بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قرن الله -سبحانه وتعالى- في الآية شهادته بشهادة أهل العلم , وهذه من أعظم المنن , لذا كان من الواجب على كل ذي عقل سديد معرفة سير علماء السلف من الصحابة ومن تبعهم بإحسان , فهم حملة الدين , وهم من نشر العلم وعلمه , وهم القدوة في زمن تكاد تغيب فيه القدوة الحسنة إلا من رحم الله .
لذا سيكون الكلام اليوم عن واحد منهم , عن إمام قدوة , عن الزاهد الفقيه العابد: أبو عائشة الوادعي الهمداني الكوفي, وهو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية .
ومع أن مسروقا لم يكن صحابيا , فهو لم ينل شرف الصحبة مع كونه أسلم في حياة النبي عليه الصلاة واسلام- لكنه لم يره , فعدّه العلماء من كبار التابعين , بل من المخضرمين منهم , وقد صلى خلف أبي بكر-رضي الله عنه- فلعله-رحمه الله- يدخل في قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .
وقد ذكر أبو بكر الخطيب في سبب تسميته(مسروقا) بأنه سرق وهو صغير ثم وجد, فسمي مسروقًا.
وقد منّ الله على الأجدع بن مالك بن أمية والد مسروق فأسلم ، وانتقل ببنيه إلى المدينة ، وقيل بأنه وفد على عمر-رضي الله عنه- فسماه عمر بعبدالرحمن , وهذا ذاته ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام- مع بعض الصحابة من تغيير أسمائهم إلى ما هو أفضل .
وكان ذهاب والده بهم إلى المدينة ذا أثر عظيم عليه , فنشأ مسروق في مدينة النبي-عليه الصلاة والسلام- المدينة الفاضلة الزاخرة يومئذ بأصحاب النبي-عليه الصلاة والسلام- وكانوا أعلم الناس وأفضلهم , فنهل من هذا المنهل العذب الخالص , وأخذ عن اصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- العلم , وكفى به شرفا , وكفى بها مكانة .
وقد لازم -رحمه الله- الصحابة وكانت له نهمة في طلب العلم , فجد واجتهد وأخذ بما سهّل الله له من أسباب نيل العلم , سواء الأسباب الداخلية التي اختصه الله به من قوة حفظ وذاكرة وفهم وفقه , ومن ورع وزهد وخشية ومحبة لله سهلت عليه الانتفاع بما أخذ من علم , أو بمن امتن الله عليه من الأسباب الخارجية: من وجود صحابة النبي-صلى الله عليه وسلم- حوله , والتي عرف هو قدرها فأقبل على الانتفاع بها, فكان بحق كالأرض الطيبة التي قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير, وقد كان رحمه الله-يقول: (كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله).
وقد حدث-رحمه الله- عن أبي بن كعب ، وعمر ، وعن أم رومان ، ومعاذ بن جبل ، وخباب ، وعائشة ، وابن مسعود ، وعثمان وعلي ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر وسبيعة ، ومعقل بن سنان ، والمغيرة بن شعبة ، وزيد , وقال عن زيد رضي الله عنه :(قدمت المدينة فسألت عن أصحاب النبي صلى الله الله عليه وسلم، فإذا زيد بن ثابتٍ من الراسخين في العلم).
وهذا إن دل على شيء فهو يدل على حرصه وعلى معرفته لقدر الصحابة , وعلى إجلاله لهم , فقد قال فيهم:(: لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدتهم كالإخاذ. فالإخاذ يروي الرجل والإخاذ يروي الرجلين والإخاذ يروي العشرة والإخاذ يروي المائة والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم. فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ).
وقد كان من أخص تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه , حتى قال إبراهيم : (كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السنة : علقمة ، والأسود وعبيدة ، ومسروقا ، والحارث بن قيس ، وعمرو بن شرحبيل) .
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- ينصحه فيقول له :( يا مسروق، أصبح يوم صومك دهينًا كحيلاً وإياك وعبوس الصائمين، وأجب دعوة من دعاك من أهل ملتك ما لم يظهر لك منه معزاف أو مزمار، وصَلّ على من مات منهم، ولا تقطع عليه الشهادة...، يا مسروق وصلّ عليه وإن رأيته مصلوبًا أو مرجومًا فإن سئلتَ فأحل عليَّ وإن سئلتُ أحلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن محبته للصحابة سمى ابنته عائشة, وكان قد لازم أم المؤمنين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وروى عنها , وهذا من فقهه-رحمه الله- فقد فعل هذا من هم أفضل منهم , وهم بعض أكابر صحابة النبي-رضوان الله عليهم- حيث كانوا يستفتونها فيما أشكل عليهم , لما كات عليه من علم وفقه في الدين لمكانتها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان أخذه عن الصحابة من الأسباب التي أدت إلى رسوخ علمه وتوثيق الأئمة له وثناؤهم عليه , حتى قال الشعبي عنه: (ما علمت أن أحدًا كان أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق)، وقال: (كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقًا، وكان مسروق لا يستشير شريحًا)، وقال ابن المديني عنه: (أنا ما أُقدّم على مسروق أحدًا : صلى خلف أبي بكر) ويا له من ثناء , ويا لها من تزكية ومنقبة .
حتى ذكره ابن سعد في الطبقة الأولي من أهل الكوفة، وقال عنه: (كان ثقة له أحاديث صالحة)، وقال يحيى بن معين عنه: (مسروق ثقة، لا يُسأل عن مثله)، وقال العجلي عنه: (تابعي ثقة، كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويُفتون. وكان يصلي حتى ترم قدماه).
وكان مع غزارة علمه عابدا -ليس كحال بعض طلاب العلم اليوم يتحججون بطلب العلم على التفريط بالعبادة دون فقه منهم للزوم الجمع بينهما - فقد نقلوا عنه أخبارا يظن القارئ لها بأنه يقرأ في سيرة الصحابة-رضوان الله عليهم- وهذا حال من علم فلزم والله المستعان , وقد كان -رحمه الله-ينصح غيره فيقول: (المرء حقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر ذنوبه فيستغفر الله).
وقد جاءعن أبي إسحاق قوله: (حج مسروق فما بات إلا ساجداً).
وقالت زوجته: (كان مسروق يصلي حتى ترم قدماه، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه).
وقال إبراهيم بن محمد بن المنتشر : (كان مسروق يرخي الستر بينه وبين أهله، ويقبل على صلاته، ويخليهم ودنياهم).
وقال أبو الضحى : (كان مسروق يقوم فيصلي كأنه راهب، وكان يقول لأهله: هاتوا كل حاجة لكم فاذكروها لي قبل أن أقوم إلى الصلاة).
وهذا غيض من فيض فيما ذكر عنه من حسن عبادته وإنابته إلى ربه , أما زهده في الدنيا فيكفي ما نقل عنه بأنه تولى القضاء في الكوفة ورفض أن يأخذ أجرا على ذلك متأولا قوله تعالى : {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم...} الآية , وكان-رحمه الله- يقول :(أن أقضي بقضية فأوافق الحق، أو أصيب الحق أحبُّ إلي من رباط سنة في سبيل الله), وقد قال لسعيد بن جبير : (يا سعيد! ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب) .
وقد أهدى خالد بن عبد الله بن أسيد عامل البصرة إليه يوما ثلاثين ألفًا وكان محتاجا إليها ، فلم يقبلها .
ومن ورعه أنه سئل عن بيت شعر فقال: أكره أن أجد في صحيفتي شعرا, مع أن والده كان شاعرا!
ولما مات-رحمه الله- لم يترك ثمن كفنه! وهذا يذكرنا بالصحابي مصعب بن عمير الذي قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كانوا اذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا رجليه بدا رأسه,رضي الله عنه.
ومع زهده وورعه وعبادته كان فارسا مجاهدا في سبيل الله , فقد شارك في فتح فارس، وشارك في معركة القادسية مع إخوته عبد الله وأبو بكر والمنتشر، فقتلوا جميعا يومئذ، وشلت يده من إصابة لحقته في المعركة وأصابته آمّة.
وموقفه يوم الفتنة بعد مقتل عثمان-رضي الله عنه- دليل على فقه هذا التابعي الجليل , وعلى قوته في الحق وحبه للإسلام وأهله , فقد آثر اعتزال الفتنة، بل وحاول الإصلاح بين الطرفين كما أمر الله بهذا في كتابه العزيز في قوله:{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} , فكان يمشي بين المتقاتلين وبين صفوفهم يوم صفين يعظهم ليكفوا عن القتال , وكان إذا قيل له : أبطأت عن علي وعن مشاهده ، يقول : أرأيتم لو أنه حين صف بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال : {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} أكان ذلك حاجزا لكم؟ قالوا : نعم . قال : فوالله لقد نزل بها ملك كريم على لسان نبيكم ، وإنها لمحكمة ما نسخها شيء .
فذكرهم بكلام الله سبحانه , فالناس تغيب عنها معاني القرآن , لكن إذا ذكروا ذكروا , وهو -رحمه الله- كان عالما بكتاب الله , ونفع الله بما رواه من بعده , فكانت له عملا مستمرا يكتب له به أجره بعد مماته كما جاء ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام- في قوله :(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...) ومنها :(علم ينتفع به).
وكان مما نقله عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قوله في الكبائر أنها ما بين فاتحة سورة النساء إلى رأس الثلاثين.
كذلك قول ابن مسعود-رضي الله عنه- في قوله تعالى:{أو يأتي بعض آيات ربك} قال: (طلوع الشمس والقمر كالبعيرين القرينين من مغربها).
وقال هو في قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: حين أُسري به.
وكما حمل هو العلم عن الصحابة : قام بنشره وتعليمه لغيره , فقد روى عنه خلق كثيرمنهم: أبو الضحى مسلم بن صبيح القرشي ، والشعبي، وعبد الله بن مرة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، ويحيى بن الجزار، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
وقد توفي -رحمه الله- سنة 62 هـ, وقيل سنة 63 هـ, وكان له من العمر 63 سنة, وقد قال حين حضره الموت : (اللهم لا أموت على أمر لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر، والله ما تركت صفراء ولا بيضاء عند أحد من الناس، غير ما في سيفي هذا فكفنوني فيه).
فرحمه الله رحمة واسعة , وأجزل له المثوبة على ما نشر من علم ونفعنا بعمه, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من الفوائد المستفادة من سيرة التابعي الجليل مسروق بن الأجدع :
- حسن رعاية الأبناء بتهيئة المناخ المناسب والبيئة المناسبة لهم من حيث وفرة العلم , ووجود القدوة والنشأة الحسنة.
- (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين): فطلب العلم علامة من علامات صلاح العبد وإرادة الله به الخير , وهذا من أقوى الدوافع للحرص عليه مهما بدا الأمر صعبا.
- مجالسة الصالحين لا تخلو من خير , فعلى العاقل الحرص على مجالستهم فلن يعدم خيرا يسمعه فينتفع به , أو حتى التشبه بهم والأخذ من سمتهم.
- لا يكون العلم نافعا حتى يُعمل به, وإلا كان حجة على صاحبه لا حجة له.
- الحرص على بذل النصيحة للآخرين , فبها يُعرف الشر فيُجتنب , والخير فيعمل به.
- الدعوة إلى الله تكون بما أنزل من نصوص , فيذكر الناس بها , أما التكثر من القصص ووعظ الناس بما يخاطب مشاعرهم فقط : فهذا كضرب السياط لا يدوم أثره إلا أياما أو اقل.
- الحرص على إصلاح ذات البين بين المسلمين , والابتعاد عما يثير الفتن بينهم , حرصا على الاجتماع ووحدة الكلمة.
- يترتب على العلماء ما لا يترتب على غيرهم , فمن وضعه الله في محل القدوة يكون عليه من الورع والزهد ما لا يجب على غيره , ويشمل هذا طلاب العلم بحسب مراتبهم.
- حرص العبد على ترك ما ينتفع به الناس بعد وفاته , فهذه من التجارة الرابحة مع الله جلّ شأنه.