باب قول الله عز وجل: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}
قول الله عز وجل: {قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وقوله: {يخادعون الله وهو خادعهم}.
وقوله: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وما ورد في معاني هذه الآيات
1015- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني الحسن بن حليم المروزي، أخبرنا أبو الموجه، أخبرنا عبدان، أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر، قال: خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلي على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: يا أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا ـ يشير إلى القبر ـ بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم لفي بعض
[الأسماء والصفات: 2/435]
تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئا، وهو المثل الذي ضرب الله في كتابه: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، يقول المنافق للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} وهي خدعة الله التي خدع بها المنافق، قال الله تبارك وتعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فينصرفون إليهم وقد} {ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم}، نصلي صلاتكم ونغزوا مغازيكم؟} {قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} تلا إلى قوله: {وبئس المصير}
1016- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي، حدّثنا إبراهيم بن الحسين، حدّثنا آدم، حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يوم يقول المنافقون}
[الأسماء والصفات: 2/436]
قال: إن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا يناكحونهم ويعاشرونهم، ويكونون معهم أمواتا، ويعطون النور جميعا يوم القيامة، فيطفأ نور المنافقين، إذا بلغوا السور يماز بينهم حينئذ، والسور كالحجاب في الأعراف، فيقولون: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا}
1017- أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم رحمه الله، أخبرنا عبد الخالق بن الحسن، حدّثنا عبد الله بن ثابت، قال: أخبرني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل، في قوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا} قال: وهم على الصراط: {انظرونا} يقول: ارقبونا} {نقتبس من نوركم} يعني نصب من نوركم فنمضي معكم} {قيل} يعني قالت الملائكة لهم} {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} من حيث جئتم. هذا من الاستهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا: آمنا، وليسوا بمؤمنين، فذلك قوله} {الله يستهزئ بهم} حين يقال لهم} {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم} يعني بين أصحاب الأعراف وبين المنافقين} {بسور له باب} يعني بالسور حائطا بين أهل الجنة والنار له باب} {باطنه} يعني باطن السور} {فيه الرحمة} وهي مما يلي الجنة} {وظاهره من قبله العذاب} يعني جهنم، وهو الحجاب الذي ضرب بين أهل الجنة وأهل النار
1018- أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن
[الأسماء والصفات: 2/437]
محمد بن محبور، أخبرنا الحسين بن محمد بن هارون، أخبرنا أحمد بن محمد بن نصر، حدّثنا يوسف بن بلال، حدّثنا محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} وهم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم، وذكر استهزاءهم} {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} على دينكم} {إنما نحن مستهزئون} بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {الله يستهزئ بهم} في الآخرة يفتح لهم باب في جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسحبون في النار، والمؤمنون على الأرائك وهي السرر في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل: {الله يستهزئ بهم} في الآخرة ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب فذلك قوله: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون} على السرر في الحجال ينظرون إلى أهل النار} {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون}. وروينا في معنى هذا مختصرا عن خالد بن معدان، وبلغني عن الحسين بن الفضل البجلي أنه قال: أظهر الله للمنافقين في الدنيا من أحكامه التي له عندهم خلافها في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما أضمروا من الكفر، فسمى ذلك استهزءا بهم. وعن قطرب قال} {الله يستهزئ بهم} أي: يجازيهم جزاء
[الأسماء والصفات: 2/438]
الاستهزاء، وكذلك} {سخر الله منهم} {ومكروا ومكر الله} {وجزاء سيئة سيئة} هي من المبتدي سيئة ومن الله جزاء، وهو من الجزاء على الفعل بمثل لفظه، ومثله قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ؛ فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء، والجزاء لا يكون ظلما ؛ وكذلك قوله: {نسوا الله فنسيهم} قال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقال أبو الحسن بن مهدي فيما كتب إلي أبو نصر بن قتادة من كتابه: فيحتمل قوله: فنجهل فوق جهل الجاهلينا معنى فنعاقبه بأغلظ عقوبة، فسمى ذلك جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قاله ليزدوج اللفظان فيكون ذلك أخف على اللسان من المخالفة بينهما
1019-.
قال الشّيخ: مثله من الحديث ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الصّفّار، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى البرتيّ، حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا سفيان، عن سلمة بن كهيلٍ، قال: سمعت جندبًا، يقول: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم أسمع
[الأسماء والصفات: 2/439]
أحدًا يقول: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم غيره، فدنوت منه فسمعته، يقول: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: من يسمّع يسمّع اللّه به، ومن يرائي يرائي اللّه به.
رواه البخاريّ في "الصّحيح"، عن أبي نعيمٍ.
قال أبو سليمان يقول: من عمل عملا على غير إخلاصٍ، وإنّما يريد أن ويسمعونه، جوزي على ذلك يراه النّاس بأن ويفضحه، فشهدوا عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك يشهده اللّه.
قال أبو الحسن بن مهديٍّ والخداع من الله سبحانه أن يظهر لهم ويعجّل من الأموال والنّعم ما يدّخرونه، ويؤخّر عنهم عذابه وعقابه، إذ كانوا يظهرون الإيمان به وبرسوله، ويضمرون خلاف ما يظهرون، فاللّه سبحانه يظهر لهم من الإحسان في الدّنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة، فيجتمع الفعلان تساويهما من هذا الوجه
1020-.
قال أبو الحسن: والخدع معناه في كلام العرب الفساد، أخبرنا الأنباريّ عن أبي العبّاس النّحويّ، عن ابن الأعرابيّ أنّه قال: الخادع عند العرب: الفاسد من الطّعام وغيره، وأنشد: أبيض اللّون لذيذٌ طعمه طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع
[الأسماء والصفات: 2/440]
معناه: فسد، فتأويل قوله: يخادعون اللّه وهو خادعهم، أي: يفسدون ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر، وهو خادعهم، أي: يفسد عليهم نعمهم في الدّنيا بما يصيّرهم إليه من عذاب الآخرة.
قال أبو الحسن: والمكر من الله سبحانه استدراجهم من حيث لا يعلمون، وقد يوصف اللّه سبحانه بالمكر على هذا المعنى، ولا يوصف بالاحتيال، لأنّ المحتال هو الّذي يقلّب الفكرة حتّى يهتدي بتقليب الفكرة إلى وجه ما أراد، والماكر الّذي يستدرج فيأخذ من وجه غفلة المستدرج قال اللّه عزّ وجلّ: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
1021- أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيدٍ الصّفّار، حدّثنا أبو إسماعيل التّرمذيّ، حدّثنا عبد الله بن صالحٍ، حدّثني حرملة بن عمران التّجيبيّ، عن عقبة بن مسلمٍ، عن عقبة بن عامرٍ، عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا رأيت اللّه عزّ وجلّ يعطي العبد ما يحبّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنّما ذلك منه استدراجٌ ثمّ نزع بهذه الآية:
[الأسماء والصفات: 2/441]
فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الّذين ظلموا والحمد للّه ربّ العالمين.
1022- أخبرنا أبو محمّدٍ الحسن بن عليّ بن المؤمّل، حدّثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصريّ، حدّثنا الفضل بن محمّدٍ البيهقيّ، حدّثنا أبو صالحٍ، فذكره بإسناده نحوه، غير أنّه قال: وهو مقيمٌ على معصيته، فإنّما ذلك له استدراجٌ بمعنى مكرٌ ثمّ نزع بهذه الآية فذكرها
[الأسماء والصفات: 2/442]
1023- أخبرنا أبو القاسم الحربي ببغداد، أخبرنا أحمد بن سلمان، حدّثنا عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني علي بن الحسن، عن شيخ، له أن ثابتا البناني، سئل عن الاستدراج، فقال: مكر الله عز وجل بالعباد المضيعين
قال: وقال يونس: إن العبد إذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وأبقى عليها، ثم شكر الله عز وجل على ما أعطاه، أعطاه الله أشرف منها، وإذا ضيع الشكر استدرجه الله وكان تضييعه للشكر استدراجا
1024- أخبرنا أبو القاسم، حدّثنا أحمد بن سلمان، حدّثنا عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن يحيى بن أبي حاتم، أخبرنا عبد الله بن داود، عن سفيان، في قوله عز وجل: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر. قال: وقال غير سفيان: كلما أحدثوا ذنبا أحدثت لهم نعمة. قال ابن داود: تنسى
1025- أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا محمد بن
[الأسماء والصفات: 2/443]
الجهم، قال: قال الفراء: {ومكروا ومكر الله} نزلت في شأن عيسى عليه السلام، إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوة، وقد أيده الله عز وجل بجبريل عليه السلام، فرفعه إلى السماء من الكوة، فدخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شبه عيسى ابن مريم، فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول: ما في البيت أحد، فقتلوه وهم يرون أنه عيسى، فذلك قوله: {ومكروا ومكر الله} المكر من الله الاستدراج لا على معنى مكر المخلوقين
1026- أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، أخبرنا أبو الحسن الطرائفي، حدّثنا عثمان بن سعيد، حدّثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله عز وجل: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} يقول: نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا. قال الشيخ: يريد والله أعلم: كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا
[الأسماء والصفات: 2/444]