فضائل الخشية
لخشية الله تعالى فضائل عظيمة، وبركات كثيرة، ومن تأمل ما ورد فيها من نصوص الكتاب والسنة علم أن لها شأناً عظيماً عند الله جل وعلا.
وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بأنهم يخشونه بالغيب ، ووعدهم على هذه الخشية ما وعدهم من المغفرة والأجر الكريم والفضل العظيم في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}
وقال جلَّ وعلا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}
وقال تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله...))فذكرهم ومنهم: (( رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
قال النووي: (فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى) ، وهذا المعنى قد جاء منصوصاً عليه في أحاديث أخرى:
منها: ما رواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرئ أبداً».
قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
ومنها: ما رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله».
وروي نحو هذا الحديث مرفوعاً عن عثمان بن عفان والعباس بن عبد المطلب وأبي سعيد الخدري وأبي ريحانة والزبير بن عبد الله القيسي.
وفي التاريخ الكبير للبخاري والمعجم الأوسط للطبراني من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تريان النار: عين بكت وجلا من خشية الله و عين باتت تكلأ في سبيل الله)). وقد صححه الألباني.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى أنه قال: (( ثلاثٌ مهلكاتٌ: شح مطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاثٌ منجياتٌ: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا والغضب)).
وهذه الروايات قد أحسن الألباني رحمه الله بيان طرقها وتخريجها في السلسلة الصحيحة، وخلَص إلى تحسين الحديث بمجموع تلك الطرق.
وروى عبد الرزاق في تفسيره عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أو غيره في قوله تعالى: {هذا عطاؤنا ...}، قال: قال سليمان: « أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتَوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا؛ فلم نر شيئا أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الرضا والغضب».
وإخلاص عبادة الخشية لله تعالى باب عظيم لبركات كثيرة عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله جل وعلا.
فهي مفتاح فهم القرآن وتدبره والاعتبار بما فيه، وهي باب التذكر النافع الذي يزداد به اليقين ويرتفع به الإيمان وتزكو به النفس، ويتيسَّر به اتباع الهدى، بل بيَّن الله تعالى أن مقصوده الأعظم من إنزال كتابه هو تذكير أهل خشيته ومخاطبتهم به؛ فهم أحق الناس بهذا الكتاب وأسعد الناس به، والرسالة لهم فيه خاصة وهي للناس عامة، وحسبك بهذا فضلاً وشرفاً عظيماً تشرئب إليه أعناق المؤمنين، طمعاً أن يكونوا من هؤلاء المكرَّمين، وينالوا ما اختصهم الله به من الفضل المبين؛ فيدعوهم ذلك إلى التعرف على أسباب كرامتهم، وهديهم وسمتهم، رجاء أن يكونوا معهم، ويعدوا منهم، ويحشروا في زمرتهم.
قال الله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
وقد تقدَّم ذكر آية الزمر
وقال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}، وقال تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة}
وقال تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى}وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون بكتابه العظيم.
قال ابن كثير: (وقولُه: {سَيَذَكَّرُ مَنْ يَخْشَى}. أي: سَيَتَّعِظُ بما تُبَلِّغُه يا محمدُ, مَن قَلْبُه يَخْشَى اللَّهَ ويَعْلَمُ أَنَّه مُلاقيهِ).
فالذي تقوم في قلبه خشية العبادة لله تعالى من شدة محبته لله، وتعظيمه إياه، وانقياده لأمره، وتصديقه لوعده، ورجائه للقاء الله ورغبته في فضله وإحسانه، ورهبته من سخطه وعقابه، وخوفه من أن يتخلى عنه ربه ووليه إذا هو ارتكب ما يسخطه، مَنْ قامت في قلبه هذه المعاني الجليلة كان من أوفر الناس حظاً وانتفاعاً بالقرآن العظيم ، لأنه يقرأ القرآن ويسمعه وقلبه معظّمٌ لله تعالى معظّم لكلامه معظم لما فيه من الهدى، يفرح بما يفتح الله له من فهمه ويستبشر ، ويعرف لما فتح الله عليه من ذلك قدره وفضله، ويتطلع إلى مزيد من الهدى الذي يتعرَّف به على أسباب التقرب إلى الله تعالى والفوز برضوانه وفضله العظيم، والسلامة من سخطه وعقابه.
ومن كان هذا حاله فهو موعود بما يسره ويرضيه، من الهداية لما يقربه إلى الله تعالى ويدنيه، ويسعده في الدنيا والآخرة ولا يشقيه.
وتأمَّلْ وصفَ اللهِ تعالى حالَ أهلِ خشيته عند تلاوتهم لكتاب ربهم أو سماعهم لآيات الله تتلى عليهم، وكيف أنهم تفطنوا إلى أنهم المعنيّون أولاً بما فيه من العبر والبينات، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
ومن تأمل العبر والآيات البينات التي جمعها الله لأهل خشيته وبيَّنها لهم وأرشدهم إلى التأمل فيها والاعتبار بها كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ}عَلِمَ أن أهل الخشية خطاباً خاصاً في القرآن الكريم لأنهم هم أهل التذكر والتفكر، وهم أهل الاعتبار والتبصر، وهم أحرص الناس على الهداية وأعظمهم فرحاً بما يقربهم من الله تعالى ويدنيهم منه، وأشدهم حرصاً على التحرز مما يسخطه جل وعلا، لأنهم على يقين تام بأن فوزهم وفلاحهم ونجاتهم مداره على رضوان الله تعالى عنهم، وأنه ليس بينهم وبين الله سبب يتمسكون به إلا ما يرشدهم إليه من العمل الصالح واتباع هداه جل وعلا، فهم العلماء على الحقيقة وهم أولوا الألباب، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
فحاول أن تصحّح هذه المعاني الجليلة في قلبك؛ ثم تفكَّر في هذه الآيات العظيمة وتدبَّر ما فيها من دلائل الخطاب الخاص لأهل الخشية وما ضرب الله لهم من الأمثال البيّنة التي يتعظون بها ويعتبرون:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
فجمع الله لهم في هذه الآيات البينات مواضع جليلة للاعتبار والتفكر وضرب لهم الأمثال التي تنبههم على ما وراءها، فأرشدهم إلى التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته المتلوة ، فهذا الماء الذي ينزل من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمراتٌ مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم ؛ فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
وسرِّح نظرك في دلائل هذه الآيات العظيمة وحسن التناسب بين ذكر الآيات الكونية والآيات المتلوة، ومدح أهل الخشية الذين هم العلماء على الحقيقة، وغيرهم أهل جهالة وإن قرؤوا ما قرؤوا.
ثم تأمل ما أعده الله لأهل خشيته من الفضائل العظيمة؛ فقد وعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة من عنده تليق بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا إليها، وأخبرهم أنه غفور شكور ، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب الرجاء في مغفرته وعفوه وتجاوزه ، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح يعملونه ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
وتأمل على هذا النحو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
وهذا وعد من الله لعباده الذين يخشونه بالغيب أن يغفر لهم ذنوبهم، وهذا يدلك على أنه ليس من شرط الذين يخشون ربهم السلامة من الوقوع في المعاصي والآثام، بل قد يقعون في بعضها، وهم على ذلك يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، ويستغفرون ربهم ويُتْبِعون السيئةَ الحسنة ويتوبون إلى الله ويستغفرونه وبذلك مدحهم الله وأثنى عليهم ووعدهم بمغفرة ذنوبهم.
وقد جعل الله من اجتنب الكبائر والفواحش من أهل الإحسان كما دل على ذلك قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}
فليس من شرط أهل الخشية عصمتهم من الذنوب الخطايا، بل هم من جملة البشر ينسون ويغفلون ويخطؤون ويذنبون، ويغان على قلوبهم، لكنهم يسرعون الإنابة إلى الله تعالى، ويجتنبون كبائر الإثم، ولا يتكلفون، ولا يراؤون، ولا يتزينون بما ليس فيهم.
وأنت إذا تأملت هذا المعنى جيداً وجدت أنَّ من سلم من الكبائر فهو من أهل الإحسان، ذلك أن سيئاته سوى الكبائر تُغفر له إذا اجتنب الكبائر كما قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}
ومن كُفِّرَت عنه سيئاته قدم على الله تعالى وليس له سيئة يُعاقَب عليها، وما الناس إلا محسن أو مسيء أو خالط إحسانه بالإساءة.
والذي يقدُم على الله يوم القيامة وليس له سيئة فهو من أهل الإحسان الخالص، نسأل الله من فضله.
قالت عائشة رضي الله عنها: (إنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء خير لكم من قلة الذنوب، فمن سرَّه أن يُدْرِكَ الدائب المجتهد، فليكفَّ نفسه عن الذنوب). رواه ابن المبارك وهناد بن السري وأحمد بن حنبل وأبو داوود السجستاني في كتب الزهد لهم.