ثم قال الشيخ : (( وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم )).
الخلف : له معنى لغوي , وله معنى إصطلاحي , كما أن السلف له معنى لغوي وله معنى اصطلاحي .
فالمعنى اللغوي للسلف والخلف , هو أن السلف من سبق , والخلف من لَحِق . فيقال : أولئك سلف , وهؤلاء خلف لهم. فمن تقدم سلف , ومن جاء بعدهم فهو لهم خلف , وهذا هو المعنى اللغوي .
لكن بعد الخوض والتفرق الذي وقع في الأمة الأسلامية , صار لكل من السلف والخلف معنى خاصّ به. هذا المعنى له دلالة اصطلاحية معينة , فصار السلف يدل على من سار على منهج الرسول r وأصحابه , سواء كان في عهد الصحابة , أوفي عهد التابعين أو من بعدهم وإلى عصرنا الحاضر , وصار لفظ الخلف يطلق على من حرَّف وغيرَّ وبدل . فيقال : هذا من الخلف أي أنه مغير لايسير على منهج السلف . فصارت [السلف] و [الخلف] كلمتين متقابلتين . فالخلف هم كل من ابتدع وتأول النصوص وأغرق عن منهج الرسولr وأصحابه , سواء كان في الزمن الأول أي في عصر الابعين مثلاً , أو من بعدهم , أو في العصر الحديث , كل من ابتدع وتأول النصوص يقال عنه هو على منهج الخلف , وضدهم السلف .
فعبارة الشيخ حين قال هنا (( وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم )) , نقول : السلف سواء قصد بها المعنى اللغوي أو الاصطلاحي لي فيها إشكال .
أما المقصود بالخلف هنا فهو المعى اللغوي , أي الذين جاءوا بعد السلف .
وأئمة الخلف : أي الأئمة الذين جاءوا بعد السلف , وساروا على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى , ولم يقصد أن أئمة الخلف من أهل البدع هذا منهجهم. وإنما قصده أئمة الخلف الذين جاءوا بعد أولئك السلف الصالح وصاروا أئمة يقتدى بهم .
ثم قال الشيخ رحمه الله : (( كلهم متفقون عل الإقرار والإمرار )) على الإقرار: أي الإقرار واليقين والإيمان والإثبات لتلك الصفات الواردة في كتاب الله , وفي سنة رسولهr . والإمار : أي أنهم يمرونها , ولايتعرضون لتأويلها أو لتحريفها , قال : (( والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وفي سنة رسول اللهr من غير تعرضٍ لتأويله )) . هذا واضح المعنى وقد سبق بيانه . ولكن نقف عند قوله: (( والإمرار)) لأنه ورد عن جمهرة من السلف ؛ أنهم
سُئلوا عن الصفات فقالوا(( أمروها كما جاءت )) فهل هذا تفويض ؟ وهل معنى أمرّوها كما جاءت , أي أمروا لفظها دون التعرض لها ودون إأثبات ما دلت عليه من المعاني ؟
نقول : بعض المفوضة ظن أن مثل هذه العبارة دليل لهم على التفويض . لكن الصحيح أن السلف رحمهم الله تعالى أثبتوا الصفات , كما أشار الشيخ هنا , أثبتوا ما دلّت عليه , ثم إذا سئلو عن الصفات قالوا :(( أمروها كما جاءت )) أي لا تتعرضوا لتأويلها , كما تعرض لها أهل التأويل , والدليل على ذلك أنه ورد عن السلف مثل هذه العبارة في غير الصفات .
فسئل الإمام أحمد عن أحاديث الوعيد كقولهr : (( ثنتان في أمتي هما بهم كفـرٌ ))(1) وقوله : (( ولله لا يؤمن ))(2) , وقوله )) لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))(3) . فقال رحمه الله تعالى: تمر كما جاءت .
وسئل في بعض المرات عن أحاديث الفضائل , التي فيها الفضل العظيم
فقال (( تمر كما جاءت )) أي لا نتعرض لتأويلها , وتحريفها , والخوض فيها على غير المنهج الحق . فدل ذلك على أن كلمة (تمر كما جاءت ) ليست خاصة بصفات الله , حتى ياتي قائل ويقول : إن المقصود بإمرار صفات الله : التفويض , وإنما المقصود إمرارها بعدم العرض لها , بتحريف , أو تأويل , أو تعطيل أو نحو ذلك .
ثم قال الشيخ : (( وقد أمرنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بمنارهم)) أي أمرنا بأن نقتدي بهؤلاء السلف رحمهم الله تعالى , وأن نهتدي بمناراتهم العالية المضيئة , التي أبرزوا من خلاله المنهج الحق والوسط , منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى ولذا قال : (( وحذَّرنا المحدثات , وأخبرنا بأنها من الضلالات . فقال النبي r)): عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديينَ من بعدي , عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة ))(1) .
وهذا استشهاد من الشيخ رحمه الله تعالى بهذا الحديث الثابت عن النبي r , فإن الرسول عليه والصلاة والاسلام أمر أمته باتباع السنة ، وحذرهم من البدع . ولهذا لما أمرهم أمرهم باتباع سنته , وباتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده .
ولو تأملت ما ورد عن الخلفاء الراشدين , لو جدته تطبيقًا عمليًا لما في كتاب الله وما في سنة رسولهr . لم يقع منهم تحريف , أو تأويل , أو تغيير أو تبديل .
وما وقع من خلاف بين الصحابة إنما هو في باب الأحكام , وهذا واقع حتى والرسولr بين الصحابة , كما في قصة بني قريظة , لما أمرهم بألا يصلوا العصر غلا في بني قريظة فاختلف الصحابة .
لكن في باب إثبات الأسماء والصفات وفي باب العقائد . لم يقع في هذه العهود المفضلة بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أي اختلاف (1) ، ولهذا أمرنا باتباع هدي الخلفاء الراشدين ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وذلك في باب العقيدة وفي باب المنهج .
ثم قالr)) : وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محجثة بدعة ، وكل بدعة ضلالـة )) . فحذر رسول الله r من الأمور المحدثة التي هي بدعٌ وضلالات .
والبدعة : هي أمر محدث في الدين , فيه مضاهاة لما ورد في الشريعة, وإنما قلنا هذا حتى يخرج عن ذلك الأمور الحادثة التي هي من باب العادات , فلا تدخل في البدع المذمومة , كأن يأتي إنسان ويقول : كانوا يركبون الإبل في الزمن القديم , ونحن الآن نركب السيارت , فالسيارات بدعة , هذا ليس بصحيح ؛ لأن هذه الأمور هي من باب العادات , والأصل فيها الإباحة وإنما تضبط بقواعد الشرع العامة فقط , من خلال المقاصد ونحو ذلك .
لكن المقصود بالبدعة أن يبتدع الإنسان أمراً في الدين , سواء كان هذا في أمر عقدي , أو في أمر يتعلق بالعبادة والشرع , فهو بدعة وضلالة , فأولئلك الذين ابتدعوا في دين الله تعالى كأهل الأهواء مثلاً , تجد كل واحد منهم ابتدع بدعاً كثيرة مخالفة لنص كتاب الله وسنة رسولهr, مثل بدع الجهمية في باب الصفات وفي باب القدر وفي باب الإيمان وبدع المعتزلة في باب
الصفات وفي باب القدر وفي باب الإيمان , وبدع الروافض في باب الإمامة وفضائل أصحاب الرسول r وغيرها وبدع القدربة وبدع المرجئة وغيرها .
هذه كلها بدع محدثة في باب العقائد والمقالات , مخالفة لما كان عليه الرسول r وصحبه الكرام , ومثله أيضاً البدع العملية , مثل أولئك الذين يبتدعون أوراداً , أوأذكاراً , أو موالد أو غير ذلك . فهذه بدع عملية لأن صاحبها يريد أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا العمل , فاخترع هذا الذكر بهذا الشكل, وبهذه الكيفية وفي هذا الوقت , فهذه الأمور كلها تحول هذا الأمر إلى أمر بدعي . وقد حذر رسول اللهr من هذه البدع جميعاً حيث قال : (( وكل بدعة ضلالة )) , وهذا شامل للبدع الحقيقية التي اخترعها مبتدعها وأضافها إلى الدين والبدع الإضافية التي لها أصل في الشرع لكن أضاف إليها المبتدع وقتاً محدوداً أو كيفية ونحوها وجعلها كلها عبادة .
والمنهج الصحيح هو السير على منهاج الرسول r ومنهاج أصحابه, وأن ذلك لا يتعارض أبداً مع مستجدات العصر, بمعنى أنه لا يمكن أن يأتي زمان - مهما بلغ تطوره - نحتاج فيه إلى تغيير في شرع الله تعالى ؛ لأن الشرع كامل صالح لك زمان ومكان .
تتغير أمور الناس ويتغير شكل حياتهم, وتتغير الوسائل, لكن تبقى الأصول التي أمر الله بها , وأمر الله بها وأمر بها رسولهr, وشرعها الله ، وشرعها رسولهr لا تتغير ولاتتبدل أبداً.
وهذه هي الثوابت في دين الله تعالى التي لا تقبل التغيير أبداً . وأي تغيير فيها هو اتهام لهذه الشريعة بالنقص؛ سواء كان في باب العقائد والتصورات ونحو ذلك , أو في باب الشريعة وتطبيقها , أو في باب العبادات التي يتقرب بها العباد إلى ربهم سبحانه وتعالى , كل هذه الأمور مما جاءت به الشريعة كاملة , ولاتتغير أبداً , مهما اختلف الزمان, ومهما تغير المكان وهذا واضح جداً والحمد لله تعالى .
(1) أخرجه مسلم رقم (67) كتاب الإيمان
(2) أخرجه البخاري رقم (6016) كتاب الأدب . ومسلم رقم (46) كتاب الإيمان
(3) أخرجه البخاري رقم (2475) كتاب المظالم . زمسلم رقم(57) كتاب الإيمان
(1) أخرجه الترمذي رقم (2607) كتاب العلم . وابو داود رقم (4607) كتاب السنة وابن ماجه رقم (42) في المقدمة , وأحمد في المسند (4/126,127) وقال الترمذي : حسن صحيح .
(1) سوى مسائل يسيرة مثل : هل راى الرسول r ربه ليلة المعراج ؟ ونحوها .