اكتب رسالة تفسيرية في:
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} بالأسلوب الوعظي.
بسم الله خالق الكون والإنسان, المتفضل على عباده بالخير والإحسان, الذي وهبهم من النعم ما لا يعد ولا يحصى, وكانت نعمة العقل من أعظم ما وهب وأعطى, وبعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خالته قال: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. الحديث
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عبيد بن عمير أنه سأل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قال: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: «يَا عَاِئشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي»، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّكَ. قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزلْ يَبْكِيِ حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزلْ يَبْكِيِ حَتَّى بَلَّ لِحيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزلْ يَبْكِيِ حَتَّى بَلَّ الأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤذِنَهُ بالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ تَبْكِي، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... ﴾ الآية كلها».
قال الألباني في السلسلة الصحيحة -: «وفي الحديث فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثرة خشيته وخوفه من ربِّه، وإكثاره من عبادته مع أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو المنتهى في الكمال البشري، ولا جرم في ذلك فهو سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - ».
وبعد ذكر ما ورد من أحاديث في فضل هذه الآيات وأهمية القراءة بها, نفيء إلى شرح سريع لها, لندلف بعدها إلى رؤوس موضوعاتها, والفوائد المكتنزة تحت ظلها:
قوله تعالى: ﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ قال العيني في عمدة القاري: أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة: كواكب سيارات وثوابت، وبحار، وجبال، وقفار، وأشجار، ونبات، وزروع، وثمار، وحيوان، ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص.
﴿ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلًا، كل هذا تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال تعالى: ﴿ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ أي: العقول التامة الزكية، التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾.
قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ روى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». أي: لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم، بسرائرهم، وضمائرهم، وألسنتهم.
قوله تعالى: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ قال أبو سليمان الداراني: «إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، ولي فيه عبرة»، وقال الحسن البصري: «تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة».
قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ﴾ أي: ما خلقت هذا الخلق عبثًا، بل بالحق ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي: عن أن تخلق شيئًا باطلًا ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدنا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذاب الأليم.
*مفاتيح وعناوين تحت ظلال الآيات:
*التفكر والتأمل في ميزان الشريعة:
-التفكر لغة:
التفكر مأخوذ من مادة (ف ك ر) التي تدل على تردد القلب في الشيء.
ومن الناحية الاصطلاحية نجد التفكر يشير إلى جولان الفكرة وهي القوة المطرقة للعلم بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون الحيوان كما يقول الراغب ، ولا يقال هذا إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" كما ذكر القسطلاني.
وقد عرفه الجرجاني بأنه تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب، ونقل عن بعضهم: أن الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى الحقيقة، أما الفرك فيكون في الأمور الحسية لا المعنوية.
ومن هذا يعلم أن مادة الفكر تدل على عدة أمور محورية:
-تردد القلب وتقليبه للأمر حتى يصل لحقيقة.
-أن يحصل له صورة في القلب, فالتفكر إذن متعلق بالقلب والمعاني لا الأمور الحسية.
وبالتالي فإن هذا يطرح الإجابة على سؤال عصري, طرحته الحداثة وبلورته حتى أظهرته بصفة شرعية, وقد وجدت سوء فهمه أكسب الناس فهما مغلوطا للمعنى الإلهي في الآية الكريمة التي تدعو للتفكر هي وغيرها من الآيات, والسؤال هو:
* هل كل تفكر هو بالضرورة شرعي؟ ونعني بالشرعي هنا أنه المقصود بالخطاب الإلهي والنبوي, وأنه يترتب عليه الأجر والثواب.
-الإجابة: طبعا لا, فما يشاع في عصرنا وبعد انتشار العلوم العقلية والتجريبية من نشر لفكرة التفكر والتأمل, والتي هي في أصلها فكرة حسنة, لا تعني بالضرورة الإيصال إلى المراد الإلهي, فالتفكر الذي يقصد به الوصول لمخترع حديث, أو فكرة فلسفية معينة, هو في أصله مباح ما لم يؤد لمحرم, وقد يكتسب صبغة شرعية إن أدى لخير ونوى صاحبه إفادة البشرية والإحسان للناس, وقد يكون في أصله محرما, كالتأمل المأخوذ عن عقيدة مخالفة (كاليوغا مثلا), ولكن المقصود في الآية وغيرها من الآيات, هو التفكر الموصل لله, الذي به يزداد إيمانك, وتزيد معرفتك بالخالق, وخوفك ورجاؤك ومحبتك له, وهذه هي أجنحة الإيمان وأركانه.
*أنواع التفكر المطروح في الخطاب القرآني:
-التفكر في أحوال الأمم السابقة: وهذا مما دعا إليه القرآن في أكثر من موضع, وكان الهدف منه أخذ العبرة من أحوال الأمم السابقة, والاتعاظ بمآلاتها, وعدم تكرار أخطائها, وأخذ ما زاد من علوها وشرفها.
ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قوله: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون".
-التفكر في نعم الله: وذلك لمعرفة جليل ما أنعم به علينا, فنشكره ولا نكفره, ولنحافظ على النعم بمستوجبات حفظها.
ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قوله: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون".
-التفكر في أحكام الله وشرائعه: والتفكر في الأحكام الشرعية, والنظم التي جاء بها القرآن, تبين لك أولا دقة مشرعها, ثم إنها توصلك إلى مقاصد الشريعة, فعلم المقاصد كله مبني على هذا التفكر! فتأمل يا رعاك الله..
ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قوله: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
-التفكر في خلق الله: كالتفكر في خلق السماوات والأرض -كما في آياتنا هنا-, و الإنسان, والطير, والنبات, وغيرها من مخلوقات البارئ سبحانه, والتي تزيد من إيمان العبد بربه, ومعرفته بقدرته وعظمته, بل ومن عرف بإطالة تأمله في مخلوقات الله تجده دائما ما يمتاز بحسن الإدراك, إذ تأمل مخلوقات الله يتيح لك التعرف على الله عن طريق آثاره, فمشاهدة التصميم العظيم للسماوات ينبيك عن عظمة خالقها, ومشاهدة دقة التصميم في الحشرات ينبيك عن دقيق صنع بارئها, ومعرفتك للأسلوب الذي تتبعه الحيوانات في مسكنها ومأكلها ومشربها ينبيك عن حسن تدبيره, ومن ثم الاستفادة من ذلك في حياتك, فكم من حكمة أخذها حكيم من أسلوب ذلك الحيوان وذاك, وكم من فكرة خطرت على عاقل من تأمله لمشهد حيوي أو نباتي, وهذا مشاهد محسوس, بل ووجدت المؤلفات في ذلك بكثرة, وصورت الوثائقيات عنه بما يزيد من تعجب الإنسان وتقديره لعظيم صنع ربه.
ومن الأمثلة القرآنية على الدعوة للتفكر في الخلق غير ما ذكرنا من الآية الكريمة قوله: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون".
*وهنا قد يطرح سؤال: ما الذي يوصلنا إليه التأمل في مخلوقات الله؟
والإجابة ستكون قرآنية استدلالية, عن طريق ذكر آيات أجابت عن ذلك, فمثلا:
-"إن في خلق السماوات والأرض" فسعتها تبين لك عظمة خالقها, واحتواؤها على أنواع مختلفة ومتباينة من المخلوقات, يوصلك إلى اسم الله الواسع, والقادر, ونحو ذلك من الصفات.
-"واختلاف الليل والنهار" يوصلك إلى معرفة تبدل الأحوال, فإذا كان الليل والنهار متبدلان, فإن الحياة كذلك لا تقف على حال, فهي متقلبة متبدلة ما بين ظلمة ونور, ضيق وفرج, فرح وحزن, وهذا يجعلك تصل لمرحلة من الفهم والرضا بالقضاء والقدر.
-"أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم" وهذه الآية تدلك على أن قدرة الله على الخلق, من باب أولى تدل على قدرته على إعادته من جديد, وهذا التأمل يوصلنا إلى مفهوم عظيم في أبواب الإيمان, وهو باب الإيمان باليوم الآخر.
-"أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون" المصمم الجيد حينما يشاهد تصاميم عديدة لمصمم واحد, فإنه يعلم أنها جميعا تعود لواحد لا لمتعددين, وهذا ينطبق على مخلوقات الله -ولله المثل الأعلى-, فالمشاهد المتأمل في خلق الله يعلم بالضرورة أن خالقها واحد سبحانه لا شريك له.
-"هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه" التفكر في خلق الله بالإضافة إلى أنه يوصلك إلى أن خلف هذا الخلق خالقا واحدا, هو كذلك يبين لك البون الشاسع بين صنع الله وخلقه, فناهيك عن السخف في المقارنة بينهما إذ كل ما صنع الإنسان هو بالضرورة عائد لله إذ الإنسان من خلق الله, فإن هذا لا ينفي كذلك أنه ومهما حاول الإنسان أن يشابه خلق الله, فإنه ينقلب خاسئا وهو حسير, والواقع يشهد بالفروقات الشاسعة بين من يملك نعمة إلهية خالصة كاليد البشرية مثلا, ومن يملك يدا صناعية من صنع الإنسان, وكل هذا لا يزيد المؤمن إلا إيمانا بربه, وتحقيرا لعمله ونفسه أمام ربه, وهذا عكس ما يقع اليوم من طغيان للبشر بتقدمهم العلمي, وهذا يؤكد ما ذكرنا سابقا من الفرق بين التفكر المراد بالآيات وغيره, إذ النتيجة التي توصلك إلى الله هي الصحيحة, وما أوصلك للضلال والزيغ, فإنه لا يدل إلا على سخف عقلك, وسوء استخدامك لما وهبك الله من ملكات.
-" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير" وهذه الآية توصلك إلى أن الذي قدر على جعل الأرض مخضرة, قادر على أن يهدي قلبك, وينير بصيرتك, فاتجه إليه, وفر منه إليه.
-"أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين" وهذه الآية بالإضافة إلى أن فيها إثباتا على أن هذا القرآن من الله, إذ لا يعلم دقائق خلق الإنسان إلاه, فإنها كذلك تستدل لك ببدء خلقك على ضعفك أيها الإنسان لولا رعاية الله لك, فكيف بعد معرفتك لذلك تجابه الله في حكمه! وتجحده حق ربوبيته وألوهيته! بل وتخاصم في ذلك, كما نرى مما يحدث في الساحات العلمية اليوم, والذي يبين كيف أن التفكر والتعلم قد يوصل إلى الكبر, كما قد يوصل إلى الله ومعرفته, والمحك في ذلك, صحة النية بعد توفيق الله.
-"أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير" معرفتك بأن الله هو الممسك لها, يوصلك إلى معرفة أنه هو المدبر للأمور والمتصرف فيها, فما يشغل بالك, ويقض مضجعك, لا تتوجه بالشكوى منه إلى غير الله, إذ كيف يشكو المرء الحال لمن لا يملك الحال, وينسى من خلقه ورعاه ودبر أموره؟!
والأمثلة على ذلك كثيرة عديدة, لكننا لا نهدف إلى الإطالة, وإنما المراد هو إيصال الفكرة, والاستدلال عليها, لتتبين الصورة, ويتضح المعنى.
*من هم المتفكرون؟
وللإجابة على هذا السؤال, فإن هذا يحيلنا للآية الكريمة, فكما ذكرنا سابقا ليس كل متفكر هو بالضرورة المقصود في الخطاب الشرعي, كما أن ليس كل عالم هو بالضرورة مثاب وينطبق عليه الثناء القرآني في قوله :"إنما يخشى الله من عباده العلماء", والتي كذلك أسيء فهمها واستخدامها وإسقاطها على كل عالم بأي علم كان, وإن لم يوصله هذا العلم لله وخشيته, والذي هو المعيار الحقيقي لمعرفة العالم الذي تنطبق عليه الآية, فهنا نقول كذلك:
*ما هو المعيار الذي به ننال شرف الدخول تحت قوله "أولي الألباب"؟
أولوا الألباب, وأصحاب العقول, والذين تنطبق عليهم هذه الآية, هم من نعرفهم بتحقق ثمارها, وهي كالتالي:
-"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم" فمن علامات المتفكر والمتدبر كثرة ترداده للذكر, وصلاته على كل الأحوال, قائما أو قاعدا أو مضطجعا –وهذا هو التفسير الذي اختاره علي, وابن عباس, والنخعي, وقتادة-, وهذا يدل على عدم تركهم للصلاة في كل الأحوال, وعدم استغنائهم عنها, وإن ضعفت قدرتهم, وصعبت عليهم, لماذا؟ لأن المتأمل في الخلق لا يسعه بعد معرفة عظمة هذا الخالق أن لا يلهج بغير ذكره, وأن يترك صلته ودعاءه وإظهار ضعفه وحاجته له, فهذه من أهم وأعظم ثمار تأمله.
-"ويتفكرون في خلق السماوات والأرض" فالتفكر في الخلق, والتأمل في عظيم صنع الخالق, إحدى أبرز علاماتهم, بل لقد عرف عن النبي اعتزاله الناس, وتفكره في هذا العالم قبل بعثته, وكذلك عرف عن إبراهيم –عليه السلام- استدلاله بالكون على خالقه "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين", واتخاذه لهذا المنهج في دعوته لقومه, فالتفكر صفة الأنبياء, ورياضة العقلاء.
-"ربنا ما خلقت هذا باطلا" استدلال العاقل بالخلق على وجود غاية منه, هي إحدى أبرز الدلائل عليهم, فكل من اشتهر بين الناس بعلمه وإن اخترع وابتكر, إن لم يوصله ذلك إلى معرفة الغاية, فإن عجوزا أمية في جبال السند تعبد ربها, وتصل إليه بما ترى من عظيم صنعه, لهي أفقه منه وأعلم وإن لم يعي الناس ذلك ويقروه, فما فائدة العقل إن أوصلك لمعرفة الدنيا لا الآخرة, وتعظيم نفسك لا خالقها؟
-"سبحانك" تسبيح المولى وتنزيهه عن النقائص هي من سمات المتفكر والعاقل, لأن من وعى عظمته وسعته وقدرته, كان لزاما عليه الإقرار بجلاله وهيبته وعظمته.
-"فقنا عذاب النار" وهذه هي مطلوب العاقل من ربه, وحقه على ربه أن يقيه شر النار إن هو أتى بحق مولاه عليه فعبده وعرفه حق المعرفة, فانظر كيف أن هذه الآية أقرت تلك القاعدة العقدية العظيمة التي نشأنا على تعلمها منذ صغرنا, ألا وهي : "أن حق الله على العباد أن يطيعوه, وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا".
*من آثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في التفكر-نقلت أغلبها عن ابن كثير-:
-عن عبد الله بن عتبة قال: سألت أم الدرداء، ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء، قالت: «التفكر والاعتبار».
-عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر.
-كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-: اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر، يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى- وإن كان كثيرا- يعدل ما يبقى، وإن كان طلبه عزيزا، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية.
-قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله-:التأمل في نعم الله- عز وجل- من أفضل العبادة.
-قال سفيان بن عيينة- رحمه الله-:إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة.
-قال أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
-قال بشر بن الحارث الحافي: «لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل».
-قال الغزالي- رحمه الله-: كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله، ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره.
-وقال رحمه الله: اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه، وكل ذرة من الذرات، فيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن؛ لأنه لو كان البحر مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره، ولكنا نشير إلى جمل منه ليكون ذلك كالمثال لما عداه.
*من فوائد التفكر:
-أنه نافع للعبد في معاشه ومعاده، حيث يعرف به العبد معالم الخير والشر..
-يُقّر العبد بوحدانية الله تعالى.
-يزيد قرب العبد من الله تعالى.
-يكشف عن بديع صنع الخالق العظيم ودقته وروعته.
-يزرع في النفس الخوف والخشية من الله عز وجل.
-يزيد من تواضع المرء لمولاه جلّ في علاه.
-يزيد من محاسبة النفس على أخطائها.
-يُكسب الروح صفاءً ونقاءً.
-يحيي القلب ويزيد من إيمانه ويقينه بقدرة الله تعالى وعظمته.
-يورث الحكمة والرأي السديد.
-يُبعد النفس عن عصيان الله تعالى ومخالفة أمره.
-يملأ النفس راحةً وسعادةً.
-يفتح الأبواب لطلب العلم والمعرفة، فيكتسب المرء علوماً جديدةً تنفعه في شتى المجالات.
-يزيد اليقين بمجيء يوم القيامة، والوقوف بيد يدي الخالق العظيم.
-يبعث على العمل الدؤوب الصالح ليكون زاداً يوم القيامة.
-خير معين على التقوى والموعظة.
-قيمة عقلية كبرى تجعل صاحبها في مأمن من تقلب الأيام وصروف الزمان.
-يؤدي بالمسلم أن يكون إيمانه عن اقتناع ويخرجه من دائرة العامة إلى الخاصة.
-دليل البصر.
-رأس رجاحة العقل.
*وصايا وتقريرات ختامية في ظلال هذه الآيات:
-اعلم أن التفكر هو الطريق لمعرفة الرب, فإذا عرفت الرب عرفت مقصوده, وتقربت إليه بعبادته, لذا فإنه كذلك في باب الدعوة لا طريق أحسن من دعوة الناس إلى التفكر كطريق للحق, ومن دعا إلى إيجاد معجزة خارقة تخالف المعتاد ليؤمن بالله, فهذا قوله مردود, إذ من سخف عقله أن ينسف كل تلك الأدلة على الله, وكل ذلك النظام الكامل في سير الكون وتدبيره, والذي من نعم الله أن كان بالصورة المعتادة, إذ بثباته دليل على الخالق وعنايته بخلقه, لا عن طريق الأمور الخارقة والغير معتادة, فهي وإن أوجدها الله لبعض الأمم, فإنها ليست دليلا دائما وثابتا لنا ولمن بعدنا, كما أنها تلهي المرء عن عظيم ما حوله من الخلق, والذي هو برهان واضح على الله, وذلك لاعتياد المرء عليه, فعلى المرء بدل المطالبة بالغرائب والعجائب, أن ينزع عنه غشاء العادة بتكرار التفكر والتأمل, فإنهما مما يزيل عن المرء غشاوته, ويتيح له معرفة عظيم ما يحيط به لولا اعتياده عليه, وقد روى الطّبرانيّ بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بما جاءكم موسى عليه السّلام؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين، وأتوا النّصارى فقالوا: كيف كان عيسى عليه السّلام؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النّبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا أن يجعل لنا الصّفا ذهبا. فدعا به فنزلت هذه الآية: {إن في خلق السّماوات والأرض} الآية. فليتفكروا فيها. قال العيني: هذا مشكل لأن هذه الآية مدنيّة وسؤالهم أن يكون الصّفا ذهبا كان بمكّة. وبغض النظر عن صحة الأثر من ضعفه, فإن المعنى صحيح, إذ الآية دليل على أن أدلة ألوهية الخالق موجودة في واقع الناس, فلا حاجة للتلكؤ والتطلب.
-يجب على طالب العلم والفكر, أن لا يغفل أبدا عبادة التفكر, فالواقع الحالي الآن وفي ظل انغماسنا في الأعمال المكتبية, وانخراطنا في المباني السكنية, والعالم الحداثي الجديد, أنسينا عبادة التفكر, وليست هذه معاناة العامة من الناس بل ونخبهم, إذ إن عبادة التفكر أضحت عبادة منسية, وربما للثورة الصناعية دور في إدخالنا في معمعتها, وإبعادنا عن الريف والخلاء اللذان يعينان على التأمل والبعد عن مشوشات التفكير, ولكن هذا لا يمنع من حرص المرء ما بين الفينة والأخرى على إعمال عقله, والتفكر فيما حوله, بل لا يبعد المرء الطلب والبحث, فإجالته النظر في دقائق نفسه, والمخلوقات من حوله, لا يترك له عذرا في ترك ذلك.
-معرفتك بأن ذكر الله من مزايا أهل العقول, يستحثك على إدامة ترديد ذكره, وترطيب لسانك به, فالذكر –ولله الحمد- عبادة سهلة ميسورة على من يسرها الله عليه, فإن قلت عباداتك ككثرة الصلاة, أو صعب عليك بعضها كالحج, فلا تغفل الذكر, ففي إغفاله إضاعة –والله- كبيرة لخير سهل ميسور وعظيم, والأدلة في مدح الذكر وتعظيم أجوره كثيرة, ومنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم مِنْ أَنْ تلقَوْا عدوَّكُمْ فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: "بلى يا رسول الله"! قال: «ذكر الله عز وجل» (سنن الترمذي).
-عليك باتباع هدي نبيك ولو مرة, وذلك في أن تقوم بهذه الآيات في ثلث الليل الأخير-كما أوردنا في مستهل حديثنا-, ففي اجتماع وقت الليل الأخير بآيات التفكر مدعاة لتهذيب النفس وتزكيتها, فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم.
-حاول قدر الإمكان تلاوة الآيات تلاوة الخاشع المتأمل, وإن لم تبك فتباك, فالحديث المذكور في مستهل حديثنا في تحذير النبي لمن قرأها ولم يتفكر فيها "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" دليل على أهمية العناية بمعنى الآيات ومقصودها, فلا يفوتنك المقصود, فتفوت الثمرة, وتدخل في الويل والتحذير.
-التفكر عبادة, والمتأمل في العبادات يعي أن كل عبادة هي في حقيقتها طلب ودعاء, وهذا متحقق حتى في عبادة التفكر, انظر كيف أتبع الله الدعوة إلى التفكر بتذكيرنا بدعائه والتبهل إليه "فقنا عذاب النار ....".
*أخيرا: ربنا لا تحرمنا لذيذ التأمل في خلقك بسوء استغلالنا لما وهبتنا من عقل ونظر, وأتبع ذلك اللهم الاهتداء إليك, والتعرف عليك, وزيادة خشيتك ورجائك, وحلاوة حبك ومناجاتك, إنك ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.