دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب الصلاة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 09:01 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب الذكر عقيب الصلاة

بَابُ الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلاَةِ

عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ – حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِن المَكْتُوبَةِ – كانَ عَلَى عَهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كنتُ أعلمُ إذا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ.
وفي لفظٍ: مَا كنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلاَّ بالتَّكْبِيرِ.
عن وَرَّادٍ مولى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبةَ قالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ في كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيةَ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ، مِنْكَ الْجَدُّ)).
ثُمَّ وفَدتُ بَعْدُ على مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بذلكَ.
وفي لفظٍ: ((وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ)).
عن سُمَيٍّ - مولى أبِي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ- عن أبِي صالحٍ السَّمَّانِ، عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ فُقَرَاءَ المهاجرينَ أتَوْا رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. فقَالُوا: قد ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعيمِ المُقيمِ، فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قَالُوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَن سَبَقَكُمْ، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَن بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلاَّ مَن صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى، يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ مَرَّةً)).
قالَ أبو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إلى رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَاءُ}.
قالَ سُمَيٌّ: فحدَّثْتُ بعضَ أَهْلِي هذَا الحديثَ، فقالَ: وَهِمْتَ، إنَّمَا قالَ: ((تُسَبِّحُ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدُ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللهَ ثَلاَثًا وَثلاثينَ)).
فَرَجَعْتُ إلى أبِي صالحٍ، فقلتُ لهُ ذلكَ، فقالَ: اللهُ أَكْبَرُ وَسُبْحانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ، حتَّى تَبْلُغَ مِن جَمِيعِهِنَّ، ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ.
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم صلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إلى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ: ((اذْهَبُوا بخَمِيصَتي هَذِهِ إلى أبِي جَهْمٍ، وَائتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي)).
الْخَمِيصَةُ: كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ أَعْلاَمٌ.
وَالأَنْبَجَانِيَّةُ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ.


  #2  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:36 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الأول: تصحيح الرواية)


حديثُ أبي هريرةَ في التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ عَقِبَ الصلاةِ لم يَذكُر البخاريُّ رجوعَهم إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقولُهم سَمِعَ إخوانُنا إلى آخِرِه قالَه الحافظُ ضياءُ الدينِ في (أحكامِه) ، وقالَ الحافظُ رشيدُ الدينِ العطَّارُ : قولُ مسلِمٍ في آخِرِ الحديثِ قالَ أبو صالحٍ : فرَجَعَ فقراءُ المهاجرين إلى رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى آخِرِه مرْسَلٌ لم يُسنِدْه أبو صالحٍ وقد أَخْرَجَه البخاريُّ في مواضعَ من كتابِه ولم يذكُرْ فيه هذه الزيادةَ من قولِ أبي صالحٍ إلا أن مسلِماً قد أَخْرَجَه من وجهٍ آخَرَ عن أبي صالحٍ وفيه هذه الزيادةُ متَّصِلَةٌ مع سائرِ الحديثِ قالَ : إلا أنه أَدْرَجَ في حديثِ أبي هريرةَ قولَ أبي صالحٍ : فرَجَعَ فقراءُ المهاجِرِين إلى آخِرِه قالَ : وقولُه : فحدَّثْتُ بعضَ أهلي فقالَ : زَعَمْتُ هو غيرُ متَّصِلٌ .


  #3  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

قولُه : قالَ ابنُ عبَّاسٍ: كنت أعلَمُ إذا انْصَرَفوا بذلك إذا سَمِعْتُه .
كنت: كان واسمُها وأعلَمُ خبرٌ وإذا الأُولى مفعولُ أعلَمُ .
وإذا سَمِعْتُه: ظرْفٌ لأعلَمُ .
والأصلُ كنت أعلَمُ وقتَ سماعي زمَنَ انصرافِه .
قولُه: المسيحُ الدجَّالُ.
بالحاءِ المهمَلةِ وعن ابنِ عبدِ البَرِّ أن بعضَهم يَرويه بخاءٍ معجَمةٍ وخَطَّأَها ابنُ دِحْيَةَ في ( مَجْمَعِ البحرين ) وحَكَى فيه فتْحَ الميمِ وسكونَ السينِ وكسْرِ الياءِ .
وعن أبي عبيدةَ: أظنُّه بالشينِ المعجَمةِ كما نَطَقَ به اليهودُ ثم عُرِّبَ بالمهمَلةِ وبعضُهم يَقرأُ المسيحَ ابنَ مريمَ بفتْحِ الميمِ وتخفيفِ السينِ ويَقرأُ الْمِسِّيحَ الدجَّالَ بكسرِها وتثقيلَ السينِ فرْقاً بينَهما قيلَ سُمِّي بذلك لِمَسْحِه الأرضَ أي طَوْفُه لها وقيلَ : لأنه مَمسوحُ إحدى العينين وسُمِّيَ دجَّالاً لكذبِه وتمويهِه .

قولُه : اللهمَّ لا مانِعَ لما أعطَيْتَ ولا مُعْطِي لما مَنَعْتَ .
هكذا الروايةُ بفتْحِ مانِعٍ ومُعطِي وهو مشكِلٌ لأن حقَّ اسمِ لا إذا كان مضافاً أو شبيهاً به أن يُعرَبَ ولا يُبنَى على الفتْحِ لكن حَكَى الفارسيُّ في (الحُجَّةِ) أن أهلَ بغدادَ يُجرون المطوَّلَ مَجرَى المفرَدِ فيَبنونه فيَتخرَّجُ الحديثُ على هذه اللغةِ ولذلك جَوَّزَ الزمخشريُّ في قولِه تعالى : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } و{ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ } أن يكون عليكم متعلِّقٌ بلا تثريبَ
و { مِنْ أَمْرِ اللهِ } يَتعلَّقُ بـ {لَا عَاصِمَ} ورَدَّه عليه الشيخُ أبو حَيَّانَ بأنه مطَوَّلٌ وهذا جوابُه ومذْهَبُ ابنِ كَيْسَانَ أنه يَجوزُ في المطوَّلِ التنوينُ وترْكُه قالَ : وتَرْكُه أحسنُ قالَ في (الفائقِ): ورُوِيَ أَنْطَيْتَ ولا مُنْطِي بالنونِ فيهما قالَ والانطاءُ الإعطاءُ بلغةِ بني سعدٍ وفي موضِعٍ آخَرَ أنها لغةُ أهلِ اليمنِ .

قولُه : ولا يَنفعُ ذا الْجِدِّ منك الجِدُّ.
الصحيحُ المشهورُ فيه فتْحُ الجيمِ وهو الحظُّ والمعنى لا يَنفَعُ ذا الحظِّ والمالِ والغِنى غِناه ويُروَى بكسْرِ الجيمِ وهو الإسراعُ في الضربِ أن لا يَنفعَه هربُه منك وأنكَرَ أبو عبيدٍ روايةَ الكسْرِ وقالَ : قد أمَرَ اللهُ بالجِدِّ والعمَلِ فكيف لا يَنفَعُ وغلَّطَه ابنُ السيِّدِ بأن المعنى على روايةِ الكسْرِ أن العبدَ لم يَبلُغْ بجِدِّه وعملِه دخولَ الجنَّةِ إلا بفضْلِ اللهِ بَقِيَ في الحديثِ سؤالٌ مشهورٌ وهو ما معنى من في قولِه :((مِنْكَ))؟ والظاهِرُ أنها للبَدلِيَّةِ أي لا يَنفعُ ذا الحظِّ حظُّه من الدنيا بذلك أي بَدَلُ طاعتِك أو بَدَلُ حظِّك أي بَدَلُ حظِّه منك وقيلَ : ضَمَّنَ يَنفعُ معنى يَمنَعُ ومتى عَلَقَتْ مِن بالجِدِّ انعكَسَ المعنى وجَزَمَ الزمخشريُّ في (الفائقِ) بأنها للبدليَّةِ ثم قالَ : ويَجوزُ أن تكون على معناها لابتداءِ وتَتعلَّقُ إما بيَنفعُ وإما بالجِدِّ والمعنى أن المجدودَ لا يَنفعُه منك الجِدُّ الذي منحْتَه وإنما يَنفعُه التوفيقُ منك .
قولُه : وعن قيلَ وقالَ ، اختُلِفَ فيهما فقيلَ : فِعْلان قيلَ : مَبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعلُه وقالَ : فعْلٌ ماضٍ وقيلَ : هما اسمان مجروران منوَّنان .
قولُه : وعقوقُ الأمَّهاتِ .
قالَ في (المحْكَمِ): يُقالُ : عَقَّ والدَه يَعُقُّه عقًّا وعُقوقاً شَقَّ عَصَى طاعتِه وقد يَعُمُّ بلفظِ العقوقِ جميعَ الرحِمِ والفعْلُ كالفعْلِ والمصدَرُ كالمصدَرِ وقد تَكَلَّمَ الشيخُ عزُّ الدينِ في (الشجرةِ) على معاني هذه الكلماتِ فقالَ : إضاعةُ المالِ إتلافُه في غيرِ غرَضٍ صحيحٍ يَعتَدُّ به العقلاءُ وكفى بالمرْءِ إثماً أن يُحدِّثَ بكلِّ ما يَسمَعُ ذلك أن يكونَ الرجلُ ...............................) مَانِعاً لمالِه إذا سُئلَ وسائلاً لأموالِ الناسِ يقولُ : هاتِ .
((وَوَأْدَ الْبَنَاتِ)): دَفْنُهُنَّ أحياءً انتهى.
الدُّثورُ : جمْعُ دَثْرٍ وهو المالُ الكثيرُ .
قولُه : ((وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَمَا صَنَعْتُمْ )).
في ظاهرِه إشكالٌ إذ كيف تَثْبُتُ الأفضليَّةُ مع التساوي في العملِ فيُأَوَّلُ إلا من صَنَعَ مثلما صنعتُم وزادَ عليكم بالصدَقَةِ والعِتقِ بدليلِ سياقِ الحديثِ .
قولُه : ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمِدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ)) .
هذه الأفعالُ الثلاثةُ تَنازعَتْ في االظرْفِ والمصدَرِ .
قولُه : فقالَ: وَهِمْتُ .
قالَ السُّهيليُّ في ( الروْضِ الأنُفِ ) يُقالُ : وَهَمَ بفتْحِ الهاءِ ووَهَلَ إذا أرادَ شيئاً فذَهَبَ وَهْمُ المرءِ إلى غيرِه وأما وهِمَ بالكسْرِ في معناه غَلَطَ .
الأنبجانيَّةُ : بفتْحِ الهمزةِ وسكونِ النونِ وكسْرِ الباءِ الموحَّدةِ وبعدَ الألفِ نونٌ مكسورةٌ وياءٌ آخِرَ الحروفِ مشدَّدةٌ وتاءُ التأنيثِ ورُوِيَ بفتْحِ الهمزةِ وكسْرِها ، وبكسْرِ الباءِ وفتحِها وتشديدِ الياءِ وتخفيفِها والهمزةُ زائدةٌ في قوْلٍ قيلَ : هي الكساءُ المربَّعُ له علَمَان .
قالَ صاحبُ ( الوافي ) : منسوبٌ إلى بلدٍ يُسمَّى أَنْبِجَانَ وقالَ الخطابيُّ : أُراها منسوبةً إلى الغِلَظِ ولا عَلَمَ لها وذَكَرَ أبو عبدِ اللهِ الأزديُّ في كتابِ ( الترقيصِ ) عن أبي الحسَنِ المدائنيِّ بإسنادِه أن أبا الجَهْمِ عبيدَ بنَ حذيفةَ هذا كان ممن يُوآزِرُ عمرَ بنَ الخطابِ رضِيَ اللهُ عنه قبلَ الإسلامِ على مُعاداةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أسلَمَ عمرُ وتأخَّرَ أبو الجهمِ حتى أسلَمَ عامَ الفتْحِ ثم انتقَلَ إلى المدينةِ وكان من رجالِ قريشٍ فأتى رسولَ اللهِ بِخَميصتين سوداوتين فلَبِسَ إحداهما ولها علَمٌ وبَعثَ الأُخرى إلى أبي الجهْمِ بعدَما لَبِسَها وأخَذَ خميصةَ أبي الجهْمِ بعدَما لَبِسَها أبو الجَهْمِ أيَّاماً وكان في خُلُقِ أبي الجَهْمِ شراسةٌ ، وأُمُّ ولدِه زُجاَجَةُ .
قلتُ : ومن هذه الشراسةِ يَظهَرُ لطْفُ طلَبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنبجانيَّتَه بدَلاً عن الشرِّ وودة، فيها الخبرُ المشهورُ فذَكَرَ خبرَه .
قولُه : فإنها أَلْهَتني أي شَغَلَتْني .
وقولُه : آنِفاً يعني الآن واعتَبِرْ فقالَ : يَجري في قولِه تعالى : { مَاذَا قَالَ آنِفاً } ظَرْفاً أي : ماذا قالَ الساعةَ ؟ والمفسِّرون فسَّرُوه بالساعةِ الماضيةِ القريبةِ .


  #4  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:42 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصلاةِ

الْحَدِيثُ الرابعُ والعشرونَ بَعْدَ الْمِائَةِ

عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا، ((أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ –حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِن المَكْتُوبَةِ –كانَ عَلَى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كنتُ أعلمُ إذا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إِذَا سَمِعْتُهُ.

وفي لفظٍ: مَا كنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُوِلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بالتَّكْبِيرِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ بعدَ الصلاةِ.
الثَّانِيَةُ: وَيُسْتَحَبُّ رفعُ الصوتِ بهِ.
***


الْحَدِيثُ الخامسُ والعشرونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ وَرَّادٍ مولى المُغِيرِةِ بنِ شُعْبةَ قالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ في كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيةَ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)).
ثُمَّ وفَدْتُ بَعْدُ على مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بذلكَ.
وفي لفظٍ: ((وكانَ يَنْهَى عَنْ قيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ). أيْ: آخِرِهَا.
قَوْلُهُ: (مَكْتُوبَةٍ). مَفْرُوضَةٍ.
قَوْلُهُ: (الجَدُّ) بِفَتْحِ الجِيمِ: الغِنَى والحَظُّ.
قَوْلُهُ: (وَوَأْدِ البَنَاتِ). دَفْنِهِنَّ حَيَّاتٍ.
قَوْلُهُ: (وَمَنَعَ). بُخْلٍ بالمالِ.
قَوْلُهُ: (وَهَاتِ). طَمَعٍ وحرصٍ شديدٍ على المالِ.
قَوْلُهُ: (عنْ قِيلَ وَقَالَ). بِفَتْحِ اللامِ على الحكايةِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ هذا الدعاءِ عَقِبَ الصلاةِ المكتوبةِ لاشتمالِهِ على توحيدِ اللَّهِ ونَفْيِ الشريكِ وإثباتِ المُلْكِ والحمدِ والقدرةِ للَّهِ تَعَالَى، وأنَّهُ كلُّ شيءٍ بِيَدِهِ، فهوَ المَلِكُ القَهَّارُ.
الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عنْ هذهِ الخصالِ الذَّمِيمَةِ لِمَفَاسِدِهَا الدَّنِيئَةِ والدُّنْيَوِيَّةِ.
الثَّالِثَةُ: التَّعَلُّقُ باللَّهِ وَحْدَهُ؛ لأنَّهُ المَانِعُ المُعْطِي.
***


الْحَدِيثُ السادسُ والعشرونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
وعنْ سُمَيٍّ- مولى أبِي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ- عنْ أبِي صالحٍ السَّمَّانِ، عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أَنَّ فُقَرَاءَ المهاجرينَ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقَالُوا: قدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعيمِ المُقيمِ، فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ)) قَالُوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى، يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً)).
قالَ أبو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ؟ فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِنْ يَشَاءُ}.

قالَ سُمَيٌّ: فحدَّثْتُ بعضَ أَهْلِي هذَا الحديثَ، فقالَ: وَهِمْتَ، إنَّمَا قالَ: ((تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثلاثينَ)).
فَرَجَعْتُ إلى أبِي صالحٍ، فقلتُ لهُ ذلكَ، فقالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ، حتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: رغبةُ الصحابةِ في الخيرِ وتنافُسُهُم بالأعمالِ الصالحةِ.
الثَّانِيَةُ: فَضْلُ هذا الذِّكْرِ المَذْكُورِ في الحديثِ حيثُ إنَّهُ سَبَبٌ في سبقِ مَنْ يَقُولُهُ في الثوابِ.
الثَّالِثَةُ: فَضْلُ الإنفاقِ في سبيلِ اللَّهِ، وأنَّهُ سَبَبٌ في رفعِ الدرجاتِ.
***


بابُ الخشوعِ في الصلاةِ

الْحَدِيثُ السابعُ والعشرونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلَامٌ. فَنَظَرَ إلى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ: ((اذْهَبُوا بخَمِيصَتي هَذِهِ إلى أبِي جَهْمٍ، وَائتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي))

الخَمِيصَةُ: كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ أَعْلَامٌ .
والْأَنْبِجَانِيَّةُ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ.

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (خَمِيصَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ). كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ مُخَطَّطٌ بِأَلْوَانٍ مختلفةٍ.
قَوْلُهُ: (الأَنْبِجَانِيَّةِ). كِسَاءٌ غليظٌ منسوبٌ إلى بَلَدٍ تُسَمَّى أَنْبِجَانَ.
قَوْلُهُ: (آنِفًا). الآنَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: مَشْرُوعِيَّةُ الخُشُوعِ في الصلاةِ، وَعَمَلِ الأسبابِ الجالبةِ لهُ، والابتعادِ عَمَّا يُشْغِلُ في الصلاةِ إلَّا اشْتِغَالَ القلبِ يَسِيرًا فلا يَضُرُّ.
الثَّانِيَةُ: كراهةُ تَزْوِيقِ المساجدِ وزَخْرَفَتِهَا، لِمَا يَجْلُبُهُ منْ إشغالِ المُصَلِّينَ.
الثَّالِثَةُ: جَوَازُ لبسِ الملابسِ المُعَلَّمَةِ للرجالِ.
الرَّابِعَةُ: قَبُولُ الهديَّةِ جَبْرًا لقلبِ المُهْدِي، وكذا جَوَازُ رَدِّهَا لِسَبَبٍ.


  #5  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:48 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلاةِ


للدعاءِ والاستغفارِ بعدَ الصَّلاةِ حِكَمٌ عظيمةٌ، وفوائدُ جليلةٌ، من إظهارِ التقصيرِ والعجزِ عن إكمالِها، وترقيعِ الخللِ الواقعِ فيها، وعَقِبُ الصَّلاةِ منْ مواطنِ استجابةِ الدعاءِ، كما أنَّه دليلٌ على الرغبةِ في الطاعةِ وعدمِ المللِ؛ لأنَّ المتعبِّدَ كالحالِّ المرتحلِ بين العباداتِ، مع ما في الدعاءِ من زيادةِ الحسناتِ، وتكفيرِ السيئاتِ، ورِفعةِ الدرجاتِ.


الحديثُ الرابعُ والعشرونَ بعدَ المائةِ
124- عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما: " أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ - حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَة - كانَ عَلَى عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ ".
قال ابنُ عباسٍ: كنتُ أعلمُ إذا انصرفوا بذلك، إذا سَمِعْتُهُ.
وفي لفظٍ: " مَا كنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إلا بالتّكْبِيرِ ". متَّفقٌ عليهِ.

(124) المعنَى الإجماليُّ:
يذكرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَهُ كانوا يَرفعونَ أصواتَهم بالتكبيرِ وذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بعدَ انصرافِهِم مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ المفروضَةِ؛ ولذا فإنَّه كانَ يَعرفُ انقضاءَ صَلاَتِهم برفعِ أصواتِهم بِهِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
استحبابُ الذكرِ بعدَ الصَّلاَةِ، لما فِيهِ مِنَ الفوائدِ الجليلةِ والمُتَابَعَةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنْ يرفعَ الذَّاكرُ صوتَه بالذِّكرِ، لِفعلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفِعلِ أصحابِه معه.
يُحتملُ أنْ يكونَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَغيراً لم يحضرِ الْجَمَاعةَ، فسَمِع صوتَهم بالتهليلِ وهو خارجُ المسجدِ.
ويُحتملُ أنَّه يَحضرُ الْجَمَاعةَ، ولكنَّ الصُّفُوفَ بَعيدةٌ، وليس هناك مُبلِّغٌ، فكان لا يَعلمُ بانقضاءِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بسماعِ التهليلِ مِنَ الصُّفُوفِ الأولَى.
***


الحديثُ الخامسُ والعشرونَ بعدَ المائةِ
125- عن وَرَّادٍ مولَى المغيرةِ بنِ شُعبةَ قالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ في كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيةَ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ كانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ( لاَ إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحْمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ).
ثم وفَدْتُ بعدَ ذلك على معاويةَ فسمعتُهُ يأمرُ الناسَ بذلك.
وفي لفظٍ: " كانَ يَنْهَى عَنْ: قيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكانَ يَنْهَى عَنْ: عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ " .

(125) غريبُ الْحَدِيثِ:
" دُبُرَ كلِّ صَلاَةٍ ": بضمِّ الدَّالِ أو فَتحِهَا مع إسكانِ الباءِ أي: آخِرَهَا، والْمُرَادُ بعدَ السلامِ.
" مَكْتُوبةٍ " أي: مَفروضةٍ، والْمُرَادُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. ومكتوبةٌ قَيدٌ للروايةِ الْمُطْلَقةِ.
"ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ ": الجَدُّ – بفتحِ الجيمِ –
ومعناه، الحَظُّ والغِنَى. أي: لا يَنفعُ صاحبَ الحظِّ والغِنَى منك غِناه وحَظُّه.
"وَوأْدِ البناتِ ": دَفْنُهنَّ وهن علَى قيدِ الحياةِ. وكان بعضُ العربِ يَفعلُ ذلك في الجاهليةِ إمَّا خوفاً مِنَ العارِ أو الفقرِ.
" وَمَنْعِ وَهَات " – أي: بُخلٌ بالمالِ علَى الإنفاقِ في وجوهِهِ المشروعةِ وحِرصٌ شديدٌ علَى جَمْعِهِ.
" وعقوقِ الأمَّهاتِ ": قَالَ: في [ِ المُحْكمِ ] عقَّ والدَهُ يَعقُّه عقَّ وعُقوقاً، شَقَّ طَاعتَه، وقد يَعمُّ بلفظِ العقوقِ، جميعَ الرَّحمِ. والْمُرَادُ صُدورُ ما يَتأذَّى بِهِ الوالدُ مِنْ ولدِهِ، وذلك بالقولِ أو الفعلِ.
" عَنْ قِيلَ ": وقالَ: الأشهرُ فتحُ اللامِ في [ِ قِيلَ: ] علَى الحكايةِ.
" مَانِع وَمُعْطِي " - الروايةُ فيهما الفتحُ، وحَقُّهما النَّصبُ، كَحُكمِ المُضافِ. ولكن خَرجَ علَى إجراءِ الشبيِهِ بالمُضافِ إجراءَ المُفردِ.

المعنَى الإجماليُّ:
كتبَ معاويةُ بنُ أبي سُفيانَ إلَى المغيرةِ بْنِ شُعبةَ – وكان أميرَهُ علَى الكوفةِ –
أنِ اكْتُب لي بحَدِيثٍ سَمِعتَه مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكتبَ إِلَيْهِ المغيرةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما بهذا الْحَدِيثِ، الذي جَمعَ أنواعَ التوحيدِ والثناءِ علَى اللَّهِ، وإثباتَ التصرُّفِ والقهرِ بيدِ اللَّهِ. كما اشتمل علَى حِكَمٍ نبويةٍ جليلةٍ.
فذكَرَ المغيرةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –بعدَ الفراغِ مِنَ الصَّلاَةِ المكتوبةِ – يُوحِّدُ اللَّهَ بِنفي كلِّ معبودٍ سواه، ويُثبتُ العبادةَ لِلَّه وحدَه؛ لأنَّه الواحدُ الذي ليس لَهُ شريكٌ في مُلكِهِ وعِبادَتِه، وأسمائِه وصِفاتِه، وأنَّ التدبيرَ كُلَّه بيدِه.
فلا مانِعَ لما أَعْطَى، ولا مُعطِيَ لِما مَنَعَ، ولا يُغْنِي صَاحِبَ الحظِّ، والغِنَى، حَظُّه وغِنَاه، منه شيئاً.
ثم أخبَرَ المغيرةُ معاويةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما، بأن ينهى عَنْ هذِهِ الخصالِ الذَّميمةِ.
فَينهى عَنْ لغوِ الْحَدِيثِ، والكلامِ فيما لا يَنفعُ، وعن إضاعةِ المالِ الذي جَعله اللَّهُ قياماً للناسِ في الطُّرقِ التيِ لا تَعودُ بفائدةٍ دِينيةٍ أو دنيويةٍ، وعن كثرةِ السُّؤَالِ لمَن عِندَه مِنَ المالِ ما يَكفيهِ. وكذلك التعَنُّتُ والجَدلُ في المسائلِ الْعِلْميَّةِ.
كما يَنهَى عَنْ عقوقِ الأمهاتِ، اللاتي يَجِبُ بِرُّهنَّ وإكرامُهُنَّ، لِما لهُنَّ مِنَ الفضلِ الكبيرِ ,
وعن هذهِ العادةِ السيِّئةِ التي هي دَفنُ البناتِ وهن حيَّاتٌ، لِسُوءِ الظنِّ باللَّهِ تَعَالَى، وخَشيةِ الفَقرِ إذا شارَكْنَهُم في طعامِهم.
وهذهِ عادةٌ تدلُّ علَى القَسوةِ والشُّحِّ، وعدمُ الثقةِ باللَّهِ الرَّازقِ لِكافَّةِ المخلوقاتِ.
وينهَى عَنِ الشُّحِّ والبُخلِ بما عندَه في طُرقِ الخيرِ، والحِرْصِ الشديدِ علَى جمْعِ المالِ، والنَّهمِ في تحصيلِهِ مِنْ أيِّ طَريقٍ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1- استحبابُ هذا الدُّعَاءِ عَقبَ الصَّلَوَاتِ المكتوبةِ.
2- اشتملَ هذا الدُّعَاءُ علَى توحيدِ اللَّهِ ونَفْي الشريكِ معه، وإثباتِ المُلكِ الْمُطْلَقِ، والحمدِ الكاملِ , والقدرةِ التامَّةِ لَهُ سبحانَه وتَعَالَى، كما أنَّ فِيهِ تَوْحُّدَه بالتصَرُّفِ والقهرِ، وأنَّ كلَّ شيءٍ بيده، فقد جَمعَ توحيدَ الإلهيَّةِ والربوبِيَّةِ، والأسماءِ والصِّفاتِ.
3- النَّهْيُ عَنْ هذِهِ الخصالِ الذميمةِ، لما تَشتملُ عَلَيْهِ مِنْ مفاسدَ دِينيةٍ ودنيويةٍ.
4- إذا عَرف المؤمنُ أنَّ اللَّهَ هو المُعطي المانعُ، تَعلَّقَ قَلبُه باللَّهِ تَعلُّقاً تَاماًّ، وَصرَف النَّظرَ عَنْ غيرِهِ.
5- مُسارعةُ الصَّحَابَةِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُم إلَى تنفيذِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنَّ معاويةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ لمَّا بَلغَه هذا الدُّعَاءُ، أَمَر الناسَ بالعملِ بِهِ.
فِيهِ العملُ بالحَظِّ المعروفِ، وهو مَسألةٌ اتفاقِيَّةٌ في جميعِ الأغراضِ وأنَّ اللَّهَ لم يأمُرْ بالعملِ بهَا إلا لِيُعملَ بهَا.
قبولُ خبرِ الواحدِ.
النَّهْيُ عَنْ إضاعةِ المالِ، أي: إنفاقِه في غيرِ الطرقِ المشروعَةِ، فقد جَعلَ اللَّهُ الأموالَ لِقيامِ مصالحِ الناسِ، وفي تَبذِيرِها تفويتٌ لتلك المصالحِ،
وطُرقُ الإنفاقِ ثلاثٌ: فهناك الإنفاقُ المذمومُ وهو بذلُ المالِ في الأمورِ المذمومةِ شَرْعاً سواءً أكانَ قليلاً أمْ كَثِيراً. والإنفاقُ المحمودُ هو بَذلُه في الخيرِ والبِرِّ، ما لم يُفوِّتْ حقاًّ آخرَ أهَمَّ مِنْهُ، أمَّا الثالثُ فهو الإنفاقُ في المُباحاتِ ومَلاذِّ النفسِ المُباحةِ، فالجائزُ أنْ يُنفِقَ كلٌّ علَى قدرِ حالِه بدونِ إسرافٍ.
***


الحديثُ السادسُ والعشرونَ بعدَ المائةِ
126- عن سُمَيٍّ مولَى أبي بكرِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، عن أبي صالحٍ السّمَّانِ، عن أبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ، أَنَّ فُقَرَاءَ المهاجرينَ أتَوْا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعيمِ المُقيمِ. قالَ: ( وَمَا ذَاكَ؟ ) قالوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ.
فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: ( أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِه مَنْ سَبَقَكُمْ، وتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ ) قالوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قال: ( تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ مَرَّةً ).
قال أبو صالحٍ: فرجعَ فقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ.
فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ "
قال سُمَيٌّ: فحدّثتُ بعضَ أهلي بهذا الحديثِ، فقالَ: وَهِمْتَ، إنَّما قالَ: ( تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلاَثاً وَثلاثينَ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ ).
فرجعتُ إلى أبي صالحٍ، فذكرتُ له ذلك، فقالَ: " قلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحمدُ للَّهِ، حتى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ، ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ “ رواهُ مسلمٌ .

(126) المعنَى الإجماليُّ:
معنَى هذا الْحَدِيثِ الجليلِ هو أنَّ فقراءَ الصَّحَابَةِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُم، شَعروا بِسبقِ إخوانِهم الأغنياءِ بالأعمالِ الصالحةِ، بفضلِ قِيامِهم بحُقوقِ أموالِهم الشرعيَّةِ فَغبَطوهم وتَمَنَّوا لو كانَ لهم مِنَ العملِ مِثلُ ما لأولئك الأغنياءِ.
فجاءوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشكونَ مُصيبَتَهم في فقدِ الأجرِ، فأرشَدَهم إلَى هذا الذِّكْرِ، الذي يَنالونَ بِهِ أكثرَ مما فَاتَهم مِنَ العباداتِ الماليَّةِ ,
فلما قَاموا بهذا الذِّكْرِ، سَمِعهم الأغنياءُ ففعلوا مِثْلَهم.
فجاءَ الفُقراءُ مرَّةً أخرَى، يَشكونَ حالَهم، بأنَّ الفضيلةَ التي اخْتُصُّوا بهَا وأرَادُوا أنْ يُعوِّضوا بهَا نَقْصَ العباداتِ الماليَّةِ فَعَلهَا الأغنياءُ، فأصْبحوا يُشاركُونَهم في العباداتِ القَلْبِيَّةِ والبدنِيَّةِ ويَمتازونَ عليهم فَى العباداتِ الماليَّةِ.
فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) فَهُوَ الَّذِي يَقْسِمُ الأَرْزَاقَ وَالْهِدَايَةَ، حَسَبَ حِكْمَتِهِ، وَهُو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
رَغبةُ الصَّحَابَةِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُم الشَّديدَةُ في الخيرِ، وتَنافُسِهم بالأعمالِ الصالحةِ.
فالفقراءُ، شَقَّ عليهم حِرمانُهم مِنَ العباداتِ الماليَّةِ، والأغنياءُ لم يَكتفوا بغِناهُم عَنْ مشاركةِ الفُقراءِ في كُلِّ أبوابِ الخيرِ. ولعلَّ اللَّهَ يُعطِي الفُقراءَ بِفَضْلِه وكَرَمِه مِنَ الأجرِ علَى قَدْرِ نِيَّتِهم الطَّيَّبَةِ.
الْحَدِيثُ يدلُّ علَى فضلِ الغَنِيِّ الشاكرِ علَى الفقيرِ الصابرِ؛ لما لَهُ مِنَ الأعمالِ.
وهذهِ مسألةٌ طويلةُ الخلافِ، بينَ الْعُلَمَاءِ.
أنَّ الإنفاقَ في سبيلِ الخيرِ سببُ رَفْعِ الدرجاتِ. قَالَ ابْنُ القيِّمِ: فالغَنِيُّ إذا اتَّقَى اللَّهَ في مالِهِ وأنْفقَه في وجوهِهِ، وليس مَقصوراً علَى الزَّكاةِ بل مما حَقُّه إشباعُ الجائعِ وكسوةُ العارِي وإغاثةُ المَلهوفِ ورعايةُ المحتاجِ والمُضطرِّ، فطريقُه طريقُ الغنيمةِ وهي فوقَ السلامةِ فالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقرَّ الفُقراءَ علَى ما للأغنياءِ مِنْ هذِهِ الرِّفعةِ بسببِ إنْفاقِهم.
فضْلُ هذا الذِّكرِ المذكورِ في هذا الْحَدِيثِ. حيث كانَ سبباً في سَبْقِ مَنْ يقولُهُ في أدبارِ الصَّلَوَاتِ في الثَّوابِ، وأنه لا يَلحقُه أحدٌ، إلا مَنْ عَمِلَ مثلَ عمَلِه، لِما يحصلُ لنفْسِه مِنْ تطهيرٍ ولأخلاقِهِ مِنْ رياضةٍ.
أنَّ الهِدايةَ والرِّزقَ بيدِ اللَّهِ، فهو الذي يَقسِمُهَا بينَ عِبادهِ، فينبَغِي أنْ يرضَى بقسمةِ اللَّهِ تَعَالَى.
مشروعيَّةُ هذا الذِّكْرِ، بعدَ الصلواتِ المكتوباتِ، كما وَردَ في بعضِ الرواياتِ تَقييدُهُ بالمكتوبةِ، وأنْ يكونَ بهذهِ الصيغةِ. فالتسبيحُ يتضمَّنُ نَفْيَ النقائصِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثم التحميدُ المُثْبِتُ لَهُ الكمالَ ثم التكبيرُ المُثبتُ لَهُ صفاتِ العظمةِ. واستظْهَرَ ابنُ القيِّمِ أنْ تَكُونَ الثلاثُ والثلاثونَ مِنْ جميعِ كلِماتِ التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ.

* الذكرُ بعدَ الصلاةِ *
[وهو فَقراتٌ مِنْ كَلاَمِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ، قَالَ رحمه اللَّهُ تَعَالَى في الصحيحِ إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ قبلَ أنْ ينصرفَ يَستعيذُ ثلاثاً، ويقولُ: ( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) وفي الصَّحِيحَينِ أنَّه كانَ يَقُولُ: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يِنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ويُعلِّمُهم أنْ يُسبِّحوا ثلاثاً وثلاثينَ، ويَحمدوا ثلاثاً وثلاثينَ، ويُكبِّروا ثلاثاً وثلاثين، فتلك تِسعٌ وتسعونَ، وتمامُ المائةِ: ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، وله الحمدُ، وهوَ علَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ ) ولا ريبَ أنَّ الأذكارَ والدعواتِ مِنْ أَفْضَلِ العباداتِ، والأدعيةُ والأذكارُ النَّبَويَّةُ هي أَفْضَلُ ما يَتَحرَّاه المُتحرِّي مِنَ الذِّكرِ والدُّعَاءِ، وما سِواهَا مِنَ الأذكارِ قد يكونُ مكروهاً، وقد يكونُ مُحرَّماً، وقد يكونُ فِيهِ شِركٌ لا يِهتدِي إِلَيْهِ أكثرُ الناسِ.
والذِّكْرُ مِنْ أَفْضَلِ العباداتِ؛ ولذا قَالَتْ عَائِشَةُ: الذِّكرُ بعدَ الانصرافِ مِنَ الصَّلاَةِ هو مِثلُ مسحِ الْمِرْآَةِ بعدَ صِقالِها. فإنَّ الصَّلاَةَ تُصقلُ القلبَ. وليس الذِّكرُ عقبَ الصَّلاَةِ بواجبٍ، فمَن أرادَ أنْ يَقُومَ قَبْلَه فلا يُنكرُ عَلَيْهِ، ولكن يَنبغي للمأمومِ ألا يَقُومَ حتَّى ينصرفَ الإمامُ عَنِ الْقِبْلَةِ، ولا ينبغي للإمامِ أنْ يَقعدَ بعدَ السلامِ مُستقبلَ الْقِبْلَةِ إلا بمقدارِ ما يَستغفرُ ثلاثاً ويقولُ: اللَّهمَّ أنتَ السلامُ ومنك السلامُ تباركْتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ. وعُدَّ التسبيحُ بالأصابعِ سُنَّةً، فقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساءِ: ( سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالأَصَابِعِ، فَإنَّهُنَّ مَسْئُولاَتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ ).

***

بابُ الخشوعِ في الصَّلاةِ
الخشوعُ في الصَّلاةِ هو رُوحُها ولبُّها، ويَكثُرُ ثوابُها أو يقلُّ حسبما عقَلَهُ المصلِّي منها؛ ولذا أثنَى اللَّهُ تعالى على الذينَ هم في صلاتهم خاشعونَ، بأنَّهم الذين يرثونَ الفردوسَ هم فيها خالدونَ.
ولإحضارِ القلبِ في الصَّلاةِ أسبابٌ:
منها: الاستعاذةُ من الشيطانِ، وتدبُّرُ قراءةِ الصَّلاةِ، وأنواعُ الذِّكْرِ فيها.
ومنها: جعْلُ السُّترةِ، وجعلُ النظرةِ موضعَ السجودِ، كما أنَّ دخولَ الإنسانِ فيها بعدَ الفراغِ من الشاغلاتِ عنها، كالنومِ، وشهوةِ الطعامِ والشرابِ، من أقوى أسبابِ إحضارِ القلبِ.
ولذا نُهِيَ عن الصَّلاةِ حالَ حضورِ الطعامِ، أو مدافعةِ الأخبثيْنِ، لأنَّ في ذلكِ مشْغلةً عن الصَّلاةِ.
وذهبَ الجمهورُ من العلماءِ إلى صحَّةِ صلاةِ مَن غلبتْ على صلاتِهِ الوساوسُ، ولكنْ مع نقْصِ ثوابِها.
وذهبَ أبو حامدٍ الغزاليُّ وابنُ الجوزيِّ إلى بطلانِها.


الحديثُ السابعُ والعشرونَ بعدَ المائةِ
127- عن عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنهُا، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إلى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ: ( اذْهَبُوا بخَمِيصَتِي هَذِه إلى أبي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفاً عَنْ صَلاَتِي ) .

(127) غريبُ الْحَدِيثِ:
" خَميصةٌ لهَا أعلامٌ ": كِساءٌ مُربَّعٌ مُخطَّطٌ بألوانٍ مُختلفةٍ. وقالَ ابنُ الأثيرِ: هي ثوبُ خَزٍّ أو صوفٌ مُعلَّمٌ. وقيل: لا تُسمَّى خَمِيصةً إلا أنْ تَكُونَ سوداءَ مُعلَّمةً.
" الأنْبِجَانيَّةُ ": كِساءٌ غليظٌ، ليس لَهُ أعلامٌ، وهي بِفتحِ الهمزةِ وسكونِ النونِ، وكسرِ الباءِ الموحَّدةِ، وبعدَ الألفِ نونٌ مكسورةٌ، بَعْدَهَا ياءٌ مشدَّدةٌ، ثم تاءُ التأنيثِ.
منسوبةٌ إلَى بلدٍ تُسمَّى " أَنْبِجانَ ". وقد وَرَدَت هذهِ الكلمةُ بفتحِ الباءِ وهي نِسبةً علَى غيرِ قياسٍ إلَى مَنْبِجَ البلدِ المعروفِ في بلادِ الشامِ. ومِثلُهَا مَنْبِجَانيٌّ. وهي كساءٌ مِنَ الصُّوفِ لَهُ خَملٌ وليس لَهُ عَلمٌ وتُعدُّ مِنْ أدونِ الثيابِ الغليظةِ.
" آنِفاً ": - يعنِي: الآنَ.

المعنَى الإجماليُّ:
أهدَى [ أبو جَهمٍ ] إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَميصةً لهَا أعلامٌ.
وكان مِنْ مكارمِ أخلاقِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّه يقبلُ الهديَّةَ جَبراً لخاطرِ المُهدِي، فَقبِلهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وصَلَّى بهَا.
ولكونِهَا ذاتَ أعلامٍ يَتعلَّقُ بهَا النَّظرُ، أَلْهتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كاملِ الحضورِ في صَلاَتِهِ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاملٌ، لا يَصدرُ عَنْهُ مِنَ الأعمالِ إلا الكاملُ.
فأمرَهم أنْ يُعيدوا هذهِ الْخَمْيصةَ المُعلَّمةَ إلَى المُهْدِيِ [ أبي جهمٍ ].
وحتَى لا يكونَ في قلبِ أبي جهمٍ شيءٌ مِنَ ردِّ الهديَّةِ، ولِيطمَئنَّ قَلبُه، أمَرَهُم أنْ يأتوه بكساءِ أبي جهمٍ، الذي لم يُعلَّمْ.
وهذا مِنْ كمالِ هَدْيِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
مشروعيَّةُ الخشوعِ في الصَّلاَةِ، وفِعلِ الأسبابِ الجالِبةِ لَهُ، والابتعادِ عَنْ كُلِّ ما يُشغلُ في الصَّلاَةِ.
أنَّ اشتغالَ القلبِ اليسيرَ، لا يَقدحُ في الصَّلاَةِ.
كراهةُ تزويقِ المساجدِ، ونَقشِهَا، والكتابةِ فيهَا؛ لِما يُجلبُه مِنَ اشتغالِ المُصلِّينَ في النظرِ إليهَا.
فِيهِ جوازُ لُبسِ الملابسِ المُعلَّمة للرجالِ.
وفيهِ استحبابُ قبولِ الهديَّةِ، جَبراً لقلبِ المُهدِي، وتوَدُّداً إِلَيْهِ.
وفيهِ أنَّه لا بأسَ مِنْ ردِّ الهَديَّةِ لسببٍ، ولكن مع بيانِ السببِ لصاحبِهَا،حتَى لا يقعَ فِي قَلْبِه شيءٌ.
وفيهِ حُسنُ أخلاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيثُ رَدَّ عَلَيْهِ الكساءَ المُعلَّمَ، وطلبَ الكساءَ الذي ليس فِيهِ أعلامٌ، لِيُعلِمَه أنَّه غيرُ مُترفِّعٍ عَنْ هَدِيَّتِهِ.

قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ:
ولا ريبَ أنَّ الوسواسَ كُلَّما قَلَّ في الصَّلاَةِ كانَ أكملَ، والذي يُعينُ علَى ذلك شيئانِ:
قوةُ المُقتَضِي، وضعفُ الشاغلِ.
أما الأَوَّلُ: فاجتهادُ العبدِ في أنِ يَعقلَ ما يقولُه ويَفعلُه، ويَتدبَّرَ القراءةَ والذِّكْرَ والدُّعَاءَ، ويستحضرَ أنَّه مُناجٍ لِلَّهِ تَعَالَى كأنه يَراهُ، فإنَّ الْمُصَلِّيَ يُناجي ربَّهُ، والإحسانُ أنْ تعْبُدَ اللَّهَ كأنك تراهُ، فإِنْ لَمْ تكن تَراهُ فإنَّه يَراكَ، ثم كُلَّما ذَاقَ العبدُ حلاوةَ الصَّلاَةِ كانَ انْجذَابُه إليهَا أوْكدَ، وهذا يكونُ بحسبِ قوةِ الإيمانِ، والأسبابُ المُقويَّةُ للإيمانِ كثيرةٌ.
فإنَّ ما في القلبِ مِنْ مَعرفةِ اللَّهِ ومحَبَّتِه وَخشيَتهِ وإخلاصِ الدينِ لَهُ وَخَوْفِهِ ورَجائِهِ والتصديقِ بأخبارِهِ وغيرِ ذلكَ مما يَتباينُ الناسُ فِيهِ ويتفاضَلونَ تَفاضُلاً عظيماً.
ويَقُوِّي ذلك كُلَّما ازدادَ العبدُ تَدبُّراً للقرآنِ، وفَهْماً ومعرفةً بأسماءِ اللَّهِ وصفاتِهِ وعظمَتِهِ وأظْهرَ فقْرَه إِلَيْهِ في عِبادتِهِ، واشتغالِهِ بِهِ، فإنَّه لا صَلاَحَ لَهُ إلا بأنْ يكونَ اللَّهُ هو معبودَهُ الذي يَطمئنُّ إِلَيْهِ، ويأنسُ بِهِ، ويَلْتذُّ بِذكْرِه، ولا حصولَ لهذا إلا بإعانةِ اللَّهِ، ومتَى لم يُعنْهُ اللَّهُ علَى ذلك لم يُصلِحْهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ باللَّهِ.
الثاني: زوالُ العوارضِ، وهو الاجتهادُ في دفعِ ما يَشغلُ القلبَ مِنْ تفكُّرِ الإنسانِ فيما لا يُفيدُه في عِبادتِهِ، وتَدبُّرُ الجواذبِ التي تَجذبُ القلبَ عَنْ مقصودِ الصَّلاَةِ، وهذا في كُلِّ عبدٍ بِحَسبِه، فإنَّ كثْرَةَ الوساوسِ بِحسبِ كثرةِ الشُّبهاتِ والشَّهواتِ، وتعليقِ القلبِ بالمحبوباتِ التي يَنصرفُ القلبُ إلَى طلبِهَا، والعبدُ الكَيِّسُ يَجتهدُ في كمالِ الحضورِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ العليِّ العظيمِ.


  #6  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:50 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

بابُ الذِّكرِ عَقيبَ الصَّلاةِ

129 - الحديثُ الأوَّلُ: عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بالذِّكْرِ، حِيْنَ يَنْصَرفُ النَّاسُ مِن المكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كنتُ أَعلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إِذَا سَمعْتُه.
وَفِي لفظٍ: مَا كنَّا نَعْرفُ انْقضَاءَ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ بالتكْبِيرِ.


فِيْهِ دليلٌ عَلَى جوازِ الجهرِ بالذِّكرِ عَقيبَ الصَّلاةِ، والتكبيرُ بخصوصِهِ مِن جملةِ الذِّكرِ. قَالَ الطبريُّ: فِيْهِ الإِنابةُ عن صحَّةِ فعلِ مَنْ كَانَ يفعلُ ذَلِكَ مِنَ الأُمراءِ، يُكبِّرُ بعدَ صلاتهِ، ويُكبِّرُ مَنْ خَلْفَهُ. قَالَ غيرُه: ولمْ أجدْ مِنَ الفقهاءِ مَنْ قَالَ هَذَا إلاَّ مَا ذكرهُ ابن حبيبٍ فِي الواضحةِ: كانُوا يستحبُّونَ التَّكبيرَ فِي العساكرِ والبُعوثِ إثرَ صلاةِ الصُّبحِ والعشاءِ تكبيرًا عاليًا، ثلاثَ مراتٍ، وَهُوَ قديمٌ مِن شأنِ النَّاسِ، وعن مالكٍ أنهُ مُحْدَثٌ.
وَقَدْ يؤخذُ مِنْهُ تأخيرُ الصِّبيانِ فِي الموقِفِ، لقولِ ابنِ عبَّاسٍ: مَا كنَّا نعرفُ انقضاءَ صلاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ بالتكبيرِ، فَلَوْ كَانَ متقدِّمًا فِي الصَّفِّ الأوَّلِ لعلمَ انقضاءَ الصَّلاةِ بسماعِ التَّسليمِ.
وَقَدْ يؤخذُ مِنْهُ أنهُ لمْ يكنْ ثمَّةَ مُسمِّعٌ جهيرُ الصَّوتِ يُبلِّغُ التَّسليمَ بجهارةِ صوتِهِ.

***

130 - الحديثُ الثَّانِي: عَنْ وَرَّادٍ مولَى المغيرةِ بنِ شعبةَ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْ كِتَابٍ إِلَى مُعاوِيَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقولُ فِي دُبُرِ كلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: ((لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)) ثُمَّ وَفَدَتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ.
وَفِي لفظٍ: ((كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤالِ، وَكَانَ يَنْهى عَنْ عُقُوقِ الأُمهاتِ، وَوَأَدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ)).

فِيْهِ دليلٌ عَلَى استحبابِ هَذَا الذِّكرِ المخصوصِ عَقيبَ الصَّلاةِ، وَذَلِكَ لِمَا اشتملَ عَلَيْهِ منْ معانِي التَّوحيدِ، ونسبةِ الأفعالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، والمنعِ والإِعطاءِ، وتمامِ القُدرةِ، والثوابُ المرتَّبُ عَلَى الأذكارِ يَرِدُ كثيرًا مَعَ خفَّةِ الأذكارِ عَلَى اللِّسانِ وقلَّتِها، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكََ باعتبارِ مدلولاتِها، وأنَّ كلَّها راجعةٌ إِلَى الإِيمانِ الَّذِي هُوَ أشرفُ الأشياءِ، و((الجَدُّ)) الحَظُّ.
ومعنَى ((لاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ)) لاَ ينفعُ ذا الحظِّ حظُّه، وَإِنَّمَا ينفعُه العملُ الصَّالحُ، و((الجَدُّ)) ههنا - وإن كَانَ مُطلقًا - فَهُوَ محمولٌ عَلَى حظِّ الدنيا.
وقولُهُ: ((مِنْكَ)) متعلِّقٌ بينفعُ، وينبغِي أنْ يكونَ ((ينفعُ)) متضمِّنًا معنَى ((يمنعُ)) أَوْ مَا يقاربُه، وَلاَ يعودُ ((مِنْكَ)) إِلَى الجدِّ عَلَى الوجهِ الَّذِي يُقَالُ فِيْهِ: حظِّي مِنْكَ قليلٌ أَوْ كثيرٌ، بمعنَى: عنايتُكَ بِي، أَوْ رعايتكَ لِي، فإنَّ ذَلِكَ نافعٌ.
وَفِي أمْرِ معاويةَ بِذَلِكَ، المبادرةُ إِلَى امتثالِ السُّننِ وإشاعتِها، وَفِيْهِ جوازُ العملِ بالمكاتبةِ بالأحاديثِ، وإجرائِها مجرَى المسموعِ، والعملُ بالحظِّ فِي مثلِ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَ تغييرُه، وَفِيْهِ قبولُ خبرِ الواحدِ، وَهُوَ فردٌ من أفرادٍ لاَ تُحصَى، كَمَا قرَّرْنَاهُ فيمَا تقدِّمَ.
وقولُهُ: ((عن قِيلَ وَقَالَ)) الأشهرُ فِيْهِ بفتحِ اللاَّمِ عَلَى سبيلِ الحكايةِ، وَهَذَا النَّهيُ لابدَّ مِن تقييدِه بالكثرةِ التي لاَ يُؤمَنُ معها وقوعُ الخَطَلِ والخطأِ، والتَّسبُّبُ إِلَى وقوعِ المفاسدِ مِن غيرِ تعيينٍ، والإِخبارُ بالأمورِ الباطلةِ، وَقَدْ ثبتَ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهُ قَالَ: ((كفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يُحدِّثَ بكلِّ مَا سَمِعَ))، وَقَالَ بعضُ السَّلفِ: لاَ يكونُ إمامًا مَن حَدَّث بكلِّ مَا سَمِعَ.
وَأَمَّا ((إضاعةُ المالِ)) فحقيقتُه المتَّفَقُ عليهَا بذلُه فِي غيرِ مصلحةٍ دينيَّةٍ أَوْ دنيويَّةٍ، وَذَلِكَ ممنوعٌ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى جعلَ الأموالَ قيامًا لمصالحِ العبادِ، وَفِي تبذيرِهَا تفويتٌ لتلكَ المصالحِ، إمَّا فِي حقِّ مُضيِّعِهَا، أَوْ فِي حقِّ غيرِهِ، وَأَمَّا بذلُه وكثرةُ إنفاقِه فِي تحصيلِ مصالحِ الأُخرَى، فَلاَ يَمتنعُ مِن حَيْثُ هُوَ، وَقَدْ قالُوا: لاَ سرفَ فِي الخيرِ، وَأَمَّا إنفاقُه فِي مصالحِ الدُّنيَا، وملاذِّ النَّفسِ عَلَى وجهٍ لاَ يليقُ بحالِ المُنْفِقِ وقدرِ مالِهِ، فَفِي كونهِ سفهًا خلافٌ، والمشهورُ أنَّهُ سفَهٌ. وَقَالَ بعضُ الشافعيَّةِ: لَيْسَ بسفهٍ، لأنهُ يقومُ بِهِ مصالحُ البدنِ وملاذُّه، وَهُوَ غرضٌ صحيحٌ، وظاهرُ القرآنِ يمنعُ مِن ذَلِكَ، والأشهرُ فِي مثلِ هَذَا أنهُ مباحٌ، أعنِي إِذَا كَانَ الإِنفاقُ فِي غيرِ معصيةٍ، وَقَدْ نُوزعَ فِيْهِ.
وَأَمَّا ((كثرةُ السُّؤالِ)) فَفِيْهِ وجهانِ:
أحدُهُما: أنْ يكونَ ذَلِكَ راجعًا إِلَى الأمورِ العلميَّةِ، وَقَدْ كانُوا يَكْرَهُونَ تكلُّفَ المسائلِ التي لاَ تدعُو الحاجةُ إليهَا، وَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أعظمُ النَّاسِ جُرمًا عندَ اللهِ مَنْ سألَ عن شيءٍ لمْ يُحرَّمْ عَلَى المسلمينَ، فحُرِّمَ عليهمْ من أجلِ مسألتِهِ))، وَفِي حديثِ اللِّعانِ لمَّا سُئلَ عنِ الرَّجلِ يجدُ مَعَ امرأتِهِ رجلاً، فكرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسائلَ وعابَها، وَفِي حديثِ معاويةَ: ((نَهى عن الأغلوطاتِ)) وهي شدادُ المسائلِ وصعابُها، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مكروهًا، لمَا يتضمَّنُ كثيرٌ مِنْهُ مِن التكلُّفِ فِي الدِّينِ والتنطُّعِ، والرَّجمِ بالظَّنِّ من غيرِ ضرورةٍ تدعُو إِلَيْهِ، مَعَ عدمِ الأمنِ منَ العثارِ، وخطأِ الظَّنِّ، والأصلُ المنعُ مِن الحكمِ بالظنِّ، إلاَّ حَيْثُ تدعُو الضَّرورةُ إِلَيْهِ.
الوجهُ الثَّانِي: أنْ يكونَ ذَلِكَ راجعًا إِلَى سؤالِ المالِ، وَقَدْ وردتْ أحاديثُ فِي تعظيمِ مسألةِ النَّاسِ، وَلاَ شكَّ أنَّ بعضَ سؤالِ النَّاسِ أموالَهم ممنوعٌ، وَذَلِكَ حَيْثُ يكونُ الإِعطاءُ بناءً عَلَى ظاهرِ الحالِ، ويكونُ الباطنُ خلافَه، أَوْ يكونُ السائلُ مخبرًا عن أمرٍ هُوَ كاذبٌ فِيْهِ، قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يدلُّ عَلَى اعتبارِ ظاهرِ الحالِ فِي هَذَا، وَهُوَ مَا رُويَ: أنه ماتَ رجلٌ من أهلِ الصُّفَّةِ وتَرَكَ دينارينِ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَيَّتَانِ))، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ - واللهُ أعلمُ - لأنهمْ كانُوا فقراءَ مجرَّدينَ، يأخذونَ ويُتصدَّقُ عليهمْ بناءً عَلَى الفقرِ والعُدْمِ، وظهرَ أنَّ معهُ هذينِ الدينارينِ عَلَى خلافِ ظاهرِ حالِهِ. والمنقولُ عن مذهبِ الشَّافعيِّ جوازُ السؤالِ، فَإِذَا قِيلَ بِذَلِكَ، فيبنغِي النَّظرُ فِي تخصيصِ المنعِ بالكثرةِ، فإنهُ إن كانتِ الصُّورةُ تقتضِي المنعَ، فالسؤالُ ممنوعٌ كثيرُه وقليلُه، وإن لمْ تقتضِ المنعَ، فينبغِي حملُ هَذَا النَّهي عَلَى الكراهةِ للكثيرِ منَ السُّؤالِ، مَعَ أنهُ لاَ يخلُو السؤالُ مِن غيرِ حاجةٍ عن كراهةٍ، فتكونُ الكراهةُ فِي الكثرةِ أشدَّ، وتكونُ هي المخصوصةُ بالنَّهي.
وتبيَّنَ من هَذَا أنَّ مَن يَكرهُ السؤالَ مُطلقًا - حَيْثُ لاَ يحرُمُ - ينبغِي أن لاَ يَحملَ قولَه: ((كثرةَ السؤالِ)) عَلَى الوجهِ الأوَّلِ المتعلِّقِ بالمسائلِ الدينيَّةِ، أَوْ يجعلَ النهيَ دالاًّ عَلَى المرتبةِ الأشدِّيَّةِ مِن الكراهةِ.
وتخصيصُ العقوقِ بالأمَّهاتِ مَعَ امتناعِه فِي الآباءِ أَيْضًا، لأجلِ شدَّةِ حقوقهنَّ، ورُجحانِ الأمرِ بِبِرِّهنَّ بالنِّسبةِ إِلَى الآباءِ، وَهَذَا مِن بابِ تخصيصِ الشَّيءِ بالذِّكرِ لإِظهارِ عظَمِهِ فِي المنعِ إنْ كَانَ ممنوعًا، وشرفِه إنْ كَانَ مأمورًا بِهِ، وَقَدْ يُراعَى فِي موضعٍ آخرَ التنبيهُ بذكرِ الأدنَى عَلَى الأعلَى، فيخصُّ الأدنَى بالذِّكرِ، وَذَلِكَ بحسبِ اختلافِ المقصودِ.
و((وَأْدُ البناتِ)) عبارةٌ عن دفنِهنَّ مَعَ الحياةِ، وَهَذَا التَّخْصيصُ بالذِّكرِ لأنهُ كَانَ هُوَ الواقعُ فِي الجاهليةِ، فتوجَّهَ النَّهيُ إِلَيْهِ، لأنَّ الحكمَ مخصوصٌ بالبناتِ.
((ومنعٍ وهاتِ)) راجعٌ إِلَى السؤالِ مَعَ ضميمةِ النَّهيِ عنِ المنعِ، وَهَذَا يحتملُ وجهينِ:
أحدهما: أن يكونَ المنعُ حَيْثُ يؤمرُ بالإِعطاءِ، وعنِ السؤال حَيْثُ يمنعُ مِنْهُ، فيكونُ كلُّ واحدٍ مخصوصًا بصورةٍ غيرِ صورةِ الآخرِ.
وَالثَّانِي: أنْ يجتمعَا فِي صورةٍ واحدةٍ، وَلاَ تَعَارُضَ بينهمَا، فيكونُ وظيفةُ الطَّالبِ أنْ لاَ يسألَ، ووظيفةُ المُعطي أنْ لاَ يمنعَ إنْ وقعَ السُّؤالُ، وَهَذَا لابدَّ أنْ يستثنَى مِنْهُ مَا إِذَا كَانَ المطلوبُ محرَّمًا عَلَى الطَّالبِ، فإنهُ يَمتنعُ عَلَى المُعطِي إعطاؤُه لكونِهِ مُعينًا عَلَى الإِثمِ، ويُحتملُ أنْ يكونَ الحديثُ مَحمولاً عَلَى الكثرةِ من السُّؤالِ، واللهُ أعلمُ.
***

131 - الحديثُ الثالثُ: عَنْ سُميٍّ - مولَى أبي بكرِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بن الحارثِ بنِ هشامٍ - عنْ أبي صالحٍ السَّمَّانِ، عنْ أَبِي هُريرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ فُقَراءَ المُسْلمِيِن أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجاتِ الْعُلاَ والنَّعِيمِ المُقيمِ، قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قالوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلاَ نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلاَ أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَكُونَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثيِنَ مَرَّةً)). قَالَ أَبُو صالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهاجِرِينَ، فقالُوا: سمِعَ إِخْوانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيه مَنْ يشاءُ).
قَالَ سُمَيٌّ: فحدَّثْتُ بعْضَ أَهْلِي بِهَذَا الحدِيثِ، فَقَالَ: وَهِمْتَ إِنَّمَا قَالَ لَكَ: تُسبِّحُ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاَثَيِنَ، وَتَحمَدُ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاَثيِنَ، وَتُكَبِّرُ ثَلاَثًا وَثَلاَثيِنَ، فَرَجعْتُ إِلَى أَبِي صالِحٍ، فَقُلتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: قُل: اللهُ أَكْبرُ، وَسُبْحانَ اللهِ، والْحمدُ للهِ، حَتَّى تَبْلُغ مِنْ جَمِيْعِهنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثيِنَ.


الحديثُ يتعلَّقُ بالمسألةِ المشهورةِ بالتفضيلِ بَيْنَ الغنيِّ الشَّاكرِ والفقيرِ الصَّابرِ، وَقَد اشتهرَ فيهَا الخلافُ، والفقراءُ ذَكرُوا للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يقتضِي تفضيلَ الأغنياءِ بسببِ القُرباتِ المتعلِّقةِ بالمالِ، وأقرَّهُم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، ولكنْ علَّمَهُمْ مَا يقومُ مقامَ تِلكَ الزيادةِ، فَلَمَّا قالهَا الأغنياءُ ساوَوْهُم فيهَا، وبقيَ معَهُم رجحانُ قرباتِ الأموالِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: (ذَلِكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ مَن يَشَاءُ)، فظاهرُه القريبُ مِن النَّصِّ أنه فَضَّلَ الأغنياءَ بزيادةِ القُرباتِ الماليةِ. وبعضُ النَّاسِ تأوَّلَ قولَه: (ذَلِكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ مَن يشاءُ) بتأويلٍ مستكرهٍ، يُخرجُه عمَّا ذكرناهُ مِن الظَّاهِرِ، وَالَّذِي يقتضيهِ الأصلُ أنهمَا إنْ تَساويَا وحصلَ الرجحَانُ بالعباداتِ الماليةِ، أنْ يكونَ الغنيُّ أفضلَ، وَلاَ شكَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا النظرُ إِذَا تساويَا فِي أداءِ الواجبِ فَقطْ، وانفردَ كلُّ واحدٍ بمصلحةِ مَا هُوَ فِيْهِ، وَإِذَا كانت المصالحُ متقابلةً، فَفِي ذَلِكَ نظرٌ يرجعُ إِلَى تفسيرِ الأفضلِ، فإنْ فُسِّرَ بزيادةِ الثوابِ، فالقياسُ يقتضِي أنَّ المصالحَ المتعدِّيةَ أفضلُ مِن القاصرةِ، وإنْ كَانَ الأفضلُ بمعنَى الأشرفِ بالنِّسبةِ إِلَى صفاتِ النَّفسِ، فَالَّذِي يحصلُ للنَّفسِ مِنَ التَّطهيرِ للأخلاقِ، والرِّياضةِ لسوءِ الطِّباعِ بسببِ الفقرِ أشرفُ، فيترجَّحُ الفقراءُ، وَلِهَذَا المعنَى ذهبَ الجمهورُ مِن الصُّوفيةِ إِلَى ترجيحِ الفقيرِ الصَّابرِ، لأنَّ مدارَ الطريقِ عَلَى تهذيبِ النَّفسِ ورياضَتِها، وذلكَ مَعَ الفقرِ أكثرُ مِنْهُ مَعَ الغِنَى، فَكَانَ أفضلَ بمعنى الأشرفِ.
وقولُهُ: ((ذهبَ أهلُ الدُّثورِ)) الدَّثْرُ هُوَ المالُ الكثيرُ.
وقولُهُ: ((تُدركونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ)) يحتملُ أنْ يُرادَ بِهِ السَّبقُ المعنويُّ، وَهُوَ السَّبقُ فِي الفضيلةِ. وقولُهُ: ((مَنْ بعدَكُمْ)) أي مَنْ بعدَكُمْ فِي الفضيلةِ مِمَّنْ لاَ يعملُ هَذَا العملَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ القَبليَّةُ الزَّمانيَّةُ، والبعديَّةُ الزمانيَّةُ، ولعلَّ الأوَّلَ أقربُ إِلَى السياقِ، فإنَّ سؤالَهُم كَانَ عنْ أمرِ الفضيلةِ، وتقدُّمِ الأغنياءِ فيهَا.
وقولُهُ: ((لاَ يكونُ أحدٌ أفضلَ منكُمْ)) يدلُّ عَلَى ترجيحِ هَذِهِ الأذكارِ عَلَى فضيلةِ المالِ، وَعَلَى أنَّ تلكَ الفضيلةَ للأغنياءِ مشروطةٌ بأنْ لاَ يَفعلُوا هَذَا الفعلَ الَّذِي أُمرَ بِهِ الفقراءُ، وَفِي تلكَ الرِّوايةِ تعليمُ كيفيَّةِ هَذَا الذِّكرِ، وَقَدْ كانَ يُمكنُ أن يكونَ فُرادَى - أيْ كلُّ كلمةٍ عَلَى حدةٍ - وَلَوْ فعلَ ذَلِكَ جازَ، وحصلَ بِهِ المقصودُ، ولكن بَيَّنَ فِي هَذِهِ الروايةِ أنهُ يكونُ مجموعًا، ويكونُ العددُ للجملةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يحصلُ فِي كلِّ فردٍ هَذَا العددُ، واللهُ أعلمُ.

***

132 - الحديثُ الرَّابعُ: عَنْ عائشةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: ((اذْهَبُوا بِخَمِيْصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وائْتُوني بأنْبِجَانيةِ أَبِي جَهْمٍ، فإِنَّهَا أَلهتْنِي آنفًا عَنْ صَلاَتي)).
((الخميصةُ)) :كساءٌ مربَّعٌ لَهُ أعلامٌ.
((الإِنبجانيةُ)) :كساءٌ غليظٌ.

فيه دليلٌ عَلَى جوازِ لباسِ الثَّوبِ ذِي العلَمِ، ودليلٌ عَلَى أنَّ اشتغالَ الفِكرِ يسيرًا غيرُ قادحٍ فِي الصَّلاةِ.
وفيه دليلٌ عَلَى طلبِ الخُشوعِ فِي الصَّلاةِ، والإِقبالِ عليهَا، ونفِي مَا يقتضِي شغلَ الخاطرِ بغيرِهَا.
وفيه دليلٌ عَلَى مبادرةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مصالحِ الصَّلاةِ، ونفِي مَا يخدشُ فيهَا، حَيْثُ أخرجَ الخميصةَ، واستبدلَ بِهَا غيرَها مِمَّا لاَ يُشغلُ، فَهَذَا مأخوذٌ من قولِه: ((فنظرَ إليهَا نظرَةً)).
وبَعْثُهُ إِلَى أبي جَهمٍ بالخميصَةِ، لاَ يلزمُ مِنْهُ أنْ يستعملَها فِي الصَّلاةِ، كَمَا جاءَ فِي ((حُلَّةِ عُطاردَ))، وقولهُ عَلَيْهِ الصلاَةُ والسَّلاَمُ لعُمرَ: ((إنِّي لم أَكْسُكَهَا لتَلْبَسَهَا))، وَقَد استنبطَ الفقهاءُ مِن هَذَا كراهةَ كلِّ مَا يشغلُ عن الصَّلاةِ مِنَ الأصباغِ والنُّقوشِ، والصنائعِ المستطرفةِ، فإنَّ الحكمَ يعمُّ بعمومِ علَّتهِ، والعلَّةُ الاشتغالُ عنِ الصَّلاةِ، وزادَ بعضُ المالكيَّةِ فِي هَذَا كراهةَ غرسِ الأشجارِ فِي المساجدِ.
و((الإنبجانيةُ)) يقالُ: بفتحِ الهَمزةِ وكسرِها، وَكَذَلِكَ فِي الباءِ، وَكَذَلِكَ الياءُ تخفَّفُ وتشدَّدُ، وقيل: إنها الكساءُ مِن غيرِ عَلَمٍ، فإنْ كَانَ فيه علَمٌ، فَهُوَ خميصةٌ.
وفيه دليلٌ عَلَى قبولِ الهديَّةِ مِنَ الأصحابِ، والإِرسالِ إليهمْ والطَّلبِ لَهَا ممَّن يُظنُّ بِهِ السُّرورُ بِذَلِكَ أَوْ المُسامحةُ.


  #7  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 10:51 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

المتن:

باب الذكر عقيب الصلاة:
133- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس:: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته.
- وفي لفظ: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير.
134- وعن وارد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة:
( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).
ثم وفدت بعد ذلك على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك.
وفي لفظ: (وكان ينهى عن قيل وقال: وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهى عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات ).
***
الشرح:

هذان الحديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما يدل على شرعية الذكر عقب الصلاة، وأنه يرفع به الصوت حتى يتعلم الجاهل، ويتذكر الناسي، ولا يظن الناس أنه السر غلط وهذا من السنة، من السنة رفع الصوت بالذكر بعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الفجر حتى يسمع من حول المسجد أنهم صلوا كما يدل حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته.
وفي لفظ: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير. أي: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، ليعرف من حول أهل المسجد أنهم صلوا.. وهذا واضح في شرعية الجهر بالذكر عقب الصلاة.

يقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
بعد كل صلاة، هكذا جاء في حديث المغيرة كما هنا لا إله إلا الله اللهم لا مانع لما أعطيت.
وجاء في حديث ابن الزبير عند مسلم بقية الذكر بزيادة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.

ففي هذين الحديثين؛ حديث المغيرة وحديث ابن الزبير ثبت هذا الذكر العظيم وفي حديث ابن عباس ثبت رفع الصوت بالذكر.
وحديث المغيرة يدل على رفع الصوت لأنه كان يسمع النبي يقول هذا، لولا أنه رفع صوته ما سمعوا، فدل ذلك على أن السنة رفع الصوت بالذكر رفعا متوسطا ليس فيه إزعاج، و يسمعه من حول المسجد.
وفي الحديث الدلالة على أنه في الذكر، والمشروع: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة سواء أفردها: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، حتى يكمل ثلاثا وثلاثين أو جمعها؛ سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين جميعا، هذه تسعة وتسعون، والأفضل أن يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ لأنه صح عن النبي هذا، عند مسلم في حديث........................
وفي حديث المغيرة الدلالة على أنه يقول: ( اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ) أي لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله، فالأمر بيده سبحانه وتعالى هو المتصرف في الكائنات كلها، وهذا مثل قوله سبحانه: ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) فالأمر بيده سبحانه وتعالى، وهكذا قوله جل وعلا : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فلا راد لفضله ) فهو مصرف العباد كيف يشاء؛ وهو المعطي، وهو المانع، وهو النافع، وهو الضار، وهو المحيي، وهو المميت والخالق والرازق وكل شيء بيده سبحانه وتعالى.
وقوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، أي: ولا ينفع ذا الغنى جده بفتح الجيم، هذا هو الصواب في الرواية: ذا الجد منك الجد: أي لا ينفع ذا الغنى والحظ والرياسة ونحو ذلك جده وحظه وغناه، ( منك ) أي بدلا منك ربنا، فإن الجميع فقراء إلى الله، فلا ينفعهم ولا يغنيهم جدهم أي مالهم ولا ثروتهم ولا وظائفهم .
وفي حديث المغيرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وعن عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنع وهات.
وفي لفظ آخر يقول المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات وكره لكم قيل وقال وفي لفظ آخر: ويسخط لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال أعظمها: عقوق الأمهات، يحرم عقوق الأمهات، العقوق والقطيعة والإيذاء للأمهات وهكذا الأب، لكن الأم أشد، لأن حقها أعظم، وعقوقها أشد وأخطر والأب كذلك بره واجب وعقوقه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، والواجب برهما والإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف، والسمع الطاعة لهما بالمعروف وعدم رفع الصوت عليهما، وعدم إيذائهما بأي أذى، قولي أو فعلي، كما قال سبحانه: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)
وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي العمل أفضل قال: ( الصلاة على وقتها )، قيل ثم أي؟ قال: ( بر الوالدين ) قيل ثم أي؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله )،
وقال عليه الصلاة والسلام ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر )؟! قلنا: بلى يا رسول الله! قال:
( الإشراك بالله وعقوق الوالدين – وكان متكئا فجلس – فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ). هذه من أعظم الكبائر وأكبرها وأخطرها: الشرك بالله ثم العقوق للوالدين ثم شهادة الزور، فينبغي الحذر من هذه الأمور المحرمة.
وهكذا: ( وأد البنات )، كانوا في الجاهلية يئدون البنات،فبعض أهل الجاهلية يقتل بنته وهي حية، يخاف من العار، أو من الفقر، وهذا من المنكرات العظيمة ومن الكبائر ومن قطيعة الرحم ولهذا حرم الله ذلك، ويقتل بعضهم الأولاد أيضا، من الذكور؛ خشية الفقر، كذا قال الله جل وعلا: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )،
الإملاق: الفقر، فبعض أهل الجاهلية يقتل الولد من الذكر؛ خوف الفقر، ويقتل البنت خوف الفقر وخوف العار، وحرم الله ذلك سبحانه وتعالى على المسلمين
وهكذا: ( منعاً وهات ) أي يمنع الحق ويطلب ما ليس له، ( منعاً ) أي يمنع الواجب من زكاة وغيرها، و( هات ) أن يطلبها ليس له من الكسب الحرام، فهذا محرم، والواجب على المؤمن أن يؤدي الواجب وأن يحذر المحرم.
وكذا: ( قيل وقال ) لا ينبغي قيل وقال لأنه إذا فعل ذلك وقع في الكذب، ولهذا سخط الله قيل وقال، فينبغي للمؤمن أن يكون حافظا للسانه، قليل الكلام إلا فيما ينفع ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت )، وفي حديث معاذ: ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) نسأل الله السلامة، فينبغي للمؤمن أن يقلل الكلام وأن يحتاط فيه حتى لا يقول إلا خيرا، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) نسأل الله السلامة.
كذلك : ( إضاعة المال )، لا يجوز إضاعة المال بالخمور والمحرمات وآلات الملاهي وأشباه ذلك، يجب حفظ المال حتى لا يصرف إلا في وجهه، لا تجوز إضاعته فيما لا يجوز كالمسكرات و الملاهي، أو أشياء تضر ولا تنفع، بل يجب أن يصان المال ويحفظ حتى يصرف في وجهه الشرعي.
والسادسة: (كثرة السؤال)، فسر بالسؤال عن العلم بسؤال الدنيا، أما كثرة السؤال في العلم فهذا منهي عنه إذا كان بقصد إقاعة المسؤول في الأغلاظ وإيذاء المسؤول، أو لقصد إظهار جودة الفهم وأنه حريص على طلب العلم رياء وسمعة، فينبغي له أن لا يكثر السؤال لأنه، إما أن يؤذي المسؤول، وإما أن تكثر عليه المسائل فيغلط ولا يفهم، فينبغي أن يسأل في كل وقت ما يناسبه مع الاقتصاد حتى لا يغلط وحتى لا يؤذي غيره وحتى لا يقع في الرياء.
وهكذا في الدنيا حرام على المؤمن أن يسأل الناس أموالهم عنده ما يكفيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الناس أموالا تكثرا فإنما يسأل جمرا فيستقل أو ليستكثر ) نسأل الله العافية، فالواجب على المؤمن الحذر من السؤال إلا من حاجة، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن المسألة تحل لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب حمولته)، تحمل حمالة في الإصلاح بين الناس أو في حاجة أهله فإنه يسأل.
الثانية:( إذا أصابته جائحة)، من غرق أو حرق أو جراد حتى ذهب ماله ولم يعد عنده ما يقوم بحاله، حلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أي سداداً من عيش قدر حاجته، ثم يمسك عن السؤال.
الثالثة: (الإنسان إذا أصابته فاقة) بأنه حلت به مصيبة، أو ذهبت أمواله بسبب خسارته في التجارة أو أسباب أخرى غير الجائحة حتى افتقر، فإذا شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أنه افتقر، حلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أي سدادا من عيش فهؤلاء الثلاث هم الذين تباح لهم المسألة يأخذه صاحبه سحتا والحديث رواه مسلم في الصحيح، وما سوى هذه المسائل يحرم على المؤمن تعاطيه

***
المتن:

135- وعن سمي – مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام – عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فقال: ( وما ذاك؟ ) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلما صنعتم ) قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: ( تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة ).
قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ).
قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث. فقال: وهمت، إنما قال: ( تسبح الله ثلاثا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثا وثلاثين ) فرجعت إلى أبي صالح، فقلت له ذلك، فقال: قل الله أكبر وسبحان الله والحمد لله، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين.
136- وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: ( اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي ).

الأول من هذين الحديثين يتعلق بالذكر عقب الصلاة والثاني يتعلق بالخشوع في الصلاة، والابتعاد عن كل ما يشغل فيها.

الحديث الأول: أن فقراء المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، - الدثور: الأموال -، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويعتقون ولا نعتق.. سألهم النبي عن ذلك فأخبروه أن ذلك بسبب أنهم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم لكن يزيدون علينا بأنهم يتصدقون وليس عندنا ما نتصدق به ويعتقون وليس عندنا مال نعتق، وفي لفظ آخر: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال: ( وما ذاك ) أي: بم ذاك قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، أي أنهم فقراء وهم عندهم مال يستطيعون به الصدقة وشراء العبيد والعتق فهم سبقونا بهذا الخير.. فقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم ) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ( تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ) – هذا يدل على فضل هذا التسبيح والتحميد والتكبير بعد كل صلاة وأنه يقوم مقام الصدقة والعتق لمن عجز عن ذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، فإن المؤمن إذا ترك العمل الصالح عجزا عنه، وهو يحب أن يعمله ويريد ذلك لولا العجز كتب الله له مثل أجر العاملين، فضلا منه وإحسانا كما في الحديث الصحيح: يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم )، وفي حديث أبي كبشة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأربعة: رجل أعطاه الله علما وأعطاه مالا فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم أن لله في حقا قال: فهو بخير المنازل والثاني رجل أعطاه الله علما ولم يعطه مالا، فقال: لو كان لي من المال مثل فلان لعملت مثل عمله قال: فهذا بنيته وهما في الأجر سواء) – لأنه عاجز- فصار بنيته الصادقة مع عجزه يعطى مثل أجر العامل، هذا من فضل الله وجوده وكرمه سبحانه وتعالى قال: (ورجل آتاه الله مالا ولم يعطه علما فهو لا يتقي فيه ربه ولا يصل رحمه و قال: فهذا بشر المنازل، والرابع: رجل لم يعطه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي من المال مثل فلان لعملت مثل عمله - يعني مثل عمله السيئ – قال: فهذا بنيته فهما في الوزر سواء ) هذا يدل على أن الإنسان إذا نية سيئة، ولو قدر لعمل، يكون شريكا ومساويا لمن فعل الشر -والعياذ بالله – ولهذا في الحديث الصحيح: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قيل: يا رسول الله: هذا القاتل فما شأن المقتول!؟ قال: ( لأنه كان حريصا على قتل صاحبه ) فاستويا في العقوبة نسأل الله العافية.
وفي هذا أن فقراء المهاجرين لما عجزوا عن الصدقة والعتق صار تسبيحهم وتحميدهم وتكبيرهم ونيتهم الصالحة قائمة مقام ذلك، وصاروا مثلهم في الأجر.
وقال الفقراء – لما رجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم -: إن إخواننا أهل الأموال سمعوا بما قلت لنا فعملوا مثل عملنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ).
يعني سمع التجار– الأخيار من الصحابة الأثرياء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء من التسبيح والتحميد والتكبير ففعلوه أيضا، مع ما قاموا به من الصدقة والإحسان والعتق، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء – سبحانه وتعالى -.

ففي هذا الحديث الحث على الإكثار من الذكر، وأنه يقوم مقام الصدقات ويقوم مقام العتق، وله فضل عظيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ). ويقول: ( أحب الكلمات إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ). ويقول: ( الباقيات الصالحات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ) ويقول صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )..
وهذا فضل كبير، فيستحب للمؤمن والمؤمنة – بعد كل صلاة – أن يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر يعقدها ثلاثاً وثلاثين، الجميع تساوي تسعا وتسعين، وإذا أفردها قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين فلا بأس ولكن جمعها أيسر عليه وأضبط، ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، جاء هذا في الحديث الآخر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ رفعت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر )
هذا يدل على فضل هذا الذكر، وأن العبد إذا قاله عن صدق وإخلاص وإيمان وعدم إصرار على الذنوب: كفر الله له خطاياه.
وهذا من أحاديث الفضائل من أحاديث الرجاء فينبغي للمؤمن والمؤمنة استعمال ذلك،
ذلك عقب الصلوات؛ رجاء هذا الفضل العظيم.

والحديث الرابع: حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بخميصة لها أعلام، - الخميصة: كساء

صلاتي، فطلب أنبجانية أبي جهم؛ لأنها كانت سادة، ليس فيها نقوش، فأحب عليه الصلاة والسلام أن تكون بدلا من تلك التي فيها نقوش؛ لأنها قد تشغل المصلي بالنظر إليها , وهذا يدل على أنه ينبغي للمصلي أن تكون ملابسه بعيدة عما يشغله عن الصلاة ويؤذيه ويشوش عليه خشوعه، وهكذا مصلاة والسجادة التي يصلي عليها لا يكون فيها نقوش تشغله عن الصلاة وهكذا في المساجد تكون السجادات ليس فيها نقوش، هذا هو الأفضل حتى لا يشتغل بها المصلي بالنظر إليها أو التفكير فيها، وصلاته فيها صحيحة، لكن ترك هذا أفضل وأكمل.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الذكر, باب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:21 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir