشعري رضي..(مداخلة غير مسموعة)و(إيش) رأيك يعني:(إيش) رأيك هو من حيث الواقع (ولا) من حيث الحقيقة.
ـ (غير مسموع) الواقع.
ـ (غير مسموع) من حيث الواقع الشركاء لا تقصد بهم هنا , يعني: الشركاء في العبادة , الشركاء إذا كان فيه واحد من الشركاء في العبادة , أو في غيرها , يستغني عن أن يكون له شريك في صاحبه , فالله جل وعلا هو أغنى الشركاء عن الشرك , ومعلوم أن الكريم من الناس الأبي , السيد السلطان القوي , إذا أحس أن فلانا من الناس له ولغيره أبى , ويريد أن يكون واحدا لواحد مثلما قال جل وعلا: {ورجلاً سلما لرجل هل يستويان} العبد ما يشترك فيه أكثر من واحد , وإذا اشتركوا (بيصير) فيه غضاضة , فيريد واحد لواحد , فالله جل وعلا أغنى الشركاء عن الشرك , إذا كان فيه شركاء يبغضون الشركة , فالله جل وعلا هو أغنى الشركاء عن الشرك.
إذا كان الشركاء في حال البشر يستغنون عن الشركة , ويريدون أن يستغنوا عنها , ولا يقبلوا بأن يكون هذا يعبد أن هذا يتوجه للجميع , أو يكون مواليا للجميع , فالله جل وعلا أغنى الشركاء عن الشرك , كذلك في العبادة , فإن توجه الواحد إلى أكثر بحسب اعتقاد أهل الجاهلية أن الآلهة المختلفة واحد منها يقبل والآخر يستغني , ولهذا صار لأهل مكة إله لهم صنم , ليس لأهل الطائف , ليس هو إله أهل الطائف , وليس هو إله أهل المدينة وجدة , فكل واحد له أصاحبه (مداخلة غير مسموعة) (إيش) الشاهد في توحيد الألوهية من الحديث؟ (مداخلة) أقول:((من عمل عملا أشرك فيه معي غيري)) هذا توحيد الإلهية ((تركته وشركه)).نعم.

القارئ: وعن أبي موسى رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: ((إن الله تعالى لا ينام , ولا ينبغي له أن ينام , يخفض القسط ويرفعه , يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار , وعمل النهار قبل عمل الليل , حجابه النور , لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) ـ الشيخ:سبحانه سبحانه ـ رواه مسلم.
الشيخ: هذا الحديث شروع من الشيخ- رحمه الله-في بيان الصفات وذكر الصفات , أحاديث الصفات داخل في الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات , فكل حديث فيه ذكر للأسماء والصفات للحق جل وعلا فهو مسوق يساق في باب الإيمان بالله , وهذا يدل على أن أحاديث الصفات هي أحاديث الإيمان بالله جل وعلا؛ إذ بمعرفة الحق جل وعلا والعلم بأسمائه وصفاته والإيمان به , فإيماننا بالحق جل وعلا إيمان عن علم بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكريم أفعاله سبحانه وتعالى.
وقوله هنا ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)) لا ينام لكمال قيوميته , وكمال حياته سبحانه وتعالى , فهذا النفي مقصود به كمال ضده على قاعدة أن النفي المحض ليس كمالاً , فإذا جاء نفي في الكتاب أو السنة فيقصد به إثبات كمال الضد , فضد النوم الحياة والقيومية , لهذا نقول ((إن الله لا ينام)) فيها إثبات كمال حياة الله جل وعلا وكمال قيوميته , ولهذا في آية الكرسي , قال سبحانه وتعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} فلكمال حياته سبحانه ولكمال قيوميته جل وعلا لا تأخذه سنة غفلة ولا فتور ولا إعراض ولا نوم يشغله سبحانه وتعالى عن قيوميته شأن عن شأن , وقوله: {يخفض القسط ويرفعه} , كذا هي؟ (غير مسموع من الجالسين)

إذن لها عدة ألفاظ , ((يخفض القسط ويرفعه)) المقصود بالقسط هنا الميزان؛ لقوله جل وعلا: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} وظاهره أن الله جل وعلا يخفض الميزان ويرفعه , كما يليق بجلال الله جل وعلا –كيف (غير مسموع).
قوله: ((ما انتهى إليه بصره من خلقه)) ((لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).هذا تعليق بكل شيء (غير مسموع) بحد أن الأمور , أو لأن القسمة قسمان: الله جل وعلا شيء سبحانه وتعالى , ومخلوقاته شيء آخر , وليس ثم قسم ثالث: الله جل وعلا ومخلوقاته , فما هو ليس من الله جل وعلا فهو مخلوق من العرش وحملته إلى آخر ملكوت الله سبحانه وتعالى.
فلو كشف الحجاب , سبحانه وتعالى , لأحرقت سبحات وجهه نور القوى – لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه , يعني: كل الخلق؛ لأن بصر الحق سبحانه وتعالى ليس له حد ولا نهاية , متعلق بجميع المخلوقات فقوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) , يعني: كل شيء , وبصره وسع المخلوقات , فمعناه: أحرق كل شيء تبارك ربنا وتعالى وتقدس.

القارئ: وعن أبي هريرة رَضِي اللهُ عَنْهُ مرفوعا: ((يمين الله ملأى لا تُغِيضُهَا نفقة)).
الشيخ: تَغِيضُهَا.
القارئ:...لا تَغِيضُهَا نفقة)).
الشيخ:يعني: لا تنقصها نفقة.
القارئ: ((سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض , فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده – والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض)) أخرجاه.

الشيخ: هذا فيه إثبات صفة اليد لله جل وعلا , بل إثبات صفة اليدين للحق تبارك وتعالى , والحق جل وعلا نثبت له هاتين الصفتين , كما قال: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} , وقال سبحانه وتعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} , وقال جل وعلا: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون} , وأشباه هذه الآيات والأحاديث التي فيها إثبات صفة اليدين للحق جل وعلا.
وهذا من الإيمان , فهو سبحانه متصف بذلك على ما يليق بجلاله وعظمته {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وكلتا يدي الرحمن جل وعلا يمين.
وهل يقال: إن للرحمن جل وعلا يمينا وشمالاً؟ هذا فيه بحث.
والذي في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى سمى يديه واحدة باليمين , يعنى: وصف يديه واحدة باليمين , وقال في الثانية: ((الأخرى وبيده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه)) , وكلتا يدي الرحمن يمين , كما جاء في الحديث: ((إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)) , وقوله: ((كلتا يديه يمين)) قال العلماء: معناه: أن يدي الرحمن سبحانه وتعالى كلها يمين , يعنى: في الخير وفي الإنفاق؛ لأن العرب تقول أو تجعل الشرف لليمنى على اليد الأخرى , وأن اليد الأخرى في الإنسان , يعني: اليسرى أقل وأوضع من اليد اليمنى , فاليد اليمنى هي الشريفة , والثانية ليست كذلك , فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يمين)) , يعني: أن يدي الرحمن جل وعلا في الشرف والصفة سواء , ليس ثم فضل ليد على أخرى , هذه الأخرى هل يقال: إنها الشمال؟
جاءت في صحيح مسلم في حديث , والحديث في إسناده ضعف , وساقه مسلم , رحمه الله , في الشواهد , ولذلك أعله طائفة من أهل العلم في ذكر التنصيص على ذكر الشمال , وقالوا: إن ذكر الشمال فيه ليس محفوظا , وأن الصواب في الحديث ((الأخرى وبيده الأخرى القسط)) , وليس بشماله , وهذا ظاهر من حيث الإسناد.
فإن مسلما , رحمه الله تعالى , ساقه في الشواهد , ومعلوم أن سياق الحديث في الشواهد لا يعني تصحيح كل كلمة فيه , ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم إثبات كلمة الشمال في صفة اليد لله جل وعلا , وقال طائفة من المحققين من أهل العلم: تثبت اليمين والشمال , والشمال شريفة يمين , هي كاليمين والشمال ليس نقصا لها , ولكن هي يمين وشمال , مثلما جاء في الحديث الذي في مسلم , وما دام أن مسلما رواه فقد صححه.
ومال إلى هذا إمام الدعوة الشيخ محمد بن الوهاب في آخر كتابه التوحيد , فإنه ذكر في المسائل في آخر الكتاب , قال: "التنصيص على الأخرى بأنها الشمال". وهذا يقول به طائفة من أهل العلم المحققين في هذا , والمسألة تحتاج إلى مزيد نظر , والحديث كما ذكرت لكم في إسناده ضعف , ويكون ذكر الشمال فيه شاذا , وقد نص على ذلك بعض أئمة الحديث كالبيهقي وغيره.
نكتفي بهذا , وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

القارئ: قال الإمام رحمه الله تعالى: وعن أبي ذر رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان فقال: ((أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر؟)) قلت: لا. قال: ((لكن الله يدري وسيحكم بينهما)) رواه أحمد.

الشيخ: هذا في تتمة الكلام على الإيمان بالله جل وعلا , وذكرنا لك أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات وهذا ذكر لبعض الصفات.
وهنا قال: ((ولكن الله يدري)) , ودراية الله جل وعلا بـ فيما ينتطح الكبشان أو العنزان , يعني: علمه سبحانه وتعالى بذلك , ومعلوم أن باب الإخبار أوسع من باب الوصف , فإن لفظ أو صفة الدراية لا يوصف الله جل وعلا بها , لكن يطلق على الله جل وعلا من جهة الإخبار أنه سبحانه وتعالى يدري بهذا الشيء؛ لأنها من فروع العلم , فهناك صفات لها جنس , فالعلم جنس تحته صفات , فجنس ما هو ثابت يجوز إطلاقه على الله جل وعلا من جهة الخبر.

القارئ: وعن أبي هريرة رَضِي اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} إلى قوله: {إن الله كان سميعا بصير} ويضع إبهاميه على أذنيه والتي تليها على عينيه. رواه أبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم.

الشيخ: هذا الحديث مشهور من جهة دلالته على إثبات الصفة بالإشارة , وإثبات الصفة بالإشارة كان يفعله بعض السلف.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين , أسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا ممن اختارهم لطاعته، وثبتهم على ذلك , إنه جواد كريم , اللهم إنا نعوذ بك أن نَضِل أو نُضَل، أو نزِل أو نُزَل، أو نَجهل أو يُجهل علينا، أو نَظلم أو نُظلم، اللهم فأجب يا كريم.

ثم إننا سبق الكلام فيما مضى على مسائل جليلة من مسائل الإيمان بقضاء الله جل وعلا وبقدره؛ لأن الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى ركن من أركان الإيمان، وقد جاء في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة عن النبي r، ما يبين هذا الأصل العظيم، وهذا الركن الجليل , فيما يجب الإيمان به , ويكون حدا لركن الإيمان، وفيما يجب الإيمان به لمن بلغه الحجة في ذلك , وأما ما جاء عن رسول الله r في قوله: ((وإذا ذكر القدر فأمسكوا)) فمعناه أمسكوا عما لم توقفوا , وتوقفوا فيه على علم , يعني يخوض المرء بعقله أو باستحسانه أو باستنتاجه، أما إذا بحث المسائل الشرعية، والتي من أجلها القدر على نحو ما جاء في النصوص دون اعتراض، ودون خوضٍ في العقليات؛ لأنه أمر غيبي وهو الله جل وعلا في خلقه - فإن هذا من العلم الواجب أو المستحب.

ولهذا يذكر أكثر العلماء في كتبهم في السنة والعقيدة، يذكرون تفاصيل تتعلق بالإيمان بقدر الله جل وعلا، وهذه التفاصيل التي يذكرونها على قسمين:

القسم الأول: ما يتصل بما جاء في النصوص الشرعية من ذكر معنى الإيمان بالقدر والقضاء من الله جل وعلا، وفي مراتب القدر معنى الهداية , ومعنى التوفيق , ونحو ذلك مما جاءت به النصوص.

والثاني: أنهم يذكرون مسائل خالفت فيها الفرق الضالة من الخوارج والمرجئة والجبرية والقدرية، سواء أكانوا القدرية النفاة أو القدرية المعتزلة، أو الجبرية الأوائل أو الجبرية المتوسطة، ونحو ذلك من المسائل , يذكرون بعض المباحث المتعلقة بالأصول التي خالفوا فيها، وأيضًا الألفاظ الشرعية التي تناولوها على غير ما هو معلوم من معناها في نصوص الكتاب والسنة.
وذلك أن القدر مسلك شائك، فواجبٌ على من تكلم فيه أو درسه أن يستحضر جميع ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وأن يلتزم بما جاء فيها , وأن يرد المتشابه إلى المحكم من ذلك؛ لأنه أمر غيبي عظيم ومسلكه وعرٌ شديد، إلا لمن وفقه الله جل وعلا , ولا غرابة أن النبي r خرج مرة على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان عليه الصلاة والسلام؛ لأن وجهه كان أبيضًا مشرباً بحمرة وزاده.. وزادت هذه الحمرة وعلت من الفزع والغضب عليه الصلاة والسلام؛ وذلك أن هذه المسائل لا يخاض فيها إلا بعلم.
وقد مر معنا في الدروس السابقة مسائل جليلة من مسائل القدر شرحاً لما أورده العلامة أبو جعفر الطحاوي في عقيدته المختصرة التي نشرحها، وبقي بعض المسائل نعرضها هذه الليلة إن شاء الله تعالى , لكن تنتبهون إلى أن الأصل في هذا متابعة النصوص أولاً، والفقه فيما دل عليه الكتاب والسنة مما ذكره الله جل وعلا، أو ذكره رسوله عليه الصلاة والسلام في مسائل القدر، ثم معرفة ما قرره أئمة الإسلام الذين استقرؤوا النصوص من أولها إلى آخرها، وقرروا ما جاء في الكتاب والسنة , ملتزمين في ذلك بهدي الصحابة في هذه المسائل العظيمة التي يجب فيها الاقتصاد , وعدم التجاوز بما دل عليه الدليل، لا بخوضٍ في العقليات، ولا بتجاوز للنقليات , اقرأ:

القارئ: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال العلامة الطحاوي رحمه الله تعالى:
ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون , ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله , نقول: لا حيلة لأحدٍ، ولا حركة لأحدٍ , ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله , وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء , وهو غير ظالم أبدًا، تقدس عن كل سوء وحيف، وتنزه عن كل عيب وشين، ] لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [.

الشيخ: بارك الله فيك. قال رحمه الله تعالى: "ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم" [يعني العباد المكلفين؛ لأنه لما ذكر أفعال العباد، وأنها خلق الله]* وكسب من العباد، ذكر هذه المسألة وهي أنه جل وعلا لم يكلفهم إلا ما يطيقون , قال: "ولا يطيقون إلا ما كلفهم , وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله…" إلى آخره , يريد بهذا الكلام أن يرد على طائفة ممن يقولون: إن الله جل وعلا [كلف العباد بما فوق طاقتهم، وأن بعض الأوامر أو النواهي فوق طاقة العبد]** ويرد على طائفة أخرى يقولون: إن العباد لم يكونوا ليقدروا على أكثر مما أمرهم الله جل وعلا به , وهذا معنى كلامه هنا، وسيأتي ما فيه من الصواب والخلل في المسائل إن شاء الله تعالى.
والذي دلت عليه النصوص أن الرب Y رحيم بعباده , يسر لهم، وما جعل عليهم في الدين من حرج، ولم يكلفهم فوق ما يستطيعون، والآيات في هذا الباب كثيرة، كقوله جل وعلا: ] لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [ وكقوله جل وعلا: ] رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ [ , وكقوله: ] فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [، وكقوله جل وعلا: ] وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ وكقوله جل وعلا: ] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ , وكقوله عليه الصلاة والسلام: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة))، وكقوله: ((لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) , وكقوله في الحديث الحسن: ((إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى))، ونحو ذلك من الأحاديث التي فيها صفة الله جل وعلا في تحريمه الظلم على نفسه، وإقامته للعدل في ملكوته وفي أمره ونهيه.
وفي هذه الجملة مسائل:

المسألة الأولى:
قوله: "لم يكلفهم"، التكليف جاء في نصوص الكتاب والسنة، كقوله: ] لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [ ويصح أن يقال على هذا عن العبادات الشرعية: إنها تكليف؛ لأجل هذه الآية , فالأوامر والنواهي فيما يجب الإيمان به، وفيما يجب عمله ويجب تركه، ونحو ذلك هذا تكليف، ومعنى التكليف: أن الامتثال له يحتاج إلى كلفة لمضادته , أصل الطبع في استرسال النفس مع هواها , ولهذا كان المؤمنون قليلين ] وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ فالتكليف سائغٌ أن يقال عنه: التكاليف الشرعية , يعني عن الأوامر الشرعية أنها تكاليف، لا بمعنى أنها فوق الطاقة، أو أنها غير مرغوب فيها، لكن تمشيا مع قول الله جل وعلا: ] لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [، يعني أن ما تسعه النفوس، وما يمكنها أن تعمله فإن الله جل وعلا كلفها به.

المسألة الثانية:
قوله: "إلا ما يطيقون" , الطاقة هنا بمعنى الوسع والتمكن , يعني ما يمكن أن يفعله وما يسعه أن يفعله من جهة قدرته على ذلك , فيكون معنى الكلام أن الرب جل وعلا لا يطلب من الإنسان , لا يطلب من الناس، بل من الجن والإنس، من المكلفين , لا يطلب منهم شيئاً فوق وسعهم، بل إن بعض الأوامر والنواهي قد تكون في حق البعض خارجة عن الوسع , فتسقط في حقهم لقوله: ] فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [، وقوله: ] لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [ فبعض التكاليف، بعض الأوامر تكون في حق بعضٍ في الوسع والطاقة، وفي حق بعض خارجة عن الوسع والطاقة , فتسقط عن بعض، وتجب على بعضٍ.
فيكون إذًا عدم تكليف ما لا يطاق فيه التفصيل، بأنه جل وعلا لا يكلف الفرد المؤمن فوق طاقته، وهذا يعني أن إطلاق الكلمة، (لا يكلف الله جل وعلا بما لا يطاق) يعني في جهتين:

الجهة الأولى: في أصل التشريع، فهو جل وعلا الأعلم بخلقه.

والجهة الثانية: في التشريع المتوجه إلى الفرد بعينه؛ فإنه جل وعلا لا يكلف المسلم المعين بما لا يطيق، وقد يكون ما لا يطيقه فلان يطيقه الآخر.



المسألة الثالثة:
قوله: "ولا يطيقون إلا ما كلفهم" هذه العبارة أدخلها هنا؛ لأجل تتمة الكلام السابق، في أن العبد لا يطيق أكثر مما أمر به، وهو أراد بذلك أن الأصل في الإنسان التعبد، وأنه عبد الله جل وعلا , وأن الملائكة لما كانت تطيق كذا وكذا من الأعمال والعبادات، جعلهم الله جل وعلا يقومون بذلك أمراً لا اختياراً , والإنسان بحكم أنه عبد الله جل وعلا ومربوب ومكلف، فإنه يجب عليه أن يمضي عمره وجميع وقته في طاعة الله جل وعلا , فنظر إلى هذا وقال يعني نظر إلى جانب العبودية وقال: إن العباد لا يطيقون إلا ما كلفهم , ويعني به أصل التشريع وجملة الشريعة في أن الناس لا يطيقون أكثر من هذا في التعبد.
وكأنه نظر إلى قصة فرض الصلاة أيضاً، وما جاء من التردد، أو الحديث بين موسى u وبين النبي عليه الصلاة والسلام حتى خففت إلى خمس صلوات، وكأنه نظر أيضاً إلى جهة ثالثة وهي أن "لا يطيقون" هنا بمعنى أنه سبحانه لم يجعل عليهم شيئاً في فعله بالنسبة لهم تكليف فوق ما كلفوا به , يعني: أن نفس التشريع هو موافق لما كلفوا به، من جهة الأصل العام , فيتسق جهة الفرد مع جهة التشريع، ويدخل في ذلك حينئذٍ معنى توفيق.

وهذا التوجيه الذي ذكرته لك من باب حمل كلام الطحاوي رحمه الله على موافقة كلام أهل السنة والقرب من كلامهم، وإلا ففي الحقيقة فإن الكلام هذا مشكل، وقد رد عليه جمع من العلماء ومن الشراح، ولهذا نقول: إن هذا التخريج الذي ذكرناه , وهذا التوجيه من باب إحسان الظن وتوجيه كلام العلماء بما يتفق مع الأصول، لا بما يخالفها، ما وجد إلى ذلك سبيل، وإلا فإن العبارة ليست بصحيحة، وهي موافقة لبعض كلام أهل البدع من القدرية، ونحوهم في أن العبد لا يسعه ولا يقدر إلا على ما كلف به، وأكثر من ذلك لا يستطيع، وأنه لا يطيق إلا ما كلف ولو كلف بأكثر لما استطاع، وهذا بالنظر منهم إلى أن الاستطاعة تكون مع الفعل ولا يدخلون سلامة الآلات , وما يكون قبل الفعل في ذلك كما فصلنا لكم فيما سبق.

ولهذا نقول: إن الأولى، بل الصواب ألا تستعمل هذه الكلمة؛ لأنها مخالفة لما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، في أن الله جل وعلا خفف عن العباد، فانظر مثلاً إلى الصيام في السفر؛ فإنه لو كلف به العباد لأطاقوه، ولكن فيه مشقة شديدة، يسر الله جل وعلا وخفف فقال جل وعلا: ] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ وكذلك مسألة التيمم، والتخفيفات الشرعية من قصر الصلاة ونحو ذلك , قد قال جل وعلا: ] وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ [ والنبي r قصر في الخوف وقصر في الأمن، ومعلوم أن قصر الصلاة في الأمن، كونه يصلي ركعتين لو كلف فرضاً بأن يصلي أربع ركعات، كل صلاة في وقتها كما في الحضر لكان في وسعه أن يعمل، وفي طاقته أن يعمل، لكنه فيه مشقة عليه، لهذا خفف عنه وهو يطيق أكثر من قصر الصلاة، يطيق لو صلى كل صلاة في وقتها أربع ركعات، لكن فيه مشقة.

ولهذا النصوص الكثيرة التي في تخفيف العبادة، وفي الرخص , وفي التيسير كلها ترد هذه الجملة من كلامه، بل العبد في بعض الأحكام يطيق أكثر مما كلفه ((صل قائماً , فإن لم تستطع فقاعداً)) عدم الاستطاعة هنا لا تعني أنه إذا قام يسقط، وإلا يكون مستطيعاً , بل إذا كان يخشى عليه أن يزاد في مرضه أو يتعب أو قيامه يذهب بخشوعه، فإنه لأجل ما معه من المرض وعدم الاستطاعة النسبية فإنه يجلس، وهكذا.
فإذاً هذه الجملة: "ولا يطيقون إلا ما كلفهم" ظاهرها غير صحيح، وإن كان إحسان الظن بالمؤلف رحمه الله يمكن معه أن تحمل بتكلف على محملٍ صحيح.
قال بعدها: "وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله"، وفي هذه الجملة إلى آخره، يعني في تفسير الكلمة، مسائل:

المسألة الأولى:
كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) من أعظم الأذكار التي فيها الإقرار بربوبية الله جل وعلا , وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، وفيها الإقرار بتخلي العبد عن كل حول له وقوة ورؤية لما عنده من الآلات والقُدر إلى ما عند الله جل وعلا وحده، ففيها الفرار من الله جل وعلا إليه وحده I , وفيها التخلي من رؤية النفس التي أوجبت الهلكة في الدنيا والآخرة على طائفة من الخلق، فمعنى لا حول ولا قوة، لا: هنا نافية للجنس، يعني جنس الحول , وهو إمكان التحول من حال إلى حال حتى رفع الكأس إلى فيك، وحتى حركة ثوبك، وحركة عمامتك، وحتى حركة عينيك؛ فإن هذا التحول من حال إلى حال في أي شيء تفعله، فإنك تنفي جنسه وتنفي القدرة على هذا التحول إلا أن يكون بالله جل جلاله.
وهذا فيه التبرؤ من الحول والقوة، وأنه لا يمكنك أن تتخلى عن الله جل وعلا طرفة عين، حتى في طرف عينك وفي حركة لسانك وفي حركة أنفاسك؛ فإنه لا تغير من حال إلى حال , ولا قدرة لك على تحول شأن من شؤونك مهما قلّ إلا بالله جل وعلا.

ولا قوة: يعني أيضاً (لا) نافية للجنس، يعني أنك تنفي جنس القوة التي بها توجد الأشياء، والتي بها تحصل الأمور, تنفي جنسها أن تكون حاصلة لك استقلالاً , أو حاصلة لك في إحداث الأشياء، وهذا منفي إلا أن تكون بالله جل وعلا , وهذا حقيقة توحيد الربوبية لله جل وعلا؛ فإن الإيقان بأن الله جل وعلا هو المدبر للأمر ] يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ [ وأنه جل وعلا عنده مفاتح الغيب ] وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ وأنه جل وعلا الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وأنه ما تسقط من ورقة، وأنه ما من شجرة ولا هبوب ريح ولا تحرك في وليد، ولا في جنين ولا في دم في العروق، ولا في حركة حيوان صغر أم كبر، وأن ذلك كله بتدبير الله جل وعلا، وأن كلماته الكونية جل وعلا وسعت كل شيء كما قال جل وعلا في آخر سورة الكهف: ] قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [ يعني الكلمات الكونية لكثرة أوامره جل وعلا الكونية فيما يحدث في أحوال العباد.
فتنظر إلى توحيد الربوبية وتعلم أنك لا فعل لك , ولا حول في أي شيء، ولا قوة إلا بالكريم جل جلاله.
ومن أعظم ذلك الذي تتبرأ فيه من الحول والقوة الهداية وصلاح النفس وصلاح الظاهر وصلاح الباطن؛ فإنه لا يمكن لعبدٍ يرى نفسه أنه يفعل ويفعل، وأنه يقدر أن يوفق أبداً، بل لا يوفق إلا من تبرأ من الحول والقوة في شأن التكليف وفي شأن الهداية، ومن يهدي الله فهو المهتدي I.

وفيها توحيد الإلهية أيضاً في أنه إذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن المرء والمخلوق لا يمكن له أن يفعل إلا بالله وحده دونما سواه، فلماذا يتعلق فيه إذاً بغير الله من الآلهة والأنداد والأموات والأولياء، والقوى المختلفة في حال البشرية، القوى المادية أو غيرها؟ لماذا يتعلق قلبه بهذه الأشياء؟ فإنما يكون إذاً تعلق القلب بمن يملك الانتقال والنقلة من حال إلى حال، ومن يملك القوة، فإذاً تتوجه القلوب في الدعاء ويتوجه المرء في عباداته إلى الله جل وعلا وحده، ويعلم أن من توجه إليه الخلق بالعبادة، وألّهوه من دون الله جل وعلا هم كما وصفهم الله جل وعلا بقوله: [ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا]* وقال جل وعلا في وصفهم يعني في وصف الآلهة: ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً [ , وفي قوله جل وعلا ] قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [.
فالآلهة المختلفة محتاجة ذليلة إلى الرب جل جلاله، لا تملك لأنفسها شيئاً من الضر ولا النفع؛ فإذاً وجب التوجه إلى الله جل وعلا.

الثالث في هذه الكلمة العظيمة فيها توحيد الأسماء والصفات عن طريق التضمن واللزوم؛ لأن وصف الله جل وعلا هنا بأنه القوي القدير جل جلاله، يتضمن إثبات صفات الكمال التي تقتضي أنه لا انتقال من حال إلى حال إلا به، فهل ينتقل المرء من حال إلى حال إلا برحمته؟ هل يستقيم في حياته إلا بهدايته؟ هل يستقيم في أموره إلا بقدرته جل وعلا وبرحمته وبعفوه وبمغفرته وبعدله... إلى آخر الصفات؟.
فإذاً هذه الكلمة متضمنة , ويلزم أيضاً من إثباتها إثبات أنواع من الأسماء والصفات، للرب جل جلاله، فهي كلمة عظيمة جليلة، لذلك كانت من أعظم الكلمات التي هي غراس الجنة، ووسيلة إلى الرب جل جلاله.
قال المؤلف رحمه الله في تفسيرها: "نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها، إلا بتوفيق الله" فتلحظ هنا من هذا التفسير أنه خص من معنى هذه الكلمة خص الانتقال من المعصية إلى الطاعة والتوفيق للطاعات، وهذا هو الذي يناسب المقام في ذكر القدر؛ لأن المخالفين في القدر، أعني بهم القدرية , ظنوا أن المرء هو الذي يحصل الطاعة بنفسه، وأن الله جل وعلا أعطاه الأسباب إلى آخره، فهو القادر على تحصيل الطاعة والهداية، لكنه لم يفعل ذلك، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الكلمة، فضلاً عن مخالفته لأصولٍ كثيرة.
وتحت هذا التفسير مسائل:



الأولى:
أن تحول المرء عن المعصية إلى الطاعة , والقوة على الطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله جل وعلا، والتوفيق لفظ شرعي جاء بالنصوص كما في قوله جل وعلا: ] وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ ويقابله الخذلان، والتوفيق والخذلان متصلان بالقدر اتصالاً وثيقاً، ولأجل ذلك فسرت كل فرقة من الفرق الضالة التوفيق والخذلان بما عندها من الاعتقاد في القدر، فالمعتزلة والقدرية يفسرون التوفيق والخذلان بما يوافق عقيدتهم، والجبرية والأشاعرة والماتريدية ومن شابههم يفسرون التوفيق والخذلان بما يناسب عقيدتهم، وأهل السنة يفسرونه بما يوافق ما دل عليه القرآن والسنة , ويوافق العقيدة السلفية التي كان عليها هدي السلف الصالح.

المسألة الثانية:
معنى التوفيق والخذلان عند أهل السنة، التوفيق الذي ذكره هنا يقول: "لا تحول لأحد إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على طاعة الله إلا بتوفيق الله" فالتوفيق هو إعانة خاصة من الله جل وعلا للعبد , بها يضعف أثر النفس والشيطان ويقوى.. تقوى الرغبة في الطاعة، وإلا فالعبد لو وكل إلى نفسه لغلبته نفسه الأمارة بالسوء والشيطان، وهذا يحس به المرء من نفسه؛ فإنه يرى أن هناك قدراً زائداً من الإعانة على الخير زائد على اختياره، فهو يختار ويتوجه، لكن يحسن أن هناك مدداً مده الله جل وعلا به يقويه على الخير فيما يتجه إليه من الخير، وهذا ليس لنفسه وليس من قدرته وقوته، ولكن هذه الإعانة خاصة.
ولهذا إن العبد المؤمن يرى أنه لا شيء من الطاعات حصلها إلا والله جل وعلا وفقه إليها , يعني: منحه إعانة على تحصيلها وعدم الاستسلام للنفس وللشيطان، التوفيق فيه معنى الهداية والإعانة الخاصة , ويقابله الخذلان وهو: سلب العبد الإعانة التي تقويه على نفسه والشيطان، نعوذ بالله من الخذلان، يعني نعوذ بالله من أن نسلب الإعانة على أنفسنا وعلى كيد الشيطان.

وأما تفسير التوفيق والخذلان عند الأشاعرة , ويحسن التنبيه عليه؛ لأنه أكثر ما تجد في كتب التفسير وكتب شروح الأحاديث وخاصة تفسير "القرطبي" وتفسير "أبي السعود" و "الرازي" وأشباه هذه التفاسير وشروح الأحاديث كشروح "النووي" و "القاضي عياض" و "ابن العربي" ونحو ذلك من شروح الأحاديث؛ فإن أكثر ما تجد تفسير التوفيق والخذلان، وتفسيره عند الأشاعرة , لهذا ينبغي العناية بهذا الموطن لصلته بالقدر.
عندهم التوفيق: خلق القدرة على الطاعة , يعني: جعلوا التوفيق هو القدرة، والخذلان هو عدم خلق القدرة على الطاعة , يعني: إقدار الله جل وعلا العبد على الطاعة، هذا توفيق وعدم إقدار الله جل وعلا العبد على الطاعة، هذا خذلان وهذا كما هو ظاهر لك فيه خلل كبير؛ لأنه جعل التوفيق إقداراً، وجعل الخذلان سلباً للقدرة، وهذا فيه نوع قوة لاحتجاج المعتزلة على الجبرية في معنى التوفيق والخذلان.
تفسير أهل السنة وسط في أن التوفيق زائد على الإقدار، فالله جل وعلا أقدر العبد على الطاعة، بمعنى جعل له سبيلاً إلى فعلها وأعطاه الآلات وأعطاه القوى ليفعل، ولكن لن يفعل هو إلا بإعانة خاصة؛ لأن نفسه الأمارة بالسوء تحضه على عدم الفعل، عدم العبادة , وهذا يلحظه كل مسلم من نفسه؛ فإنه يريد أن يتوجه إلى الصلاة ويأتيه نوع تثاقل، يريد أن يقوم بنوع من العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصيب نفسه نوع من التثاقل، وهذا من الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء، فإذا منحه الله التوفيق وأعانه على أن يتعبد، أعانه على أن يقول ما يقول بموافقة للشرع، فهذا توفيق وإعانة خاصة يمنحها الله جل وعلا من يشاء من عباده.

المسألة الثالثة والأخيرة:
أن معرفة العبد المؤمن بحقيقة هذه الكلمة ومعنى توفيق الله جل وعلا , ومعنى الخذلان يوجب له أن ينطرح دائماً بين يدي ربه جل وعلا، متبرئ من نفسه ومن حولها وقوتها، ومن أن لا يكله الله إلى نفسه طرفة عين، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((رب لا تكلني لنفسي طرفة عين)) يعني حتى في تحريك العين وفي طرفها لا تكلني إلى نفسي، وهذا من عظم معرفته عليه الصلاة والسلام بربه , فهو أعلم الخلق بالرب جل جلاله وأخشاهم له جل وعلا , وأتقاهم عليه الصلاة والسلام إلى يوم الدين.
فلهذا إذا علمت معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعنى التوفيق ومعنى الخذلان، فإنه يجب عليك أن تستحضر ذلك في كل حال، واستحضارك ذلك ومجاهدة نفسك على طلب التوفيق من الله جل وعلا وعدم رؤية النفس وقوة النفس والرأي وما عندك من الأدوات والمال، وما عندك من الأسباب، فإن هذا من أسباب التوفيق، فلا يطلب التوفيق من الله جل وعلا بمثل الانطراح بين يدي الله جل وعلا في الحاجة إلى توفيقه Y، وإذا ظهر في العبد استغناء عن توفيق الله جل وعلا ورؤية ما عنده فإنه يخذل، ألم تر إلى يوسف u وهو الكريم ابن الكريم، وهو نبي الله جل وعلا ورسوله عليه الصلاة والسلام حين كان في السجن، وظهر له من السبب ما ظهر في تفسيره للرؤيا ونجاة السجين من السجن بسبب تفسيره للرؤيا ] وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [ , قال جل وعلا: ] فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [.

وهذا على أحد التفسيرين , أن الشيطان أنسى يوسف u ذكر الله جل وعلا في هذا الموطن والتعلق به جل وعلا وحده، لا نقصاً في مقام يوسف u، ولكنه بيان لنوع من الرسالة التي تؤدى بأقوال الأنبياء وبأفعالهم عليهم الصلاة والسلام.
فالعبد إذا التفت إلى غير الله جل وعلا طرفة عين , فإنه يوكل إلى نفسه ويخرج متضرراً، وهذا نبي الله جل وعلا محمد عليه الصلاة والسلام لما أراد الهجرة أخذ بالأسباب التي تعين على تحقيق المراد، الأسباب المشروعة التي تعين على تحقيق المراد، ولم ير عليه الصلاة والسلام تلك الأسباب ولم تقم في قلبه بأنه يتكل عليها عليه الصلاة والسلام، وإنما فعلها؛ لأنها مقتضية لحدوث مسبباتها في العادة , فأتى برجل من المشركين هاد خريف يعرف الطرق ليسير به عليه الصلاة والسلام بطريقٍ آخر في الهجرة؛ حتى لا يعلم المشركون طريقه، وأيضاً أمر أسماء وأمر راعي الغنم أن يمر بالغنم على مسيرهم حتى لا يروا الأقدام، فكل الأسباب بذلت ولكنها لم تنفع حتى قام المشركون على رأس الغار على ظهر الجبل، [والنبي r في الغار وأبو بكر t يقول لنبيه r: "يا رسول الله لو أبصر أحدهم موقع قدمه لرآنا، فقال له r: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟…" حركة عين المشرك]* من أن يرى، هم كانوا يرون ما أمامهم جهة الساحل، حركة العين إلى أن ترى الأسفل , ترى موضع القدم فيبصرون الغار ويبصرون النبي r وصاحبه، هذه لا حيلة للنبي r بها ولا حيلة لأبي بكر بها، ولا تنفع فيها الأسباب التي فعلت، لكن بقي توفيق الله جل وعلا وعونه.

وحقيقة التوكل عليه جل وعلا بهذا أعظم في كل شأن من شؤونك وخاصة الهداية والتوفيق للصالحات وطلب العلم النافع، والتوفيق للسنة والالتزام بها وملازمة هدي السلف الصالح، ومجانبة طريق المخالفين للسنة، والمخالفين لهدي السلف وهدي العلماء دائماً إلى ربك في تحصيله , فما طلب من الله جل وعلا شيء بوسيلة أعظم من وسيلة التبرؤ من الحول والقوة، أسأل الله جل وعلا أن يفيض علينا من معرفته والعلم به وما به نزدلف إلى رضاه، ونبتعد عما يسخط ويأبى , إنه سبحانه جواد كريم.


* الصواب: {وكانوا لا يستطيعون سمعا} . الكهف: (101) .
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
** ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .
* تكملة الآية: ] يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [ الأعراف (192) , وهذا هو الصواب ، أو يقصد الشيخ ]وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [ الفرقان (3) .
* ما بين المعقوفتين غير مسموع في الشريط .


  #6  
قديم 5 ربيع الأول 1430هـ/1-03-2009م, 11:51 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح العقيدة الطحاوية للشيخ: يوسف بن محمد الغفيص (مفرغ)


التفصيل في الاستطاعة
قال: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به، تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع التمكين وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286] ] . قول أبي جعفر في مسألة الاستطاعة قول محقق؛ فإن لأهل الكلام قولين مشهورين في مسألة الاستطاعة، فمنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون مع الفعل، ومنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، وهذان القولان هما المشهوران عند المعتزلة والأشاعرة؛ والقول المحفوظ عند أهل السنة هو هذا التفصيل، وبهذا التفصيل يعلم أن الطحاوي رحمه الله مجانبٌ لمذهب الأشعرية؛ فإن عامة الأشعرية لا يقررون هذا المذهب. ......

نقد تعبير الطحاوي بأن الأفعال كسب من العباد
قال: [وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد]. وهذه جملة متعقبة في كلام الطحاوي، فإنه قال: (وأفعال العباد هي خلق الله) وهذا لا إشكال فيه، ولكنه قال: (وكسبٍ من العباد)، وقوله: (وكسب) هو من باب العطف، أي: فهي بخلق وكسب، فهذا التعبير بالكسب تعبير أشعري، وإن كان لفظ الكسب من حيث هو مستعمل في الكتاب وفي السنة أيضاً مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [المدثر:38] ، وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، فأفعال العباد سميت بالشرع أو في كلام الله سبحانه كسباً، لكن تسمية أفعال العباد كسباً على الاختصاص بهذا اللفظ وحده هو الطريقة التي استعملها أبو الحسن الأشعري ، وعامة أصحابه، ولهذا فإن تعبير المصنف هنا ليس بحسن. ولو عبر المصنف بالعبارات المأثورة عن السلف لكان أولى، فلم يكن السلف يخصون هذا اللفظ بأفعال العباد، وإن كان أصله مستعملاً في كلام الله سبحانه وتعالى، ولكن الأشاعرة يطلقون أن أفعال العباد كسبٌ ويريدون بذلك أن العبد يفعل بإرادة مسلوبة التأثير، وبإرادة -كما يعبر بعضهم- يقع الفعل عندها لا بها. فالقصد أن هذا موضع يتعقب فيه أبو جعفر الطحاوي لأنه خص ذلك بالكسب، وهذا التخصيص هو من أحرف الأشعرية في الأصل. ......

نقد قول الطحاوي: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم)
قال: [ولا يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: (لا حول ولا قوة إلا بالله) نقول: لا حيلة لأحد، ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى] . - قوله: (ولا يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون): هذه جملة أشعرية صريحة، بل يقولها الغلاة من الأشاعرة، والحق أن الله سبحانه وتعالى كلف العباد ما يطيقون، وأما قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فإن الأمر ليس كذلك، بل تفضل سبحانه وتعالى ورفق بهم وكلفهم، مع أنهم يطيقون فوق ما كلفوا به، فالصلاة فرضت خمسين صلاةً، ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم ربه إلى أن جعلها الله سبحانه وتعالى خمس صلوات، وهذا إنما أطلقه والتزمه بعض أئمة الأشاعرة المتكلمين الذين غلوا في تقرير مسألة تكليف ما لا يُطاق، وهذه المسألة ما كان السلف يذكرونها. بل إن تسمية أحكام الشريعة تكليفاً ليس مأثوراً عن أحدٍ من السلف، وهذا مما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: (صريح في القرآن أن الله سمى العمل تكليفاً، أو سمى التشريع تكليفاً، لكن أن تسمى سائر مسائل الشريعة الواجب منها والمستحب والمباح تكليفاً، وكذلك أن تكون المنهيات من باب التكليف فهذا الإطلاق إنما حدث في اصطلاح المتأخرين). هذا فضلاً عن تكليف ما لا يطاق، فإن هذه ما نطق بها السلف أصلاً، والعبد إنما يكلف ما يطيق، وهذا بالإجماع لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286] .

هل يطيق العبد فوق ما كلف؟
وأما هل يطيق العبد فوق ما كلف، فإنه بيّن بالضرورة العقلية والحسية أن العبد يطيق أكثر مما كلف؛ فإن العبد يصلي هذه الخمس الصلوات مع أنه يطيق أن يصلي ست صلوات وعشر صلوات في اليوم والليلة، وهذه مسائل معروفة بينة الوضوح. وهذه النتائج من مسائل تكليف ما لا يطاق، ومسائل التعديل والتجوير التي توجد في كتب الأصوليين، فضلاً عن كتب أصول الدين عند المتكلمين، هي في الغالب نتائج في مسألة القدر. وهنا تنبيه: وهو أن هذه المسائل إذا ذكرت في كتب أصول الدين، يقول علماء الأشاعرة: هذا قول أصحابنا -يعنون الأشعرية-، والمعتزلة يقولون بأن هذا قول أصحابنا -يعنون المعتزلة- فيكون بيناً أن هذا قولٌ للمعتزلة وهذا قولٌ للأشاعرة، ولكن إذا ذكرت في كتب الأصول الكلامية، فمعلوم أن جمهور المتكلمين من الأصولين على طريقة أبي الحسن الأشعري هم من الشافعية، ومتكلمة الحنفية كثير منهم أو بعضهم على الاعتزال، فإذا ما ذكر معتزلة الحنفية هذه المسائل في مسائل أصول الفقه وقالوا: وقول أصحابنا كذا، فُهِم أن هذا مذهب الحنفية، في حين أن الغزالي أو الآمدي أو الرازي من أشعرية الشافعية إذا ذكروا هذه المسائل فقالوا: وقول أصحابنا، فيفهم أن هذا مذهب للشافعية. فهذه المسألة التي حقيقتها خلاف بين المعتزلة والأشعرية قد تنصب في كتب أصول الفقه الكلامية خلافاً بين الحنفية والشافعية، والحقيقة أنها ليست كذلك، بل هي خلاف بين المعتزلة والأشاعرة، وليست خلافاً بين سائر الحنفية مع سائر الشافعية أو المالكية.

تفسير الطحاوي للحوقلة
قال: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم، فهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله). أما المسألة فمن أصلها غلط، وأما كونها تفسيراً لهذه الكلمة فكذلك هو غلط آخر، بل قوله صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى -كما في صحيح البخاري -: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قال: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) ، أي: أنه لا يكون شيء ولا تقع قوة من العبد ولا قدرة من العبد ولا تمكين من العبد إلا بقوة الله سبحانه وتعالى وحوله وطوله وتمكينه، فهذا من الاستعانة، وهذه أحد جمل الاستعانة، وأحد جمل التوحيد المحكمة، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من كنور الجنة.
قال: (نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحدٍ على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى). أما أن هذا بمعونته وتيسيره وتوفيقه فهذا صحيح، وهذا انفكاك عن كونها تفسيراً لمسألة تكليف ما لا يطاق.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معنى, الاستطاعة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:37 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir