فَصْلٌ: الغَالِبُ على الأَسْمَاءِ أنْ تَكُونَ صَالِحَةً للإضَافَةِ والإِفْرَاد،ِ كـ (غُلام) و(ثَوْب).
ومِنْهَا ما يَمْتَنِعُ إِضَافَتُهُ كالمُضْمَرَاتِ، والإشَارَاتِ، وكغَيْرِ أيٍّ مِن المَوْصُولاتِ وأَسْمَاءِ الشَّرْطِ والاستِفْهَامِ([1]).
ومِنْهَا ما هو وَاجِبُ الإضافَةِ إلى المُفْرَدِ، وهو نَوْعَانِ: ما يَجُوزُ قَطْعُهُ عَن الإضافَةِ في اللَّفْظِ، نَحْوُ: (كُلّ) و(بَعْض) و(أَيّ)، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([2]) و{فَضَّلْنَا بَعْضَهُم عَلَى بَعْضٍ}([3]) و{أَيًّا مَا تَدْعُوا}([4]) ، ومَا يَلْزَمُ الإضَافَةَ لَفْظاً، وهو ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: مَا يُضَافُ للظَّاهِرِ والمُضْمَرِ، نَحْوُ: (كِلا) و(كِلْتَا) و(عِنْدَ) و(لَدَى) و(قُصَارَى) و(سِوَى)، وما يَخْتَصُّ بالظَّاهِرِ، كـ (أُولَى) و(أُولاَتِ) و(ذِي) و(ذَاتِ)، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ}([5]) {وَأُولاتُ الأَحْمَالُ}([6]) {وَذَا النُّونِ}([7]) و{ذَاتَ بَهْجَةٍ}([8]) ، ومَا يَخْتَصُّ بالمُضْمَرِ، وهو نَوْعَانِ: مَا يُضَافُ لِكُلِّ مُضْمَرٍ، وهو (وَحْدَ) نَحْوُ: {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ}([9]) ، وقَوْلُهُ:
326- وَكُنْتَ إِذْ كُنْتَ إِلَهِي وَحْدَكَا([10]) وقَوْلُهُ:
327- وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ = وَحْدِي ... ... ... ...([11]) وما يَخْتَصُّ بضَمِيرِ المُخَاطَبِ وهو مَصَادِرُ مُثَنَّاةٌ لَفْظاً، ومَعْنَاهَا التَّكْرَارُ ، وهي (لَبَّيْكَ) بمَعْنَى: إِقَامَةً علَى إِجَابَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ، و(سَعْدَيْكَ) بمَعْنَى: إِسْعَاداً لكَ بَعْدَ إِسْعَادٍ، ولا تُسْتَعْمَلُ إلاَّ بَعْدَ لَبَّيْكَ، و(حَنَانَيْكَ) بمَعْنَى: تَحَنُّناً عَلَيْكَ بَعْدَ تَحَنُّنٍ، و(دَوَالَيْكَ) بمَعْنَى: تَدَاوُلاً بَعْدَ تَدَاوُلٍ، و(هَذَاذَيْكَ) -بذَالَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ- بمَعْنَى: إِسْرَاعاً بَعْدَ إِسْرَاعٍ، قالَ:
328- ضَرْباً هَذَاذَيْكَ وَطَعْناً وَخْضَا([12]) وعَامِلُهُ وعَامِلُ لَبَّيْكَ مِن مَعْنَاهُمَا، والبَوَاقِي مِن لَفْظِهِمَا.
وتَجْوِيزُ سِيبَوَيْهِ في (هَذَاذَيْكَ) في البَيْتِ، وفي (دَوَالَيْكَ) مِن قَوْلِهِ:
329- دَوَالَيْكَ حَتَّى كُلُّنَا غَيْرُ لاَبِسِ([13]) الحَالِيَّةَ بتَقْدِيرِ: نَفْعَلُهُ مُتَدَاوِلِينَ وهَاذِّينَ؛ أي: مُسْرِعِينَ ضَعِيفٌ([14]) للتَّعْرِيفِ، ولأنَّ المَصْدَرَ المَوْضُوعَ للتَّكْثِيرِ لم يَثْبُتْ فيهِ غَيْرُ كَوْنِهِ مَفْعُولاً مُطْلَقاً.
وتَجْوِيزُ الأَعْلَمِ([15]) في هَذَاذَيْكَ في البَيْتِ الوَصْفِيَّةَ مَرْدُودٌ لذلك.
وقَوْلُهُ فيهِ وفي أَخَوَاتِهِ: إِنَّ الكَافَ لمُجَرَّدِ الخِطَابِ مِثْلُهَا في (ذَلِكَ) مَرْدُودٌ أَيْضاً؛ لقَوْلِهِم: (حَنَانَيْهِ) و(لَبَّيْ زَيْدٍ) ولِحَذْفِهِم النُّونَ لأجْلِهَا، ولم يَحْذِفُوهَا في (ذَانِكَ) وبأنَّهَا لا تَلْحَقُ الأَسْمَاءَ التي لا تُشْبِهُ الحَرْفَ.
وشَذَّت إِضَافَةُ لَبَّيْ إلى ضَمِيرِ الغَائِبِ في نَحْوِ قَوْلِهِ:
330- لَقُلْتُ لَبَّيْهِ لِمَنْ يَدْعُونِي([16]) وإلى الظَّاهِرِ في نَحْوِ قَوْلِهِ:
331- فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ([17]) وفيهِ رَدٌّ على يُونُسَ في زَعْمِهِ أنَّهُ مُفْرَدٌ([18]) ، وأَصْلُهُ لَبَّا، فقُلِبَت أَلِفُهُ يَاءً لأجْلِ الضَّمِيرِ كما في لَدَيْكَ وعلَيْكَ، وقَوْلُ ابْنِ النَاّظِمِ: إِنَّ خِلافَ يُونُسَ فِي لَبَّيْكَ وأَخَوَاتِهِ وَهْمٌ([19]).
([1]) إنَّمَا امتَنَعَت إِضَافَةُ هذه الأنوَاعِ مِن الأسماءِ؛ لأنَّهَا أَشْبَهَت الحَرْفَ، ولهذا الشَّبَهِ بُنِيَت، وقَدْ عَلِمْنَا أنَّ الحَرْفَ لا يُضَافُ، فأَخَذَ مَا أَشْبَهَ الحَرْفَ حُكْمَ الحَرْفِ، وإنَّمَا جَازَت إِضَافَةُ (أَيّ) المَوْصُولَةِ والاستِفْهَامِيَّةِ والشَّرْطِيَّةِ لضَعْفِ شَبَهِ الحَرْفِ بسَبَبِ شِدَّةِ افتِقَارِهَا إلى مُفْرَدٍ يُبَيِّنُ المُرَادَ مِنْهَا، وتُضَافُ هي إليه.
([2]) سورة يس، الآية: 40.
([3]) سورة البقرة، الآية: 253.
واعْلَمْ أنَّ كُلاًّ وبَعْضاً تَجِبُ إِضَافَتُهُمَا لَفْظاً إذا وَقَعَا نَعْتاً أو تَوْكِيداً، فمِثَالُ التَّوْكِيدِ (جَاءَ القَوْمُ كُلُّهُم)، ومِثَالُ النَّعْتِ (زَيْدٌ الرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ)، فجَوَازُ قَطْعِهِمَا في اللَّفْظِ عَن الإضَافَةِ خَاصٌّ بغَيْرِ هذين المَوْضِعَيْنِ.
واعْلَمْ أنَّ للنُّحَاةِ في هذين اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ قَطْعِهِمَا عن الإضَافَةِ لَفْظاً اختِلافاً, هَلْ هُمَا مَعْرِفَتَانِ بالنَّظَرِ إلى المُضَافِ إليه المُقَدَّرِ، أم هما نَكِرَتَانِ بالنَّظَرِ إلى حَالَتِهِمَا الرَّاهِنَةِ! وقَدْ ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ بالإضَافَةِ المَنْوِيَّةِ، وذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ إلى أنَّهُمَا نَكِرَتَانِ نَظَراً إلى حَالَتِهِمَا الرَّاهِنَةِ؛ لأنَّ نِيَّةَ الإضافَةِ لا تَكُونُ سَبَباً في التَّعْرِيفِ، ألا تَرَى أنَّ لَفْظَ (نِصْف) و(رُبْع) ومَا [أَشْبَهَهُمَا]= قَدْ يُقْطَعَانِ عَن الإضَافَةِ فيُقَالُ: (خُذْ دِينَاراً ونِصْفاً ورُبْعاً) مَثَلاً، وهما حِينَئِذٍ نَكِرَتَانِ بالإجمَاعِ، و هو كَلامٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ مِن وَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ العَرَبَ قَدْ تَقْطَعُ اللَّفْظَ عَن الإضَافَةِ وهي تُرِيدُ المُضَافَ إليه إذا كانَ لَفْظُ المُضَافِ مِمَّا لا يَتَّضِحُ مَعْنَاهُ إلا بالمُضَافِ إليه، وقَدْ تَقْطَعُ اللَّفْظَ عَن الإضَافَةِ وهي لا تُرِيدُ المُضَافَ إليه إذا كانَ المُضَافُ مِمَّا يَتَّضِحُ مَعْنَاهُ مِن غَيْرِ ذِكْرِ المُضَافِ إليه.
ومِن النَّوْعِ الأوَّلِ لَفْظُ كُلٍّ ولَفْظُ بَعْضٍ، فإنَّهُم لا يَحْذِفُونَ ما يُضَافَانِ إليه إلا وهم يُرِيدُونَهُ, ومِن النَّوْعِ الثَّانِي: لَفْظُ نِصْفٍ ورُبْعٍ، فإنَّهُم حينَ يَحْذِفُونَ المُضَافَ إليه مِنْهُمَا لا يُلْقُونَ إليه بَالاً، فمِنْ أَجْلِ هذا كانَ لَفْظُ كُلٍّ وبَعْضٍ مَعْرِفَةً؛ سَوَاءٌ أنَطَقُوا بالمُضَافِ إليه معَهُمَا أم لم يَنْطِقُوا.
والوَجْهُ الثَّانِي: أنَّهُم قدْ جَاؤُوا بالحالِ مِن لَفْظِ كُلٍّ ولَفْظِ بَعْضٍ معَ قَطْعِهِمَا عَن الإضَافَةِ لَفْظاً، فقالُوا: مَرَرْتُ بكُلٍّ قَائِماً، وأَعْرَضْتُ عَنْ بَعْضٍ جَالِساً، والأصلُ في صَاحِبِ الحَالِ أنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، فمِنْ أَجْلِ هذا قُلْنَا: إِنَّ لَفْظَ كُلٍّ وبَعْضٍ مَعْرِفَةٌ، سَوَاءٌ أذُكِرَ المُضَافُ إليه مَعَهُما أم لم يُذْكَرْ.
([4]) سورة الإسراء، الآية: 110.
([5]) سورة النمل، الآية: 38.
([6]) سورة الطلاق، الآية: 4.
([7]) سورة الأنبياء، الآية: 87.
([8]) سورة النمل، الآية: 60.
([9]) سورة غافر، الآية: 12.
([10]) 326- هذا الشَّاهِدُ مِن قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى القُرَشِيِّ، ومَا ذكَرَه المُؤَلِّفُ بَيْتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطُورِ، وبَعْدَهُ قَوْلُهُ:
*لَمْ يَكُ شَيْءٌ يَا إِلَهِي قَبْلَكَا*
اللُّغَةُ: (لَمْ يَكُ شَيْءٌ) قالَ العَلاَّمَةُ يس: ذَكَرَ المُصَنِّفُ – يُرِيدُ ابنَ هِشَامٍ – في بَحْثِ لَمَّا مِن (المُغْنِي) أنَّ ابْنَ مَالِكٍ مَثَّلَ بهَذَا البَيْتِ للنَّفْيِ المُنْقَطِعِ، قالَ: وتَبِعَهُ ابْنُهُ فيمَا كَتَبَهُ على (التَّسْهِيلِ)ِ، وهو وَهْمٌ، انتَهَى. ونُقِلَ عَنْهُ أنَّه قالَ: إنَّمَا يَكُونُ هذا البَيْتُ مِن النَّفْيِ المُنْقَطِعِ لو كَانَ الرَّاجِزُ قَدْ قَالَ:
*لَمْ يَكُ شَيْءٌ يَا إِلَهِي مَعَكَا*
وعنهُ أَيْضاً: وفيهِ نَظَرٌ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: لَمْ يَكُ شَيْءٌ قَبْلَكَ ثُمَّ كَانَ قَبْلَكَ، واعتُرِضَ بأنَّ هذا لا يَلْزَمُ؛ إذْ لا نَأْخُذُ حُدُوثَ ذاك الشَّيْءِ مُقَيَّداً بالقَبْلِيَّةِ، بَلى= نَأْخُذُه مُطْلَقاً عَنْهَا؛ أي: لَمْ يَكُ شَيْءٌ يَا إِلَهِي قَبْلَكَ ثُمَّ كَانَ.
وعَن السَّرَّاجِ البُلْقِينِيِّ أنَّ الصَّوَابَ ما قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ؛ لأنَّ القَبْلِيَّةَ مُحَالَةٌ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ، فتَعَيَّنَتِ المَعِيَّةُ، فالمَعْنَى: لَمْ يَكُ شَيْءٌ يا إلهِي مَعَكَ قَبْلَ خَلْقِ العَالَمِ ثُمَّ وُجِدَ العَالَمُ، انتهى. ويَدُلُّ لكَوْنِ القَبْلِيَّةِ بمَعْنَى المَعِيَّةِ مُقَابَلَتُهَا بقَوْلِهِ: وَحْدَكَا، فتَدَبَّرْ.
قالَ أَبُو رَجَاءٍ: وحَاصِلُ هذا الكَلامِ أنَّ الأصلَ في المَنْفِيِّ بلَمَّا أنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا إلى حَالِ التَّكَلُّمِ بالكَلامِ، فإذا قُلْتَ: (لَمَّا يَقُمْ زَيْدٌ) دَلَّ هذا الكَلامُ على انتِفَاءِ قِيَامِ زَيْدٍ في الزَّمَانِ المَاضِي مُسْتَمِرًّا إلى الوَقْتِ الذي تَتَكَلَّمُ فيهِ بهذا الكَلامِ، ومِنْهُ قَوْلُ المُمَزَّقِ العَبْدِيِّ، وقَدْ تَمَثَّلَ به ذُو النُّورَيْنِ شَهِيدُ الدَّارِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ في رِسَالَةٍ كَتَبَهَا إلى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ:
فَإِنْ كُنْتُ [مَأكُولاً]= فَكُنْ خَيْرَ آكِلٍ = وَإِلاَّ فَأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ
فإنَّ مَعْنَاهُ أنَّهُ لم يُمَزَّقْ في الزَّمَنِ المَاضِي، وأنَّ عَدَمَ تَمْزِيقِهِ مُسْتَمِرٌّ إلى وَقْتِ الكَلامِ، أمَّا مَنْفِيُّ لَمْ فإنَّهُ لا يَلْزَمُ فيه استِمْرَارُ نَفْيِهِ إلى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، بل قَدْ يَكُونُ النَّفْيُ مُسْتَمِرًّا إلى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، فإنَّ الشَّقَاءَ مَنْفِيٌّ عَن زَكَرِيَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الزَّمَنِ المَاضِي ومُسْتَمِرُّ الانتِفَاءِ عنه إلى وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وقدْ يَكُونُ نَفْيُ مَدْخُولِ لَمْ مُنْقَطِعاً، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فإنَّ المَعْنَى أنَّ الإنسانَ فيما مَضَى مِن الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً ولكنَّهُ صَارَ بَعْدَ ذَلك شَيْئاً.
هذه هي القَاعِدَةُ الأصلِيَّةُ في الكَلِمَتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ ابنَ مَالِكٍ مَثَّلَ للمَنْفِيِّ بلَمْ الذي انقَطَعَ نَفْيُهُ بهذا البَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بهِ، فالمَعْنَى عِنْدَهُ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِيمَا مَضَى ثُمَّ انقَطَعَ ذلك فكَانَ شَيْءٌ وحَدَثَ قَبْلَ زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وابْنُ هِشَامٍ اعترَضَ هذا التَّمْثِيلَ في (المُغْنِي)، وقالَ في شَأْنِهِ: (وهو وَهْمٌ فَاحِشٌ)، ووَجْهُ نَظَرِهِ أنَّ الظَّرْفَ الذي هو قَوْلُ الرَّاجِزِ: (قَبْلَكَ) قَيْدٌ في كانَ التي مَعْنَاهَا حَدَثَ، فصَارَ المَعْنَى، لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِن الأشيَاءِ فِي الزَّمَانِ المَاضِي قَبْلَكَ ثُمَّ حَدَثَ شَيْءٌ قَبْلَكَ، وهذا مُحَالٌ؛ لأنَّ شَيْئاً مِن الأشيَاءِ لَمْ يَحْدُثْ قَبْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلاً، ولَكِنَّ العُلَمَاءَ انتَصَرُوا لابنِ مَالِكٍ وصَحَّحُوا تَمْثِيلَهُ بهذا البَيْتِ، ووِجْهَةُ نَظَرِهِم: أنَّا لا نَأْخُذُ الظَّرْفَ قَيْداً في الفِعْلِ المَنْفِيِّ بلَمْ, بل نَجْعَلُ الفِعْلَ مُطْلَقاً عَن القَيْدِ، أو نَجْعَلُ قَبْلَ بمَعْنَى مَعَ، فيَكُونُ المَعْنَى على الأوَّلِ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَصْلاً إلا أنت، ثُمَّ كانَ قَبْلَ زَمَانِ التَّكَلُّمِ وعندَهُ شَيْءٌ مِن الأشْيَاءِ، ويَكُونُ المَعْنَى على الثَّانِي: لَمْ يَكُنْ مَعَكَ شَيْءٌ أَصْلاً في الزَّمَانِ المَاضِي ثُمَّ صَارَ مَعَكَ في الوُجُودِ شَيْءٌ، وكلاهما صَحِيحٌ، فتَدَبَّرْ هذا واحرِصْ عليه.
الإعرابُ: (كُنْتَ) كَانَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ يَرْفَعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَرَ، وتَاءُ المُخَاطَبِ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ رَفْعٍ: (إذْ) ظَرْفٌ للزَّمَنِ المَاضِي مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقٌ بكان النَّاقِصَةِ. (كُنْتَ) فِعْلٌ تَامٌّ وفَاعِلٌ، أو فِعْلٌ نَاقِصٌ واسمُهُ، وعليه يَكُونُ خَبَرُهُ مَحْذُوفاً، والتَّقْدِيرُ: كُنْتَ مَوْجُوداً، وجُمْلَةُ كَانَ الثَّانِيَةِ واسمِهَا وخَبَرِهَا أو هي وفَاعِلُهَا في مَحَلِّ جَرٍّ بإضَافَةِ إِذْ إليها. (إِلَهِي) مُنَادًى بحَرْفِ نِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: يَا إِلَهِي، بدَلِيلِ ذِكْرِ حَرْفِ النِّدَاءِ في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ في قَوْلِهِ: (لَمْ يَكُ شَيْءٌ يَا إِلَهِي). (وَحْدَكَا) وَحْدَ: خَبَرُ كَانَ الأُولَى، وقَدْ جَوَّزْنَا أنْ تَكُونَ كَانَ الأُولَى فِعْلاً تَامًّا وضَمِيرُ المُخَاطَبِ فَاعِلَهُ، وعليه يَكُونُ قَوْلُهُ: (وَحْدَكَا) حَالاً مِن ضَمِيرِ المُخَاطَبِ، وهذا هو الأَظْهَرُ، وعلى كُلِّ حَالٍ فهو مَصْدَرٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الوَصْفِ، فهو مُؤَوَّلً بمُنْفَرِدٍ – أو مُتَوَحِّدٍ – كما مَضَى في بَابِ الحَالِ. (لَمْ) حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (يَكُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ تَامٌّ مَجْزُومٌ بلم، وعَلامَةُ جَزْمِهِ سُكُونُ النُّونِ المَحْذُوفَةِ للتَّخْفِيفِ. (شَيْءٌ) فَاعِلُ يَكُ، مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ. (يَا) حَرْفُ نِدَاءٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (إِلَهِي) إِلَهِ: مُنَادَى مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بالكَسْرَةِ المَأْتِيِّ بها لمُنَاسَبَةِ يَاءِ المُتَكَلِّمِ، وهو مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه، مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (قَبْلَكَا) قَبْلَ: ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بيَكُ، فإنْ جَعَلْتَ يَكُ فِعْلاً نَاقِصاً فشَيْءٌ اسمُهُ، وهذا الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ خَبَرُهُ، وقَبْلَ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ.
الشَّاهِدُ فيه: قَوْلُهُ: (وَحْدَكَا) حَيْثُ أَضَافَ لَفْظَ (وَحْدَ) إلى ضَمِيرِ المُخَاطَبِ.
([11]) 327- هذا الشاَّهِدُ مِن كَلامِ الرَّبِيعِ بْنِ ضَبْعٍ الفَزَارِيِّ، ومَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ قِطْعَةٌ مِن بَيْتٍ مِن المُنْسَرِحِ، وهو بتَمَامِهِ معَ بَيْتٍ سَابِقٍ عليه هكذا:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ = أَمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ = وَحْدِي، وَأَخْشَى الرِّيَاحَ وَالمَطَرَا
يَقُولُ هذين البَيْتَيْنِ وقَدْ طَالَتْ سِنُّهُ وأَصَابَهُ ضَعْفُ الكِبَرِ، وقَدْ زَعَمُوا أنَّهُ عاشَ ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ وأَرْبِعِينَ سَنَةً.
الإعرَابُ: (الذِّئْبَ) الرِّوَايَةُ فيه بالنَّصْبِ، فهو مَفْعُولٌ به لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ بَعْدَهُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: وَأَخْشَى الذِّئْبَ أَخْشَاهُ – إلخ. (أَخْشَاهُ) أَخْشَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنا, وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى الذِّئْبِ مَفْعُولٌ به مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، والجُمْلَةُ مِن الفِعْلِ المُضَارِعِ وفَاعِلِه ومَفْعُولِهِ لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ مُفَسِّرَةٌ. (إِنْ) حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٍ يَجْزِمُ فِعْلَيْنِ؛ الأوَّلُ مِنْهُمَا فِعْلُ الشَّرْطِ، والثَّانِي مِنْهُمَا جَوَابُهُ وجَزَاؤُهُ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (مَرَرْتُ) مَرَّ: فِعْلٌ مَاضٍ فِعْلُ الشَّرْطِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ في مَحَلِّ جَزْمٍ، وتَاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُهُ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ رَفْعٍ. (بِهِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَرَّ. (وَحْدِي) وَحْدِ: حَالٌّ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ مَنْصُوبٌ بفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ على ما قَبْلَ يَاءِ المُتَكَلِّمِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا المُنَاسَبَةُ، ووَحْدِ مُضَافٌ ويَاءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَأَخْشَى) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وأَخْشَى: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُه أنا. (الرِّيَاحَ) مَفْعُولٌ به لأخْشَى، مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (والمَطَرَا) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، والمَطَرَ: مَعْطُوفٌ على الرِّيَاحِ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ، والألفُ للإطلاقِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (وَحْدِي) حيثُ أَضَافَ لَفْظَ (وَحْدَ) إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ.
فدَلَّ هذا الشَّاهِدُ والشَّاهِدُ السَّابِقُ والآيَةُ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ على أنَّ هذا اللَّفْظَ يُضَافُ إلى كُلِّ الضَّمَائِرِ على السَّوَاءِ؛ لأنَّهُ في الآيَةِ مُضَافٌ إلى ضَمِيرٍ يُسْتَعْمَلُ في الدَّلالَةِ على الغَائِبِ، وفي الشَّاهِدِ السَّابِقِ مُضَافٌ إلى ضَمِيرِ المُخَاطَبِ، وفي هذا الشَّاهِدِ مُضَافٌ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ, وهذه الأنواعُ الثَّلاثَةُ هي كُلُّ أَنْوَاعِ الضَّمِيرِ، ولا فَرْقَ في هذه الأنواعِ بَيْنَ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، ولا بَيْنَ ضَمِيرِ المُفْرَدِ وضَمِيرِ المُثَنَّى وضَمِيرِ الجَمْعِ.
واعْلَمْ أنَّهُم اختَلَفُوا في لَفْظِ (وَحْد) أهو مَصْدَرٌ أم هو ظَرْفٌ، والذين قالُوا: هو مَصْدَرٌ، اختَلَفُوا أَلَهُ فِعْلٌ مِن لَفْظِهِ أم لَيْسَ له فِعْلٌ مِن لَفْظِهِ، فمِنْهُم مَن حَكَى (وَحَدَهُ يَحِدُهُ وَحْداً) مِثْلُ وَصَفَهُ يَصِفُهُ وَصْفاً، وهؤلاءِ ذَهَبُوا إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ له فِعْلٌ مِن لَفْظِهِ، ومِنْهُم مَن قَالَ: هو مَصْدَرٌ لَيْسَ له فِعْلٌ مِن لَفْظِهِ، مِثْلُ العُمُومَةِ والخُؤُولَةِ والأُبُوَّةِ والبُنُوَّةِ، وعِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ التي أَثَرْنَاهَا لكَ في بَابِ [الحالِ] تَدُلُّ على أنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ، فوَحْدَ – عِنْدَهُ – نَائِبٌ مَنَابَ إِيحَادٍ، وهذا المَصْدَرُ مُؤَوَّلٌ باسمِ فَاعِلٍ أو اسمِ مَفْعُولٍ يَقَعُ حَالاً، وذَهَبَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ إلى أنَّ (وَحْدَهُ) ظَرْفً، وأنَّ انتِصَابَهُ على الظَّرْفِيَّةِ، وأنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: (جَاءَ مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ): جَاءَ مُحَمَّدٌ على انفِرَادِهِ؛ أي: في حَالِ انفِرَادِهِ، وذلك مَرْدُودٌ بأَنَّ (وَحْدَ) لَيْسَ بظَرْفِ زَمَانٍ ولا بظَرْفِ مَكَانٍ، فكَيْفَ يَكُونُ انتِصَابُهُ على الظَّرْفِيَّةِ، وأَشْبَهُ الأقوالِ في هذه المَسْأَلَةِ هو قَوْلُ القَائِلِينَ بأنَّهُ مَصْدَرٌ لا فِعْلَ له مِن لَفْظِهِ؛ لأنَّهُ بأَوْزَانِ المَصَادِرِ، ولَمْ يَثْبُتْ مَجِيءُ الفِعْلِ إلا في حِكَايَةٍ ضَعِيفَةٍ.
ثُمَّ اعْلَمْ إذا قُلْتَ: (مَرَرْتُ بزَيْدٍ وَحْدَهُ) وجَعَلْتَ (وَحْدَهُ) حَالاً، فهَلْ هو حَالٌ مِن الفَاعِلِ الذي هو تَاءُ المُتَكَلِّمِ أم هو حَالٌ مِن المَجْرُورِ بحَرْفِ الجَرِّ! ذَهَبَ الخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ إلى أنَّهُ حَالٌ مِن تَاءِ المُتَكَلِّمِ، وعَلَى هذا يَكُونُ مَعْنَى (مَرَرْتُ بزَيْدٍ وَحْدَهُ) أنَّكَ أَفْرَدْتَهُ بالمُرُورِ بهِ فلم تَمُرَّ علَى غَيْرِهِ، وذَهَبَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدِ إلى أنَّهُ حَالٌّ مِن المَجْرُورِ بالبَاءِ, وأنَّ مَعْنَى العِبَارَةِ المَذْكُورَةِ أنَّكَ مَرَرْتَ به في حَالِ كَوْنِهِ مُنْفَرِداً، وقَدْ رَجَّحَ العُلَمَاءُ ما ذَهَبَ إليه أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ، بسبَبِ اطِّرَادِهِ في كُلِّ الأمثِلَةِ التي يُذْكَرُ فيها هذا اللَّفْظُ، نَحْوُ قَوْلِنَا: (لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ) أَلا تَرَى أنَّ المَعْنَى على ما ذَهَبَ إليه الخَلِيلُ أنَّكَ أَفْرَدْتَ اللَّهَ تَعَالَى بالأُلُوهِيَّةِ، والوَاقِعُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنْفَرِدٌ بها مِن ذَاتِهِ، وفي النَّفْسِ مِن هذا التَّرْجِيحِ شَيْءٌ؛ لأنَّ المُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ على أنَّ هذه العِبَارَةَ تُسَمَّى كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وعلى أنَّ قَائِلَهَا مُوَحِّدٌ، وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ على المَعْنَى الذي ذَكَرَهُ الخَلِيلُ.
([12]) 328-هذَا الشَّاهِدُ مِن أُرْجُوزَةٍ للعَجَّاجِ يَمْدَحُ فيها الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ، والذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ بَيْتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطُورِ، وبَعْدَهُ قَوْلُهُ:
*يَمْضِي إِلَى عَاصِي العُرُوقِ النَّحْضَا*
اللُّغَةُ: (ضَرْباً هَذَاذَيْكَ)؛ أي: ضَرْباً يَهِذُّ هَذًّا، ويَهِذُّ هَذًّا وقيلَ في تَفْسِيرِهِ: يَهِذُّ هَذًّا بَعْدَ هَذٍّ – أو مَعْنَاهُ ضَرْباً سَرِيعاً فيه إِسْرَاعٌ بَعْدَ إِسْرَاعٍ، وقَوْلُهُ: (وَطَعْناً وَخْضَا)؛ أي: طَعْناً يَصِلُ إلى الجَوْفِ، وإنْ لَمْ يَنْفُذْ. وقيلَ: هو بعَكْسِ ذلك؛ أي: الطَّعْنُ الذي لا يَصِلُ إلى الجَوْفِ، ولعلَّهُ من الأضْدَادِ؛ أي: الألفاظِ التي يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا في مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وقيل: مَعْنَى وَخْضٍ التَّحْرِيضُ. (عَاصِي العُرُوقِ) العِرْقُ الذي يَسِيلُ ولا يَرْقَأُ، ويُجْمَعُ على عَوَاصٍ. (النَّحْضَا) بفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ – هو اللَّحْمُ المُكْتَنِزُ كلَحْمِ الفَخِذِ، كأنَّ الطَّعْنَ يُمَزِّقُ أَجْسَامَهُم فيَنْقُلُ قِطَعاً مِن لُحُومِهِم إلى عُرُوقِهِم التي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ بلا انقِطَاعٍ.
الإعرابُ: (ضَرْباً) يَجُوزُ فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أنْ يَكُونَ مَفْعُولاً به لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أي: نَجْزِيهِم ضَرْباً، بدَلِيلِ أنَّ قَبْلَهُ:
*تَجْزِيهِم بالطَّعْنِ فَرْضاً فَرْضاً*
والثَّانِي: أنْ يَكُونَ مَفْعُولاً مُطْلَقاً مَنْصُوباً بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وتَقْدِيرُهُ: اضْرِبْ ضَرْباً. (هَذَاذَيْكَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مِنْ مَعْنَاهُ، وكأنَّهُ قد قالَ: اقْطَعْ قَطْعاً أو أَسْرِعْ إِسْرَاعاً، مَنْصُوبٌ بالياءِ المَفْتُوحِ ما قَبْلَهَا؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، وهو مُضَافٌ وكافُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (وَطَعْناً) الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وطَعْناً: مَعْطُوفٌ على ضَرْباٌ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ. (وَخْضَا) نَعْتٌ لطَعْنٍ مَنْصُوبٌ بالفَتْحَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيه: قَوْلُهُ: (هَذَاذَيْكَ) حيثُ أضَافَ هذا اللَّفْظَ إلى ضَمِيرِ المُخَاطَبِ، وهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفِعْلٍ مِن مَعْنَاهُ؛ أي: أَسْرِعْ هَذَاذَيْكَ، ولَيْسَ يَصِحُّ أن يكونَ حَالاً، خِلافاً لسِيبَوَيْهِ، كما قالَ المُؤَلِّفُ، لما سنذكرُهُ قَرِيباً.
([13]) 329- هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ سُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الحَسْحَاسِ، والذي ذكرَه المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ مِن الطَّوِيلِ، وصَدْرُهُ قَوْلُهُ:
*إِذَا شُقَّ بُرْدٌ شُقَّ بالبُرْدِ مِثْلُهُ*
وأَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ (1/175) ولكنَّهُ رُوِيَ عَجُزُه هكَذَا:
دَوَالَيْكَ حَتَّى لَيْسَ لِلبُرْدِ لاَبِسُ
وقَبْلَ البَيْتِ المُسْتَشْهَدِ به قَوْلُهُ:
كَأَنَّ الصُبَيْرِيَّاتِ وَسْطَ بُيُوتِنَا = ظِبَاءٌ تَبَدَّتْ مِنْ خِلالِ المَكَانِسِ
فَكَمْ قَدْ شَقَقْنَا مِنْ رِدَاءٍ مُنَيَّرِ = عَلَى طِفْلَةٍ مَمْكُورَةٍ غَيْرِ عَانِسِ
وَهُنَّ بَنَاتُ القَوْمِ إِنْ يَظْفَرُوا بِنَا = يَكُنْ فِي ثَبَاتِ القَوْمِ إِحْدَى الدَّهَارِسِ
وقدْ أَنْشَدَ الخَالِدِيَّانِ في (الأَشْبَاهِ والنَّظَائِرِ) 58 البَيْتَ الثَّانِي مِن هذه الأَبْيَاتِ يَتْبَعُهُ بَيْتُ الشَّاهِدِ معَ تَغْيِيرٍ في بَعْضِ الألفَاظِ، وجَاءَا بثَلاثَةِ أَبْيَاتٍ (1/24) ثَالِثُهَا بَيْتُ الشَّاهِدِ، وأوَّلُها ثَالِثُ الأبْيَاتِ المَذْكُورَةِ، وثَانِيهَا ثَانِي الأبْيَاتِ معَ بَعْضِ تَغْيِيرٍ.
اللُّغَةُ: (الصُّبَيْرِيَّاتِ) النِّسَاءُ المَنْسُوبَاتِ إلى صُبَيْرٍ، وهو بزِنَةِ المُصَغَّرِ، صُبَيْرُ بنُ يَرْبُوع.ٍ (المَكَانِسِ) جَمْعُ مَكْنَسٍ، وهو المَكَانُ الذي يَكْنِسُ فيهِ الظَّبْيُ؛ أي؛ يَسْتَتِرُ. (مُنَيَّرٍ) بزِنَةِ مُعَظَّمٍ هو الذي له أَعْلامٌ. (طِفْلَةٍ) بفَتْحٍ فسُكُونٍ – هي المَرْأَةُ النَّاعِمَةُ. (مَمْكُورَةٍ) مُمْتَلِئَةٍ السَّاقَيْنِ. (عَانِسِ) هي التي فَاتَ سِنُّ زَوَاجِهَا ولم تَتَزَوَّجْ. (إِذَا شُقَّ بُرْدٌ – إلخ) شَقُّ البُرْدِ تَمْزِيقُهُ، والبُرْدُ – بضَمٍّ فسُكُونٍ – هو الكِسَاءُ إذا كانَ فيهِ وَشْيٌ، ودَوَالَيْكَ: مَأْخُوذٌ مِن مُدَاوَلَةِ الشَّيْءِ، وهي المُنَاوَبَةُ، وهي تَعَاوُرُ الشَّيْءِ بينَك وبَيْنَ غَيْرِكَ، قالَ الأَعْلَمُ: وكانَ الرَّجُلُ إذا أَرَادَ تَأْكِيدَ المَوَدَّةِ بينه وبينَ مَنْ يُحِبُّ استِدَامَةَ مُوَاصَلَتِهِ شَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بُرْدَ صَاحِبِه يَرَى أنَّ ذلك أَبْقَى للمَوَدَّةِ، اهـ. وقال الجَوْهَرِيُّ: تَزْعُمُ النِّسَاءُ أنَّهُ إذا شَقَّ أحدُ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ البِضَاعِ شَيْئاً مِن ثَوْبِ صَاحِبِه دَامَ الوُدُّ بَيْنَهُمَا، وإلا تَهَاجَرَا. اهـ.
الإعرابُ: (إذَا) ظَرْفِيَّةٌ تَضَمَّنَت مَعْنَى الشَّرْطِ، مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. (شُقَّ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ لهُ مِن الإعرابِ. (بُرْدٌ) نَائِبُ فَاعِل شُقَّ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ (شُقَّ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ أَيْضاً مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (بالبُرْدِ) جَارٌّ ومَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بشُقَّ الثَّانِي (مِثْلُهُ) مِثْلُ: نَائِبُ فَاعِلِ شُقَّ الثَّانِي مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، ومِثْلُ مُضَافٌ وضَمِيرُ الغَائِبِ العَائِدُ إلى بُرْدٍ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ. (دَوَالَيْكَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ اليَاءُ المَفْتُوحُ ما قَبْلَهَا تَحْقِيقاً المَكْسُورُ ما بَعْدَهَا تَقْدِيراً نِيَابَةً عن الفَتْحَةِ لأنَّهُ مُثَنًّى، وهو مُضَافٌ وكَافُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (حَتَّى) حَرْفُ ابتِدَاءٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (كُلُّنَا) كُلُّ: مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وكُلُّ مُضَافٌ ونَا: مُضَافٌ إليه مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (غَيْرُ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وغَيْرُ مُضَافٌ و(لابسِ) مُضَافٌ إليه مَجْرُورٌ بالكَسْرَةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (دَوَالَيْكَ) حَيْثُ أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ المُخَاطَبِ كما تَرَى، وهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفِعْلٍ مِن مَعْنَاهُ، ولَيْسَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ حَالاً خِلافاً لسِيبَوَيْهِ لما سنَذْكُرُه.
([14]) حَاصِلُ ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ في هذه المَسْأَلَةِ أنَّ الجُمْهُورَ مِن النُّحَاةِ قد ذَهَبُوا إلى أنَّ (دَوَالَيْكَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ دَالٌّ على التَّكْرَارِ، ولم يُجِيزُوا في هذا اللَّفْظِ غَيْرَ هذا الوَجْهِ مِن الإعرَابِ، ومِثْلُهُ (هذَاذَيْكَ) فمَعْنَى (دَوَالَيْكَ) تَدَاوُلاً بَعْدَ تَدَاوُلٍ، ومَعْنَى (هَذَاذَيْكَ) هذًّا لكَ بَعْدَ هَذٍّ؟ وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى تَجْوِيزِ وَجْهَيْنِ مِن الإعرابِ في كُلِّ كَلِمَةٍ مِن هاتين الكَلِمَتَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أن تَكُونَ مَفْعُولاً مُطْلَقاً كما قالَ الجُمْهُورُ، والوَجْهُ الثَّانِي: أن تَكُونَ حَالاً على التَّأْوِيلِ بالمُشْتَقِّ، وتَقْدِيرُ (دَوَالَيْكَ) على هذا الوَجْهِ الثَّانِي: مُتَدَاوِلِينَ، وتَأْوِيلُ هذَاذَيْكَ عليه هَاذِّينَ، وقد رَدَّ المُؤَلِّفُ على سِيبَوَيْهِ بأنَّهُ يَلْزَمُ على القَوْلِ بأنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِن هاتين الكَلِمَتَيْنِ حَالٌ أَمْرَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلافُ الأصلِ:
الأوَّلُ: أنْ يَقَعَ الحَالُ مَعْرِفَةً؛ لأنَّا عَلِمْنَا أنَّ هذا اللَّفْظَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلى ضَمِيرِ المُخَاطَبِ، وإِضَافَةُ المَصْدَرِ تُفِيدُ التَّعْرِيفَ.
والأمرُ الثَّانِي أنَّهُ يَلْزَمُ وقوعُ المَصْدَرِ الدَّالِّ على تَكْرَارِ الحدثِ حَالاً، ولم يَرِدْ في كلامِ العربِ وقوعُ هذا المَصْدَرِ حَالاً، ولكنَّا حَفِظْنَا مِن كلامِهِم وُقُوعَهُ مَفْعُولاً مُطْلَقاً بدليلِ مَجِيئِه في القُرْآنِ الكَرِيمِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وإذْ قَدْ وَرَدَ وُقُوعُ المَصْدَرِ الدَّالِّ على التَّكْرَارِ مَفْعُولاً مُطْلَقاً بدَليلٍ ظَاهِرٍ في ذلك، ولم يَرِدْ وُقُوعُهُ حَالاً بدَليلٍ ظَاهرٍ في الحَالِيَّةِ لَزِمَنَا أنْ نَذْهَبَ إلى ما ثَبَتَ بدَلِيلٍ ظاهرٍ، فهذا إيضاحُ ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ في هذا الموضُوعِ.
([15]) أَعْرَبَ الأَعْلَمُ الشَّنْتَمْرِيُّ (هَذَاذَيْكَ) في قَوْلِ سُحَيْمٍ: (ضَرْباً هَذَاذَيْكَ) صِفَةً لضَرْباً، وهذا الإعرابُ مَرْدُودٌ بأنَّ ضَرْباً نَكِرَةٌ، وهَذَاذَيْكَ عِنْدَ الجُمْهُورِ مَعْرِفَةٌ، ولا تُوصَفُ النَّكِرَةُ بالمَعْرِفَةِ.
ومِن أَجْلِ ذَهَابِهِ إلى أنَّ هَذَاذَيْكَ نَعْتٌ لضَرْباً النَّكِرَةِ ذَهَبَ إلى أنَّ هذه الكَافَ في هَذَاذَيْكَ وأَخَوَاتِهَا حَرْفُ خِطَابٍ، مِثْلُ الكَافِ في أَسْمَاءِ الإشَارَةِ ، نَحْوُ ذلك وتلكَ، وهذا فَاسِدٌ مِن ثلاثةِ أَوْجُهٍ أَوْمَأَ إليها المُؤَلِّفُ:
الأوَّلُ: أنَّهُم أَضَافُوا بَعْضَ هذهِ الألفاظِ لضَمِيرِ الغَيْبَةِ – وإن كانَ ذلك شَاذًّا – نَحْوُ (لَبَّيْهِ)، وللاسمِ الظَّاهِرِ، نَحْوُ (لَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ)، وقد عَلِمْنَا أنَّ اسمَ الإشارةِ لم يتَّصِلْ به إلاَّ دالُ الخِطَابِ، فلمَّا اختَلَفَ حالُ هذه الألفاظِ وحالُ اسمِ الإشارَةِ لم يَكُنْ لنا أن نَحْمِلَ هذه الألفاظَ على اسمِ الإشارَةِ.
والوَجْهُ الثَّانِي: أنَّا عَلِمْنَا أنَّ هذه الألفاظَ مُثَنَّاةٌ لَفْظاً، ووَجَدْنَا العربَ حِينَ وَصَلَت بها كافَ الخِطَابِ قَالَتْ: (دَوَالَيْكَ) و(حَنَانَيْكَ) فحَذَفُوا النُّونَ التي هي بَدَلٌ في المُثَنَّى عَنْ تَنْوِينِ المُفْرَدِ كما يَحْذِفُونَهَا مِن كُلِّ مُثَنًّى عندَ الإضافةِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ووَجَدْنَاهُم – معَ ذلك – لم يَحْذِفُوا النُّونَ مِن اسمِ الإشارةِ المُرَادِ به المُثَنَّى في نَحْوِ (ذَانِكَ) و(تَانِكَ) فعَلِمْنَا أنَّ اسمَ الإشارةِ ليسَ مُضَافاً إلى الكَافِ المُلْحَقَةِ به، ولَزِمَ أنْ تَكُونَ الكافُ حَرْفاً، كما عَلِمْنَا مِن حَذْفِ النون مِن (دَوَالَيْكَ) وأَخَوَاتِهِ أنَّهُ مُضَافٌ إلى الكافِ، ولَزِمَ أن تكونَ الكَافُ فيه اسماً.
والوَجْهُ الثَّالِثُ: أنَّا عَلِمْنَا باستِقْرَاءِ كلامِ العربِ أنَّهُم يُلْحِقُونَ الكافَ الحَرْفِيَّةَ, بالأسماءِ التي تُشْبِهُ الحُرُوفَ، مِثْلُ أَسْمَاءِ الإشارةِ في نَحْوِ ذلك وتلك وذانك وتانك، ومِثْلُ الضَّمَائِرِ في نَحْوِ (إيَّاكَ) ولم نَجِدْهُم أَلْحَقُوا هذه الكافَ باسمٍ غَيْرِ مُشْبِهٍ للحَرْفِ، ولا شَكَّ أنَّ (دَوَالَيْكَ) وأَخَوَاتِه أَسْمَاءٌ لا تُشْبِهُ الحَرْفَ، فلم يَكُنْ لنا أن نُقِرَّ شَيْئاً يَخْرُجُ عَنْ مَجْرَى كَلامِهِم.
وقَوْلُنَا: إنَّ الكافَ في (إيَّاك) وأخواتِهَا حرفُ خطابٍ مَبْنِيٌّ على مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وجَمَاعَةٍ مِن البَصْرِيِّينَ، والكُوفِيِّينَ، وهو الرَّاجِحُ مِن أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ ذَكَرْنَاهَا لك في مَبَاحِثِ الضَّمِيرِ في الجُزْءِ الأوَّلِ مِن هذا الكِتابِ (ص89 والتي بعدها).
فإنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَت الكافُ في (دَوَالَيْكَ) ضَمِيرَ الخِطَابِ على ما تَخْتَارُه، فما مَوْضِعُهَا مِن الإعرابِ!.
فالجوابُ على ذلك أنْ نقولَ لك: هي أوَّلاً في مَحَلِّ جَرٍّ بإضافَةِ المَصْدَرِ المُثَنَّى إليها، ولها مَحَلٌّ آخَرُ هو الرَّفْعُ أو النَّصْبُ؛ وذلك لأنَّ المَصْدَرَ يُضَافُ إلى فاعِلِه ويُضَافُ إلى مَفْعُولِهِ، فإن اعتَبَرْتَ الكافَ فَاعِلَ المصدرِ فهي في مَحَلِّ رَفْعٍ، وإن اعتَبَرْتَها مَفْعُولَ المَصْدَرِ فهي في مَحَلِّ نصبٍ.
فإن قُلْتَ: وهل أَعْتَبِرُها فاعلَ المصدرِ أو أجعَلَها مَفْعُولَ المصدرِ؟.
فالجوابُ عن ذلك أن نقولَ لك: إنَّ النُّحَاةَ يَذْكُرُونَ أنَّ هذه الكافَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ على أنَّهَا مفعولُ المصدرِ، ولا نَرَى لك أنْ تَطَّرِدَ هذا الكَلامَ في الكَافَاتِ كُلِّهَا بل نُلْزِمُك أنْ تَرْجِعَ إلى المَعْنَى المَقْصُودِ بالكلامِ، ألا تَرَى أنَّ مَن يقولُ لطالِبِه: (لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ) إنَّمَا يريدُ أنِّي أُجِيبُكَ إِجَابةً مُتَكَرِّرَةً وأُسْعِدُكَ إِسْعَاداً مُتَكَرِّراً، فتكونُ الكافُ للمفعولِ، وقائِلُ: (حَنَانَيْكَ) إنَّمَا يريدُ أنْ يقولَ لمُخَاطِبِهِ: تَحَنَّنْ عليَّ وارفُقْ بِي، فالكافُ لفاعلِ الحنانِ، وانظُرْ إلى قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ للنُّعْمَانِ:
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا = حَنَانَيْكَ، بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
([16]) 330-هذا بَيْتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطورِ، ولم يَتَيَسَّرْ لي العُثُورُ على نِسْبَتِه إلى قائلٍ مُعَيَّنٍ، وقد استشهدَ به الأَشْمُونِيُّ (رقم 613) وابنُ عَقِيلٍ (رقم 221) وقَبْلَ هذا البَيْتِ قَوْلُهُ:
إِنَّكَ لَوْ دَعَوْتَنِي وَدُونِي = زَوْرَاءُ ذَاتُ مُتْرَعٍ بَيُونِ
اللُّغَةُ: (الزَّوْرَاءُ): الأرضُ البعيدةُ، و(المُتْرَعُ): المُمْتَدُّ، وبَيُونِ – بفَتْحِ الباءِ المُوَحَّدَةِ بعدها مُثَنَّاةٌ مَضْمُومَةٌ – هي البِئْرُ البعيدةِ القَعْرِ.
المَعْنَى: يَقُولُ لمَن يُخَاطِبُه: إنَّنِي لا أتأَخَّرُ عَن إجابةِ دَعْوَتِك، ولا تَمْنَعُنِي العَرَاقِيلُ مَهْمَا عَظُمَت عن تلبيةِ نِدَائِكَ، فلو أنَّ بَيْنِي وبينك بِئْراً عَمِيقةً ومَهَامِهَ فَسِيحَةَ الأَرْجَاءِ مُمْتَدَّةَ الأطرافِ مُتَرَامِيَةَ الأنْحَاءِ لكُنْتُ مُسْرِعاً إلى إجابةِ دَعْوَتِكَ.
الإعرابُ: (إِنَّكَ) إنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ يَنْصِبُ الاسمَ ويَرْفَعُ الخبرَ، مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وضميرُ المُخَاطَبِ اسمُهُ مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نصبٍ. (لو) حرفُ شرطٍ غيرُ جازمٍ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (دَعَوْتَنِي) دَعَا: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فتحٌ مُقَدَّرٍ على آخرهِ لا محلَّ له مِن الإعرابِ، وتاءُ المُخَاطَبِ فاعلُه مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ رفعٍ، والنُّونُ للوِقَايَةِ, وياءُ المُتَكَلِّمِ مَفْعُولٌ به مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ نصبٍ. (ودُونِي) الواوُ واوُ الحالِ مَبْنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، دُونِ: ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ خبرٌ مُقَدَّمٌ مَنْصُوبٌ بفتحةٍ مُقَدَّرةٍ على ما قبلَ ياءِ المتكَلِّمِ، وهو مُضَافٌ وياءُ المُتَكَلِّمِ مُضَافٌ إليه، مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (زَوْرَاءُ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرْفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وجملةُ المبتدأِ وخبرِهِ في مَحَلِّ نصبٍ حالٌ. (ذَاتُ) صفةٌ لزَوْرَاءُ، وذَاتُ مُضَافٌ و(مُتْرَعٍ) مُضَافٌ إليه مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظَّاهرةِ. (بَيُونِ) نَعْتٌ لمُتْرَعٍ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظَّاهرةِ. (لَقُلْتُ) اللامُ واقعةً في جوابِ لو، "قالَ" فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على فتحٍ مُقَدَّرٍ على آخرِه لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وتاءُ المُتَكَلِّمِ فَاعِلُه مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ رَفْعٍ. (لَبَّيْهِ) لَبَّيْ: مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بفعلٍ مَحذُوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: أَجَبْتُكَ إِجَابَةً بَعْدَ إجابةٍ، والهاءُ التي هي ضميرُ الغائبِ مضافٌ إليه مَبْنِيٌّ على الكسرِ في مَحَلِّ جَرٍّ. (لِمَنْ) اللامُ حرفُ جَرٍّ مَبْنِيٌّ على الكسرِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، مَن: اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ جرٍّ باللامِ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بقُلْتُ. (يَدْعُونِي) يَدْعُو: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِه مِن النَّاصبِ والجازمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ على الواوِ منعَ مِن ظهورِهَا الثِّقَلُ, وفاعلُه ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى الاسمِ المَوْصولِ، والنُّونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلِّمِ مفعولٌ به ليَدْعُو مَبْنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ وفَاعلِهِ ومَفْعُولِه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ صِلَةُ الموصولِ، وجملةُ لو وشَرْطِهِ وجَوَابِه في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ إِنَّ.
الشَّاهدُ فيه: قَوْلُه: (لَبَّيْهِ) حيثُ أُضِيفَ فيه (لَبَّيْ) إلى ضَمِيرِ الغَائِبِ، وهو شَاذٌّ.
([17]) 331- وهذا الشاهدُ مِن أَبْيَاتِ سِيبَوَيْهِ التي لم يَعْرِفُوا لها قَائلاً (ج1 ص176)، وقالَ الشَّيْخُ خالِدٌ: إنَّهُ لأعرَابِيٍّ مِن بَنِي أَسَدٍ، ولم يُعَيِّنْهُ، وهو مِن شواهِدِ ابنِ عَقِيلٍ أَيْضاً (رقم 222) والأشمُونِيِّ (رَقْمُ 612)، والذي ذكرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ بَيْتٍ مِن المُتَقَارِبِ، وصَدْرُهُ قَوْلُه:
*دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَراً*
اللُّغَةُ: (دَعَوْتُ) تقولُ: دَعَوْتُ فُلاناً أَدْعُوهُ دُعَاءً، إذا استَعَنْتَ به أو طَلَبْتَ إِغَاثَتَهُ. (نَابَنِي) نَزَلَ بي وأَصَابَنِي. (مِسْوَرٌ) - بكَسْرِ الميمِ وسُكُونِ السِّينِ وفَتْحِ الواوِ – اسمُ رجلٍ. (لَبَّى) أجابَ بقَوْلِهِ: لَبَّيْكَ. (لَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرٍ) المُرَادُ الدُّعَاءُ لمِسْوَرٍ بأنْ يُجَابَ دُعَاؤُهُ كُلَّمَا دَعَا إِجَابَةً بعدَ إِجَابةٍ, وإنَّمَا خَصَّ يَدَيْهِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّهُمَا اللتان أَعْطَتَاهُ ما سَأَلَ.
المَعْنَى: أصلُ هذا أنَّ رَجُلاً دَعَا رَجُلاً آخَرَ اسمُهُ مِسْوَرٌ ليَغْرَمَ عَنْهُ دِيَةً لَزِمَتْهُ، فأجابَهُ إلى ذلك، فالرَّاجزُ يقولُ: دَعَوْتُ مِسْوَراً للأمرِ الذي نزلَ بي فلبَّانِي، ثُمَّ دعا له.
الإعرابُ: (دَعَوْتُ) فعلٌ وفاعلٌ. (لِمَا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بدَعَوْتُ. (نَابَنِي) نابَ: فِعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى ما، والنُّونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلمِ مَفعولٌ به لنابَ. (مِسْوَراً) مفعولٌ به لدعوتُ. (فَلَبَّى) الفاءُ عاطفةٌ, ولَبَّى: فعلٌ ماضٍ فاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُهُ هو يعودُ إلى مِسْوَرٍ. (فَلَبَّيْ) الفاءُ عاطفةٌ، لَبَّيْ: مفعولٌ مطلقٌ منصوبٌ بفِعْلٍ محذوفٍ، وهو مُضَافٌ و(يَدَيْ) مضافٌ إليه مَجْرُورٌ بالياءِ المفتوحِ ما قَبْلَهَا تَحْقِيقاً المَكْسُورِ ما بَعْدَها تَقْدِيراً نِيَابَةً عَن الكَسْرَةِ؛ لأنَّهُ مُثَنًّى، وهو مضافٌ و(مِسْوَرِ) مضافٌ إليه مجرورٌ بالكسرةِ الظَّاهِرَةِ.
الشَّاهدُ فيه: قَوْلُهُ: (فَلَبَّيْ يَدَيْ) حيثُ أضافَ (لَبَّيْ) إلى الاسمِ الظَّاهرِ، وهو قَوْلُه: (يَدَيْ)، وذلك شاذٌّ.
([18]) زعمَ يُونُسُ بنُ حَبِيبٍ أنَّ (لَبَّى) اسمٌ مفردٌ على وزنِ فَعْلَى – بفتحٍ فسكونٍ – وأنَّ أَلِفَهُ انقلَبَت ياءً عند اتِّصَالهِ بالضَّمِيرِ، كما تَنْقَلِبُ أَلِفُ (لَدَى) وألفُ (على) الجَارَّةِ يَاءً عند اتِّصَالِ الضَّمِيرِ بهما؛ إذْ تَقُولُ: (لَدَيْكَ) و(عَلَيْكَ) ووَجْهُ الرَّدِّ مِن هذا البيتِ أنَّ الياءَ لو لم تَكُنْ ياءَ التَّثْنِيَةِ، وكانت كما يقولُ يُونُسُ لكانَت تَبْقَى أَلِفاً حينَ يُضَافُ هذا الاسمُ إلى الاسمِ الظَّاهرِ، كما أنَّ ألفَ (لَدَى) وألفَ (على) تَبْقَى على حَالِهَا حينَ تَتَّصِلُ إِحْدَى هاتينِ الكَلِمَتَيْنِ بالاسمِ الظَّاهِرِ كما في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} وكما في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفُلْكِ} فَلَمَّا وجدْنَا ياءَ (لَبَّيْكَ) على حالِهَا معَ الإضافَةِ للضَّمِيرِ وللظَّاهِرِ جَمِيعاً عَلِمْنَا أنَّها ياءُ التَّثْنِيَةِ وليسَت كألفِ لَدَى وعلى، ألا ترَى أنَّكَ تقولُ في إضافةِ المُثَنَّى: (كتابَيْكَ) و(كِتَابَيْ زَيْدٍ) فتكونُ الياءُ على حالِها عندَ الإضافةِ للظَّاهرِ وللضَّمِيرِ، فهذا كهذا.
([19]) يعنِي أنَّ ابنَ النَّاظِمِ وَهِمَ في نِسْبَةِ الخِلافِ في هذه الألفاظِ كُلِّهَا إلى يُونُسَ؛ لأنَّ خلافَهُ في لَبَّيْكَ وَحْدَهُ.