فإن دلّ على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً فعام، وقد حدّه قوم بأنه اللفظ المستغرق لما يصلح له. وهو من عوارض الألفاظ، فهو حقيقة فيها مجاز في غيرها، وأصله: الاستيعاب والاتساع.
.....................................................
قوله: (فإن دل على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً فعام) شرع المصنف رحمه الله في الكلام على العام والخاص، ثم المطلق والمقيد، وهي من مباحث دلالات الألفاظ، والبحث فيها من المباحث الأصولية المفيدة؛ لأن استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة على أسس سليمة لا يتم إلا بمعرفة شروط الاستدلال، ومن ذلك ما يتعلق بدلالات الألفاظ، من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، ونحو ذلك مما جاء في نصوص الكتاب والسنة.
والعام لغة: اسم فاعل من (عَمَّ) أي: شَمِلَ، يقال: عمّ المطر وغيره عموماً فهو عام[(434)].
وأمَّا في الاصطلاح فذكر له تعريفين:
قوله: (ما دل على مفهومات أكثر من واحد مطلقاً) هذا التعريف الأول للعام، والمراد بقوله: (مطلقاً) أي: بلا حدٍّ معين، نحو: تَصدقْ على الفقراء، بخلاف مثل: (أكرم رجالاً) فهو يدل على أكثر من واحد لكن إلى حد معين؛ لأنه جمع منكر في حال الإثبات، فلا يعم على أحد القولين، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (وقد حدَّه قوم بأنه اللفظ المستغرق لما يصلح له) هذا التعريف الثاني، وهو من أحسن تعاريف العام، لكنه يحتاج إلى زيادة: (بوضع واحد بلا حصر) ليكون جامعاً مانعاً[(435)].
وقوله: (اللفظ) مبني على أن العموم من عوارض الألفاظ، كما سيأتي، وقوله: (المستغرق) أي: الشامل لكل ما يصلح له اللفظ، من غير أن يكون في اللفظ دلالة على انحصاره بعدد معين.
فكلمة: (الطلاب) لفظ عام؛ لأنه يشمل جميع الأفراد من هذا الجنس، بلا تحديد في عدد معين.
وقيد الاستغراق يخرج المطلق، والنكرة في سياق الإثبات؛ لأن المطلق لم يوضع للأفراد ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ وإنما وضع لحقيقة الشيء وماهيته[(436)]، فلا يكون مستغرقاً لها، نحو: فتحرير رقبة، وأما النكرة فإنها وإن وضعت للفرد الشائع ـ سواء كان واحداً، كما في النكرة المفردة، كرجل، أم متعدداً، كما في النكرة المثناة أو المجموعة ـ إلا أن النكرة لم تستغرق جميع ما وضعت له، بمعنى أنها لم تتناوله دفعة واحدة، بل على سبيل البدل[(437)]. وسيأتي بيان ذلك في باب «المطلق» ـ إن شاء الله تعالى ـ.
واشتراط الاستغراق في العام موضع خلاف بين الأصوليين يترتب عليه إدخال الجمع المنكر في صيغ العموم أو عدم إدخاله.. وقولنا: (بوضع واحد)، أي: إن استغراق العام لما يصلح له إنما يكون بواسطة وضع واحد، لا بواسطة أوضاع متعددة.
وهذا القيد لإخراج المشترك اللفظي (كالعين) فلا يسمى عاماً بالنسبة إلى شموله الجارية والباصرة؛ لأنه لم يوضع لهما وضعاً واحداً، بل لكل منهما وضع مستقل.
وقولنا: (بلا حصر) هذا قيد لإخراج اسم العدد، كمائة وألف، فإنها وإن كانت تشمل اثنين فصاعداً لكنها بحصر، فليست من العام؛ لأن الكثرة في العام غير محصورة، وفي العدد محصورة.
قوله: (وهو من عوارض الألفاظ...) عوارض بمعنى: صفات، فالعام من صفات اللفظ حقيقة، بمعنى أن العرب وضعت للعموم صيغاً تخصه، وأمَّا المعنى فلا يوصف بذلك، بل يقال فيه: أعمّ وأخصّ، واللفظ عام وخاص، ولا يطلق العام على المعنى إلا مجازاً؛ لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له، ولا خلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ، لكن هل يختص بالألفاظ، أو يكون في المعاني أيضاً؟ هذا موضع خلاف.
وإنَّما خُصَّ المعنى بأفعل التفضيل (الأعم)؛ لأنه أهم من اللفظ؛ لأنه المقصود واللفظ وسيلة إليه؛ ولأن المعاني أعم من الألفاظ، ومنهم من يقول فيها: عام وخاص، كالألفاظ[(438)].
قوله: (وأصله: الاستيعاب والاتساع) هذا معنى لغوي، والعام اصطلاحاً ملحوظ فيه هذا المعنى اللغوي، إلا أنهم اختلفوا في تعريفه، كما تقدم.