الجمع بين المحبة والخوف والرجاء:
اعلم أن هذه العبادات الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها، قال الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
فالإحسان في العبادة أن يجمع العبد بين الخوف والرجاء، ومن فعل ذلك كانت رحمة الله قريب منه، ومما يعين على ذلك استحضار الثواب والعقاب؛ وملاحظة الوعد والوعيد.
- قال سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار». رواه البخاري.
- وقال أبو وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك». رواه البخاري.
وهذا يوجب التلازم بين الخوف والرجاء.
- وقال جعفر بن سليمان الضبعي: حدثنا ثابت، عن أنس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شابّ وهو في الموت؛ فقال له: كيف تجدك؟
قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وآمنه مما يخاف». رواه الترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه.
- وفي وصية أبي بكر إلى عمر لما استخلفه: (وإن الله ذكر أهل الجنة بصالح ما عملوا، وأنه تجاوز عن سيئاتهم؛ فيقول القائل: ألا أبلغ هؤلاء!
وذكر أهل النار بأسوإ ما عملوا، وأنه ردّ عليهم صالح ما عملوا؛ فيقول قائل: أنا خير من هؤلاء
, وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغباً وراهباً، لا يتمنى على الله غير الحق، ولا يُلقي بيده إلى التهلكة؛ فإن أنت حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي لم يكن غائبٌ أبغضَ إليك من الموت، ولن تعجزه). رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن خالد عن زبيد بن الحارث اليامي، وهو مرسل جيد رجاله ثقات.
- وقال قتادة: حدثنا مطرف، قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: (يا عباد الله أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله عز وجل خصلتان: الخوف، والطمع). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وزيد بن صوحان العبدي تابعي عابدٌ مخضرم، من أهل البصرة، وهو أخو صعصعة بن صوحان.
- وقال ضمرة بن ربيعة الرملي، عن عبد الله بن شوذب، عن الحسن البصري قال:«الرجاء والخوف مطيتا المؤمن» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه، وأبو نعيم في الحلية.
- وقال مكحول الشامي: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد). ذكره أبو حامد الغزالي في الإحياء.
- وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الإيمان ثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، وفي جوف الخوف ترك الذنوب، وفيه النجاة من النار وفي جوف الرجاء الطاعة، وفيه وجوب الجنة، وفي جوف المحبة احتمال المكروهات و به تجد رضا الله عز وجل). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال ابن رجب: (وقد عُلِم أن العبادة إنما تبنى على ثلاثة أصول: الخوف، والرجاء، والمحبة، وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب؛ فلهذا كان السلف يذمّون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرين، فإنّ بدع الخوارج ومن أشبههم إنما حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء، وبدع المرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول ممن ينسب إلى التعبد نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء).
ولذلك كان العلماء يحذرون ممن يُعرف عنه الإكثار من دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، فالذي يدعي المحبة وهو بعيد عن الخشية واتباع السنة والموالاة في الله والمعاداة في الله والغيرة على حرمات الله فدعواه كاذبة.
وفي الحديث القدسي (المتحابون بجلالي) فقَرَن المحبة بالجلال للتنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحابّ وبذلك يكونون حافظين لحدود الله.
- قال ابن رجب:(وقد كثر في المتأخرين المنتسبين إلى السلوك تجريد الكلام في المحبة وتوسيع القول فيها بما لا يساوي على الحقيقة مثقال حبة، إذ هو عار عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وخال من ذكر كلام من سلف من سلف الأمة وأعيان الأئمة، وإنما هو مجرد دعاوى، قد تشرف بأصحابها على مهاوي)ا.هـ.
- وقال ابن القيم رحمه الله:(القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر)ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اعلم أن محركات القلوب إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والخوف المقصودُ منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق؛ فالمحبة تُلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده؛ فهذا أصلٌ عظيم يجب على كل عبدٍ أن يتنبه له؛ فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكلّ أحدٍ يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره)ا.هـ.
وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة، والخوف، والرجاء فمن أحب الله أطاعه، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه؛ فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله عز وجل.
ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه، ورجاء لثوابه وفضله.
والمحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة، وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة.
والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبادات بينها تلازم؛ فالمحب خائف راجٍ، والخائف محب راجٍ، والراجي محب خائف، وقد سبق شرح ذلك.
قال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني (ت:211هـ):
لَيسَ يَرجو اللَهَ إِلّا خائِفٌ .....مَن رَجا خافَ وَمَن خافَ رَجا
وزعم بعض الصوفية أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه، حتى كان بعضهم يدعو: (اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!) وهذا ضلال مبين وخسران عظيم إن لم يرحمه الله لجهله وضعف عقله؛ فإنَّ الله أمرنا أن نسأله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله.
والله قد حذّر من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله.
والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة؛ فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾
ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: ﴿وخافون إن كنتم مؤمنين﴾
وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: ﴿وترجون من الله ما لا يرجون﴾
ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى:﴿واسألوا الله من فضله﴾.
فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.
ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم الشرعي بينها، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال: إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم.
فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات.
فإن شدة المحبة تحمل على صدق العمل، وتذهل العبد عن المشقة وتخلصه من علل النفس فيخف عليه العمل، ولا يلتفت لعذل عاذل ولا لوم لائم؛ فتقوم النفس بأعمال لا يقوم بها من لم يجد هذه المحبة.
ومن جيد قول سويد بن أبي كاهل:
وكذاك الحب ما أشجعه ..... يركب الهول ويعصي من وزع
أي أن الحب الصادق يحمل على الشجاعة فيركب العبد الأهوال، ويجعله لا يلتفت إلى من يعذله ويزعه ليثنيه عن مقتضى الحب، بل ذلك يغريه ويزيده.
والمقصود أن صدق المحبة يحرك قلب العبد المحب إلى العمل.
والخوف من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله.
ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه، والنظر إلى وجهه الكريم.
نسأل الله تعالى من فضله ورحمته وبركاته.