دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > الرسائل التفسيرية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #7  
قديم 3 محرم 1438هـ/4-10-2016م, 10:37 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي

قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): (

الخاتمة
فصل في بيان إعجاز القرآن العظيم
-وهو الخاتمة لهذا الكتاب-
أجمع المسلمون على اختلافهم في الملل والنحل على أن القرآن معجزٌ، وأن الإنس والجن لم يقدروا على أن يأتوا بكلام يشبهه أو يقاربه في قليلٍ منه ولا كثير.
والدليل على كونه معجزًا: أن العرب العرباء الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم –وكانوا أفصحهم لسانًا وأكملهم بلاغة وبيانًا- تُحُدُّوا إلى معارضته فلم يأتوا بها، ولولا عجزهم عنها لكان محالًا أن يتركوها ويعرِّضوا أنفسهم لإزهاقها ويقتحموا موارد الموت بإقامة الحرب على ساقها.
ثم إن التحدي بالقرآن جاء على وجوه:
أحدها: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى} [القصص 28/ 49].
ثانيها: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء 17/ 88].
ثالثها: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود 11/ 13].
رابعها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس 10/ 38].
خامسها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة 2/ 23].
يعني إن حصل لكم ريبٌ وشكٌ في القرآن وصدق من جاء به، وأنه لم يكن من كلام الله تعالى بل هو مفتعل ومختلق له من تلقاء نفسه، فأتوا بأدنى جزء من مثله. وهذا كمن يتحدَّى صاحبه بتصنيفه فيقول: جيء بمثله، إيتني بنصفه، إيتني بربعه، إيتني بمسألة من مثله. فإن هذا هو النهاية في التحدِّي، وإزالة العذر.
ولا شك أن هذا في الحقيقة خطاب لأهل الأرض أجمعين، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزءٍ منه يكون مقداره عشر كلمات من عدة ألوف ألوف، ثم يعجز الخلائق كلهم عن ذلك حتى أن الذين راموا معارضته كان ما عارضوا به من أقوى الأدلة على صدقه وأعظم البراهين على مدّعاه فإنهم أتوا بشيء يستحيي العقلاء من سماعه، ويقطعون بفظاعته وسماجته وقبح ركاكته وخسَّته. فكان كمن أظهر طيبًا لمن يشم أحد مثل طيب ريحه وتحدَّى جميع الخلق ملوكهم، وسوقتهم وعامتهم وخاصتهم، بأن أأتوا بذرة طيب مثله فاستحيى العقلاء وعرفوا عجزهم. وجاء الحَمْقَى والمجانين بعذرة خبيثة منتنة، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئت به! قهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانًا وعظمة وجلالة؟
ثم إنه تعالى لم يكتف بهذا التقريع والتوبيخ والتعجيز حتى أكده بقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة 2/ 23] {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس 10/ 38]. وخطابه لأهل الأرض جميعه، كما يقول المعجز لمن يدعي (مناوءته) أجهد بكل من تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك ولا تبق منهم أحدًا حتى تستعين به فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم وأسخفه عقلًا وأحمقه إن كان غير واثق بصحَّة ما يدعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله. هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات على أصناف الخلائق؛ أميهم وكاتبهم، وعربهم وعجمهم، ويقول: (لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا).
فيعدلون معه إلى الحرب والرضا بقتل الأحباب.
فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة من أقصر السور مثل (الكوثر) و(العصر) مثلًا لم يعدلوا عن ذلك إلى اختيار المحاربة وإيتام الأولاد وقتل النفوس والإقرار بالعجز عن معارضته، وتقدير النبوة بهذه الآيات له وجوه متعددة هذا أحدها.
وثانيها: إقدامُه صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر وإسجاله على الخلائق إسجالًا عامًا إلى يوم القيامة، أنهم (لن) يفعلوا ذلك أبدًا فهذا أيضًا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يتخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى، وإلا فعلم البشر وقدرتهم يضعفان عن ذلك.
وثالثها: النظر إلى نفس ما تحدَّى به وما اشتمل عليه من الأمور التي يعجز قويُّ البشر عن الإتيان بمثله، الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفرا إعجازه.
وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمَّله وفهمه (والوجهان الأولان يكونان) معجزة لكل من بلغه خبره ولو لم يفهمه ويتأمّله.
فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف به قصور كثير من المتكلمين في شأن إعجاز القرآن، فقد اختلفوا في وجه إعجازه على ستة أقوال:
أحدها: قول النظام وأصحابه وهو أن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك وسلب قدرتهم، وهذا باطل من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن عجز العرب لو كان للصرف عنها بعد أن كانوا قادرين عليها لما كانوا يستعظمون فصاحة القرآن، بل ينبغي أن يكون تعجُّبهم من تعذر ذلك عليهم بعد أن كان مقدورًا لهم، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم لو قال: معجزتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة ويكون ذلك متعذرًا عليكم ويكون الأمر كما قال لم يكن تعجب القوم من وضعه يده على رأسه بل من تعذُّر ذلك عليهم.
ولما عُلِمَ بالضرورة أن تعجب العرب كان من فصاحة القرآن نفسها بطل ما قاله النظام ومن قال بقوله.
الثاني:لو كان كلامهم مقارنًا في الفصاحة قبل التحدِّي لفصاحة القرآن لوجب أن يعارضوه بذلك وكان الفرق من كلامهم بعد التحدي، ولما لم يكن ذلك بطل ذلك.
الثالث: إن نسيان الصيغة المعلومة في مدة يسيرة تدل على زوال العقل، ومعلوم أن العرب ما زال عقولهم بعد التحدي فبطل قول النظامية ومن وافقهم.
والقول الثاني: أن إعجاز القرآن في أن أسلوبه مخالف لأسلوب الشعر والخطب والرَّسائل سيّما مطالع السور ومقاطع الآي مثل: يعملون وتؤمنون وهذا أيضًا باطل من خمسة أوجه، ذكرها أيضًا الإمام فخر الدين.
أحدها: لو كان الابتداء بالأسلوب معجزًا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزًا.
الثاني: إن الابتداء بالأسلوب لا يمنع الغير من الإتيان بمثله.
الثالث: يلزم أن الذي تعاطاه (مسيلمة) في: (إنا أعطيناك الجماهر فصلِّ لربك وهاجر)، وكذلك (والطاحنات طحنًا) في أعلى مراتب الفصاحة.
الرابع: إنا لما فضلنا بين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة 2/ 179] وبين قولهم: (القتل أنفى للقتل) لم تكن المفاضلة بسبب الوزن والإعجاز، إنما يتعلق بما به ظهرت الفضيلة.
الخامس: إن وصف العرب القرآن بقولهم: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة) لا يليق بالأسلوب.
والقول الثالث: أن الإعجاز في أنه ليس فيه اختلاف تباين وتناقض. وهذا أيضًا باطل لأن التحدي كما وقع بالقرآن كله فقد وقع بالسورة، وقد يوجد في خطبهم ما مقداره مقدار سورة الكوثر ولا يكون فيه اختلاف وتناقض.
والقول الرابع: أن وجه إعجازه هو اشتماله على الغيوب. وهذا أيضًا باطل لأن الغيوب التي أخبر عنها القرآن لم تقع كلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل جاء به على ممر الزمان على طرق كشفت لنا سورًا من القرآن اشتملت على تلك الغيوب، فلو كانوا مطلوبين بأن يأتوا بسورة من مثله مخبرة عن غيب سيكون، لنازعوا في كون ذلك، ولم يسلموا صدقه.
وجواب ثانٍ: وهو أنه قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} وليس كل سورة للقرآن فيها الإخبار عن الغيوب. إنما ذلك في بعض السور دون بعض.
القول الخامس: وهو الذي عليه الجمهور أن إعجازه في فصاحته وبلاغته وما خص به من النظم العجيب والأسلوب الغريب والوصف البديع ومباينته لكلام الجميع لا يشبه شيئًا من كلام البشر، ولا تماثله بلاغة من تقدَّم أو تأخر.
القول السادس: اختيار العلامة السكاكي وتبعه كثير من المتأخرين المحققين، فقال في آخر التكملة:
إن وجه إعجازه هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة كما تجده أرباب الذوق.
وقال في المفتاح: «اعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها أو كالملاحة.
ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس غلا وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين.
نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، وبما تيسَّرت إماطة اللثام عنها يتجلى عليك، أما نفس الإعجاز فلا».
قلت: صدق رحمه الله وبرّ، وأدرك الحق واستقرَّ، فإن من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه غير الذوق الصحيح، كما قال الشاعر:
شيء به فتن الورى غير الذي *** يدعى الجمال ولست أدري ما هو
والقول السابع: مما ظهر لي ولعله أحسنه الوجوه وأقربها وأولاها بالإعجاز وأنسبها. وهو أنه مع ما اشتمل عليه من البلاغة والفصاحة والذوق والملاحة إلى غير ذلك، أن كل حرف من حروفه وكل كلمة من كلماته لا يصح أن يكون (في) مكانها وموضعها الذي وقعت فيه غيرها، وهذا شيء لا يدركه إلا من وهبه الله ذهنًا ثاقبًا وقدمًا في الإدراك راسخًا، وممارسة لعلوم البلاغة، وتحقيقًا لأسرار كلام العرب، وتدقيقًا من ضروب فنون الأدب، ولا يوصل إلى ذلك إلا بإنعام النظر في المعاني والبيان، ولا يقف على كنهه من تطبع القول بالتفنن فإنه عصا العميان، وهذا مما أهمله أهل التفسير، لأن الوقوف على غايته عسير.
ولعمري أن الاعتناء به لجدير، فإن به ينحلُّ ما أشكل من متشابه القرآن، ويقوم به على وجه إعجازه البرهان، ويندفع به شبه أهل الإلحاد والطغيان، حيث زعموا: أن القصة الواحدة تقع في مواضع متعددة بألفاظ مختلفة ليس إلى الجمع بينها إمكان.
قالوا: وهذا عين الاختلاف المنفي بلو كان كمثل قوله تعالى في البقرة: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة 2/ 49]، بغير واو. وفي الأعراف: {يَقْتُلُونَ} [الأعراف 7/ 141] كذلك، وفي إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ} [إبراهيم 14/ 6] بالواو. وكقوله في البقرة والأعراف: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف 7/ 160، والبقرة 2/ 57] وفي آل عمران: {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران 3/ 117] وفي البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} [البقرة 2/ 58] بالفاء، وفي الأعراف بالواو، وفيها: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا} [الأعراف 7/ 161]، وزاد في البقرة: {رَغَدًا} [البقرة 2/ 58].
وقدم في البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}، وآخره في الأعراف.
وفي البقرة: {وَسَنَزِيدُ} بالواو وفي الأعراف بغير واو.
وفي البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} [البقرة 2/ 59] وفي الأعراف: {ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا}، وفي البقرة: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
وفي الأعراف: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وفي البقرة: {فَانْفَجَرَتْ} وفي الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ}، والقصة في السورتين واحدة.
وكقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام 6/ 32] قدم اللعب على اللهو –في موضعي الأنعام- وكذا في القتال والحديد. وقدم اللهو في الأعراف والعنكبوت.
وكقوله في الأعراف في قصَّة ثمود: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} وفي غيرها: {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا}، والقصة واحدة.
وقال في قصة ثمود وشعيب في الأعراف:
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف 7/ 78، 91].
(وفي القصتين من هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ..} [هود 11/ 67]) وقال في الأعراف في قصة لوط: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف 7/ 81] اسمًا.
وفي النمل: {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ..} [النمل 27/ 55] فعلًا.
وفي الأعراف: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [الأعراف 7/ 82] بالواو، وفي غيرها «فما» بالفاء وفي الأعراف: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف 7/ 82].
وفي النمل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} [النمل 27/ 56] والقصة واحدة.
وقال في الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [النمل 27/ 69].
وقال في هود: -في قصة شعيب- {إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود 11/ 93] بغير فاء.
وفي غيرها: {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام 6/ 135، والزمر 39/ 39] بالفاء.
وقال في قصة موسى وفرعون في الأعراف ويونس وطه والشعراء، بألفاظ مختلفة من زيادة ونقص وتقديم وتأخير والقصة واحدة.
وكذا ما وقع في قصة آدم من اختلاف الألفاظ إلى غير ذلك مما يعسر حصره ولا يسمع هذا المكان ذكره.
استوعبنا ذلك في كتابنا (بيان متشابه القرآن بما ترك الملحد في ضلاله حيران). إذ بيان ذلك من أعظم أسرار التنزيل، الذي هو بمعنى الإعجاز كفيل وأوضح سبيل:
وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتج النهار إلى دليل
فأما قوله تعالى في البقرة: {يُذَبِّحُونَ (أَبْنَاءَكُمْ)} بغير (واو) وكذا في الأعراف: {يَقْتُلُونَ} ومجيئه {وَيُذَبِّحُونَ} –بالواو- في (إبراهيم) فلأن حرفي (البقرة) و(الأعراف) من قول الله تعالى لم يقصد به تعديد النعم بل التذكير بجنس النعمة، وهذا حاصل بدون الواو.
وأما في (إبراهيم) فإنه من قول موسى لهم حيث أمره الله تعالى في الآية قبلها بذلك، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم 14/ 5]. ومن المعلوم أن التذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعمه. وإذا قصد تعديد النعم وجب ذكر العطف، فبكون المراد من سوء العذاب نوعًا من العذاب، والمراد من «ويذبحون» نوعًا آخر، فيحصل من ذلك نوعان من النعمة.
وأما «يقتلون» في الأعراف فإنه لما تقدم قوله قبله {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف 7/ 138] ناسب أن يذكر القتل الذي هو أعم من الذبح لأنه يشمل كل نوع من أسباب الموت التي منها ما هو أشد من الذبح وأقطع.
وأما قوله تعالى في البقرة والأعراف {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة 2/ 57- والأعراف 7/ 160] فإنه إخبار عن قوم ماتوا وذهبوا بخلاف ما في العمران فإنه مثل لقوم موجودين.
وأما قوله تعالى في البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة 2/ 58].
وفي الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} [الأعراف 7/ 161] فلأن الدخول لا يدل على إقامة، إذ هو سريع الذهاب، فيعقبه الأكل، فناسب مجيء (الفاء) بخلاف (اسكنوا) الذي في الأعراف إذ معناه (أقيموا)، وذلك يدل على الامتداد، فناسب مجيء الواو، أي اجمعوا بين الإقامة والأكل، وزاد في البقرة (وغدا) لأنه تعالى أسنده إلى ذاته المقدسة بلفظ التعظيم بخلاف الأعراف فإنه (وإذ قيل).
وأما تقديم «وادخلوا» في البقرة وتأخيرها في الأعراف فإنه لما قدم (الدخول) في البقرة فقال: «وإذ قلنا ادخلوا» ناسبت تقديم الدخول فيها.
وأما مجيء (وسنزيد) بالواو في البقرة دون الأعراف فلأن الاتصال في البقرة أنسب لاتفاق اللفظين وهو (قلنا) و(سنزيد) بخلاف الأعراف فإنه (وإذ قيل) فالمناسب فيه (سنزيد) فحذفت الواو ليكون مناسبًا إذ لا يحسن الوصل، فوجب الفصل.
وأما قوله في البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} [البقرة 2/ 59] وزيادة (منهم في الأعراف فلأنه لما تقدم فيها {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} [الأعراف 7/ 159] وقوله {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف 7/ 168]، ناسب مجيء (منهم) ليكون موافقًا لذلك بخلاف البقرة.
وأما قوله في البقرة: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة 2/ 59] وفي الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف 7/ 162] فلأن لفظ الرسالة والرسول كثر في الأعراف فيجرى على الوفاق، وقال (عليهم) ليوافق (منهم)، ولقوله آخر الفاصلة {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} بخلاف البقرة فإنه ختم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.
وأما قوله في البقرة: {فَانْفَجَرَتْ} [البقرة 2/ 60] وفي الأعراف {فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف 7/ 160] فلأن الانفجار يدل على ظهور الماء كثيرًا والانبجاس على مجرد ظهور الماء. فلما جاء في البقرة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} ناسب ما يدل على كثرة الماء بخلاف الأعراف فإنه لم يذكر ذلك فلم يحتج إلى ما يدل على كثرة الماء.
وأما تقديم اللهو على اللعب في موضعي الأعراف والعنكبوت دون غيرهما مما هو أكبر، فلأن اللعب زمانه الصبا، واللهو زمانه الشباب وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب بدليل ما ذكر في الحديد وهو: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد 57/ 20] أي لعب كلعب الصبيان ولهو كلهو الشباب، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الإخوان وتكاثر كتكاثر السلطان.
وانظر إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء 21/ 16 و17]، كيف قدم اللعب على اللهو.
فأما تقديم (اللهو) في الأعراف فإن ذلك إخبار عما يقال لأهل يوم القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما به الإنسان انتهى في كلا الحالين.
وأما حرف العنكبوت، فالمراد بها زمان الدنيا وأنه سريع الزوال، قليل الثبات، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، أي هي الحياة التي لا انقضاء لأمدها ولا نهاية لأبدها. فقدم اللهو لأنه في زمان الشباب الذي هو أكثر من زمان اللعب وهو زمان الصبا.
وأما قوله تعالى في الأعراف في قصة ثمود {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف 7/ 74] وفي غيرها {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء 26/ 149] بزيادة (من)، فلأن الذي في الأعراف تقدمه قوله: {مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف 7/ 74] فاكتفى بذلك بخلاف غيرها فإنه لم يتقدم ذلك.
وأما قوله تعالى في قصة صالح وشعيب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} [الأعراف 7/ 78]، وكذا قال في قصة شعيب من العنكبوت، وقال في القصتين من هود: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ} [هود 11/ 67] في قصة صالح. وأما في قصة شعيب فقال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ} [هود 11/ 94] فجمع الديار مع الصيحة وأفردها مع الرجفة، لأن الرجفة هي الزلزلة، فناسب توحيد (الدار) معها بخلاف الصيحة فإنها كانت من السماء؛ فبلوغها أكثر وأعظم من الزلزلة، فناسب كل منهما الآخر.
وسُئِلَ شيخنا إمام التفسير العلامة عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن قوله تعالى في قصة شعيب في الأعراف: «فأخذتهم الرجفة»، وفي هود «فأخذتهم الصيحة»، وفي الشعراء «عذاب يوم الظلة» مع أنهم أمّة واحدة وقصة واحدة؟ فقال:
اجتمعت عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلُّها.
وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف 7/ 88] ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها.
وفي هود لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخذتهم، وفي الشعراء لما قالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء 26/ 187] قال: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
فإن قيل: فما الحكمة في مجيء التام في قصة شعيب في قوله: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود 11/ 94] وحذفها من قصة صالح.
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي، فهي إذًا منتظمة بقوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود 11/ 66] فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية فقوى التذكير، بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك، وهذا قول الإمام أبي القاسم السهيلي.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم: وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو: أن الصيحة يراد بها المصدر يعني (الصياح) فيحسن فيها التذكير ويراد بها الواحد من المصدر، فيكون التأنيث أحسن وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ:
أحدها: (الرجفة) كما في الأعراف.
والثاني: (الظُّلَة) كما في الشعراء.
والثالث: (الصيحة) كما في هود.
وكان ذكر الصيحة مع الرجفة أحسن من ذكر الصياح فكان ذكر التاء أحسن.
قلت: وعندي جواب ثالث وهو موافقة تأنيث ما بعده في قصة شعيب، وهو: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} ولم يكن ذلك في قصة صالح، فجاء على الأحسن للفضل والله أعلم.
وأما قوله في الأعراف قصة لوط:
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف 7/ 81] (اسمًا) وفي النمل {قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل 27/ 55] (فعلًا)، فهو لتناسب رؤوس الفواصل.
فإنه لما كان الواقع في رؤوس الآي في الأعراف كله أسماء: العالمين، الناصحين، جاثمين، المرسلين، كافرون، مؤمنون، أتى بالاسم.
ولما كان الواقع في النمل أفعالًا: تبصرون، (يتقون يعلمون) أتى فعلًا.
فإن قيل: لم عدل في النمل عن تسرفون إلى تجهلون؟ قلت: لما كان الإسراف تجاوز الحد في كل فعل، والتعدي إلى ما لا يحل ولا يجوز، ويقدم أول قصة الأعراف: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف 7/ 80] ناسب أن يعقبها بالإسراف الذي هو التعدي من موضع البذر والحرث إلى غيره بخلاف الجهل فإنه خلاف العلم وهو أيضًا فعل الشيء على خلاف ما حقُّه أن يفعل. فمعنى يجهلون هنا أي: يفعلون فعل الجهال، فأتى به بعد قوله تبصرون أي تعلمون أن ذلك فاحشة فلا تفعلونه إلا جهلًا بما يجب، فإن الطباع تأبى ذلك، ففعلكم ذلك جهل. فناسب كل ما قبله.
وأما قوله (فيها) في الأعراف {وَمَا كَانَ جَوَابَ} (بالواو)، وفي غيرها (بالفاء)، لأن ما قبله في الأعراف اسم كما ذكرنا بخلاف غيرها فإنه فعل، والفاء للتعقيد، والتعقيب يكون مع الأفعال. فقال في النمل: {تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ} [النمل 27/ 55 و56]، وفي العنكبوت: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ} [العنكبوت 29/ 29] ولهذا قال في الأعراف {مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ} [الأعراف 7/ 81 و82].
وقيل: لأن الواو أم حروف العطف وهي تدل على العطف المجرد وغيرها من الحروف يدل على العطف ومعنى آخر، فجاء في الأولى بالأصل وفي غير الأول بفروعه، والله أعلم.
وأما قوله في هذه القصة في الأعراف {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف 7/ 82]، وقال في النمل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل 27/ 56] فقيل إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف، فصرح في الأولى وكنّى في الثانية وفيه نظر، غذ الأعراف نزلت قبل النمل، وقيل: إن ما مرّ في الأعراف ضمير فسَّره ما في النمل، والذي يظهر لي أنه لما وقع لهم منه التصريح في الأعراف ما لم يصرح لهم به في النمل من المبالغة في نكايتهم عادوا عن التصريح إلى الكناية ليكون أيضًا منهم أبلغ في الكناية، والله أعلم.
وأما قوله تعالى في الأنعام {قُلْ سِيرُوا (فِي الْأَرْضِ) ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام 6/ 11] وفي غيرها {فَانْظُرُوا} [آل عمران 3/ 137، والنحل 16/ 36]، فلأن (ثم) للمهلة والتراخي، وق تقدم في الأنعام ذكر القرون الخالية في قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} [الأنعام 6/ 6] ثم قال: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام 6/ 6]، فأمروا بالسفر في الأقطار وتأمل الآثار، ولا شك أن في ذلك كثرة، فلا بد أن يقع ذلك يسير بعد سير وزمان بعد زمان، فأتى بثم الدالة على التراخي من الفعلين ليعلم أن السير على حده وأن النظر بعده مأمور به على حده.
فاختصت الأنعام بذلك، ولم يأتِ ذلك في غيرها من السور متقدمًا عليها، فلذلك اختصت بالفاء التي هي للتعقيب.
وأما قوله عز وجل في قصة شعيب من هود {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود 11/ 93] بغير (فاء)، وفي سائر القرآن بالفاء، وذلك أن الذي في قصة شعيب لم يتقدمه (قل) صار مستأنفًا فناسب فصله، بخلاف غيره، فإنه لما تقدمه (قل) الذي أمرهم به أمر وعيد وتهديد فقوله «اعملوا» أي: اعملوا فستجزون، والله أعلم.
فهذا بعض ما اتفق إيراده من أسرار إعجاز القرآن الذي يخفى على كثير ممن مارس الكتاب العزيز، وخفي عليه وجه التحدي والتعجيز.
«وقد» حكى الإمام عبد القاهر الجرجاني أن المتفلسف ركب إلى أبي العباس فقال له: إني أجد في كلام العرب حشوًا، فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: وجدت العرب تقول: (هذا عبد الله قائم) ثم يقولون: (إن عبد الله قائمٌ) ثم يقولون: (إن عبد الله لقائم)، فالألفاظ متكررة، والمعنى واحد.
فقال له أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ.
فقولهم: (عبد الله قائمٌ) إخبارٌ عن قيامه، وقولهم: (إن عبد الله قائمٌ)، جواب عن سؤال سائل، وقولهم: (إن عبد الله لقائمٌ)، جواب عن إنكار منكر قيامه. (فقد تكررت الألفاظ لتكرار المعاني) فما أحار المتفلسف جوابًا، فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره؟».
ولهذا طعن بعض من لا يفهم من أهل الإلحاد في القرآن من جهة التكرار والتطويل، ولم يعلم أن من عادة الفصحاء والبلغاء أن يكرروا القضية الواحدة في مواضع مختلفة فتتجدد في مواضع، وهذا من لطيف محاوراتهم وطريق تصرفهم في عباراتهم.
وإنما يعاب التكرار إذا كان في الموضع الواحد وقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة حالًا بعد حال وشيئًا بعد شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لما يناله من الكفار، فكان سبحانه وتعالى يسليه بما ينزل عليه من الوحي من قصص من تقدَّم من الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يعلمه من الصلاح. فلهذا قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود 11/ 120].
وأيضًا فإن ظهور الفصاحة ونور البلاغة في القصة الواحدة إذا أعيدت أبلغ منها في القصص المتغايرة كما أشرنا إليه في ما تقدم آنفًا.
دي أن في القرآن آيات متناقضة فقد ذكر من ذلك ما يقطع بجهله وسخافة عقله فزعم أن قوله تعالى: «{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية 45/ 17] مناقض، لقوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام 6/ 25، والإسراء 11/ 46] وقوله تعالى: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل 16/ 108].
والجواب: أن المراد بالعلم في الآية الأولى –القرآن والأدلة- دون العلم في نفسه لأنه تعالى أطلق العلم ولم يقيده وقد سمى (الحجة) علمًا والكتاب علمًا، كما يقال (علمُ الشافعي) و(علمُ أبي حنيفة)، وإذا احتمل ذلك بطل التناقض.
وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى 42/ 44] يناقض قوله {(فَزَيَّنَ) لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل 16/ 63].
فإحدى الآيتين تقتضي: أن لا ولي للكفار.
والثانية تقتضي: أن لهم وليًا.
والجواب: أن قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ} المراد به في الآخرة عند إضلال الله إياهم.
والمراد بقوله: «فهو وليهم اليوم» أي: في الدنيا، وتقييده بذكر اليوم يدل على ذلك. وأيضًا فلو كان المراد بها في وقت واحد لم يتناقض لأن المراد: فما لهم من ولي ينفع ويضر، وإذا كان الشيطان لهم وليًا فلا يقتضي أن ينفع ويضر.
وزعم أيضًا أن قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء 4/ 76]، يناقض قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة 58/ 19].
{(وَ) زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ (أَعْمَالَهُمْ فَـ) صَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}.
والجواب: إن المراد بأن كيد الشيطان ضعيف أنه لا يقدر أن يضر ولكنه يوسوس ويدعو فقط، فإن اتبع لحقته المضرَّة، وإلا فحاله على ما كان، فهو كفقير يوسوس للغني في دفع ماله وهو يقدر على امتناعه، فإن وقع إليه فليس ذلك لقوة الفقير بل لضعف رأي المالك.
وزعم أيضًا: أن قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق 50/ 38]، يناقض قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 9- 12].
فادعى أن ذلك إذا عُدَّ زاد على السنة لأنه ذكر أنه خلق الأرض في يومين وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فيصير ذلك ثمانية.
والجواب: أنه تبارك وتعالى أراد بقوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 9] إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت 41/ 10]، أي مع اليومين المتقدمين إلى تتمة أربعة أيام. ولم يرد بذكر الأربعة غير ما تقدم ذكره، وهذا كما يقول العربي الفصيح: سرت من مكة إلى المدينة في عشرة أيام، وسرت من مصر في ثلاثين يومًا أو في شهر، ولا يريد سوى العشرة بل معها، ثم أنه تعالى قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت 41/ 12]، وأراد سوى الأربعة، وهذا إذا فصل كان جملته ستة أيام، ولم يكن مخالفًا لقوله عز وجل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان 25/ 59].
وزعم هذا الملحد أيضًا أن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة 2/ 29] مناقض لقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات 79/ 27-30] فادعى: أن الآية الأولى تقتضي أن خلق الأرض قبل السماء، والثانية تقتضي: أن خلق السماوات قبل الأرض.
والجواب: انه تعالى أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها مع أنه خلقها قبل ذلك، فأراد بقوله تعالى: «دحاها» أي: خلق سطحها، وقد كان خلقها غير مبسوطة قبل خلق السماوات ثم بسطها بعد خلق السماء.
فليس في كلامه سبحانه وتعالى تناقض ولا تخالف ولا في حديث نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وما وضح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مما يوهم ذلك فقد قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة: (لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده، فليأتني لأؤلف بينهما).
وللإمام الشافعي رضي الله عنه في اختلاف الحديث كتابه المعروف، ثم صنف في ذلك ابن قتيبة فأحسن فيه.
وأما قول أبي علي الجبائي المعتزلي في قوله تعالى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف 18/ 109]، يدل على أن كلمات الله تنفد في الجملة وما ثبت عدمه انتفى قدمه. قال: وأيضًا قال: «ولو جئنا بمثله مددًا»، وهذا أيضًا يدل على أنه تعالى قادر على أني جيء بمثل كلامه، والذي يجاء به يكون محدثًا، والذي يكون المحدث مثلًا له فهو أيضًا محدث.
قال الإمام فخر الدين: وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلُّقات تلك الكلمات.
والجواب الصحيح عندي: أن هذا ورد على وجه ضرب المثل للمبالغة في أن كلمات الله تعالى لا تنفدُ ولا آخر لها على ما هو مستحيل ونحوه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما نقص المحيط إذا أدخل البحر» ومعلوم أنه لا بد للبحر من نقص ما بخلاف ما عند الله تعالى، فخرج على وجه التقدير والفرض وضرب المثل والله سبحانه أعلم.
وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان 31/ 27] الآية سر من أسرار كلام الله تعالى لا يسع هذا الموضع ذكره، نذكره في غيره إن شاء الله تعالى.
وقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى في هود: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود 11/ 18] بعد أن ذكر قراءتي الرفع والنصب في (امرأتك)، فقال: ففي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم وأُمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت (يا قوماه) فأدركها حجرٌ فقتلها.
وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها.
قال: واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
هذا لفظه بحروفه وهو خطأ، وأحسن حيث بنى القراءتين المتواترتين على اختلاف الروايتين المتخالفتين، من أن لوطًا عليه السلام سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذب في الأخبار، ومستحيل أن تكون القراءتان –وهما من كلام الله تعالى- (منزلتين)، نعوذ بالله من ذلك.
قلت: وقد اختلف في توجيه هاتين القراءتين، فالأكثرون على أن النصب على الاستثناء من «فأسر بأهلك» والرفع على البدل من «ولا يلتفت منكم أحد» والأولى عندي أن يكون الاستثناء من «فأسر بأهلك» في النصب والرفع، وذلك لأن المعنى دالٌّ عليه، فإن الله تعالى أمر لوطًا عليه السلام أن يسري بأهله إلا امرأته، ولو كان الاستثناء من الالتفات لكان قد نهى المسري بهم عن الالتفات، وأذن فيه للمرأة، وهذا ممتنع لوجهين:
أحدهما: أنه لم يأمره أن يسري بامرأته ولا دخلت في أهله الذين وُعد بنجاتهم.
والثاني: أنه لم يكلفهم بعدم الالتفات ويأذن فيه للمرأة، والله أعلم.
وقال آخرون يجوز الرفع والنصب على الاستثناء من قوله: «ولا يلتفت منكم أحد» فالنصب على الاستثناء والرفع على البدل من (أحد).
قالوا: وكلاهما صحيحان فصيحان، وإن كان البدل أكثر وأفصح عند أهل العربية كما قرئ في قوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء 4/ 66] و«إلا قليلًا»، وهو صحيح فصيح متواتر ولكن يلزم من ذلك ما تقدم من الإشكال والله تعالى أعلم.
فإن قيل فما تقول في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم 14/ 46]؟، قرأه الكسائي بفتح اللام من (لتزول) ورفع الثانية، وذلك يقتضي النفي، وكل من القراءتين تقتضي مناقضة الأخرى.
فالجواب: أن المعنى في قراءة الكسائي: وإن مكرَهم كان من الشدة بحيث يقتلع الجبال الراسيات من مواضعها.
وفي قراءة غيره: «وما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم لتزول منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام»، فالجبال في قراءة الكسائي حقيقة، وفي قراءة الباقين مجاز، فلا تناقض بين القراءتين كما بيناه في كتاب (النشر) والله تعالى أعلم.
وهذا آخر ما يسَّر الله ذكره من الكلام على هذه الآية الكريمة أعني قوله سبحانه تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} المسمى بـ (كفاية الألمعي في الكلام على أية يا أرض ابلعي) وما يتعلق بذلك لمن يفهم ويعي ويعلم أن ما أمليناه فيها قطرة من بحر لا ساحل له، وذرة من برّ لا انتهاء به، إذ القرآن العظيم لا تنتهي عجائبه ولا تفنى غرائبه كما تقدَّم في الحديث الذي رويناه عن أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه «من أراد العلم فليؤثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين».
وقال بعض العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان 31/ 27] الآية – يجوز أن يكون على حذف مضاف أي: (ما نفدت معاني كلمات الله).
ولأهل البيت الشريف النبوي رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل الفردوس مستقرهم ومثواهم، مشرب اختصوا به ومنهل صدروا عنه واعتصموا بسببه ورثوه عن أبيهم الأسنى وجدِّهم الأعلى:
فقد أخبرنا الشيخ الصالح المعمر أبو عليّ ا لحسن بن أحمد بن أحمد بن هلال الدقاق، قرأت بالجامع الأموي داخل دمشق المحروسة في شهر رمضان سنة سبع وسبعين وسبع مائة عن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المقدسي أنبأنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد الأصبهاني في كتابه منها أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد الحداد أنبأنا الإمام أبو نعيم الحافظ حدثنا نذير بن جناح القاضي أخبرنا إسحاق بن محمد بن مروان، أخبرنا أبي، أخبرنا عباس بن عبيد الله أخبرنا غالب بن عثمان الهمداني أخبرنا أبو مالك عن عبيدة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرفٍ ما منها حرف إلا له ظهرٌ وبطنٌ، وأن علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن».
وناهيك بذلك من مثل ابن مسعود إمام القرآن، والمبشر بالجنان، وأنشد لسان حالهم في صريح مقالهم:
فإن الماء ماء أبي وجدِّي *** وبئري ذو حفرت وذو طويت
فلذلك أتحفت بهذا الكتاب أعلمهم في الزمان وأفضلهم في الأوان، السلطان ابن السلطان السيد الرضوي رضاكيا ابن السيد المرحوم علي كيا الحسيني العلوي أعلى الله تعالى به كلمة الإيمان، وخلّد سلطانه وملكه وعجل إلى كل عدو له هلكه.
فعليهم نزل الكتاب وفيهم، وإليهم أبدًا يحن ويرجع.
اللهم أعد علينا من بركات أهل بيت نبيِّك الطيبين، وصلِّ عليه وعليهم وعلى أصحابه أجمعين.
اللهم زدنا فهمًا في كتابك، واجعلنا من حزبك وأحبابك، وانفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملًا متقبلًا، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم واعصمنا من الشيطان الرجيم، واختم لنا بخير يا كريم، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 37/ 180-182] ). [كفاية الألمعي: 215-242]

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
كتاب, كفاية

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:39 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir