وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي ذَاتِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً لاَ تُمَاثِلُ الذَّوَاتِ، فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتٍ حَقِيقَةً لاَ تُمَاثِلُ صِفَاتِ سَائِرِ الذَّوَاتِ.
فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟
قِيلَ لَهُ - كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا -: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لاَ يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ، وَلاَ يُمْكِنُهُمِ الْإِجَابَةُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟
فَإِذَا قَالَ: أَنَا لاَ أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ.
قِيلَ لَهُ: وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ، إِذِ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ، وَتَابِعٌ لَهُ. فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِه وَتَكْلِيمِهِ وَنُزُولِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ
وَإِذَا كُنْتَ تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ ذَاتًا حَقِيقَةً، ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، لاَ يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ، فَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ، وَكَلاَمُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لاَ يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُمْ، وَكَلاَمُهُمْ وَنُزُولُهُمْ وَاسْتِوَاؤُهُمْ.
وَهَذَا الْكَلاَمُ لاَزِمٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ، فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا، وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ، إِذَا أَلْزَمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يُلْزِمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا.
وَلِهَذَا لاَ يُوجَدُ لِنُفاةِ بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ إِمَّا التَّفْوِيضَ، وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَأوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا؟ وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ. فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ.
وَكَذَلِكَ تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنَ المَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنِ المَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِه وَسَخَطِه هُوَ إِرَادَتُه لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ. وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولاَتِهِ - وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَعْقُولَ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَسْخطُهُ وَيَبْغضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، فَهُمْ إِنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا، وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.