دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 محرم 1432هـ/11-12-2010م, 01:16 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي 16: كلام الإمام محمد بن خفيف

وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ: ( اعْتِقَادُ التَّوْحِيدِ بِإِثْبَاتِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ) قَالَ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ: ( فَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ، قَوْلاً وَاحِدًا، وَشَرْعًا ظَاهِرًا، وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ذَلِكَ حَتَّى قَالَ ( عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَحَدِيثَ ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ) وَقَالَ: فَكَانَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ عَلَى الاتِّفَاق مِنْ غَيْرِ اخْتِلافٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أُمِرْنَا بَالأَخْذِ عَنْهُمْ؛ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِن الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلافٌ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ سَائِرُ الاخْتِلاَفِ، فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عنْد خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ حَتَّى أَدَّوْا ذلك إِلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَاسْتَقَرَّ صِحَّةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ حَتَّى نَقَلُوا ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ; لأَنَّ الاخْتِلاَفَ كَانَ عندهم فِي الأَصْلِ كُفْرٌ، وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ.
ثُمَّ إِنِّي قَائِلٌ - وَبِاللَّهِ أَقُولُ -:أنَّه لَمَّا اختلفوا فِي أَحْكَامِ التَّوْحِيدِ وَذِكْرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَلَى خِلافِ مَنْهَجِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَخَاضَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمِ الآثَارِ، وَلَمْ يَعْقِلُوا قَوْلَهُمْ بِذِكْرِ الأَخْبَارِ، وَصَارَ مُعَوِّلُهُمْ عَلَى أَحْكَامِ هَوَاجِسِ النُّفُوسِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ سُوءِ الظنِّ به عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّعَلُّقِ مِنْهُمْ بِآيَاتٍ لَمْ يُسْعِدْهُمْ فِيهَا مَا وَافَقَ النُّفُوسَ، فَتَأَوَّلُوا عَلَى ما وافق هواهم، وَصَحَّحُوا بِذَلِكَ مَذَاهِبَهُمْ: احْتَجْتُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْ صِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمَأْخَذِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَاجِ الأَوَّلِينَ; خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي جُمْلَةِ أَقَاوِيلِهِم الَّتِي حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أُمَّتَهُ وَمَنَعَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ حَتَّى حَذَّرَهُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ خُرُوجَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَغَضَبَهُ.
وَحَدِيثَ ( لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ). وَحَدِيثَ: ( سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ) وَإن النَّاجِيَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
ثُمَّ قَالَ: فَلَزِمَ الأُمَّةَ قَاطِبَةً مَعْرِفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يَكُن الْوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ الْمَعْرُوفِينَ بِنَقْلِ الأَخْبَارِ مِمَّنْ لاَ يَقْبَلُ الْمَذَاهِبَ الْمُحْدَثَةَ، فَيَتَّصِلُ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ مِمَّنْ عُرِفُوا بِالْعَدَالَةِ وَالأَمَانَةِ، الْحَافِظِينَ عَلَى الأُمَّةِ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ إِثْبَاتِ السُّنَّةِ(1).
إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَوَّلُ مَا نَبْتَدِئُ بِهِ مَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أَجْلِهَا، ذِكْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، وَمَا بَيَّنَ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ صِفَاتِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَمَا وُصِفَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا سَنَذْكُرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ لَنَا فِي ذَلِكَ أَنْ نَرُدَّهُ إِلَى أَحْكَامِ عُقُولِنَا بِطَلَبِ الْكَيْفِيَّةِ بِذَلِكَ وَمِمَّا قَدْ أُمِرْنَا بالاسْتِسْلاَمِ لَهُ.
إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَرَّفَ إِلَيْنَا بَعْدَ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالإِقْرَارِ بالأُلُوهِيَّةِ: أَنْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَعْدَ التَّحْقِيقِ، بِمَا بَدَأَ بِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَكَّدَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ، فَقَبِلُوا مِنْهُ كَقَبُولِهِمْ لأَوَائِلِ التَّوْحِيدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
إِلَى أَنْ قَالَ بِإِثْبَاتِ نَفْسِهِ بِالتَّفْصِيلِ مِنَ الْمُجْمَلِ، فَقَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) وَقَالَ: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ).
وَلِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَاسْتِقْرَارِ ما جاءَ به نَاجَاهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: {تعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }، وقال عز وجل: { كتب ربكم على نفسه الرحمة }.
وَأَكَّدَ عَلَيْهِ السَّلامُ صِحَّةَ إِثْبَاتِ ذَلِكَ فِي سُنَّتِهِ فَقَالَ: ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي )
وَقَالَ صلَّى الله عليه وسلَّم ( كَتَبَ كِتَابًا بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ) وَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَى نَفْسِهِ ) وَقَالَ فِي مَحَاجَّةِ آدَمَ لِمُوسَى: ( أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَاصْطَنَعَكَ لِنَفْسِهِ ).
فَقَدْ صَرح بِظَاهِرِ قَوْلِهِ أنَّه أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ نَفْسًا، وَأَثْبَتَ لَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ، فَعَلَى مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي اعْتِقَادِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }(2).
ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ قَبُولُ كُلِّ مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ السَّلامُ، وَإنَّ مِمَّا قَضى اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَرَدَت السُّنَّةُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ قَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ثُمَّ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ { نُورٌ عَلَى نُورٍ } وَبِذَلِكَ دَعَاهُ صلَّى الله عليه وسلَّم: { أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى: ( حِجَابُهُ النُّورُ - أَو النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لاَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) وَقَالَ: سُبُحَاتُ وَجْهِهِ: جَلاَلُهُ وَنُورُهُ، نَقَلَهُ عَنِ الْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ نُورُ وَجْهِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمِمَّا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أنَّه حَيٌّ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، وَالْحَدِيثَ: ( يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ).
قَالَ: وَمِمَّا تَعَرَّفَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ أَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَنَّ لَهُ وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَذَكَرَ الآيَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْمُتَقَدِّمَ، فَقَالَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( لاَ يَنَامُ ) مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ )، وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالأَنْوَارِ وَأَنَّ لَهُ بَصَرًا كَمَا عَلَّمَنَا فِي كِتَابِهِ أنَّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ الأَحَادِيثَ فِي إِثْبَاتِ الْوَجْهِ، وَفِي إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تعالى تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَن قَالَ: لَهُ يَدَانِ قَدْ بَسَطَهُمَا بِالرَّحْمَةِ. وَذَكَرَ الأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ شِعْرَ أُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: ( يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رِجْلَهُ ) وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ( يَضَعَ عَلَيْهَا قَدَمَهُ ).
ثُمَّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. وَأَنَّ الْعَرْشَ لاَ يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلاَّ اللَّهُ، وَذَكَرَ قَوْلَ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ نَفْسِهِ، وَقَوْلَ السُّدِّيِّ، وَقَوْلَ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: ( مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ ) وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: ( وَاضِعٌ رِجْلَيْهِ عَلَيْهِ ).
ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ هَؤُلاءِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مُوَافِقَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُتَدَاوَلَةً فِي الأَقْوَالِ، وَمْحْفُوظَةً فِي الصُّدُورِ، لاَ يُنْكِرُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ وَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، نَقَلَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مُدَوَّنَةً فِي كُتُبِهِمْ.
إِلَى أَنْ حَدَثَ فِي آخِرِ الأُمَّةِ مَنْ قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ مِمَّنْ حَذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ، وَأَمَرَنَا أَنْ لاَ نَعُودَ مَرْضَاهُمْ، وَلا نُشَيِّعَ جَنَائِزَهُمْ، فَقَصَدَ هَؤُلاءِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَضَرَبُوهَا بِالتَّشْبِيهِ وَعَمَدُوا إِلَى الأَخْبَارِ فَعَمِلُوا فِي دَفْعِهَا عَلَى أَحْكَامِ الْمَقَايِيسِ، وَكَفَّرُوا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنْكَرُوا عَلَى الصَّحَابَةِ والتابعين وَرَدُّوا عَلَى الأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمَأْثُورَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَوَابَهُ لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ; ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الصُّورَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ صَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا مُفْرَدًا، وَاخْتِلافَ النَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَسَنَذْكُرُ أُصُولَ السُّنَّةِ وَمَا وَرَدَ مِن الاخْتِلاَفِ فِيمَا نَعْتَقِدُهُ فِيمَا خَالَفْنَا فِيهِ أَهْلَ الزَّيْغِ، وَمَا وَافَقْنَا فِيهِ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُثْبِتَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلافَ فِي الإِمَامَةِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ اتِّفَاقَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنَّصَارِ عَلَى تَقْدِيمِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الأُمَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الاخْتِلاَفُ فِي خَلْقِ الأَفْعَالِ، هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ أَمْ لاَ؟ قَالَ: وَقَوْلُنَا فِيهَا: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ وَذَكَرَ إِثْبَاتَ الْقَدَرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلافَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَمَسْأَلَةَ ( الأَسْمَاءِ وَالأَحْكَامِ ) وَقَالَ: قَوْلُنَا فيها إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَأَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ.
وَقَالَ: أَصْلُ الإِيمَانِ مَوْهِبَةٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَيَكُونُ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ والإِقْرَارُ والإِعْمَالُ، وَذَكَرَ الْخِلافَ فِي زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَقَالَ: قَوْلُنَا أَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
قَالَ: ثُمَّ كَانَ الاخْتِلاَفُ فِي الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَقَوْلنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُ [ اللَّهِ ] غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ مِنْهُ بَدَأَ قَوْلاً، وَإِلَيْهِ يَعُودُ حُكْمًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلافَ فِي الرُّؤْيَةِ وَقَالَ: قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا فِيمَا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ الْحُجَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنِّي ذَكَرْتُ أَحْكَامَ الاخْتِلاَفِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُحَدِّثِينَ فِي كُلِّ الأَزْمِنَةِ. وَقَدْ بَدَأْتُ أَنْ أَذْكُرَ أَحْكَامَ الْجُمَلِ مِنَ الْعُقُودِ، فَنَقُولُ وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجل لَهُ عَرْشٌ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَ {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ } وَلا نَقُولُ: إِنَّهُ فِي الأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ عَلَى عَرْشِهِ؛ لأنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَى عِبَادِهِ، ثم يعرج إليه.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَأَنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ لِلْبَقَاءِ لاَ لِلْفَنَاءِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عُرِجَ بِنَفْسِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ: ( هَؤُلاءِ للْجَنَّةِ وَهَؤُلاءِ للنَّارِ ).
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لِلرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم حَوْضًا، وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَذَكَرَ الصِّرَاطَ، وَالْمِيزَانَ، وَالْمَوْتَ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ قُتِلَ بِأَجَلِهِ، وَاسْتَوْفَى رِزْقَهُ(3).
إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلْثِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَبْسُطُ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: (أَلاَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ ) الْحَدِيثَ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ من شعبان، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ(4).
قَالَ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تعالى كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَاتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَأَنَّ الْخُلَّةَ غَيْرُ الْفَقْرِ، لاَ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ. (5)
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بِالرُّؤْيَةِ (6)، وَاتَّخَذَهُ خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتُصَّ بِمَفَاتِحِ خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ }.
وَنَعْتَقِدُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثلاثًا لِلْمُسَافِرِ، ويومًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ(7).
وَنَعْتَقِدُ الصَّبْرَ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ أَوْ عَدْلٍ، مَا أَقَامَ الصَّلاةَ مِنَ الْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ، وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(8).
وَالصَّلاةُ فِي الْجَمَاعَةِ حَيْثُ يُنَادَى لَهَا وَاجِبٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ أو مَانِعٌ، وَالتَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ عَمْدًا فَهُوَ كَافِرٌ(9).
والشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ.
َوَالصَّلاةُ عَلَى مَنْ مَاتَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سُنَّةٌ (10)
وَلا نُنْزِلُ أَحَدًا جَنَّةً وَلا نَارًا. حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُنْزِلُهُمْ، وَالْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ بِدْعَةٌ.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ. ونترحم على عائِشَةَ ونَتَرَضَّى عَنهَا، وَالْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَلْفُوظِ; وَكَذَلِكَ فِي الاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِدْعَةٌ. وَالْقَوْلُ فِي الإِيمَانِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِدْعَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنِّي ذَكَرْتُ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُجْمَلاً مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ إِذْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ منْ مَشَايِخِنَا الْمَعْرُوفِينَ مَنْ أَهْلِ الإِبانةِ وَالدِّيَانَةِ إِلاَّ أَنَّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ عُقُودَ أَصْحَابِنَا الْمُتَصَوِّفَةِ فِيمَا أَحْدَثَهُ طَائِفَةٌ نسبوا إِلَيْهِمْ ما قَدْ تَخَرَّصُوا مِنَ الْقَوْلِ بما نَزَّهَ اللَّهُ تعالى الْمَذْهَبَ وَأَهْلَهُ مِنْ ذَلِكَ(10).
إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَرَأْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ ( التَّبْصِيرَ ) كَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ فِي اخْتِلافٍ عِنْدَهُمْ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَنِّفَ لَهُمْ مَا يَعْتَقِدُهُ وَيَذْهَبُ إِلَيْهِ فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ اخْتِلافَ الْقَائِلِينَ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ عَنْ طَائِفَةٍ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَنَسَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَى الصُّوفِيَّةِ قَاطِبَةً، لَمْ يَخُصَّ طَائِفَةً. فبيَّن أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جَهَالَةٍ مِنْهُ بِأَقْوَالِ المُخْلِصِينَ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ - بَعْدَ أَنِ ادُّعِيَ عَلَى الطَّائِفَةِ - ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَحَلِّهِ عِنْدَ المُخْلِصِينَ، فَكَيْفَ بِابْنِ أُخْتِهِ.
وَلَيْسَ إِذَا أَحْدَثَ الزَّائِغُ فِي نِحْلَتِهِ قولاً نُسِبَ إِلَى الْجُمْلَةِ; كَذَلِكَ فِي الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَيْسَ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلاً فِي الْفِقْهِ، ولَبسَ فِيه حَدِيث يُناسب ذلك يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لفظَ ( الصُّوفِيَّةِ ) وَعُلُومَهُمْ تَخْتَلِفُ، فَيُطْلِقُونَ أَلْفَاظَهُمْ عَلَى مَوْضُوعَاتٍ لَهُمْ، وَمَرْمُوزَاتٍ وَإِشَارَاتٍ تَجْرِي فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ لَمْ يُدَاخِلْهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَنَازَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ رَجَعَ عَنْهُمْ وهو خَاسِيء حَسِيرٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ إِطْلاَقَهُمْ لَفْظَ الرُّؤْيَةِ بِالتَّقْيِيدِ. فَقَالَ: كَثِيرٌ مَا يَقُولُونَ: رَأَيْتُ اللَّهَ.
وَذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَوْلُهُ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ حِينَ عَبَدْتَهُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ اللَّهَ ثُمَّ عَبَدْتُهُ. فَقَالَ السَّائِلُ: كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ الأبصارُ بِتَحْدِيدِ الأعيَانِ. وَلَكِنْ رؤية الْقُلُوبُ بِتَحْقِيقِ الإِيقَانِ. ثُمَّ قَالَ: أنَّه تعالى، يُرَى فِي الآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَهَذَا قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا دُونَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ فِينَا(11).
وَأَنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُه أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَبْلُغُ مَعَ اللَّهِ إِلَى دَرَجَةٍ يُبِيحُ الْحَقُّ لَهُ مَا حَظَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - إِلاَّ الْمُضْطَرَّ عَلَى حَالٍ يَلْزَمُهُ إِحْيَاءٌ لِلنَّفْسِ لَوْ بَلَغَ الْعَبْدُ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ - فَذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ قَائِلٌ بِالإِباحةِ وَهُمُ الْمُنْسَلِخُونَ مِنَ الدِّيَانَةِ (12).
وَأَنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ تَرْكُ إِطْلاقِ تسمية الْعِشْقِ عَلَى اللَّهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لاشْتِقَاقِهِ، وَلِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ(13).
وَقَالَ: أَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلالَةٌ، وَفِيمَا نَصَّ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُحِبَّةِ كِفَايَةٌ.
وَأَنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَحِلُّ فِي الْمَرْئِيَّاتِ، وَأَنَّهُ المتَفردُ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ(14).
وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلاَمُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، حَيْثُ مَا تُلِيَ وَدُرِّسَ وَحُفِظَ.
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَاتَّخَذَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم خَلِيلاً وَحَبِيبًا، وَالْخُلَّةُ لَهُمَا مِنْهُ عَلَى خِلافٍ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ: أَنَّ الْخُلَّةَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ(15).
إلَى أَنْ قَالَ: وَالْخُلَّةُ وَالْمَحَبَّةُ صِفَتَانِ لِلَّهِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِمَا، وَلا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، وَصِفَاتُ
الْخَلْقِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ، وَأَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ، وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ، قَد انْتَفَى عَنْهُمَا التَّشْبِيهُ، فَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ(16).
وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْمَكَاسِبَ وَالتِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْغِشَّ وَالظُّلْمَ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تلك الْمَكَاسِبِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ إِذْ لَيْسَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ وَالْغِشُّ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفَسَادَ لاَ الْكَسْبَ وَالتِّجَارَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَائِزٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(17).
وَأَنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِأَكْلِ الْحَلاَلِ ثُمَّ يُعْدِمُهُم الْوُصُولَ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ; لأنَّ مَا طَالَبَهُمْ بِهِ مَوْجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمُعْتَقِدُ أَنَّ الأَرْضَ تَخْلُو مِنَ الْحَلالِ، وَالنَّاسُ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرَامِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ(18).
إِلا أَنَّهُ يَقِلُّ فِي مَوْضِعٍ وَيَكْثُرُ فِي مَوْضِعٍ، لاَ أَنَّهُ مَفْقُودٌ مِن الأَرْضِ.
وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا مَنْ ظَاهِرُهُ جَمِيلٌ لاَ نَتَّهِمُهُ فِي مَكْسَبِهِ وَمَالِهِ وَطَعَامِهِ، جَائِزٌ أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامُهُ، وَالْمُعَامَلَةُ فِي تِجَارَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْنَا الْكَشْفُ عَما قَاله، فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَلَى سَبِيلِ الاحْتِيَاطِ، جَازَ إِلاَّ مَنْ دَاخَلَ الظَّلَمَةَ.
وَمَنْ يَنْزِعُ عَنِ الظُّلْمِ وَأَخْذِ الأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَمَعَهُ غَيْرُ ذَلِكَ: فَالسُّؤَالُ وَالتَّوَقِّي، كَمَا سَأَلَ الصِّدِّيقُ غُلاَمَهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ تِلْكَ الأَمْوالِ فَاخْتَلَطَا، فَلاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْحَلاَلُ وَلا الْحَرَامُ، إِلا أَنَّهُ مُشْتَبَهٌ فَمَنْ سَأَلَ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ(19).
وَأَجَازَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانُ الأكلُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ التَّبِعَةُ، وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ، وَالدِّينُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ(20).
وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ أَحْكَامُ الدَّارِ جَارِيَةً عَلَيْهِ فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، فَكُلُّ مَن ادَّعَى الأَمْنَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِاللَّهِ، وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ )(21).
وَقَدْ أَفْرَدْتُ كَشْفَ عَوَارَتِ كُلِّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لاَ تَسْقُطُ عَنِ الْعَبْدِ مَا عَقَلَ وَعَلِمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ مُمِيِّزٌ عَلَى أَحْكَامِ الْقُوَّةِ والاسْتِطَاعَةِ؛ إِذْ لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ عَن الأنَّبِيَاء وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى فَضَاءِ الْحُرِّيَّةِ بِإِسْقَاطِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى أَحْكَامِ الأَحَدِيِّةِ الْمَسَدِيَّةِ بِعَلائِقِ الآخِرِيَّةِ، فَهُوَ كَافِرٌ لاَ مَحَالَةَ، إِلا مَن اعْتَرَاهُ عِلَّةٌ، أَوْ رَأْفَةٌ، فَصَارَ مَعْتُوهًا أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ مُبَرْسَمًا وَقَد اخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ، أَوْ لَحِقَهُ غَشْيَةٌ، ارْتَفَعَ عَنْهُ أَحْكَامُ الْعَقْلِ، وَذَهَبَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ وَالْمَعْرِفَةُ، فَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ مُفَارِقٌ لِلشَّرِيعَةِ(22).
وَمَنْ زَعَمَ الإِشْرَافَ عَلَى الْخَلْقِ يَعْلَمَ مَقَامَاتِهِمْ وَمِقْدَارَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَمَن ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَآلَ الْخَلْقِ وَمُنْقَلَبَهُمْ عَلَى مَاذَا يَمُوتُونَ عليه وَيُخْتَمُ لَهُمْ، بِغَيْرِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ رَسُولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ(23).
وَ ( الْفِرَاسَةُ ) حَقٌّ عَلَى أُصُول ما ذَكَرْنَاه، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا رسمناهُ فِي شَيْءٍ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ قَائمَّةٌ بِصِفَاتِهِ - وَيُشِيرُ فِي ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ آية العظمة وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ - وَأَشَارَ إِلَى صِفَاتِهِ عزَّ وجل الْقَدِيمَةِ: فَهُوَ حُلُولِيٌّ قَائِلٌ بِاللاَّهُوتِيَّةِ وَالالْتِحَامِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ لاَ مَحَالَةَ(24).
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الأَرْوَاحَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ ضَاهَى قَوْلَ النَّصَارَى - النُّسْطُورِيَّةِ - فِي الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(25).
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عزَّ وجل حَالٌّ فِي الْعَبْدِ، وَقَالَ بِالتَّبْعِيضِ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ(26).
وَالْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلا حَالٌّ فِي مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُ كَيْفَ مَا تُلِيَ وَقُرِئَ وَحُفِظَ: فَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ عزَّ وجل وَلَيْسَ الدَّرْسُ مِنَ الْمَدْرُوسِ، وَلا التِّلاَوَةُ مِنَ الْمَتْلُوِّ؛ لأنَّهُ عزَّ وجل بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ(27).
وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُلَحَّنَةَ بِدْعَةٌ وَضَلاَلَةٌ.
وَأَنَّ الْقَصَائِدَ بِدْعَةٌ، وَمَجْرَاهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: فَالْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ آلاَءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَإِظْهَارِ نَعْتِ الصَّالِحِينَ وَصِفَةِ الْمُتَّقِينَ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَتَرْكُهُ وَالاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ أَوْلَى بِهِ، وَمَا جَرَى عَلَى وَصْفِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَنَعْتِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَاسْتِمَاعُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ، وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ وَالرُّبَاعِيَّاتِ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ، وَالرَّقْصُ بِالإِيقَاعِ وَنَعْتُ الرَّقَّاصِينَ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ فِسْقٌ، وَعَلَى أَحْكَامِ التَّوَاجُدِ وَالْغِنَاءِ لَهْوٌ وَلَعِبٌ.
وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يسَمِعَ الْقَصَائِدَ وَالرُّبَاعِيَّاتِ الْمُلَحَّنَةَ الْجَارِي بَيْنَ أَهْلِ الأَطْبَاعِ عَلَى أَحْكَامِ الذِّكْرِ، إِلاَّ لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ التَّوْحِيدِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَلِيقُ بِهِ عزَّ وجل، مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، فَيَكُونُ اسْتِمَاعُهُ كَمَا قَالَ: { الذين يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيتبعون أحسنه } الآيَةَ.
وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ اسْتِمَاعَهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَفْصِيلِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لاَ مَحَالَةَ، فَكُلُّ مَنْ جَمَعَ الْقَوْلَ وَأَصْغَى بِالإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ لِمَنْ عَرَفَ مَا وَصَفْتُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ عزَّ وجل ممَا لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِين فِيهِ نَعْتٌ وَلا وَصْفٌ بَلْ تَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ، وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَالْفِتْنَةُ فيها غَيْرُ مَأْمُونَةٍ على استماع الغناء.
والرباعيات بِدْعَةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْمُطَّلِبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ(28).
وَالاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى مِن الاقْتِدَاءِ بِمَنْ لاَ يُعْرَفُونَ فِي الدِّينِ، وَلا لَهُمْ قَدَمٌ عِنْدَ الْمُخْلِصِينَ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ: إِنَّ أَصْحَابَكَ قَدْ أَحْدَثُوا شَيْئًا يُقَالُ لَهُ الْقَصَائِدُ!!
قَالَ: مِثْلُ أي؟
قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِ:
اصْبِرِي يَا نَفْسُ حَتَّى = تَسْكُنِي دَارَ الْجَلِيلِ
فَقَالَ: حَسَنٌ. وَأَيْنَ يَكُونُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ذَلِكَ؟
قَالَ: قُلْت: بِبَغْدَادَ.
فَقَالَ: كَذَبُوا وَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، لاَ يَسْكُنُ بَغْدَادَ مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمِمَّا نَقُولُ - وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا: إِنَّ الْفَقِيرَ إِذَا احْتَاجَ وَصَبَرَ وَلَمْ يَتَكَفَّفْ إِلَى وَقْتٍ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ كَانَ أَعْلَى، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصَّبْرِ كَانَ السُّؤَالُ أَوْلَى بِهِ عَلَى قَوْلِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( لأنَّ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ) الْحَدِيثَ.
وَنَقُولُ: إِنَّ تَرْكَ الْمَكَاسِبِ غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ بِشَرَائِطَ مَرْسُومَةٍ مِنَ التَّعَفُّفِ وَالاسْتِغْنَاءِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَمَنْ جَعَلَ السُّؤَالَ حِرْفَةً وَهُوَ صَحِيحٌ، فَهُوَ مَذْمُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجٌ(29).
وَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسْتَمِعَ إِلَى الْغِنَاءِ وَالْمَلاهِي فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ( الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ )، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ: فَهُوَ فِسْقٌ لاَ مَحَالَةَ(30).
وَالَّذِي نَخْتَارُ: قَوْلُ أَئِمَّتِنَا: تَرْكُ الْمِرَاءِ فِي الدِّينِ، وَالْكَلاَمِ فِي الإِيمَانِ: مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّسُولَ صلَّى الله عليه وسلَّم وَاسِطٌة يُؤَدِّي، وَأَنَّ الْمُرَسِلَ إِلَيْهِمْ أَفْضَلُ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ(31).
وَمَنْ قَالَ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَدْ كَفَرَ. أ هـ(32).


  #2  
قديم 5 محرم 1432هـ/11-12-2010م, 01:33 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تعليق سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله

(1) يعني إثباتَ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه والإيمانَ بها، وإمرارَها كما جاءَتْ بها النصوصُ، على الوجهِ اللائقِ باللَّهِ، مِن غيرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ، ولا تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ، على هذا دَرَجَ الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم، والتابعونَ لهم بإحسانٍ، ولم يَخْتَلِفُوا في هذا، وإنَّما اخْتَلَفَ أهلُ البِدَعِ كالمُعْتَزِلَةِ والجَهْمِيَّةِ وغيرِهم، أما أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلُّهم آمَنُوا بما دَلَّ عليه كتابُ اللَّهِ وسنَّةُ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِن أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، وأَثْبَتُوها للهِ وآمَنُوا بها، وأَمَرُّوها كما جاءَتْ، عن عقيدةٍ وعن إيمانٍ، وقالوا فيها كما قالَ اللَّهُ جلَّ وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
ومَدَحَ اللَّهُ مَن تَابَعَهُم على هذا الطريقِ فقالَ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنَّهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فهم وأتباعُهم بإحسانٍ، هم الذين دَرَجُوا على الطريقِ السَّوِيِّ، واسْتَقَامُوا على مَنْهَجِ نبيِّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً وعقيدةً، في أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه وتوحيدِه وإخلاصِ العبادةِ له، وتركِ ما خَالَفَ ذلك، وإنْ وَقَعَ مِنهم بعضُ الاختلافِ في مسائلِ الفروعِ، في بعضِ المسائلِ التي تَتَعَلَّقُ بالصلاةِ أو بالطلاقِ أو بالنِّكَاحِ أو بغيرِ ذلك، لكنَّهم وبحَمْدِ اللَّهِ أَجْمَعُوا إجماعاً قَطْعِيًّا على الإيمانِ بأسماءِ اللَّهِ وصفاتِه وتوحيدِه والإخلاصِ له، وتَرْكِ ما خَالَفَ ذلك، ولم يَتَنَازَعُوا في هذا، رَضِيَ اللَّهُ عنهم، ورَحِمَهُم.
(2) وهكذا بقيَّةُ الصفاتِ، وأَرَادَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّه كما بَيَّنَ لنا تَوْحِيدَه وأنَّه مُسْتَحِقٌّ للعبادةِ وبَيَّنَ بُطْلاَنَ الشِّرْكِ، هكذا بَيَّنَ أسماءَه وصفاتِه حتى نَعْرِفَه بها سبحانه، فوَجَبَ على الأمةِ تَقَبُّلُ هذه الأسماءِ والصفاتِ والإيمانُ بها، على حدِّ قولِه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، نُؤْمِنُ بها ونُمِرُّها كما جاءَتْ، على هذا الأساسِ، وأنَّه سبحانه لا يُمَاثِلُه شيءٌ؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ومِن ذلكَ النفْسُ، قد ذَكَرَها الربُّ في كتابِه سبحانه وتعالى، وذَكَرَها الرسولُ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فنُثْبِتُها كما جاءَتْ؛ {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
فهذه الآياتُ وما جاءَ في معناها، كلُّها دالَّةٌ على إثباتِ النَّفْسِ، وهكذا الأحاديثُ، فوَجَبَ على أهلِ الإيمانِ إثباتهُا وأنَّها حقٌّ، لكنَّها ليسَتْ مِن جِنْسِ أَنْفُسِ المخلوقينَ، بل للهِ سبحانه وتعالى نَفْسٌ وسمعٌ وبصرٌ ورِضًا وغَضَبٌ ورَحْمَةٌ وغيرُ ذلك، كلُّه يَلِيقُ باللَّهِ سبحانه وتعالى، لا يُشَابِهُ صفاتِ المخلوقينَ، وهكذا وَجْهُه، ويَدُه، وقَدَمُه، وأصابِعُه، وغيرُ ذلك، كلُّها طريقُها واحدٌ، فالواجبُ إثباتُها والإيمانُ بها، وأنَّها حقٌّ، على الوجهِ اللائقِ باللَّهِ سبحانه وتعالى، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تَكْيِيفٍ ولا تمثيلٍ، هذا طريقُ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعِهم بإحسانٍ، خلافَ أهلِ الكلامِ الذين تَنَطَّعُوا وقالوا ما ليسَ لهم به علمٌ، وأوَّلُوا النصوصَ، وحَقيقةُ ما قالوه التَّخْيِيلُ. نسألُ اللَّهَ العافِيَةَ.
(3) كلُّ هذا يُبَيَّنُ به أنَّ المؤلفَ - وهو مُحَمَّدُ بنُ خَفِيفٍ - على طريقةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ في إثباتِ ما أَثْبَتَه أهلُ السنَّةِ والجماعةِ في جميعِ ما ذَكَرَ، من إثباتِ الإيمانِ وأنَّه حقٌّ، وأنَّهُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، يَزِيدُ بالطاعاتِ ويَنْقُصُ بالمعاصي، وأنَّ العُصاةَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ؛ إن شاءَ عفا عنهم، وإن شاءَ أدْخَلَهُم النَّارَ على قَدْرِ معاصيهم إذا ماتوا عليها، وهكذا ما ذَكَرَه مِن إثباتِ العرشِ، وأنَّ اللَّهَ فوقَ العرشِ كما يَشَاءُ سبحانه وتعالى، وعِلْمَه في كلِّ مكانٍ، وهكذا ما ذَكَرَه بعدَ ذلك مِن العُرُوجِ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسِه، ثم إلى ما فوقَ السماءِ السابعةِ، كلُّ هذا حقٌّ، وهكذا ما ذَكَرَ مِن خَلْقِ الجنَّةِ والنَّارِ، أنَّ اللَّهَ خَلَقَهما وأنَّهما مَوْجُودَتَانِ للبقاءِ، لا للفَنَاءِ، أَعَدَّ الجنَّةَ للمُتَّقِينَ، وأَعَدَّ النَّارَ للكافرينَ، إلى غيرِ هذا مما بَيَّنَه رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنَّه على طريقِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، مِنه بَدَأَ وإليه يَعُودُ، فهو على طريقةِ أهلِ السنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(4) أمَّا ما يَتَعَلَّقُ بليلةِ النصفِ مِن شَعْبَانَ، فالحديثُ فيه ضعيفٌ، وقد خَفِيَ على المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو ابنُ خفيفٍ، أمَّا التنَزُّلُ يومَ عَرَفَةَ فقدْ جاءَ هذا في صحيحِ مسلمٍ: ((إِنَّ اللَّهَ يَدْنُو فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ))، يعني: الواقفونَ بعرفةَ , يَدْنُو، وليسَ فيه التصريحُ بسماءِ الدُّنْيَا، أنَّ اللَّهَ يَدْنُو فيُبَاهِي بهم الملائكةَ ويقولُ: ما أَرَادَ هؤلاءِ؟ ونُزُولُ آخِرِ الليلِ هذا ثابتٌ في الصِّحَاحِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ). وفي اللفظِ الآخَرِ: ((هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى سُؤْلَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُتَابَ عَلَيْهِ). كلُّ هذا حقٌّ، أمَّا ما يَتَعَلَّقُ بليلةِ النصفِ مِن شَعْبَانَ، فالحديثُ فيها ضعيفٌ، ولم يَثْبُتْ في النصفِ من شعبانَ أحاديثُ، لا في قِيَامِها ولا في صومِ نهارِها ولا في التنزُّلِ، كلُّ ما وَرَدَ فيها هو ضعيفٌ عندَ أهلِ العلمِ.
(5) الفقرُ يقالُ له: خَلَّةٌ، يعني حاجَةً، فهم تَأَوَّلُوه على الحاجَةِ، يعني: اتَّخَذَهُ فقيراً إليه، وهذا غَلَطٌ، الخُلَّةُ هي المحبَّةُ، اتَّخَذَه خليلاً يعني محبوباً مَحَبَّةً خاصَّةً، كما اتَّخَذَ مُحَمَّداً خليلاً عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فاللَّهُ يُحِبُّ ويُحَبُّ جلَّ وعلا، ولكنَّ أهلَ البِدَعِ تَأَوَّلُوها على إرادةِ الخيرِ، وإرادةِ الإحسانِ، وهذا غلطٌ؛ فإنَّ المحبَّةَ صِفَةٌ تَلِيقُ باللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ غيرُ الإرادةِ،، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. قد تَكَرَّرَتْ في القرآنِ الكريمِ، وجاءَتْ في السُّنَّةِ، والخُلَّةُ أعلاها وأَكْمَلُها.
(6) وهذا الذي قالَه أبو عبدِ اللَّهِ بنُ خَفِيفٍ في الرُّؤْيَةِ مرجوحٌ، والصوابُ أنَّه لم يَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، ولم يَخْتَصَّ بها، بل لم يَرَ أحدٌ ربَّه في الدنيا؛ لا مُحَمَّدٌ ولا غيرُه، فالرؤيةُ مما ادَّخَرَها اللَّهُ للمؤمنينَ في الآخرةِ، قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ)). ولَمَّا سُئِلَ عن الرؤيةِ: هل رأيتَ رَبَّكَ؟ قالَ: ((رَأَيْتُ نُوراً)). وفي لفظٍ آخَرَ قالَ: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)).
هذا هو الصوابُ، وأنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّما كَلَّمَه رَبُّه كما كلَّمَ موسى، أمَّا الرؤيةُ فلم يَرَهُ. في الحديثِ الصحيحِ؛ حديثِ أبي موسى: ((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)). سبحانه وتعالى.
فالرؤيةُ لها شأنٌ عظيمٌ، وهي أعْلَى نَعيمِ أهلِ الجنَّةِ، فادَّخَرَهَا اللَّهُ لهم في الآخرةِ، وليسَتْ مِن نَعِيمِ الدنيا، الدنيا دارُ الأَكْدَارِ والأحزانِ والمعاصي والكفرِ والضلالِ، فليسَتِ الرؤيةُ مِن نعيمِ أهلِها، وإنَّما هي مِن نعيمِ أهلِ الجنَّةِ، والسعادةِ في الآخرةِ.
والعَجَبُ مِن المؤلِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ المُصَنِّفِ كيفَ سَكَتَ عن هذا ولم يُنَبِّهْ عليه، كما لم يُنَبِّهْ على ما تَقَدَّمَ مِن النزولِ في شَعْبَانَ، يَنْبَغِي أنْ تُنَبِّهَ على هذا، وهذا ليسَ بِمُسَلَّمٍ لا هناكَ ولا هنا، الصوابُ أنَّه لم يَرَ رَبَّه في الدنيا، وأحاديثُ النزولِ في شعبانَ ضَعِيفَةٌ، قد نَبَّهَ على هذا ابنُ القَيِّمِ وغيرُه.
(7) ذَكَرَ المَسْحَ هنا؛ لأنَّه مخالفٌ لعقيدةِ الرافِضَةِ في إِنكارِ المَسْحِ، لهذا ذَكَرَ أهلُ السنَّةِ المسحَ على الخُفَّيْنِ هنا، وإنْ كانَتْ مسألةً فرعِيَّةً، لكن لَمَّا كانَ أهلُ الرفضِ يُخَالِفُونَ فيها، أثْبَتُوها في عقائِدِ أهلِ السنَّةِ.
(8) كذلك قولُه: (مِنْ قُرَيْشٍ)، ليسَ بجَيِّدٍ، وإنْ كانَ هو الأصلَ، لكنِ السلطانُ يُصْبَرُ عليه، ولو مِن غيرِ قريشٍ، إذَا تَوَلَّى لا يُخْرَجُ عليه بالمعصيةِ، إلا أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً، عندَكم مِن اللَّهِ فيه بُرهانٌ، سواءٌ كانَ مِن قريشٍ أو مِن المماليكِ، أو مِن أيِّ جِنْسٍ، متى تَوَلَّى على النَّاسِ وبَايَعُوه أو غَلَبَ عليهم بسيفِه، وَجَبَ السمعُ والطاعةُ له، كما جاءَ في الأحاديثِ الصحيحةِ عن رسولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، لكنِ البَيْعَةُ الاخْتِيَارِيَّةُ تكونُ لقريشٍ إذا تَيَسَّرَ مَن يَصْلُحُ لهذا وأَمْكَنَ.
(9) وهذه مِن ابنِ خَفِيفٍ تَدُلُّ على عِلْمٍ كبيرٍ، كونُه أَقْدَمَ على هذا، معَ كثرةِ المُنَازِعِينَ فيه يَدُلُّ على قوةِ تحقيقٍ، وكمالِ علمٍ؛ لقولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ))، ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلاَةِ)).
(10) يعني: ولو كانَ عندَه مَعْصِيَةٌ يُصَلَّى عليه، مَن ماتَ مِن أهلِ القِبْلَةِ - يعني: من أهلِ الإسلامِ - يُصَلَّى عليه، وإنْ كانَ عندَه شيءٌ مِن المعاصي، ليسَ مِن شرطِ الصلاةِ على الجنائِزِ أنْ يكونَ كاملاً أو سَليماً، بل يُصَلَّى على الطيِّبِ وعلى العاصي؛ لأنَّ الصلاةَ شفاعةٌ تَنْفَعُه.
(11) قَصْدُه مِن هذا بيانُ عقيدةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، التي تَلَقَّوْها عن سَلَفِ الأمةِ مِن الصحابةِ، وأنَّ هؤلاء الذين يُنْسَبُونَ إلى التَّصَوُّفِ مِن أهلِ الزُّهْدِ والوَرَعِ والاسْتِقَامَةِ، ليسوا على حالِ المتأخِّرِينَ الذين غَيَّرُوا وبَدَّلُوا، فمقصودُه أنَّ المُتَصَوِّفَةَ قِسمانِ:
قِسْمٌ ساروا على نَهْجِ السلَفِ، ونُسِبَ إلى التصوُّفِ مِنهم مَن نُسِبَ لوَرَعِه وزُهْدِه وإقبالِه على العبادةِ، ولكنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بطريقةِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، كالجُنَيْدِ، وأبي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، و الشَّلْحَابِيِّ، وأشباهِهم مِن أهلِ الصدقِ.
أما الذين أَحْدَثُوا، وغَيَّرُوا وبَدَّلُوا، وأَحْدَثُوا بِدَعاً كثيرةً، هؤلاء ليسوا مِنهم في الحقيقةِ.
(11) مرادُه رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ لهم اصطلاحاتٍ قد لا يَفْهَمُها بعضُ النَّاسِ، فيَنسُبُ إليهم ما هم بُرَاءٌ منه، وفيهم جُهَّالٌ قد لا يَتَقَيَّدُونَ بالسنَّةِ، وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، وهو صادِقٌ في هذا كلِّهِ، وكانَ يَنْبَغِي لهم ألاَّ يَأْتُوا بألفاظٍ مُبْهَمَةٍ، ويَنْبَغِي لهم ألاَّ يَأْتُوا بألفاظٍ تُسْتَنْكَرُ عليهم، بل يَنْبَغِي أنْ يَسْلُكُوا الطريقَ الواضحَ؛ حتى لا يُتَّهَمُوا بالباطِلِ، فاللومُ يُلامُونَ عليه فيما أَحْدَثُوا مِن الإشاراتِ والاصْطِلاحاتِ التي قَلَّ أنْ يَفْهَمَهَا مَن لا يَعْرِفُ حالَهم.
(12) وهذا مثلُ ما قالَ المُؤَلِّفُ، مَن زَعَمَ أنَّ له صِلَةً باللَّهِ، وأنَّه يَرْوِي بقَلْبِه عن رَبِّه ممَّا يَظُنُّه أولئكَ الجُهَّالُ مِن الصوفيَّةِ؛ حتى يُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، ويُحَرِّمُوا ما أَحَلَّ اللَّهُ على النَّاس بزَعْمِهِم أنَّهم تَلَقَّوْه عن رَبِّهم، هذا مِنَ الكفرِ والضلالِ.
فليسَ هناكَ وَحْيٌ بعدَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قدِ انْقَطَعَ الوَحْيُ وتَمَّتِ الرسالةُ وخُتِمَتْ، فالواجبُ على جميعِ النَّاسِ أنْ يَتَلَقَّوْا دِينَهم عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن كتابِ اللَّهِ، فمَن زَعَمَ مِن الصوفيَّةِ أنَّ له طريقةً أُخْرَى يَتَلَقَّى بها العلمَ عن اللَّهِ، دونَ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذه طريقةٌ فاسدةٌ وباطلةٌ، بل كُفْرٌ وضَلاَلٌ، وخروجٌ عن دائرةِ الإسلامِ. نسألُ اللَّهَ العافِيَةَ.
(13) صَدَقَ، لا يُقَالُ: عَشِقْتُ اللَّهَ، ولكن يُقَالُ: أَحْبَبْتُ اللَّهَ؛ لأنَّ العِشْقَ كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ، فتَقَعُ في أَلْسِنَةِ المُفْسِدِينَ والسُّفَهَاءِ في العِشْقِ المُحَرَّمِ والمَحَبَّةِ المُحَرَّمَةِ، فلا يُوصَفُ اللَّهُ إلاَّ بما وَصَفَ به نفسَه، كالحُبِّ؛ {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. فلا يُؤْتَى بألفاظٍ مُحْدَثَةٍ لم تَرِدْ في النصوصِ، ولكن يقولُ: أُحِبُّ اللَّهَ ورسولَه، وأَحْبَبْتُ اللَّهَ ورسولَه. لأنَّ هذا هو الذي جاءَ في النصوصِ.
(14) هذا هو الحقُّ، أنَّه سبحانه فوقَ العرشِ، فوقَ جميعِ الخلقِ، وليسَ بحالٍّ في المخلوقاتِ، بل هو فوقَ العرشِ، فوقَ جميعِ الخلقِ، بائنٌ مِن خلقِه سبحانه وتعالى. وهذا قولُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وهو قولُ أهلِ الحقِّ، وهو الذي جَاءَتْ به النصوصُ مِن الكتابِ والسنَّةِ، كما قاله أبو عبدِ اللَّهِ بنُ خَفِيفٍ، وقد حَقَّقَ الصوابَ في هذا كما تَقَدَّمَ.
(15) الخُلَّةُ عندَ أهلِ السنَّةِ هي أعلى المَحَبَّةِ، وليسَتْ هي الفَقْرَ والحاجَةَ، كما يقولُ بعضُ الصوفيَّةِ، بل الخُلَّةُ هي معنى المحبَّةِ الخالِصَةِ الكامِلَةِ، والقرآنُ هو كلامُ اللَّهِ - كما قالَ المؤلِّفُ - مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، عندَ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، والخليلانِ هما إبراهيمُ ومُحَمَّدٌ عليهما الصلاةُ والسلامُ، خَصَّهُمُ اللَّهُ بأعلى المَحَبَّةِ وأَكْمَلِها، وهو سبحانه يُحِبُّ كلَّ مؤمنٍ، ويُحِبُّ كلَّ مؤمنةٍ، ويُحِبُّ جميعَ الرسلِ والأنبياءِ، لكنِ اخْتَصَّ هذين الشخصيْنِ بالخُلَّةِ، وهما إبراهيمُ ومُحَمَّدٌ عليهما الصلاةُ والسلامُ، وهي أعلى المَحَبَّةِ.
(16) وهذا قولُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، فهي خُلَّةٌ تَلِيقُ باللَّهِ، ومَحَبَّةٌ تَلِيقُ باللَّهِ، لا تُشَابِهُ خُلَّةَ المخلوقينَ، ولا مَحَبَّةَ المخلوقينَ، وهكذا بقيَّةُ الصفاتِ، كلُّها تَلِيقُ باللَّهِ على وَجْهٍ لا يُمَاثِلُ فيه خَلْقَه، فالكيفِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ.
(17) وهذا - مثلَ ما قالَ المؤلِّفُ - هو الحقُّ، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. اللَّهُ أبَاحَ المكاسِبَ والصناعاتِ مِن النِّجَارَةِ والحِدَادَةِ والخِرَازَةِ وغيرِ ذلك، وكلِّ ما يَنْفَعُ العِبَادَ، وإنَّما حَرَّمَ المكاسِبَ الخبيثةَ كالغِشِّ والخيانةِ والرِّبا ونحوِ ذلك.
أما المكاسِبُ المُبَاحَةُ فقد أبَاحَها اللَّهُ للعِبَادِ، مِن الإجاراتِ والبُيُوعِ، وغيرِ ذلك؛ لِيَسْتَعِينُوا بها على طاعتِه وأداءِ حقِّه سبحانه وتعالى.
(18) وهذا مِن التكَلُّفِ، وسُوءِ الظنِّ، واللَّهُ أباحَ الحلالَ وأَمَرَ بِه، وهو موجودٌ بحَمْدِ اللَّهِ، ومَن زَعَمَ أنَّه انْتُزِعَ مِن الأرضِ فقدْ غَلِطَ وضَلَّ، الحلالُ موجودٌ يَجِدُهُ مَن طَلَبَه في المكاسبِ الشرعيَّةِ المباحةِ.
(19) معنى هذا أنَّ الأصلَ الإباحةُ، ومَن ظَاهِرُه الخيرُ لا يُظَنُّ به السُّوءُ، فيُؤْكَلُ طَعَامُه ويُشْرَبُ شَرَابُه، ومَن تَلَبَّسَ بشيءٍ مِن الحرامِ وسُئِلَ عن ذلكَ فلا بَأْسَ، ولكن عليه أنْ يَسْتَبْرِئَ مِن الحرامِ ويُبْعِدَه مِن مالِه، ويَنْتَفِعَ بالحلالِ، فإذا دَخَلَ عليه مالٌ مِن الحرامِ مِن سَرِقَةٍ، أو مِن خِيَانَةٍ، أو مِن غيرِ ذلكَ مِن طُرُقِ الحرامِ، اسْتَبْرَأَ وأَبْعَدَه من مالِه، بالتحرِّي والظنِّ، وأَكْلُ البقيَّةِ سليماً لا حَرَجَ فيه، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلَها.
(20) والنَّاسُ طَبَقَاتٌ، فيهم الطيِّبُ والخبيثُ، فيهم الصالحُ والطالحُ، فيهم من يُتَّهَمُ ومَن لا يُتَّهَمُ، المؤمنُ يَتَحَرَّى الخيرَ، ويَنْصَحُ للهِ ولعبادِه، ولا بأسَ أنْ يَسْأَلَ عندَ وُجُودِ الرِّيبَةِ.
(21) وهذا كلامٌ صحيحٌ؛ فإنَّ العبدَ ما دَامَتْ أحكامُ العباداتِ والتكليفِ جارِيَةً عليه، فإنَّ الواجبَ عليه أن يَخَافَ ويَرْجُوَ، وليسَ له أن يَأْمَنَ، وليسَ له أنْ يَقْنَطَ، بل يكونُ بَيْنَ الرجاءِ والخوفِ ما دام عَقْلُه معَه، وما دامَتْ أحكامُ التكليفِ جارِيَةً، أمَّا إذا ذَهَبَ عَقْلُه هَرِمَ، يعني: خَرِفَ، ذَهَبَ عَقْلُه، أو جُنَّ، سَقَطَ عنه هذا، لكن ما دامَ عقلُه معَه، فإنَّه عليه أن يَخَافَ ويَرْجُوَ، فليسَ له أنْ يَقْنَطَ بسببِ مَعَاصِيه، وليسَ له أنْ يَأْمَنَ بسببِ طاعاتِه، ويَعْجَبَ بنفسِه، ويقولَ: إنَّه ناجٍ. بل يَخَافُ ويَرْجُو، يَسِيرُ إلى اللَّهِ بينَ الخوفِ والرجاءِ، يَسْأَلُ اللَّهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنه، وأنْ يُعِيذَهُ مِن غَضَبِه، وأسبابِ العذابِ، ويَرْجُو رحمةَ ربِّه جلَّ وعلا.
هذا هو الواجبُ على المؤمنِ. ولهذا حَكَى اللَّهُ جلَّ وعلا عن أهلِ الخيرِ مِن الأنبياءِ والصالحينَ، قالَ سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، وقالَ في أهلِ الصلاحِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}. فهكذا الرسلُ وأتباعُهم.
(22) وهذا الذي قالَه ابنُ خَفِيفٍ صحيحٌ أيضاً، قاله أهلُ العلمِ، مَن زَعَمَ أنَّه بعلمِه أو بدرجةٍ مِن العلمٍ، أو بمنزلةٍ من العلمِ، أو بوصفٍ يَتَّصِفُ به من العلمِ يَخْرُجُ عن التكليفِ، ويَبْقَى حُرًّا، له أنْ يَفْعَلَ ما يشاءُ، لا يُصَلِّى ولا يصومُ، وله أنْ يَزْنِيَ، وله أنْ يَفْعَلَ كلَّ شيءٍ، هذا مُلْحِدٌ في الدينِ, زِنْدِيقٌ, كافرٌ باللَّهِ بإجماعِ المسلمينَ - نعوذُ باللَّهِ - لأنَّ المؤمنَ ليسَ لِعَمَلِه أجلٌ إلا الموتُ، إلاَّ إذا اخْتَلَّ عَقْلُه، قالَ سبحانه وتعالى لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفضلِ الخلقِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
فلابدَّ مِن العملِ حتى يَأْتِيَ الموتُ، ولا يَسْقُطُ التكليفُ عن أحدٍ مِن النَّاسِ ؛ لأنَّه بَلَغَ من العلمِ كذا، أو مِن العبادةِ كذا، أو مِن العُمُرِ كذا، إلا إذا جُنَّ أو خَرِفَ فتَغَيَّرَ عقلُه، فسَقَطَ التكليفُ حينَئِذٍ، وأمَّا أنَّه في منزلةٍ مِن العلمِ - كما يقولُ بعضُ الصوفيةِ - يَسْقُطُ عنهم التكليفُ، فلهم أنْ يَفْعَلُوا ما يَشَاؤُونَ مِن المعاصي، ولهم أنْ يَدَعُوا الصلواتِ والصيامَ، هذا جنونٌ, بَلاءٌ، وهو من الكفرِ البَوَاحِ، والعياذُ باللَّهِ.
(23) وهذا حقٌّ، مثلَ ما قالَ المؤلِّفُ، مَن زَعَمَ أنَّه يُشْرِفُ على أمورِ الخلقِ ومقاماتِهم، ويَعْرِفُ منازِلَهم عندَ اللَّهِ، بغيرِ الوحيِ، فهذا ضالٌّ مُضِلٌّ، كافرٌ مُلْحِدٌ، يَدَّعِي علمَ الغيبِ، هكذا مَن يَزْعُمُ أنَّه يَعْلَمُ أمورَ النَّاسِ، ومتى يَمُوتُونَ، ومتى يُبْعَثُونَ، كلُّ هذا رِدَّةٌ عن الإسلامِ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}. يقولُ جلَّ وعلا لنَبِيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. ثُمَّ قالَ: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
مَن زَعَمَ أنَّ له إشرافاً على الخَلْقِ، وأنَّه مُوَكَّلٌ بالخَلْقِ، أو أنَّه يَعْلَمُ أحْوَالَهم وأوقاتَ مَوْتِهم، ونهايةَ آجالِهم، وأنَّه يَعْلَمُ مصيرَهم عندَ اللَّهِ، ومنازِلَهم، فهذا إمَّا مجنونٌ مِن المجانينِ والمعاتِيهِ، وإمَّا زِنْدِيقٌ مُرْتَدٌّ كافِرٌ. نَسْأَلُ اللَّهَ العَافِيَةَ.
(24) المقصودُ مِن هذا كلِّه بيانُ أنَّ صفاتِ الربِّ غيرُ صفاتِ المخلوقينَ، وأنَّ اللَّهَ سبحانه بصفاتِه بائِنٌ مِن خَلْقِه، مُسْتَقِلٌّ عن خَلْقِه، فوقَ عرشِه، فوقَ جميعِ الخلقِ، لا تُشْبِهُ صفاتُه صفاتِ خلقِه، بل هو سبحانه الكاملُ في ذاتِه، وفي جميعِ صفاتِه، مُنَزَّهٌ عن مُشَابَهَةِ المخلوقينَ في كلِّ شيءٍ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وإنَّما ذُكِرَتِ الإشارةُ في بعضِ الأحاديثِ إلى الصفةِ مِن بابِ التحقيقِ، كما ذَكَرَ عندَ قولِه: (يَضَعُ السماواتِ على إِصْبَعٍ، والأَرَضِينَ على إِصْبَعٍ). ويُشِيرُ إلى أصابِعِه، يعني: مِن بابِ التحقيقِ، أنها أصابعُ حقيقةً، وهكذا الإشارةُ إلى العَيْنِ وإلى السمعِ، المرادُ إثباتُ أنَّه حقٌّ، وأنَّه سَمْعٌ حقيقةً، وبَصَرٌ حَقِيقَةً، وأُصْبَعٌ حقيقةً، ويَدٌ حقيقةً، وليسَ المرادُ التشبيهَ والتمثيلَ.
(25) وذلك لأنَّ الأرواحَ جُمْلَةٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ خَلَقَها سبحانه، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، فأرواحُ الحيواناتِ، وأرواحُ بني آدَمَ، وأرواحُ الجِنِّ، جميعُ الأرواحِ كلُّها مَخْلُوقَةٌ للهِ، مَرْبُوبَةٌ، تُنَعَّمُ وتُعَذَّبُ، يُصِيبُها ما يُصِيبُ غيرَها، واللَّهُ خالِقُها سبحانه وتعالى، أَرْوَاحُ الأخيارِ وأرواحُ الأشرارِ، أرواحُ العُقلاءِ، وأرواحُ البهائِمِ، كلُّها مخلوقةٌ للهِ سبحانه وتعالى.
(26) ليسَ في المخلوقاتِ شيءٌ مِن ذاتِ اللَّهِ، بل اللَّهُ سبحانه بجميعِ صفاتِه مُسْتَقِلٌّ بائِنٌ مِن خلقِه جلَّ وعلا، ليسَ في ذاتِه شيءٌ مِن خلقِه، وليسَ في خلقِه شيءٌ مِن ذاتِه جلَّ وعلا، ولهذا قالَ أبو نِذَارٍ: نَعْرِفُ رَبَّنَا بأنه فوقَ سماواتِه، على عرِشه، بائِنٌ مِن خلقِه، سبحانه وتعالى.
(27) يعني: أنَّ القرآنَ هو كلامُ اللَّهِ، وإنْ كانَ حالاًّ في الصُّدُورِ مِن جِهَةِ الحِفْظِ، فليسَ هو كلامَ المخلوقينَ؛ فإنَّ المخلوقَ يَتْلُوه على أنَّه كلامُ اللَّهِ، يَحْفَظُه على أنَّه كلامُ اللَّهِ، يَكْتُبُه على أنَّه كلامُ اللَّهِ، يَسْمَعُه على أنَّه كلامُ اللَّهِ، فكيفَما تَصَرَّفَ فهو كلامُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، مَقْرُوءاً محفوظاً مكتوباً مسموعاً هو كلامُ اللَّه، بجميعِ النواحي، أَنْزله على نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(28) المُطَّلِبِيُّ يعني: الشافعيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وهذه العباراتُ فيها بعضُ الإجمالاتِ، ومرادُه أنَّ التلحينَ في القرآنِ والتمْغِيطَ والزيادةَ في الكلامِ لا يَجُوزُ؛ لأنَّه يُخْرِجُ القرآنَ عن مَوْضِعِه، وإنَّما المشروعُ الترْتِيلُ والعنايةُ بإعطاءِ الحروفِ حَقَّها، أمَّا التلحينُ الذي يُخْرِجُ القرآنَ عن وَضْعِهِ لزياداتٍ كثيرةٍ أو تَشْبِيهِه بالأغاني، وتَضْيِيعِ أوقاتِ النَّاسِ في غيرِ طائلٍ فهذا ممنوعٌ.
كذلكَ ما يَتَعَلَّقُ بالتعبُّدِ بالأغاني، وما أحْدَثَه الصوفيَّةُ مِن رَبَعِيَّاتٍ في أشعارِهم، وغيرِ ذلك، إنْ كانَ ذلك على وجهِ التعبُّدِ، ذَكَرَ المؤلفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّه كفرٌ؛ لأنَّه استحلالٌ لِمَا حرَّمَ اللَّهُ مِن البِدَعِ المُنْكَرَةِ، التي أَجْمَعَ العلماءُ على إنكارِها، وكلُّ مَنِ اسْتَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ ممَّا أَجْمَعَ عليه المسلمونَ، كاسْتِحْلالِ الزنا والخَمْرِ، يكونُ كُفْراً أكْبَرَ. نَسْأَلُ اللَّهَ العَافِيَةَ.
ومِن البِدَعِ أيضاً التعَبُّدُ بالرَّقَصَاتِ والأغاني في مدحِ فلانٍ وفلانٍ، ومَدْحِ النساءِ، أو غيرِ ذلك، هذا أيضاً مِن البِدَعِ، وهو مِن المُنْكَرِ، أمَّا الأشعارُ التي في مَدْحِ الخيرِ والدعوةِ إلى الخيرِ، على لُحُونِ العربِ وعلى طريقةِ العربِ، هذا لا بَأْسَ به، كما أَنْشَدَ حَسَّانُ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَجْيِ المشركينَ، وكما أنْشَدَهُ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ وابنُ رَوَاحَةَ، فالأشعارُ التي هي بعيدةٌ عن الشرِّ لا بأسَ بها، فالشعرُ حَسَنُه حَسَنٌ وقَبِيحُه قَبِيحٌ. والمرادُ بهذا التفصيلُ في هذه الأمورِ، وإنْ كانَتْ عِبارتُه فيها بعضُ الإجمالِ.
(29) وهذا هو الحقُّ؛ فإنَّ المؤمنَ مأمورٌ بالعملِ والكَسْبِ، مثلَ ما قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)). وقالَ: ((لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ)).
ولَمَّا سُئِلَ: أيُّ الكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قال: ((عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)). وقالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فلا يَنْبَغِي له تَرْكُ العَمَلِ، بل يَنْبَغِي له أنْ يَتَسَبَّبَ ويَعْمَلَ ولا يَسْأَلَ النَّاسَ؛ فسؤالُ النَّاسِ مذمومٌ، إلاَّ عندَ الضرورةِ، وإذا تَعَفَّفَ وصَبَرَ على القليلِ ولم يَسْأَلِ النَّاسَ كانَ أفضلَ، إلاَّ أنْ تَدْعُوَهُ الضرورةُ إلى ذلكَ.
ولهذا في حديثِ سَمُرَةَ: ((الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَاناً أَوْ فِي أَمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ)). أخْرَجَه التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَه جماعةٌ.
فالحاصلُ أنَّه يَنْبَغِي له العملُ والكَسْبُ وطَلَبُ الحلالِ حتى يَسْتَغْنِيَ عن النَّاسِ، فإذا اضْطُرَّ إلى السؤالِ فلا بأسَ بقَدْرِ الحاجةِ.
(30) المعنى في هذا أنَّ في اسْتِمَاعِ الأغاني وآلاتِ الملاهي مِن الفِسْقِ مِن المعاصي، ومِن أسبابِ مرضِ القلبِ والنِّفاقِ، وأما نسبةُ هذا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو وَهْمٌ، المعروفُ أنَّه مِن كلامِ ابنِ مسعودٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ولكنَّ المؤلِّفَ كأنَّه غَفَلَ عن ذلك، ولهذا نَسَبَه إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعروفُ أنَّه مِن كلامِ ابنِ مسعودٍ، قالَ: (الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ في القَلْبِ كما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ)
(31) وهذا لا شَكَّ تَنَقُّصٌ ظاهِرٌ، أنْ يقولَ: المرسَلُ إليه أَفْضَلُ مِن الرسولِ. هذا كلامٌ لا يَقُولُه عاقلٌ.
(32) وهذا واضحٌ، قولُ الإنسانِ: إنَّه يَأْخُذُ دِينَه عن رأيِه وعن قلبِه، هذا رِدَّةٌ عن الإسلامِ، فلا دينَ إلا ما جَعَلَ اللَّهُ عن رسولِه. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلاَمَةَ.
السؤالُ: أحْسَنَ اللَّهُ إليكَ، لَوْ تُفَسِّرُ لنا: (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ)؟
الجوابُ: "القبضتيْنِ"؛ قبضةٌ للجنَّةِ وقبضةٌ للنارِ، يعني: خَلَقَ أهلَ الجنةِ ووَفَّقَهُم لأعمالِها، وخَلَقَ أهلَ النارِ وخَذَلَهم، ولم يُوَفِّقْهُم لأعمالِ أهلِ الجنَّةِ. نَسْأَلُ اللَّهَ السلامةَ.

السؤالُ: ما مُرَادُهُ بقولِه: (عَرَجَ بِنَفْسِهِ)؟
الجوابُ: يعني: بِرُوحِه وبجَسَدِهِ, لا مَناماً؛ يَقَظَةً.

السؤالُ: ألاَ يُسْتَدَلُّ بهذا على عمومِ الآيةِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً}
الجوابُ: الحُجَّةُ قائِمَةٌ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}.

السؤالُ: ما مُرَادُهُ بقولِه: (والشَّهَادَةُ وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ).
الجوابُ: لا أدري، يَحْتَمِلُ أنَّه يعني الشَّهَادةَ لأحدٍ بجنَّةٍ أو نارٍ إلاَّ بدليلٍ، كما قالَ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ في إنسانٍ مُعَيَّنٍ، أو البَرَاءَةَ مِن مُعَيَّنٍ إلا بدليلٍ. وعبارتُه مُجْمَلَةٌ.

السؤالُ: ما الفَرْقُ بينَ المِرَاءِ والجِدَالِ؟
الجوابُ: المِرَاءُ أشَدُّ، الجِدَالُ إذا اشْتَدَّ صَارَ مِراءً.

السؤالُ: ما معنى قولِه: اللَّفْظ والمَلْفُوظ؟
الجوابُ: يعني قولَه: لَفْظِي بالقرآنِ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ هذا فيه إجمالٌ، ولهذا أَنْكَرَ السَّلَفُ على مَن قالَ هذا، يَنْبَغِي أنْ يُصَرِّحَ فيقولَ: صَوْتِي مَخْلُوقٌ، وأمَّا القرآنُ فهو غيرُ مخلوقٍ، فيُوَضِّحُ ولا يُجْمِلُ.

سؤالٌ: والشَّوْقُ؟
الجوابُ: وهكذا الشوقُ، جاءَ في النصوصِ.

سؤالٌ: أَحْسَنَ اللَّهُ إليكم، مَن كانَ يَتَعَامَلُ بالربا أو يَبِيعُ آلاتٍ مُحَرَّمَةً أو عندَه مَحَلُّ غِنَاءٍ، هل يُتَوَرَّعُ في الدخولِ عليه، أو يُقَالُ: اخْتَلَطَ مالُه؟
الجوابُ: الواجبُ أنْ يُنْكَرَ عليه، ويَسْتَحِقُّ الهَجْرَ، أقلُّ شيءٍ اسْتِحْبَابُ الهَجْرِ، حتى يَتُوبَ مِن أعمالِه السيِّئَةِ، مَن ظَاهِرُه الفِسْقُ فيَسْتَحِقُّ أنْ يُهْجَرَ، اخْتَلَفُوا في الوجوبِ، لكن يُهْجَرُ إذا كانَ الهَجْرُ يَنْفَعُ، فإنْ كانَ الهَجْرُ لا يَنْفَعُ فإنه يُوَالِي عليه النصْحَ والتوْجِيهَ والإنكارَ حتى يَسْتَقِيمَ، وإذا اخْتَلَطَ الحلالُ بالحرامِ جازَ لأهلِه؛ لأنَّهم لا يَعْلَمُونَ أينَ الحرامُ.

سؤالٌ: ما المقصودُ بالرَّبَعِيَّاتِ التي عندَ الصوفيَّةِ؟
الجوابُ: الرَّبَعِيَّاتُ التي عندَ الصوفيةِ على نَمَطِ أربعِ فواصِلَ، رُبَاعِيَّةٌ ليسَتْ ثُنَائِيَّةً ولا ثلاثِيَّةً، كأنها أَرْبَعَةٌ، يعني: كلُّ شَطْرٍ مُسْتَقِلٌّ حتى تَرَى كلَّ بَيْتٍ، على أربعةِ أقسامٍ، كأنه يُرِيدُ هذا.

سؤالٌ: الاسْتِشْهَادُ بالشعرِ في الخُطْبَةِ؟
الجوابُ: لا مانعَ مِنه إذا كان سليماً مِن المُخَالَفَاتِ الشرعيَّةِ.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
16, كمال

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir