دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب الطهارة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 08:27 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب دخول الخلاء والاستطابة

1- بَابُ دُخولِ الْخَلاَءِ والاسْتِطَابَةِ

- عن أَنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ إذا دَخَلَ الْخَلاَءَ قالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)).
[الْخُبُثُ بِضَمِّ الْخَاءِ والباءِ: جَمْعُ خَبِيثٍ، والْخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ. اسْتَعَاذَ مِن ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وإِنَاثِهِمْ].
- عن أبِي أَيُّوبَ الأنصارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا)). قالَ أبُو أيُّوبَ: (فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَد بُنِيَتْ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فنَنْحَرِفُ عنهَا، ونَسْتَغْفِرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ).
قالَ المُصَنِّفُ: الْغَائِطُ: الْمَوْضِعُ الْمُطْمَئِنُّ مِن الأرضِ كانُوا يَنْتَابُونَهُ لِلْحَاجَةِ فَكَنَّوْا بهِ عن نَفْسِ الْحَدَثِ كَرَاهيةً لِذِكْرِهِ بخاصِّ اسمهِ. والمراحيضُ جمعُ مِرحاضٍ، وهو المُغتسلُ، وهوَ أيضاً كنايةٌ عن مَوضِعِ التَّخَلِّي.
- عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: رَقِيتُ يومًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فرأَيتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُستَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدبِرَ الْكَعْبَةِ.
- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَدْخُلُ الخَلاءَ، فأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِن مَاءٍ، وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ.
الْعَنَزَةُ: الحَرْبةُ.
- عن أبِي قتادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: ((لاَ يُمْسِكَنَّ أَحدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِن الْخَلاَءِ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)).
- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِقَبْرَيْنِ، فقالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أحَدُهُمَا، فَكانَ لا يَسْتتِرُ مِن البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ فَكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)) فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قالَ: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبسَا)).


  #2  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

قولُهُ: (كانَ إذا دَخَلَ) أي: أرادَ أنْ يَدْخُلَ؛ لأنَّ الخلاءَ لا يُذْكَرُ فيهِ اسمُ اللهِ، وهى روايةٌ للبخاريِّ ذَكَرَهَا تَعْلِيقًا.
قولُ المُصَنِّفِ:(الخُبُث بِضَمِّ الخاءِ والباءِ)، يَقْتَضِى أنَّ تَسْكِينَهَا ممنوعٌ، وبهِ صَرَّحَ الخَطَّابِيُّ، وعَدَّهُ مِن أغاليطِ المُحَدِّثِينَ، وأَنْكَرَهُ عليهِ النَّوَوِيُّ، وابنُ دَقِيقِ العِيدِ؛ لأنَّ (فُعُل) بِضَمِّ الفاءِ والعَيْنِ تَخْفِيفُ عَيْنِهِ قِيَاسًا، كما يُقَالُ: كُتُب، ورُسُل، فهذا ونَحْوَهُ يَجُوزُ تَسْكِينُهُ بلا خلافٍ.
قال النَّوَوِيُّ: وصَرَّحَ جماعةٌ من أهلِ المعرفةِ بأنَّ الباءَ هنا ساكنةٌ، منهم أبو عُبَيْدَةَ، وقال ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: اللَّهُمَّ إلَّا أن يُرِيدُوا بالتَخْفِيفِ معنًي آخَرَ غيرَ جَمْعِ خَبِيثٍ، فيكونُ خَطَأً في التأويَلِ، لا في اللفظِ. انتهى.
وفيما قَالَا نَظَرٌ؛ فإنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالخُبُثِ هُنَا المَصْدَرُ، لم يُنَاسِبْ قولَهُ: ((الخَبَائِثِ)) إذ لا يَنْتَظِمُ أَعُوذُ باللهِ من أَكُونُ خُبْثًا، ومِن إناثِ الشَّيَاطِينِ.
وإنْ أُرِيدَ جَمْعُ خَبِيثٍ بالضَّمِّ، وخُفِّفَ فَيَنْبَغِى المَنْعُ؛ لأنَّ التخفيفَ إنَّمَا يَطَّرِدُ في مَا لا يُلْبِسُ، كَعُنُق وأُذُن مِن المفردِ، ورُسُل وسُبُل مِن الجمعِ، ولا يَطَّرِدُ مِمَّا يُلْبِسُ كَحُمُر وخُضُر، فإنَّ التخفيفَ في حُمُر مُلْبِسٌ لجَمْعِ أَحْمَر وحُمْرًا.
وفى خُضْر بالمفردِ، ولذلكَ قُرِئَ في السبعِ {رُسُلنا}، و{سُبُلنا}، و{نُذُر} و{الأُذُن بالأُذُن} كلُّ ذلكَ بالتخفيفِ، ولم يُقْرَأْ في السبعِ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} إلَّا بالضَّمِّ، فبذلكَ يَنْبَغِي أنْ لا تُخَفَّفَ الخُبُثُ إلا مَسْمُوعًا من العربِ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بالمصدرِ.
فالذي قالَهُ الخَطَّابِيُّ أَقْرَبُ إلي الصوابِ.
وهَهُنَا قَاعِدَتَانِ تَصْرِيفِيَّتَانِ:
الأولى: أنَّهُ إذا تَوَالَت الضَّمَّتَانِ في كلمةٍ كانَ لكَ أن تُخَفِّفَ نحوَ: (رُسُل وكُتُب وطُنُب)، وكذلكَ إذا تَوَالَت الكسرتانِ خَفَّفُوا، قالوا: إِبِل. ولا يُخَفِّفُونَ شيئًا من المَفْتُوحِ، نحوَ: جَمَل وقَتَب.
الثانيةُ: التخفيفُ فى (فُعُل) يَطَّرِدُ، إلَّا فيما يُلْبِسُ مثلِ: حُمْر جَمْعُ أَحْمَر.
بخلافِ جَمْعِ الحيوانِ فلا يُخَفَّفُ، ولهذا لم يُقْرَأْ في السبعِ: {كَأَنَّهُمْ حُمْرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} بالتخفيفِ, ومِن هذه الجِهَةِ اسْتُنْكِرَ إسكانُ الباءِ في الخُبُثِ، لَمَّا كانَ إسكانُهُ يُلْبِسُ بالمفردِ.
قولُ المُصَنِّفِ: (كانُوا يَنْتَابُونَهُ للحَاجَةِ) أي: يَأْتُونَهُ مرَّةً بَعْدَ مَرَّةً، وهو افْتِعَالٌ مِن النَّوْبَةِ.
قولُهُ: (رَقِيتُ) بكسرِ القافِ.
الإِدَاوَةُ بِكَسْرِ الهمزةِ وفَتْحِهَا: المَطْهَرَةُ. قال ابنُ فارسٍ في (المقاييسِ): هي مِن الأداةِ؛ لأنَّهَا تُعْمَلُ أعمالًا حتَّي يُوصَلَ بها إلي ما يَرَاهُ.
قولُهُ: ((لا يُمْسِكَنَّ)): بضمِّ الياءِ.
قولُهُ: ((أمَّا أَحَدُهُما فكانَ لا يَسْتَتِرُ)) قد اخْتُلِفَ في ضبطِ هذه اللفظةِ،

فالمشهورُ: ((يَسْتَتِرُ)) بِتَاءَيْنِ، وهى مُتَّفَقٌ عليها.
والثانى: ((يَسْتَنْزِهُ)) بالنونِ والزايِ، وهى في أبي داودَ ومسلمٍ أيضًا.
والثالثُ: ((يَسْتَبْرِئُ)) بباءٍ مُوَحَّدَةٍ وهمزةٍ بعدَ الراءِ، وهى في البخاريِّ. وقالَ الإسماعيليُّ: إنَّهَا أَشْبَهُ الرِّوَايَاتِ.
والرابعُ: ((يَسْتَنْثِرُ)) بنونٍ وثاءٍ مُثَلَّثَةٍ، وهو مَرْوِيٌّ بإسنادٍ صحيحٍ.
والخامسُ: بهكذا ، والتاءَانِ مُثَنَّيَانِ.
قولُهُ: ((يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ)) يُقَالُ: نَمَّيْتُ مِن النَّمِيمَةِ بالتشديدِ في الشرِّ، ونَمَيْتُ بالتخفيفِ في الخيرِ، ذَكَرَهُ أبو عُبَيْدٍ في غَرِيبِهِ.
قولُهُ: (فَغَرَزَ) بالزَّايِ كذا في روايةِ البخاريِّ، وَرَوَاهُ مسلمٌ بالسينِ.
قال الحافظُ أبو مسعودٍ الحارثيُّ: ومَوْضِعُ الغَرْسِ كانَ بِإِزَاءِ الرأْسِ، ثَبَتَ ذلكَ بإسنادٍ صحيحٍ.
قلتُ: وفى روايةٍ: (غَرَزَ نِصْفَهُ عندَ رأسِهِ، ونِصْفَهُ عندَ رِجْلَيْهِ)، ذَكَرَهَا صاحبُ الترغيبِ.
قولُهُ: ((يُخَفِّفُ)) وفي لفظٍ: ((أَنْ يُخَفِّفَ)) بِذِكْرِ (أنْ).
قال القاضي أبو الفرجِ النَّهْرَوَانِيُّ في كتابِهِ (الجليسُ الصالحُ): و(لَعَلَّ) مثلَ (كادَ) في أنَّ خبرَهَا الغالبُ فيهِ تَجَرُّدُهُ مِن (أنْ) لقولِهِ: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} وقد تَدْخُلُ عليهِ (أنْ) إلحاقًا لها بِـ(عَسَى) لإشتراكِهِمَا في بابِ التَّرَجِّي والتَّوَقُّعِ.
ومِمَّا وَقَعَ السؤالُ عنهُ حالُ صاحبِ القَبْرَيْنِ، وهل كانَا مُسْلِمَيْنِ؟
وَرَوَى ابنُ مَاجَةَ: (قَبْرَيْنِ جَدِيدَيْنِ)، ورَوَى صاحبُ الترهيبِ، من طريقِ الطَّبَرَانِيِّ بإسنادِهِ، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ قال: (مَرَّ نَبِيُّ اللهِ تعالى علي قَبْرَيْنِ مِن بَنِي النَّجَّارِ، هَلَكَا في الجاهليَّةِ، فَسَمِعَهُم يُعَذَّبُونَ في البَوْلِ والنَّمِيمَةِ).
ثم قال: هذا حديثٌ حسنٌ، وإنْ كانَ إسنادُهُ ليسَ بالقويِّ؛ لأنَّهُمَا لو كانَا مُسْلِمَيْنِ لَمَا كانَ لشافعَتِهِ لَهُمَا إلي أنْ تَيْبَسَ الجَرِيدَتَانِ معنًى، ولكنَّهُ لَمَّا رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ لمْ يَسْتَجِزْ مِن عَطْفِهِ وَلُطْفِهِ تَرْكَهُمَا، فَشَفَعَ لَهُمَا إلي المُدَّةِ المذكورةِ.


  #3  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بَابُ دُخُولِ الْخَلَاءِ وَالِاسْتِطَابَةِ
الحَدِيثُ الحَادِيَ عَشَرَ
- عنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إذا دَخَلَ الْخَلَاءَ قالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)).
[الْخُبُثُ بِضَمِّ الْخَاءِ والباءِ جَمْعُ خَبِيثٍ، والْخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ. اسْتَعَاذَ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وإِنَاثِهِمْ].
المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (الخَلَاءَ) بِالْمَدِّ: المكانُ الخَالِي، والمُرَادُ: المَكَانُ المَقْصُودُ لقضاءِ الحاجةِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ الدعاءِ بهذا الدعاءِ عندَ إرادةِ دخولِ الخلاءِ.
الثانيةُ: وُجُوبُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ والتَّحَرُّزِ عَنْهَا.

الْحَدِيثُ الثانيَ عَشَرَ
- عنْ أبِي أَيُّوبَ الأنصارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَيْتُم الغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا. وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا)).
قالَ أبُو أيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَد بُنِيتْ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فنَنْحَرِفُ عنهَا، ونَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قالَ المُصَنِّفُ: الْغَائِطُ: الْمَوْضِعُ الْمُطْمَئِنُّ مِن الأرضِ كانُوا يَنْتَابُونَهُ لِلْحَاجَةِ فَكَنَّوا بهِ عنْ نَفْسِ الْحَدَثِ كَرَاهَةً لِذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ , والمَرَاحِيضُ جَمْعُ مِرْحَاضٍ , وهو المُغْتَسَلُ, وهو أَيْضًا عن مَوْضِعِ التَّخَلِّي.
الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ
- عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: رَقِيتُ يومًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فرأَيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُستَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدبِرَ الْكَعْبَةِ. فِيهِمَا مَسَائِلُ:
الأُولَى: يُجْمَعُ بينَ هَذَيْنِ المُتَخَالِفَيْنِ بِحَمْلِ حديثِ أبي أَيُّوبَ على تحريمِ استقبالِ القبلةِ واسْتِدْبَارِهَا حالَ قضاءِ الحاجةِ، وَيُحْمَلُ حديثُ ابنِ عمرَ على الجوازِ إذا كانَ في بُنْيَانِهِ ونحوِهِ.
الثَّانِيَةُ: الأمرُ بالتَّشْرِيقِ أو التَّغْرِيبِ حالَ قضاءِ الحاجةِ إذا كانَ ذلكَ إلى غيرِ القبلةِ، كَأَهْلِ المدينةِ ومَنْ في سَمْتِهِم.

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ
- عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الخَلاءَ، فأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ.
الْعَنَزَةُ: الحَرْبةُ.
المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (الغُلَامُ): هوَ المُمَيِّزُ الذي لم يَبْلُغْ.
قَوْلُهُ: (نَحْوِي): مُقَارِبٌ لي في السنِّ.
قَوْلُهُ: (إِدَاوَةً) بِكَسْرِ الهمزةِ: الإناءُ الصغيرُ من الجِلْدِ.
قَوْلُهُ: (العَنَزَة): هيَ العَصَا في طرفِهَا حديدةٌ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: جَوَازُ الاقتصارِ في الاستنجاءِ على الماءِ.
الثَّانِيَةُ: الاستعدادُ بالطَّهُورِ عندَ قضاءِ الحاجةِ.
الثالثةُ: التَّحَفُّظُ من النظرِ إلى عَوْرَتِهِ.

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ
- عنْ أبِي قتادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَا يُمْسِكَنَّ أَحدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِن الْخَلَاءِ بَيَمِينِهِ وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: النَّهْيُ عنْ مَسِّ الذَّكَرِ حالَ البولِ باليمينِ.
الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عن الاستنجاءِ بها.
الثَّالِثَةُ: النَّهْيُ عن التَّنَفُّسِ في الإناءِ عنايةً بالنظافةِ والصحَّةِ.

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ
- عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا قالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقَبْرَيْنِ، فقالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أحَدُهُمَا، فَكانَ لا يَسْتتِرُ مِن البَوْلِ، وأَمَّا الآخرُ فَكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)) فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قالَ: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)).
المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: ((لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ)) أيْ: لا يَتَحَفَّظُ من البَوْلِ بِسُتْرَةٍ تَقِيهِ منهُ.
قَوْلُهُ: ((يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ)): يَنْقُلُ كلامَ الغيرِ بقصدِ الإضرارِ.
قَوْلُهُ: (جَرِيدَةً): عَسِيبَ النَّخْلِ الذي لَيْسَ فِيهِ سَعَفٌ.
قَوْلُهُ: (فَغَرَزَ): غَرَسَ.


  #4  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:42 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ دخولِ الخَلاءِ والاستطابةِ
هذا البابُ يُذكَرُ فيه آدابُ دخولِ الخلاءِ، والجلوسِ فيهِ، والخروجِ منْهُ، كما يُذكرُ فيه كيفيةُ الاستطابةِ من الأنجاسِ في المخْرَجَيْنِ بحجرٍ، وما يقومُ مقامَهُ، والتحرُّزِ منها، وهذا من أبوابِ كتابِ الطهارةِ المذكورِ سابقاً.

الحديثُ الحاديَ عشرَ
- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إذا دخلَ الخلاءَ قالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)).
الخُبُثُ، بضم الخاء والباء: جَمع:خبيث، والخبائث: جمع خبيثة. استعاذَ من ذُكْرَانِ الشياطينِ وإناثِهم.
غريبُ الحديثِ:
1- (إذا دخلَ الخلاءَ) يعني: إذا أرادَ الدخولَ، كقولِهِ تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ} يعني: فإذا أردتَّ قراءةَ القرآنِ.
وكمَا صرَّحَ البخاريُّ في (الأدبِ المفردِ) بهذا حيثُ رَوى عن أنسٍ قال: كانَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذا أرادَ أن يدخلَ الخلاءَ قالَ: .... , وذكرَ حديثَ البابِ.
2- الخلاءُ -بالمدِّ-: المكانُ الخالي. وهنا: المكانُ المقصودُ والمُعدُّ لقضاءِ الحاجةِ، فإنْ قَصَدَ فضاءً كصحراءَ لقضاءِ حاجتِه فلا حاجةَ إلى تأويلِ الدخولِ بإرادةِ الدخولِ.
3- الخُبُثُ والخبائثُ؛ الخبثُ، ضُبِطَ بضمِّ الخاءِ والباءِ كما ذكرَ المصنّفُ ومعناه: ذكورُ الشياطينِ، وضبطَهُ جماعةٌ بإسكانِ الباءِ ومعناهُ على هذا يكونُ: الشرُّ، وهو معنىً جامعٌ, حيثُ قد استعاذَ من الشرِّ وأهلِهِ الخبائثِ، فينبغي للقائلِ مراعاةُ هذا المعنى العامِّ.
المعنى الإجماليُّ:
أنسُ بنُ مالكٍ المتشرِّفُ بخدمةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، يذكرُ لنا في هذا الحديثِ أدبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ حينَ قضاءِ حاجتِه، وهو أنه صلى اللهُ عليه وسلمَ –مِن كثرةِ التجائِهِ إلى ربِّهِ– لا يدعُ ذكرَهُ والاستعانَةَ بهِ على أيَّةِ حالٍ.
فهوَ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذا أرادَ دخولَ المكانِ الذي سيقضِي فيه حاجتَهُ، استعاذَ باللهِ، والتجأَ إليهِ أنْ يَقِيَهُ من الشرِّ الذي منه النجاسةُ، وأن يَعْصِمَهُ من الخبائثِ، وهم الشياطينُ الذينَ يحاولونَ في كلِّ حالٍ أن يُفْسِدُوا على المسلمِ أمرَ دينِهِ وعبادتِهِ.
فإذا كانَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ –وهوَ المحفوفُ بالعِصْمَةِ– يخافُ من الشرِّ وأهلِهِ، فجديرٌ بنا أن يكونَ خوفُنَا أشدَّ، وأن نأخذَ بالاحتياطِ لدينِنَا من عدوِّنَا.
ما يؤخذُ من الحديثِ:
1- استحبابُ هذا الدعاءِ عندَ إرادةِ دخولِ الخلاءِ، ليأمنَ من الشياطينِ الذينَ يحاولونَ إفسادَ صلاتِهِ.
2- إنَّ من أذَى الشياطينِ أنهم يُسبِّبُونَ التنجُّسَ لتَفْسُدَ صلاةُ العبدِ فَيَستعيذَ منهم، ليَتَّقِيَ شرَّهُم.
3- وجوبُ اجتنابِ النجاساتِ، وعملِ الأسبابِ المُنجيةِ منها. فقدْ صحَّ أن عدمَ التحرُّزِ من البولِ من أسبابِ عذابِ القبرِ.

الحديثُ الثاني عشرَ
- عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا)). قال أبو أيوب: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل).
غريبُ الحديثِ:
الغائطُ: المُطْمَئِنُّ مِن الأرضِ، وكانوا يَنتابونَهُ لقضاءِ الحاجةِ، فَكَنَّوا بهِ عن الحدَثِ نَفسِهِ.
والمراحيضُ: جَمعُ مِرْحاضٍ، وهو المُغْتَسَلُ، وقد كَنَّوا بهِ أيضاً عن موضعِ قضاءِ الحاجةِ.
((ولكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا)): اتَّجِهوا نحوَ المَشرقِ أو المَغربِ. وهذا بالنسبةِ لأهلِ المدينةِ ومَن في سَمْتِهم، مِمَّنْ لا يسَتقبلونَ القِبلةَ ولا يَسْتَدْبِرونهَا إذا شَرَّقوا أو غَرَّبوا.
المعنَى الإجماليُّ:
يُرْشِدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شيءٍ من آدابِ قضاءِ الحاجةِ بأنْ لا يَستقبلوا القِبلةَ، وهي الكعبةُ المشرَّفةُ، ولا يَستدبرُوهَا حالَ قضاءِ الحاجةِ؛ لأنَّهَا قِبلةُ الصلاةِ، وموضعُ التكريمِ والتَّقديسِ، وعليهم أنْ يَنحرِفوا عنهَا قِبلَ المشرقِ أَوِ المغربِ إذا كانَ التشريقُ أو التغريبُ ليس موجَّهاً إليهَا، كقِبلةِ أهلِ المدينةِ.
ولمَّا كانَ الصَّحَابةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُم أسرعَ الناسِ قبولاً لأمرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي هو الحقُّ، ذَكرَ أبو أيُّوبَ أنَّهم لَما قَدِموا الشَّامَ إِثرَ الفتحِ وجدُوا فيهَا المراحيضَ المُعَدَّةَ لقضاءِ الحاجةِ، قد بُنِيتْ مُتَّجِهةً إلَى الكعبةِ، فكانوا يَنْحَرفونَ عن القِبلةِ. ولكن قد يقعُ منهم السَّهوُ فَيستقبلونَ الكعبةَ، فإذا فَطِنوا، انحرَفُوا عنهَا، وسألَوا اللَّهَ الغُفرانَ عمَّا بَدَر منهم سهْواً.
ما يُؤخذُ مِن الحديثِ:
النهيُ عن استقبالِ القبلةِ واستدبارِهَا حالَ قضاءِ الحاجةِ.
الأمرُ بالانحرافِ عن القبلةِ في تلكَ الحالِ.
أنَّ أوامرَ الشارعِ ونواهِيه تكونُ عامَّةً لجميعِ الأمَّةِ، وهذا هو الأصلُ، وقد تكونُ خاصَّةً لبعضِ الأمَّةِ، ومنهَا هذا الأمرُ فإنَّ قولَهُ: ((ولكِنْ شَرِّقوا أو غرِّبوا)) هو أمرٌ بالنسبةِ لأهلِ المدينةِ ومَن هو في جِهتِهم، مِمَّنْ إذا شَرَّقوا أو غَرَّبوا، لا يَستقبلونَ القِبلةَ.
الحكمةُ في ذلك تعظيمُ الكعبةِ المُشَرَّفةِ واحترامُهَا. فقد جاءَ في حديثٍ مرفوعٍ: ((إذا أتَى أحدُكم البَرازَ فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ)).
المُرَادُ بالاستغفارِ هنا: الاستغفارُ القلبِيُّ لا اللِّسانِيُّ، لأنَّ ذِكرَ اللَّهِ باللسانِ في حالِ كشفِ العورةِ وقضاءِ الحاجةِ ممنوعٌ.

الحديثُ الثالثَ عشرَ
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللَّهُ عنهما قالَ: رَقِيتُ يوماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فرأَيتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضِي حاجتَهُ مُستقبلَ الشامِ، مُسْتَدبِرَ الكعبةِ.
المعنَى الإجماليُّ:
ذَكرَ ابنُ عُمرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُما: أنَّهُ جاءَ يوماً إلَى بيتِ أختِهِ حفصةَ، زوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ، فرأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِوَسَلَّمَ، يَقضي حاجَتَهُ وهو متَّجِهٌ نحوَ الشامِ، ومُسْتَدْبِرٌ الْقِبْلَةَ.
اختلافُ العُلماءِ والتَّوفيقُ بينَ الحدِيثينِ:
اختلفَ العلماءُ في حُكمِ استقبالِ الْقِبْلَةِ واستدبارِهَا في قضاءِ الحاجةِ.
فذهبَ إلَى التَّحريمِ مطلقاً، راوي الحديثِ أبو أيُّوبَ، ومُجاهدٌ، والنَّخَعِيُّ، والثَّوريُّ، ونَصرَ هذا القولَ ابنُ حَزمٍ وأبطلَ سواهُ من الأقوالِ في كتابِهِ (المُحَلَّى)، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ وابنِ القيِّمِ، وقوَّاهُ وَردَّ غيرَهُ من الأقوالِ في كتابَيهِ (زادِ المعادِ) و(تَهذيبِ السُّننِ)، واحتَجُّوا بالأحاديثِ الصَّحيحةِ الواردةِ في النَّهيِ المُطلقِ عن ذلك، ومنهَا حديثُ أبي أيُّوبَ هذا الذي معنا.
وذهبَ إلَى جوازِهِ مُطلقاً، عروةُ بنُ الزُّبيرِ، وربيعةُ، وداودُ الظَّاهرِيُّ، مُحتجِّينَ بأحاديثَ، منهَا حديثُ ابنِ عُمرَ الذي معنا.
وذهبَ الأئمَّةُ؛ مالكٌ، والشَّافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وهو مَرويٌّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ، والشَّعبيُّ إلَى التفصيلِ في ذلك: فَيُحَرِّمونهُ في الفضاءِ، ويُبيحونَهُ في البناءِ ونحوِهِ.
وهذا هو المذْهَبُ الحقُّ الذي تَجتمعُ فيهِ الأدلَّةُ الشَّرعيةُ الصَّحيحةُ الواضحةُ.
فإنَّ التحريمَ مُطلقاً، يُبطلُ العملَ بجانبٍ من الأحاديثِ، والإباحةَ مُطلقاً كذلك، والتفصيلُ يَجمعُ بينَ الأدلَّةِ، ويُعملُهَا كُلَّهَا، وهذا هو الحقُّ.
فإنَّهُ مهما أمكنَ الجمعُ بينَ النُّصوصِ، وَجَبَ المصيرُ إليهِ قبلَ كلِّ شيءٍ.
وهناك قولٌ رابعٌ لا يِقلُّ عن هذا قُوَّةً، وهو القولُ بالكراهةِ لا التَّحريمِ، قالَ الصَّنعانيُّ: لا بُد‍َّّ من التفريقِ بينَ الأحاديثِ بِحملِ النَّهيِ علَى الكراهةِ لا التحريمِ، وهذا وإنْ كانَ خلافاً لأصلِ النَّهيِ إلا أنَّ قرينةَ إرادَتِهِ فِعْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافِهِ للتشريعِ وبيانِ الجوازِ، وحملُ أحاديثِ البابِ علَى هذا، هو الأقربُ عِندي. وقد ذهبَ إليهِ جماعةٌ. وبهذا يزولُ تَعارُضُ أحاديثِ البابِ.
قلْتُ: وعلَى كلٍّ يَنبغي الانحرافُ عن الْقِبْلَةِ في البناءِ أيضاً، اتقاءً للأحاديثِ الناهيةِ في ذلك، ولِما فيهِ من الخلافِ القوِيِّ الذي نَصرهُ هؤلاء المحَقِّقونَ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
جوازُ استدبارِ الكعبةِ عندَ قضاءِ الحاجةِ، ويفيد بأنه في البُنيانِ.
جوازُ استقبالِ بيتِ المقدسِ عندَ قضاءِ الحاجةِ خلافاً لمَن كَرِههُ.

الحديثُ الرابعَ عشرَ
- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الخَلاءَ، فأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ.
غريبُ الحديثِ:
1- (وَغُلامٌ نَحْوِي) الغُلامُ: هو المُمَيِّزُ حتَّى يبْلُغَ وَ(نَحْوِي) يعنِي: هو مُقارِبٌ لي في السِّنِّ.
2- (إِدَاوةً مِن ماءٍ) بكسرِ الهمزةِ: هي الإناءُ الصَّغيرُ منِ الجِلدِ يُجْعلُ للماءِ.
3- العَنَزةُ: عَصًا أقصرُ من الرُّمحِ لهَا سِنانٌ.
المعنَى الإجماليُّ:
يَذْكُرُ خادمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنسُ بنُ مالكٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينما يدخلُ موضعَ قضاءِ الحاجةِ كانَ يَجِيءُ هو وغلامٌ معهُ بطَهُورِه، الذي يقطعُ بهِ الأذَى، وهو ماءٌ في جلدٍ صغيرٍ، وكذلك يَأْتِيانِ بما يَسْتَتِرُ بهِ عن نظرِ الناسِ، وهو عصًا قَصيرةٌ في طرفِهَا حديدةٌ يَغْرِزُهَا في الأرضِ ويجعلُ عليهَا شيئاً يَقيهِ من نظرِ المَارِّينَ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- جوازُ الاقتصارِ علَى الماءِ في الاستنجاءِ، وهو أفضلُ من الاقتصارِ علَى الحِجارةِ، لأنَّ الماءَ أنقَى، والأفضلُ الجمعُ بينَ الحِجارةِ والماءِ، فيُقَدِّمُ الحجارةَ، ثم يُتْبِعُهَا الماءَ؛ ليحصُلَ الإنقاءُ الكاملُ.
قالَ النوويُّ: فالذي عليهِ جماعةُ السلفِ والخلَفِ، وأجمَعَ عليهِ أهلُ الفتوَى من أئمَّةِ الأمصارِ أنَّ الأفضلَ أنْ يجمعَ بينَ الماءِ والحجارةِ، فَيستعملَ الحجرَ أوَّلاً لِتخِفَّ النجاسةُ وَتقِلَّ مُباشرتُهَا بيدِهِ، ثم يَستعملَ الماءَ، فإنْ أرادَ الاقتصارَ علَى أحدِهما جازَ الاقتصارُ علَى أيِّهما شاءَ، سواءٌ وَجَدَ الآخرَ أو لم يَجِدْهُ، فإنِ اقتصرَ علَى أحدِهِما فالماءُ أفضلُ من الحجرِ.
2- استعدادُ المُسلمِ بِطَهورِهِ عندَ قضاءِ الحاجةِ؛ لئلا يُحْوِجَهُ إلَى القيامِ فيَتلوَّثَ.
3- تحفُّظُهُ عن أنْ يَنظُرَ إليهِ أحدٌ؛ لأنَّ النَّظرَ إلَى العَورةِ مُحرَّمٌ، فكانَ يَرْكُزُ العَنَزةَ في الأرضِ، ويَنْصِبُ عليهَا الثوبَ الساتِرَ.
4- جوازُ استخدامِ الصِّغارِ، وإنْ كانوا أحْراراً.

الحديثُ الخامسَ عشرَ
- عن أبي قتادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ رضيَ اللَّهُ عنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ يُمْسِكَنَّ أَحدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِه وَهُوَ يَبُولُ. وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِن الْخَلاَءِ بَيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)).
المعنَى الإجماليُّ:
يشتملُ هذا الحديثُ الشَّريفُ علَى ثلاثِ جُملٍ، من النصائحِ الغاليةِ والفوائدِ الثَّمينةِ، التي تُهذِّبُ الإنسانَ، وتُجنِّبُهُ الأقذارَ والأضْرارَ والأمراضَ.
فالأولَى والثانيةُ: أنْ لا يَمسَّ ذَكرَهُ حالَ بولِهِ، ولا يُزيلَ النَّجاسةَ من القُبُلِ أو الدُّبُرِ بيمينِهِ، لأنَّ اليدَ اليُمنَى أُعِدَّت للأشياءِ الطَّيِّبةِ، ومُباشرةِ الأشياءِ المرغوبِ فيهَا كالأكلِ والشُّرْبِ، فإذا بَاشَرَتِ النجاساتِ وتلوَّثَتْ، ثُم بَاشرَتِ الطَّعامَ والشَّرابَ، والمُصافحةَ وغيرَ ذلكَ كَرَّهَتْهُ، ورُبَّما حَمَلَتْ معهَا شيئاً من الأمراضِ الخَفِيَّةِ.
والثالِثةُ: النَّهيُ عن التَّنفُّسِ في الإناءِ الذي يَشربُ منهُ لِما في ذلك من الأضرارِ الكثيرةِ، التي منهَا تكريهُهُ للشَّاربِ بعدَهُ، كما أنَّهُ قد يَخرُجُ من أنفِهِ بعضُ الأمراضِ التي تُلوِّثُ فَتَنْقُلُ معهُ العَدْوَى، إذا كانَ الشَّاربُ المتَنفِّسُ مَرِيضاً. وقد يَحصلُ مِن التَّنفُّسِ حالَ الشُّربِ ضَررٌ علَى الشَّاربِ، حينما يدخلُ النَّفَسُ الماءَ، ويخرُجُ منهُ.
والشَّارِعُ لا يَأمرُ إلا بما فيهِ الخيرُ والصَّلاحُ، ولا يَنهَى إلا عَمَّا فيهِ الضَّررُ والفسادُ.
اختلافُ العُلماءِ:
اختلفَ العُلماءُ: هلْ النَّهيُ للتَّحريمِ، أو للكَراهةِ؟
فذهبَ الظاهريَّةُ إلَى التَّحريمِ، أخذاً بظاهرِ الحديثِ.
وذهبَ الجمهورُ إلَى الكراهةِ، علَى أنَّهَا نَواهٍ تأدِيبيةٌ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
النَّهيُ عن مسِّ الذَّكرِ باليُمنَى حالَ البولِ.
النَّهيُ عن الاستنجاءِ باليُمنَى.
النَّهيُ عن التَّنفُّسِ في الإناءِ.
اجتنابُ الأشياءِ القَذرةِ، فإذا اضْطُرَّ إلَى مباشرَتِهَا، فليكنْ باليسارِ.
بيانُ شرفِ اليمينِ وفضلِهَا علَى اليسارِ.
الاعتناءُ بالنظافةِ عامَّةً، لاسيَّما المأكولاتُ والمشروباتُ التي يحصلُ مِن تلويثِهَا ضررٌ في الصِّحَّةِ.
سُموُّ الشَّرعِ، حيث أَمَرَ بكلِّ نافعٍ، وحذَّرَ من كلِّّ ضَارٍّ.

الحديثُ السادسَ عشرَ
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ تعالَى عنهما قالَ: مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقَبْرَيْنِ، فقالَ: ((إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أحَدُهُما، فَكانَ لا يَسْتتِرُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخرُ فَكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ))، فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كلِّ قَبرٍ وَاحِدَةً. فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قالَ: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبسَا)).
غريبُ الحديثِ:
((إنهما لَيُعَذَّبانِ)) المُرَادُ: يُعذَّبُ مَن فيهما، مِن إطلاقِ اسمِ المحلِّ علَى الحالِّ فيهِ.
((لا يَستترُ مِن البولِ)) بِتاءَينِ، أي: لا يَجعلُ سُترةً تَقِيه من بَولِهِ. ورُوِي: ((لا يَسْتبرِئُ)).
((يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)): يَنقلُ كَلاَمَ الغيرِ بقصدِ الإضرارِ.
(فَأَخَذَ جَرِيدَةً): عَسِيبُ النَّخْلِ الذي ليس فيهِ سَعَفٌ.
(فَغَرَزَ) بالزَّايِ، ورواهُ (مُسلمٌ) بالسِّينِ، أي: غَرَسَ.
قالَ أبو مَسعودٍ: (ومَوضِعُ الغَرسِ كانَ بإزاءِ الرأسِ)، ثبتَ بإسنادٍ صحيحٍ.
المعنَى الإجماليُّ:
مرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعهُ بعضُ أصحابِهِ بقبْرَينِ، فَكَشفَ اللَّهُ سبحانهُ وتعالَى لهُ عنهما، فرَأَى مَن فيهما يُعذَّبانِ، فأخبرَ أصحابَهُ بذلك؛ تَحذيراً لأمَّتِهِ، وتخَويفاً، فإنَّ صَاحبَيْ هذين القَبرينِ، يُعذَّبُ كلٌّ منهما بذَنْبٍ يَسيرٍ تَرْكُهُ والابتعادُ عنهُ، لمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لذلك.
فأحدُ المُعذَّبَينِ، لا يَحْترزُ من بولِهِ عندَ قضاءِ حاجَتِهِ، ولا يتحفَّظُ منهُ، فتُصيبُهُ النجاسةُ، فَتُلوِّثُ بَدنَهُ وثيابَهُ.
والآخرُ شيطانٌ يسعَى بينَ الناسِ بالنَّميمةِ التي تُسبِّبُ العداوةَ والبغضاءَ بينَ النَّاسِ، ولاسيَّما الأقاربُ والأصدقاءُ. يأتي إلَى هذا فَيَنْقُلُ إليهِ كَلاَمَ ذاك، ويأتي إلَى ذاكَ فينقُلُ إليهِ كَلاَمَ هذا، فَيُولِّدُ بينَهما القَطيعةَ والخِصامَ، والإسلامُ إنَّما جاءَ بالمحبَّةِ والأُلفةِ بينَ الناسِ وقَطعِ المُنازعاتِ والمُخاصماتِ.
ولكنَّ الكريمَ الرَّحيمَ أدْرَكتْهُ عليهما الشَّفقةُ والرَّأفةُ، فأخذ جَريدةَ نخلٍ رَطبةً، فَشقَّهَا نِصفينِ، وغَرزَ علَى كلِّّ قبرٍ واحدةً.
فسألَ الصَّحابةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا العملِ الغريبِ عليهم فقالَ: لعلَّ اللَّهَ يُخفِّفُ عنهما ما هما فيهِ مِن العذابِ، ما لم تَيبسْ هاتانِ الجَريدتانِ.
اختلافُ العُلماءِ:
اختلفَ العُلماءُ في وضعِ الجريدةِ علَى القبرِ.
فذهبَ بعضُهم إلَى استحبابِ وضعِ الجريدةِ علَى القبرِ، لأنهم جَعلوا هذا الفِعلَ من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشريعاً عاماًّ.
والعِلَّةُ عندَ هؤلاءِ مَفهومةٌ، وهي أنَّ الجريدةَ تُسبِّحُ عندَ صاحبِ القبرِ ما دَامت رَطبةً، فلعلَّهُ يَنالهُ من هذا التسبيحِ ما يُنَوِّرُ عليهِ قَبرَهُ.
وذهبَ بعضُهم إلَى عدمِ مَشروعيَّةِ ذلك؛ لأنَّهُ شَرْعُ عِبادةٍ، وهو يحتاجُ إلَى دليلٍ، وليس في الشَّرعِ ما يُثبتُهُ.
أما هذهِ فقضيَّةُ عينٍ، حِكمتُهَا مَجهولةٌ، ولذا لم يفعلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع غيرِ صَاحبيْ هذين القَبرينِ، وكذلك لم يفعلْهُ من أصحابِهِ أحدٌ، إلا ما رُوِي عن بُريدةَ بن الحَصيبِ، من أنَّهُ أوصَى أنْ يُجعلَ علَى قبرِهِ جَريدتانِ.
أما التَّسبيحُ، فلا يَختصُّ بالرَّطبِ دونَ اليابسِ، واللَّهُ تعالَى يقولُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراءِ: 44].
ثم قالوا: لو فَرَضْنا أنَّ الحِكمةَ معقولةٌ، وهي تسبيحُ الجريدِ الرَّطبِ، فنقولُ: تَختصُّ بمثلِ هذهِ الحالِ التي حَصلتْ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ هذينِ القبرَينِ، وهي الكشفُ لهُ مِن عَذابِهما، قالَ القاضِي عِياضٌ: عَلَّل غَرزَهما علَى القبرِ بأمرٍ مَغيبٍ، وهو قولُهُ: ((لَيعذَّبانِ)) فلا يَتمُّ القياسُ؛ لأنَّا لا نعلمُ حصولَ العِلَّةِ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
إثباتُ عذابِ القبرِ كما اشْتهرتْ بهِ الأخبارُ، وهو مذْهَبُ أكثرِ الأمَّةِ.
عدمُ الاستبراءِ من النجاساتِ سببٌ في هذا العذابِ، فالواجبُ الاستبراءُ منهَا، فالحديثُ يدُلُّ علَى أنَّ للبولِ بالنسبةِ إلَى عذابِ القبرِ خُصوصيَّةً. ويؤكِّدُ ذلك ما رواهُ الحاكمُ وابنُ خُزيمةَ وهو: ((أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِن البَوْلِ)) قالَ ابنُ حجرٍ: وهو صحيحُ الإسنادِ.
تحريمُ النَّميمةِ بينَ الناسِ، وأنَّهَا مِن أسبابِ عذابِ القبرِ.
رحمةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابِهِ، وحرصُهُ علَى إبعادِ الشرِّ عنهم.
السَّترُ علَى الذنوبِ والعيوبِ، فإنَّهُ لم يُصرِّحْ باسمَيْ صاحبَيِ القبرينِ، ولعلَّهُ مقصودٌ.
قولُهُ: ((ما يُعَذَّبانِ في كَبيرٍ)) أي: بسببِ ذنبٍ كبيرٍ تَرْكُهُ عليهما، فإنَّ تَرْكَ النَّميمةِ والتَّحرُّزَ من البولِ ليسا من الأمورِ الصَّعبةِ الشَّاقَّةِ، وقد كَبُرَ عذابُهما لِما يَترتَّبُ علَى فِعْلتَيْهما من المفاسدِ.
فائِدةٌ:
اختلفَ العلماءُ في انتفاعِ الميِّتِ بعملِ الحيِّ حينما يجعلُ الحيُّ ثوابَ قُربتِهِ البدَنيَّةِ أو المَاليَّةِ إلَى الميِّتِ، فقالَ الإمامُ أحمدُ: الميِّتُ يَصلُ إليهِ كلُّ خيرٍ للنُّصوصِ الواردةِ فيهِ.
أمَّا ابنُ تيميَّةَ فقد نُقِلَ عنهُ في ذلكِ قولان:
أحدُهما: أنَّهُ يَنتفعُ بذلك باتِّفاقِ الأئمَّةِ، والثاني: أنَّهُ لم يكنْ من عادةِ السلفِ إذا فَعلوا إحدَى القُرُباتِ تَطوُّعاً أنْ يُهْدوا ذلك لِموتَى المُسلمينَ، واتِّباعُ نهجِ السَّلفِ أولَى. وقالَ الصنعانيُّ: الميِّتُ يَصِحُّ أنْ يُوهَبَ لهُ أيُّ قُربَةٍ..
أمَّا لحوقُ سائرِ القُربِ ففيهَا خلافٌ، والحقُّ لُحوقُهَا.
وذكرَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ الأخبارَ قد استَفاضتْ بِمعرفةِ المَيِّتِ بأحوالِ أهلِهِ وأصحابِهِ في الدُّنيا وسُرورِهِ بالسَّارِّ منهَا وحُزنِهِ للقبيحِ.


  #5  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:44 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

بَابُ الاسْتِطَابَةِ

11 - الحَدِيثُ الأَوَّلُ:
عَنْ أَنْسِ بنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِن الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ)).
الخُبُثُ -بِضَمِّ الخَاءِ وَالبَاءِ-: جَمْعُ خَبِيثٍ، وَالخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ، استَعَاذَ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.

أَنَسُ بنُ مَالِكِ بنِ النَضْرِ بنِ ضَمْضَمِ بنِ زَيْدِ بنِ حَرَامٍ -بفَتْحِ الحَاءِ وَالرَّاءِ المُهْمَلَتَينِ- أَنْصَارِيٌّ، نَجَّارِيٌّ، خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وعُمِّرَ، وَوُلِدَ لَهُ أَوْلاَدٌ كَثِيرُونَ، يُقَالُ: ثَمَانُونَ، ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ ذَكَرًا وَابْنَتَانِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ: كَانَتْ سِنُّهُ يَومَ مَاتَ مِائَةً وَسَبْعَ سِنِينَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أميِنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي -إِلى مَقْدَمِ الحَجَّاجِ البَصْرَةَ- بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ.
الكَلاَمُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الاسْتِطَابَةُ: إِزَالَةُ الأَذَى عَن المَخْرَجَيْنِ بِحَجَرٍ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، مَأْخُوذٌ مِن الطِّيبِ، يُقَالُ: اسْتَطَابَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُسْتَطِيبٌ، وَأَطَابَ فَهُوَ مُطِيبٌ.
الثَّانِي: الخَلاَءُ بِالمَدِّ فِي الأَصْلِ، هُوَ المَكَانُ الخَالِي، كَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى تُجُوِّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (إِذَا دَخَلَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ، كَمَا فِي قَولِهِ سُبْحَانَهُ: {إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النَّحْلُ: 98]، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ، وَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى مُسْتَحَبٌّ فِي ابْتِدَاءِ قَضَاءِ الحَاجَةِ، فَإِنْ كَانَ المَحَلُّ الَّذِي تُقْضَى فِيهِ الحَاجَةُ غَيْرَ مُعَدٍّ لِذَلِكَ -كَالصَّحرَاءِ مَثَلاً- جَازَ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ المَكَانِ، وَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لِذَلِكَ -كَالكُنُفِ- فَفِي جَوَازِ الذِّكْرِ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، فَمْن كَرِهَهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يُؤَوِّلَ قَولَهُ: (إِذَا دَخَلَ) بِمَعْنَى إِذَا أَرَادَ؛ لأَنَّ لَفْظَةَ (دَخَلَ) أَقْوَى فِي الدِّلاَلَةِ عَلَى الكُنُفِ المَبْنِيَّةِ مِنْهَا عَلَى المَكَانِ البَرَاحِ، أَوْ لأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ المُرَادُ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ هَذِهِ الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُم الخَلاَءَ فَلْيَقُلْ... الحَدِيثَ))، وَأَمَّا مَن أَجَازَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا المَكَانِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَيَحْمِلُ (دَخَلَ) عَلَى حَقِيقَتِهَا.
الرَّابِعُ: الخُبُثُ -بِضَمِّ الخَاءِ وَالبَاءِ-: جَمْعُ خَبِيثٍ كَمَا ذَكَرَ المُصَنِّفُ، وَذَكَرَ الخَطَّابِيُّ فِي أََغَالِيطِ المُحَدِّثِينَ رِوَايَتَهُمْ لَهُ بِإِسْكَانِ البَاءِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَا غَلَطاً؛ لأَنَّ فُعُلًا -بِضَمِّ الفَاءِ وَالعَيْنِ- يُخَفَّفُ عَيْنُهُ قِيَاساً، فَلاَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالخُبْثِ -بِسُكُونِ البَاءِ- مَا لاَ يُنَاسِبُ المَعْنَى، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ -وَهُوَ سَاكِنُ البَاءِ- بِمَعْنَاهُ وَهُوَ مَضْمُومُ البَاءِ، نَعَمْ مَنْ حَمَلَهُ -وَهُوَ سَاكِنُ البَاءِ- عَلَى مَا لا يُنَاسِبُ فَهُوَ غَالِطٌ فِي الحَمْلِ عَلَى هَذَا المَعْنَى، لا فِي اللَّفْظِ.
الخَامِسُ: الحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِن قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذِهِ الحُشُوشَ مُحَتْضَرَةٌ)) أَيْ: لِلجَانِّ وَالشَّيَاطِينِ، بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ هَذَا الدُّعَاءِ المَخْصُوصِ لِهَذَا المَكَانِ المَخْصُوصِ.

12 - الحَديثُ الثَّانِي:
عَن أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَيْتُم الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَولٍ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا)).
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
الغَائِطُ: المُطْمَئِنُّ مِن الأَرْضِ يَنْتَابُونَهُ لِلحَاجَةِ، فَكَنَّوْا بِهِ عَنْ نَفْسِ الحَدَثِ، كَرَاهِيَةً لِذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ، وَالمَرَاحِيضُ: جَمْعُ المِرْحَاضِ، وَهُوَ المُغْتَسَلُ، وَهُوَ أَيْضاً كِنَايةٌ عَن مَوْضعِ التَّخَلِّي.
الكَلاَمُ عَلَيْهِ مِن وُجُوهٍٍ:
أَحَدُهَا: أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ اسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيدٍ بنِ كُلَيبِ بنِ ثَعْلَبَةَ، نَجَّاريٌّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَمَاتَ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بنِ مُعَاوِيةَ. وَقَالَ خَلِيفَةُ: مَاتَ بِأَرْضِ الرُّومِ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيةَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ اثْنَتَينِ وَخَمْسِينَ بِالقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
الثَّانِي: قَولُهُ: ((إِذَا أََتَيْتُم الخَلاَءَ)) اسْتَعْمَلَ (الخَلاَءَ) فِي قَضَاءِ الحَاجَةِ كَيْفَ كَانَ؛ لأَنَّ هَذَا الحُكْمَ عَامُّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ قَضَاءِ الحَاجَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِن اسْتِعْمَالِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَجَازاً.
الثَّالِثُ: الحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى المَنْعِ مِن اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا، وَالفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الحُكْمِ عَلَى مَذَاهِبَ، فَمِنْهُمْ مَن مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَن أَجَازَهُ مُطْلَقاً، وَرَأَى أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، وَزَعَمَ أَنَّ نَاسِخَهُ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ، عَن جَابِرٍ، قَالَ: (... نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فَرَأَيتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا)، وَمِمَّن نُقِلَ عَنْهُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ مُطلَقاً عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وَرَبِيعةُ بنُ أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُمْ مَن فَرَّقَ بَينَ الصَّحَارِي وَالبُنْيَانِ، فَمَنَعَ في الصَّحَارِي، وَأَجَازَ فِي البُنْيَانِ، بِنَاءً عَلَى أنَّ ابنَ عُمَرَ رَوى الحَدِيثَ الَّذِي يَأتِى ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا الحَدِيثِ فِي البُنْيَانِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الأحَادِيثِ، فَحَمَلَ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ -وَمَا فِي مَعْنَاهُ- عَلَى الصَّحَارِي، وَحَمَلَ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ عَلَى البُنْيَانِ، وَقَد رَوى الحَسَنُ بنُ ذَكْوَانَ، عَن مَرْوَانَ الأَصْفَرِ، قَالَ: رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيهَا، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ قَد نُهِيَ عَن هَذَا؟ فَقَالَ: (بَلَى، إِنَّمَا نُهِيَ عَن ذَلِكَ فِي الفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ القِبْلَةِ شَيءٌ يَسْتُرُكَ، فَلاَ بَأْسَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى الصَّحَارِي مُخَالِفٌ لِمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ مِن العُمُومِ، فَإِنَّهُ قَالَ: (فَأتَيْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَد بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا)، فَرَأَى النَّهْيَ عَامًّا.
الرَّابِعُ: اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ هَذَا النَّهْيِ مِن حَيْثُ المَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لإِظْهَارِ الاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ لِلقِبْلَةِ؛ لأَنَّهُ مَعْنًى مُنَاسِبٌ، وَرَدَ الحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ، فَيَكُونُ عِلَّةً لَهُ، وَأَقْوى مِن هَذَا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ مَا رُوِيَ مِن حَدِيثِ سَلَمَةَ بنِ وَهْرَامٍ، عَن سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ، عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَى أَحَدُكُم البَرَازَ، فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ يَسْتَقْبِلْ القِبْلَةَ))، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْهُمْ مَن عَلَّلَ بِأَمْرٍ آخَرَ، فَذَكَرَ عِيسَى بنُ أَبِي عِيسَى، قَالَ: قُلْتُ للشَّعْبِيِّ -هُو بِفَتْحِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ-: عَجِبْتُ لِقَولِ أَبِى هُرَيْرَةَ وَنَافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ، قَالَ: وَمَا قَالاَ؟ قُلْتُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((لاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا))، وَقَالَ نَافِعٌ عَن ابنِ عُمَرَ: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ مَذْهَباً مُوَاجِهَ القِبْلَةِ)، قَالَ: أَمَّا قَولُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِي الصَّحْرَاءِ، إِنَّ للهِ خَلْقاً مِن عِبَادِهِ يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَلاَ تَسْتَقْبِلُوهُمْ وَلا تَسْتَدْبِرُوهُمْ، وَأَمَّا بُيوتُكُم هَذِهِ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا للنَّتَنِ، فَإِنَّهُ لاَ قِبْلَةَ لَهَا. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ عِيسَى هَذَا ضَعِيفٌ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الخِلاَفِ فِي التَّعْلِيلِ اخْتِلاَفُهُم فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَاسْتَتَرَ بِشَيءٍ، هَلْ يَجُوزُ الاسْتِقْبَالُ وَالاسْتِدْبَارُ أَمْ لاَ؟ فَالتَّعْلِيلُ بِاحْتِرَامِ القِبْلَةِ يَقْتَضِي المَنْعَ، وَالتَّعْلِيلُ بِرُؤيَةِ المُصَلِّينَ يَقْتَضِي الجَوَازَ.
الخَامِسُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أََتَيْتُم الخَلاَءَ، فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ... الحَدِيثُ))، يَقْتَضِي أَمْرَينِ:
أَحَدُهُمَا: مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي: عِلَّةٌ لِذَلِكَ المَنْعِ، وَقَد تَكَلَّمْنَا عَن العِلَّةِ، وَالكَلاَمُ الآنَ عَلَى مَحَلِّ العِلَّةِ، فَالحَدِيثُ دَلَّ عَلَى المَنْعِ مِن اسْتِقْبَالِهَا لِغَائِطٍ أَوْ بَولٍ، وَهَذِهِ الحَالَةُ تَتَضَمَّنُ أَمْرَينِ:
أَحَدُهُمَا: خُرُوجُ الخَارِجِ المُسْتَقْذَرِ، وَالثَّانِي: كَشْفُ العَوْرَةِ،
فَمِن النَّاسِ مَن قَالَ: المَنْعُ لِلخَارِجِ، لِمُنَاسَبَتِهِ لِتَعْظِيمِ القِبْلَةِ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَن قَالَ: المَنْعُ لِكَشْفِ العَوْرَةِ،
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الخِلاَفِ خِلاَفُهُمْ فِي جَوَازِ الوَطْءِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ مَعَ كَشْفِ العَوْرَةِ، فَمَن عَلَّلَ بِالخَارِجِ أَبَاحَهُ، إِذْ لاَ خَارِجَ، وَمَنْ عَلَّلَ بِالعَوْرَةِ مَنَعَهُ.
السَّادِسُ: الغَائِطُ فِي الأَصْلِ: هُو المَكَانُ المُطْمَئِنُّ مِن الأَرْضِ، كَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ، ثُمَّ استُعْمِلَ فِي الخَارِجِ، وَغَلَبَ هَذَا الاسْتِعْمَالُ عَلَى الحَقِيقَةِ الوَضْعِيَّةِ، فَصَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. وَالحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ اسْمَ الغَائِطِ لاَ يَنْطَلِقُ عَلَى البَولِ؛ لِتَفْرِقَتِهِ بَيْنَهُمَا، وَقَد تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ قَولَهُ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُمْ مِنَ الغَائِطِ} [المَائِدَة: 6]، هَلْ يَتَنَاوَلُ الرِّيحَ مَثَلاً، أَو البَوْلَ، أوْ لاَ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُخَصَّصُ لَفْظُ الغَائِطِ لِمَا كَانَت العَادَةُ أَنْ يُقْصَدَ لأَجْلِهِ، وَهُوَ الخَارِجُ مِن الدُّبُرِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الغَائِطَ لِلرِّيحِ مَثَلاً، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا كَانَ يَقَعُ عِنْدَ قَصْدِهِم الغَائِطَ مِن الخَارِجِ مِن القُبُلِ أَو الدُبُرِ كَيْفَ كَانَ.
وَالسَّابِعُ: قَوْلُهُ: ((وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا))، مَحْمُولٌ عَلَى مَحَلٍّ يَكُونُ التَّشْرِيقُ وَالتَّغْرِيبُ فِيهِ مُخَالِفاً لاسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا، كَالمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ مَسْكَنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِن البِلاَدِ، وَلاَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا كَانَت القِبْلَةُ فِيهِ إِلَى المَشْرِقِ أَو المَغْرِبِ.
الثَّامِنُ: قَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ: (فَقَدِمْنَا الشَّامَ... إلخ)، فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ثَمَّةَ مِنْ حَمْلِهِ لَهُ عَلَى العُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى البُنْيَانِ وَالصَّحَارِي، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلعُمُومِ صِيغَةً عِنْدَ العَرَبِ وَأَهْلِ الشَّرْعِ، عَلَى خِلاَفِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ، وَهَذَا -أَعْنِي اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ العُمُومِ- فَرْدٌ مِن الأَفْرَادِ، لَهُ نَظَائِرُ لاَ تُحْصَى، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ المَثَلِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى ذَلِكَ، فَلْيَتَتَبَّعْ نَظَائِرَهَا يَجِدْهَا.
التَّاسِعُ: أُولِعَ بَعْضُ أَهْلِ العَصْرِ -وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ- بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ صِيغَةَ العُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى الذَّوَاتِ -مَثَلاً- أَو عَلَى الأَفْعَالِ، كَانَتْ عَامَّةً فِي ذَلِكَ، مُطْلَقَةً فِي الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، وَالأَحْوَالِ وَالمُتَعَلَّقَاتِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: المُطْلَقُ يَكْفِي فِي العَمَلِ بِهِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ، فلاَ يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ، وَأَكْثَرُوا مِن هَذَا السُّؤالِ فِيمَا لا يُحْصَى مِن أَلْفَاظِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْدناً لَهُمْ فِي الجِدَالِ، وَهَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ،
بَل الوَاجِبُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَى العُمُومِ فِي الذَّوَاتِ -مَثَلاً- يَكُونُ دَالاً عَلَى ثُبُوتِ الحُكْمِ فِي كُلِّ ذَاتٍ تَنَاوَلَهَا اللَّفْظُ، وَلاَ تَخْرُجُ عَنْهَا ذَاتٌ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ، فَمَنْ أَخْرَجَ شَيْئاً مِن تِلْكَ الذَّوَاتِ فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى العُمُومِ.
نَعَمْ المُطْلَقُ يَكْفِي العَمَلُ بِهِ مَرَّةً كَمَا قَالُوهُ، وَنَحْنُ لاَ نَقُولُ بِالعُمُومِ فِي هَذِهِ المَوَاضِعِ مِن حَيْثُ الإِطْلاَقُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِهِ مِن حَيْثُ المُحَافَظَةُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ العُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ، فَإِنْ كَانَ المُطْلَقُ مِمَّا لاَ يَقْتَضِي العَمَلُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً مُخَالَفَةً لِمُقْتَضَى صِيغَةِ العُمُومِ، اكْتَفَيْنَا فِي العَمَلِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ العَمَلُ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ مُقْتَضَى صِيغَةِ العُمُومِ، قُلْنَا بِالعُمُومِ مُحَافَظَةً عَلَى مُقْتَضَى صِيغَتِهِ، لا مِنْ حَيْثُ إنَّ المُطْلَقَ يَعمُّ،
مِثَالُ ذَلِكَ؛ إِذَا قَالَ: مَن دَخَلَ دَارِي فَأََعْطِهِ دِرْهَماً، فَمُقْتَضَى الصِّيغَةِ العُمُومُ فِي كُلِّ ذَاتٍ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هُو مُطْلَقٌ فِي الأَزْمَانِ، فَأَعْمَلُ بِهِ فِي الذَّوَاتِ الدَّاخِلَةِ الدَّارَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَثَلاً، وَلاَ أَعْمَلُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الوقْتِ؛ لأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي الزَّمَانِ، وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ مَرَّةً، فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، لِعَدَمِ عُمُومِ المُطْلَقِ،
قُلْنَا لَهُ: لَمَّا دَلَّتِ الصِّيغةُ عَلَى العُمُومِ فِي كُلِّ ذَاتٍ دَخَلَت الدَّارَ، وَمِن جُمْلَتِهَا الذَّوَاتُ الدَّاخِلَةُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَإِذَا أَخْرَجْتَ تِلْكَ الذَّوَاتَ فَقَدْ أَخْرَجْتَ مَا دَلَّت الصِّيغَةُ عَلَى دُخُولِهِ، وَهِي كُلُّ ذَاتٍ.
وَهَذَا الحَدِيثُ أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُ بِهِ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ مِن أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعِ، وَقَد اسْتَعْمَلَ قَوْلَهُ: ((لا تَسْتَقْبِلُوا وَلا تَسْتَدْبِرُوا)) عَامّاً فِي الأَمَاكِنِ، وَهُو مُطْلَقٌ فِيهَا، وَعَلَى مَا قَالَ هَؤلاَءِ المُتَأَخِّرُونَ، لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ العُمُومُ، وَعَلَى مَا قُلْنَاهُ يَعُمُّ؛ لأَنَّهُ إِذَا أُخْرِجَ عَنْهُ بَعْضُ الأَمَاكِنِ خَالَفَ صِيغَةَ العُمُومِ فِي النَّهْيِ عَن الاسْتِقْبَالِ وَالاسْتِدْبَارِ.
العَاشِرُ: قَوْلُهُ: (وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ)، قِيلَ: يُرَادُ بِهِ لِبَانِي الكُنُفِ عَلَى هَذِهِ الصُورَةِ المَمْنُوعَةِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ إِذَا انْحَرَفَ عَنْهَا لَمْ يَفْعَلْ مَمْنُوعاً، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الاسْتِغْفَارِ، وَالأَقْرَبُ أَنَّهُ اسْتِغْفَارٌ لِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ بِسَبَبِ مُوَافَقَتِهِ لِمُقْتَضَى البِنَاءِ غَلَطاً أَو سَهْواً، فَيَتَذَكَّرُ فَيَنْحَرِفُ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَالغَالِطُ وَالسَّاهِي لَمْ يَفْعَلاَ إِثْماً، فَلاَ حَاجَةَ بِهِ إِلَى الاسْتِغْفَارِ، قُلْتُ: أَهْلُ الوَرَعِ وَالمَنَاصِبِ العَلِيَّةِ فِي التَّقْوَى قَد يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا، بِنَاءً عَلَى نِسْبَتِهِم التَّقْصِيرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي [عَدَمِ] التَّحَفُّظِ ابْتِدَاءً، وَاللهُ أَعْلَمُ.

13 - الحَدِيثُ الثَّالِثُ:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (رَقِيتُ يَوماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ الكَعْبَةِ). وَفِي رِوَايَةٍ: (مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ المَقْدِسِ).
عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ تَقَدَّمَ نَسَبُهُ فِي ذِكْرِ أَبِيهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَحَدُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عِلْماً وَدِينًا، تُوُفِّي سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَ ابنُ عُمَرَ سَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
هَذَا الحَدِيثُ يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ المُتَقَدِّمَ مِن وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ العَمَلِ بِهِ أوْ بِالأَوَّلِ عَلَى أَقْوالٍ:
فَمِنْهُمْ مَن رَأَى أنهُ ناسِخٌ لحديثِ المَنْعِ، واعتقَدَ الإِباحةَ مُطْلَقًا، وكأنهُ رأى أنَّ تَخْصِيصَ حُكْمِهِ بِالبُنْيَانِ مُطَّرَحٌ، وَأَخَذَ دِلاَلَتَهُ عَلَى الجَوَازِ مُجَرَّدَةً عَن اعْتِبَارِ خُصُوصِ كَوْنِهِ فِي البُنْيَانِ؛ لاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ وَصْفٌ مُلْغًى لا اعْتِبَارَ بِهِ،
وَمِنْهُمْ مَن رَأَى العَمَلَ بِالحَدِيثِ الأَوَّلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَاعْتَقَدَ هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمِنْهُمْ مَن جَمَعَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، فَرَأَى حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ مَخْصُوصاً بِالبُنْيَانِ، فيَخُصُّ بِهِ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ العَامَّ فِي البُنْيَانِ وَغَيْرِهِ، جَمْعاً بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ،
وَمِنْهُمْ مَن تَوَقَّفَ فِي المَسْأَلَةِ،
وَنَحْنُ نُنَبِّهُ هَهُنَا عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَن قَالَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الفِعْلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ رؤيَةَ هَذَا الفِعْلِ كَانَ أَمْرًا اتِّفَاقِيّاً، لَمْ يَقْصِدْهُ ابنُ عُمَرَ، وَلا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ يَتَعَرَّضُ لِرُؤيَةِ أَحَدٍ، فَلَو كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ حُكْمٌ عَامٌّ لِلأُمَّةِ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ بِإِظْهَارِهِ بِالقَولِ أَو الدِّلاَلَةِ عَلَى وُجُودِ الفِعْلِ، فَإِنَّ الأَحْكَامَ العَامَّةَ لِلأُمَّةِ لاَبُدَّ مِن بَيَانِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ -وَكَانَت هَذِهِ الرُّؤيَةُ مِن ابنِ عُمَرَ عَلَى طَرِيقِ الاتِّفَاقِ، وَعَدَمِ قَصْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الخُصُوصِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَمِ العُمُومِ فِي حَقِّ الأُمَّةِ، وَفِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ بَحْثٌ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: أَنَّ الحَدِيثَ إِذَا كَانَ عَامَّ الدِّلاَلَةِ، وَعَارَضَهُ غَيْرُهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَأَرَدْنَا التَّخْصِيصَ، فَالوَاجِبُ أَنْ نَقْتَصِرَ فِي مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى العُمُومِ عَلَى مِقْدَارِ الضَّرُورَةِ، وَيَبْقىَ الحَدِيثُ العَامُّ عَلَى مُقْتَضَى عُمُومِهِ فِيمَا يَبْقَى مِن الصُّوَرِ، إِذْ لاَ مُعَارِضَ لَهُ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الصُّوَرِ المَخْصُوصَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الدَّلِيلُ الخَاصُّ، وَحَدِيثُ ابنِ عُمَرَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ الاسْتِقْبَالِ وَالاسْتِدْبَارِ مَعاً فِي البُنْيَانِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الاسْتِدْبَارِ فَقَطْ، فَالمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ إِنَّمَا هِيَ في الاسْتِدْبَارِ، فَيَبْقَى الاسْتِقْبَالُ لاَ مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِمُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ فِي المَنْعِ مِن الاسْتِقْبَالِ مُطْلَقاً، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الاسْتِقْبَالَ وَالاسْتِدْبَارَ مَعاً فِي البُنْيَانِ، وَعَلَيْهِ هَذَا السُّؤالُ.
هَذَا لَوْ كَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ الاسْتِقْبَالَ وَالاسْتِدْبَارَ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ الاسْتِدْبَارُ، وَيَبْقَى الاسْتِقْبَالُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفاً، وَلَكِنْ لَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ، دَلَّتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاسْتِقْبَالِ، وَالأُخْرَى عَلَى الاسْتِدْبَارِ، تَنَاوَلَ حَدِيثُ ابنِ عُمَرَ إِحْدَاهُمَا، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي مَحَلِّهَا، وَحَدِيثُهُ خَاصٌ بِبَعْضِ صُوَرِ عُمُومِهَا، وَالجُمْلَةُ الأُخْرَى لَمْ يَتَنَاوَلْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا.
وَلَعَلَّ قَائِلاً يَقُولُ: أََقِيسُ الاسْتِقْبَالَ فِي البُنْيَانِ -وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتاً عَنْهُ- عَلَى الاسْتِدْبَارِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الحَدِيثُ،
فَيُقَالُ لَهُ: أَوَّلاً: فِي هَذَا تَقْدِيمُ القِيَاسِ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ العَامِّ، وَفِيهِ مَا فِيهِ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الفِقْهِ.
وَثَانِياً: إنَّ شَرْطَ القِيَاسِ مُسَاوَاةُ الفَرْعِ لِلأَصْلِ، أَو زِيَادَتُهُ عَلَيْهِ فِي المَعْنَى المُعْتَبَرِ فِي الحُكْمِ، وَلاَ تَسَاوِيَ هَهُنَا، فَإنَّ الاسْتِقْبَالَ يَزِيدُ فِي القُبْحِ عَلَى الاسْتِدْبَارِ، عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ العُرْفُ، وَلِهَذَا اعْتَبَرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ هَذَا المَعْنَى، فَمَنَعَ الاسْتِقْبَالَ، وَأَجَازَ الاسْتِدْبَارَ، وَإِذَا كَانَ الاسْتِقْبَالُ أَزْيَدَ فِي القُبْحِ مِن الاسْتِدْبَارِ، فَلاَ يَلْزَمُ مِن إِلْغَاءِ المَفْسَدَةِ النَّاقِصَةِ فِي القُبْحِ فِي حُكْمِ الجَوَازِ إِلْغَاءُ المَفْسَدَةِ الزَّائِدَةِ فِي القُبْحِ فِي حُكْمِ الجَوَازِ.

14 - الحَدِيثُ الرَّابِعُ:
عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وغُلامٌ نَحْوِي إِدَوَاةً مِن مَاءٍ وعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بالمَاءِ).
العَنَزَةُ: الحَرْبَةُ الصَّغِيرَةُ، وَكَأَنَّ حَمْلَهَا فِي ذَلِكَ الوَقْتِ لاحْتِمَالِ أَنْ يَتَوَضَّأََ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهَا كَانَت تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، وَالكَلاَمُ عَلَى الخَلاَءِ قَدْ تَقَدَّمَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هَهُنَا مُجَرَّدُ قَضَاءِ الحَاجَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُهُ المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَمْلِ العَنَزَةِ للصَّلاَةِ، فَإِنَّ السُّتْرَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي البَرَاحِ مِن الأَرْضِ، حَيْثُ يُخْشَى المُرُورُ.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ المَكَانُ المُعَدُّ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ فِي البُنْيَانِ، وَهَذَا لا يُنَاسِبُهُ المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَمْلِ العَنَزَةِ،
وَيَتَرَجَّحُ الأَوَّلُ بِأَنَّ خِدْمَةَ الرِّجَالِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا المَعْنَى مُنَاسِبَةٌ للسَّفَرِ، فَإِنَّ الحَضَرَ يُنَاسِبُهُ خِدْمَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِن نِسَائِهِ وَنَحْوِهِنَّ.
وَيُؤخَذُ مِن هَذَا الحَدِيثِ اسْتِخْدَامُ الأحْرَارِ مِن النَّاسِ إِذَا كَانُوا أَتْبَاعاً وَأَرْصَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ.
وَفِيهِ أَيضاً جَوَازُ الاسْتِعَانَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَمَقْصُودُهُ الأَكْبَرُ الاسْتِنْجَاءُ بِالمَاءِ، وَلا يُخْتَلَفُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَد رُوِيَ عَن سَعِيدِ بنِ المُسَّيبِ لَفْظٌ يَقْتَضِي تَضْعِيفَهُ للرِّجَالِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن الاسْتِنْجَاءِ بِالمَاءِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاءِ)، أَوْ قَالَ: (ذَلِكَ وُضُوءُ النِّسَاءِ)، وَعَنْ غَيْرِهِ مِن السَّلَفِ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضاً.
وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى الاسْتِنْجَاءِ بِالمَاءِ، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، فَهِي أَوْلَى بِالاتِّبَاعِ، وَلَعَلَّ سَعِيدًا -رَحِمَهُ اللهُ- فَهِمَ مِن أَحَدٍ غُلُوّاً فِي هَذَا البَابِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُ الاسْتِنْجَاءَ بِالحِجَارَةِ، فَقَصَدَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا اللَّفْظَ، لإِزَالَةِ ذَلِكَ الغُلُوِّ، وَبَالَغَ بِإيرَادِهِ إِيَّاهُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ مِن أَصْحَابِ مَالِكٍ -وَهُو ابنُ حَبِيبٍ- إِلَى أَنَّ الاسْتِنْجَاءَ بِالحِجَارَةِ إِنَّمَا هُو عِنْدَ عَدَمِ المَاء، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَاهِبٌ، فَلا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فِي زَمَنِ سَعِيدٍ، وَإِنَّمَا استُحِبَ الاستْنِجَاءُ بِالمَاءِ لإِزَالَةِ العَيْنِ وَالأَثَرِ مَعاً، فَهُو أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ.

15 - الحَدِيثُ الخَامِسُ:
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - الحَارِثِ بنِ رِبْعِيٍّ - الأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ يَبُولُ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِن الخَلاَءِ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)).
أَبُو قَتَادَةَ الحَارِثُ بنُ رِبْعيٍّ بنِ بَلْدَمَةَ -بِفَتْحِ البَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الدَّالِ، وَيُقَالُ: بُلْدُمَةَ بَالضَّمِّ فِيهِمَا، وَيُقَالُ: بُلْذُمَةَ بِالذَّالِ المُعْجَمَةِ المَضْمُومَةِ- فَارِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهِدَ أُحُداً وَالخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، مَاتَ بِالمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: بِالكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ، وَالأَصَحُّ الأَوَّلُ، اتَّفَقُوا عَلَى الإِخْرَاجِ لَهُ.
ثُمَّ الكَلاَمُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الحَدِيثُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَن مَسِّ الذَّكَرِ بِاليَمِينِ فِي حَالَةِ البَوْلِ، وَوَرَدَتْ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي النَّهْي عَن مَسِّهِ بِاليَمِينِ مُطلَقاً، مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالَةِ البَوْلِ، فَمِن النَّاسِ مَن أَخَذَ بِهَذَا العَامِّ المُطْلَقِ، وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الفَهْمِ أَنَّ المُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى المُقَيَّدِ، فَيَخْتَصُّ النَّهِيُ بِهَذِهِ الحَالَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لأَنَّ هَذَا الَّذِي يُقَالُ يَتَّجِهُ فِي بَابِ الأَمْرِ وَالإِثْبَاتِ، فَإِنَّا لَو جَعَلْنَا الحُكْمَ لِلمُطْلَقِ، أَو العَامِّ فِي صُورَةِ الإِطْلاَقِ، أَو العُمُومِ مَثَلاً، كَانَ فِيهِ إِخْلاَلٌ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى المُقَيَّدِ، وَقَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الأَمْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا فِي بَابِ النَّهْي، فَإِنَّا إِذَا جَعَلْنَا الحُكْمَ لِلمُقَيَّدِ أَخْلَلْنَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ المُطْلَقِ، مَعَ تَنَاوُلِ النَّهْيِ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ.
هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ مُرَاعَاةِ أَمْرٍ مِن صِنَاعَةِ الحَدِيثِ، وَهُو أَنْ يُنْظَرَ في الرِّوَايَتَينِ، هَلْ هُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَو حَدِيثَانِ؟ وَلَكَ أَيضاً بَعْدُ النَّظَرُ فِي دَلاَئِلِ المَفْهُومِ، وَمَا يُعْمَلُ بِهِ مِنْهُ، وَمَا لاَ يُعْمَلُ بِهِ، وَبَعْدَ أَنْ تَنْظُرَ فِي تَقْدِيمِ المَفْهُومِ عَلَى ظَاهِرِ العُمُومِ -أَعْنِي رِوَايَةَ الإِطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ- فَإِنْ كَانَا حَدِيثًا وَاحِدًا مَخْرَجُهُ وَاحِدٌ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ المُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ، لأَنَّهَا تَكُونُ زِيَادَةً مِن عَدْلٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَلُ، وَهَذَا الحَدِيثُ المَذْكُورُ رَاجِعٌ إِلَى رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ، عَن عَبْدِ اللهِ بنِ قَتَادَةَ، عَن أَبِيهِ.
الثَّانِي: ظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ الظَّاهِرِيُّ، وَجُمْهُورُ الفُقَهَاءِ عَلَى الكَرَاهَةِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلا يَتَمَسَّحْ مِن الخَلاَءِ بِيَمِينِهِ))، يَتَنَاولُ القُبُلَ وَالدُّبُرَ، وَقَد اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي كَيْفِيَّةِ التَّمَسُّحِ فِي القُبُلِ، إِذَا كَان الحَجَرُ صَغِيرًا، وَلابُدَّ مِن إِمْسَاكِهِ بِإِحْدَى اليَدَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُمْسِكُ الحَجَرَ بِاليُمْنَى وَالذَّكَرَ بِاليُسْرَى، فَتَكُونُ الحَرَكَةُ لِليُسْرَى، واليُمْنَى قَارَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَن قَالَ: يُؤخَذُ الذَّكَرُ بِاليُمْنَى وَالحَجَرُ بِاليُسْرَى وَتُحَرَّكُ اليُسْرَى، والأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الحَدِيثِ.
الرَّابِعُ: قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ))، يُرَادُ بِهِ إِبَانَةُ الإِنَاءِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّنَفُّسِ، لِمَا فِي التَّنَفُّسِ مِن احْتِمَالِ خُرُوجِ شَيءٍ مُسْتقذَرٍ لِلغَيْرِ، وَفِيهِ إِفْسَادٌ لِمَا فِي الإِنَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الغَيْرِ، لِعيافَتِهِ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ إِبَانَةُ الإِنَاءِ للتَّنَفُّسِ ثَلاَثاً، وَهُوَ هَهُنَا مُطْلَقٌ.

16 - الحَدِيثُ السَّادِسُ:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَينِ، فَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يسْتَتِرُ مِن البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ))، فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّها نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)).
عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو العَبَّاسِ القُرَشِيُّ الهَاشِمِيُّ المَكِّيُّ، أَحَدُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ فِي العِلْمِ، سُمِّى بِالحَبْرِ وَالبَحْرِ، لِسَعَةِ عِلْمِهِ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَيُقَالُ: كَانَ سِنُّهُ حِينَئذٍ اثْنَتَينِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِي: سِنَّهُ إِحْدى -أَو اثْنَتَينِ- وَسَبْعِينَ سَنَةً، أَعْنِي فِي مَبْلَغِ سِنِّهِ، وَكَانَ مَوتُهُ بِالطَّائِفِ.
ثُمَّ الكَلاَمُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: تَصْرِيحُهُ بِإثْبَاتِ عَذَابِ القَبْرِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاشْتَهَرَتْ بِهِ الأَخْبَارُ، وَفِي إِضَافَةِ عَذَابِ القَبْرِ إِلَى البَولِ خُصُوصِيَّةٌ تَخصُّهُ دُونَ سَائِرِ المَعَاصِي، مَعَ أَنَّ العَذَابَ بِسَبَبِ غَيْرِهِ أَيضاً، إِنْ أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ بَعْضِ عِبَادِهِ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ الحَدِيثُ: ((تَنَزَّهُوا مِن البَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ))، وَكَذَا جَاءَ أَيْضاً أَنَّ بَعْضَ مَن ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّهُ القَبْرُ، أَو ضَغَطَهُ فَسُئِلَ أَهْلُهُ؟ فَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي الطُّهُورِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: ((وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ))، يَحْتَمِلُ -مِن حَيْثُ اللَّفْظُ- وَجْهَيْنِ.
وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا لاَ يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ إِزَالَتُهُ أَوْ دَفْعُهُ أَو الاحْتِرَازُ عَنْهُ، أَيْ إِنَّهُ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى مَن يُرِيدُ التَّوَقِيَ مِنْهُ، وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ صَغِيرٌ مِن الذُّنُوبِ، غَيْرُ كَبَيرٍ مِنْهَا، لأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِن الحَدِيثِ: ((وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ))، فَيُحْمَلُ قَولُهُ: ((وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ)) عَلَى كِبَرِ الذَّنْبِ، وَقَولُهُ: ((وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ)) عَلَى سُهُولَةِ الدَّفْعِ وَالاحْتِرَازِ.
الثَّالِثُ: قَولُهُ: ((أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ))، هَذِهِ اللَّفْظَةُ -أَعْنِي ((يَسْتَتِرُ))- قَد اخْتَلَفَتْ فِيهَا الرِوَايَةُ عَلَى وُجُوهٍ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَينِ:
أَحَدُهُمَا: الحَمْلُ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِن الاسْتِتَارِ عَن الأَعْيُنِ، وَيَكُونُ العَذَابُ عَلَى كَشْفِ العَوْرَةِ.
وَالثَّانِي -وَهُوَ الأَقْرَبُ-: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى المَجَازِ، وَيَكُونُ المُرَادُ بِالاسْتِتَارِ التَّنَزَّهُ عَن البَولِ وَالتَّوَقِّي مِنْهُ، إِمَّا بِعَدَمِ مُلاَبَسَتِهِ، أَو بِالاحْتِرَازِ عَن مَفْسَدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، كَانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَعَبَّرَ عَن التَّوَقِّي بِالاسْتِتَارِ مَجَازاً، وَوَجْهُ العَلاَقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ المُسْتَتِرَ عَن الشَّيءِ فِيهِ بُعْدٌ عَنْهُ وَاحْتِجَابٌ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِالبُعْدِ عَن مُلاَبَسَةِ البَولِ، وَإِنَّمَا رَجَّحْنَا المَجَازَ -وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ الحَقِيقَةَ- لِوَجْهَينِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ المُرَادُ أَنَّ العَذَابَ عَلَى مُجَرَّدِ كَشْفِ العَوْرَةِ، كَانَ ذَلِكَ سَبَباً مُسْتَقِلاً أَجْنَبِياً عَن البَوْلِ، فَإِنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ الكَشْفُ لِلعَوْرَةِ حَصَلَ العَذَابُ المُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ بَولٌ، فَيَبْقَى تَأْثِيرُ البَوْلِ بِخُصُوصِهِ مُطَّرَحَ الاعْتِبَارِ، وَالحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلبَولِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ القَبْرِ خُصُوصِيَّةً، فَالحَمْلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الحَدِيثُ المُصَرِّحُ بِهَذِهِ الخُصُوصِيَّةِ أَوْلَى.
وَأَيْضاً فَإِنَّ لَفْظَةَ ((مِنْ)) لَمَّا أُضِيفَتْ إِلَى البَولِ -وَهِىَ غَالِباً لابْتِدَاءِ الغَايَةِ حَقِيقَةً، أَو مَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ الغَايَةِ مَجَازاً- تَقْتَضِي نَسْبَةَ الاسْتِتَارِ الَّذِي عَدَمُهُ سَبَبُ العَذَابِ إِلَى البَوْلِ، بِمَعْنَى أَنَّ ابْتِدَاءَ سَبَبِ عَذَابِهِ مِن البَولِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى كَشْفِ العَوْرَةِ زَالَ هَذَا المَعْنَى.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ المُرَادَ التَّنَزُّهُ مِن البَولِ، وَهِيَ رِوَايَةُ وَكِيعٍ: ((لا يَتَوقَّى))، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ: ((لا يَسْتَنْزِهُ))، فَتُحْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى تِلْكَ، لِيَتَّفِقَ مَعْنَى الرِّوَايَتَينِ.
الرَّابِعُ: فِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ النَّمِيمَةِ، وَأَنَّهَا سَبَبُ العَذَابِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّمِيمَةِ المُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ النَّمِيمَةَ إِذَا اقْتَضَى تَرْكُهَا مَفْسَدَةً تَتَعَلَّقُ بِالغَيْرِ، أَو فِعْلُهَا مَصْلَحةً يَستضِرُّ الغَيْرُ بِتَرْكِهَا، لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً، كَمَا نَقُولُ فِي الغِيبَةِ: إِذَا كَانَتْ للنَّصِيحَةِ، أَو لِدَفْعِ المَفْسَدَةِ لَمْ تُمْنَعْ، وَلَو أَنَّ شَخْصاً اطَّلَعَ مِن آخَرَ عَلَى قَوْلٍ يَقْتَضِي إِيقَاعَ ضَرَرٍ بِإِنْسَانٍ، فَإِذَا نُقِلَ إِلَيْهِ ذَلِكَ القَوْلُ احْتَرَزَ عَن ذَلِكَ الضَّرَرِ لوَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ.
الخَامِسُ: قِيلَ فِي أَمْرِ الجَرِيدَةِ الَّتِي شَقَّهَا اثْنَتَيْنِ، فَوَضَعَهَا عَلَى القَبْرَينِ، وَقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)) إِلَى أَنَّ النَّبَاتَ يُسَبِّحُ مَا دَامَ رَطْباً، فَإِذَا حَصَلَ التَّسْبِيحُ بِحَضْرَةِ المَيِّتِ حَصَلَتْ لَهُ بَرَكَتُهُ، فَلِهَذَا اخْتَصَّ بِحَالَةِ الرُّطُوبَةِ.
السَّادِسُ: أَخَذَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِن هَذَا أَنَّ المَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ المَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي التَّخْفِيفِ عَن صَاحِبَيِ القَبْرَينِ هُو تَسْبِيحُ النَّبَاتِ مَادَامَ رَطْباً، فَقِرَاءَةُ القُرْآنِ مِن الإِنْسَانِ أََوْلَى بِذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.


  #6  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 03:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

باب دخول الخلاء والاستطابة

المتن:
11- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)).
12- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا))، قال أبو أيوب رضي الله عنه: (فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة ، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل).
13- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (رقيت يوما على بيت حفصة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام ، مستدبر الكعبة).

الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بآداب قضاء الحاجة، فالرسول عليه الصلاة والسلام بعثه الله بالدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والنهي عن سفساف الأخلاق وسيء الأعمال، فهو صلى الله عليه وسلم يدعو إلى كل خير وينهى عن كل شر، وقد دعا إلى الآداب الشرعية في قضاء الحاجة والصلاة والصوم والصدقات والحج والجهاد وغير هذا من شؤون الإسلام، فهو دعا إلى كل خلق كريم، ونهى عن كل ما يخالف ذلك، ومن ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد دخول الخلاء يعني محل قضاء الحاجة لبول أو غائط قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)). وفي بعض الروايات: ((بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)).
والخُبُث جمع خبيث، والمراد بذلك ذكور الشياطين، والخبائث جمع خبيثة، والمراد إناث الشياطين، يعني من الشياطين ذكورهم وإناثهم،
وقال آخرون من أهل العلم: معنى ((من الخبث والخبائث)): من الشر وأهله، فالخبث بالتسكين الشر، والخبائث أهله، والمعنى أنه استعاذ بالله من شر الشر وأهله من الشياطين وغيرهم.
فالسنة لمن أراد أن يقضي حاجته، أن يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول: ((بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) وإن كان في الصحراء قال ذلك، إذا أراد المكان الذي يمكث فيه لقضاء الحاجة قال عند ذلك: ((بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)).
وعند الخروج يقدم رجله اليمنى ويقول: ((غفرانك)) لأن قضاء الحاجة من نعم الله، والعبد من شأنه التقصير في شكر الله فعند خروجه يقول: ((غفرانك)) أي: أسألك غفرانك عما قصرت فيه من شكر نعمك، وعما قدمت من الذنوب.
الحديث الثاني –حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه– عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إذا أتيتم الغائط)) أي: محل قضاء الحاجة، ((فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا))، هذا بالنسبة للمدينة ومن كان على سَمْتها، يُشَرِّق أو يُغَرَّب، وهكذا في الجنوب، أما من كان في الشرق أو الغرب فليُجّنِب أو يُشمِّل حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها عند قضاء الحاجة، قال أبو أيوب رضي الله عنه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل).
حمل أبو أيوب الحديث على العموم، وأنه عام في المباني والصحراء، فالأولى والأفضل للمؤمن حتى وإن كان في بيته أن يجعل محل قضاء الحاجة إلى غير القبلة فتكون عن يمينه أو شماله، هذا هو المشروع وهذا هو الذي ينبغي، لكن في البناء يتساهل في ذلك، وإنما يلزم هذا في الصحراء عند جمع من أهل العلم، لحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (رقيت يوما –أي صعدت– على بيت حفصة -يعني بهذا أخته حفصة رضي الله عنها- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة)، فهذا يدل على أن الاستدبار أو الاستقبال في المبنى -أي: في محل مستور- ليس بلازم، وهذه حجة جمع من أهل العلم على أنه لا بأس أن يستقبل ويستدبر في المبنى، وهو قول البخاري رحمه الله وجماعة من أهل العلم، لهذا الحديث، لكن الأفضل والأولى للمؤمن أن لا يستقبلها مطلقا، لأن حديث عبد الله بن عمر يحتمل أنه كان قبل النهي، ويحتمل أنه خاص كما قال جماعة، فالأولى للمؤمن أن تكون مراحيضه منحرفة عن القبلة فلا يستقبلها ولا يستدبرها، عملا بحديث أبي أيوب العام وما جاء في معناه، ولكنه في المبنى أسهل وأقل تبعة حديث عبد الله بن عمر المذكور، فيكون خاصا، وحديث أبي أيوب عاما، والقاعدة أن الخاص يقضي على العام من النصوص.
* * *
المتن:
14- عن أنس بن مالك رضي الله أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء).
15- وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء)).
16- وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة ، فقالوا : يا رسول الله، لم فعلت هذا ؟ قال:
((لعله يُخفَّف عنهما ما لم ييبسا)).
الشرح:
هذا الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يدخل الخلاء فيحمل أنس، وغلام معه –وفي رواية أخرى: من الأنصار– إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء عليه الصلاة والسلام.
هذا يدل على فوائد:
منها: شرعيةُ الاستنجاءِ بالماء لغسل الدبر والذكر من أثر البول والغائط، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستعمله بعض الأحيان وكان في بعض الأحيان يستجمر عليه الصلاة والسلام، وكلاهما جائز، إن شاء المؤمن استجمر بحجارة ونحوها، وإن شاء استنجى بالماء، وإن شاء جمع بينهما، والاستنجاء بالماء أنقى وأذهب لآثار النجاسة، والاستجمار بالحجارة واللَّبِن والمناديل الطاهرة الخشنة ونحوها مما يزيل الأذى جائز أيضا عند أهل العلم، وقد دلت عليه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: ((إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه)) وقال سلمان رضي الله عنه: (نهى رسول الله أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار)، فإذا استنجى الإنسان بثلاثة أحجار أو أكثر أو لَبِن أو أخشاب ، أو مناديل أو تراب، أو نحو ذلك مما يزيل الأذى، حتى ينقي المحل بثلاثة أو أكثر أجزأه ذلك عن الماء، وإن جمع بينهما بأن يستنجي بالحجارة ثم يتبعها بالماء كان أكمل وفيه من الفوائد جواز خدمة الشخص بحمل الماء معه إلى قضاء الحاجة، أو الحجارة للمحل المذكور، لا بأس أن يأمر الإنسان بعض أولاده أو خدامه أن يَتبعوه بما يحتاج إليه من ماء أو حجارة ليستنجي بذلك.
وفيه من الفوائد أيضا: استصحاب العنزة وهي عصا صغيرة لها حربة تُركز أمامه عندما يصلي عليه الصلاة والسلام سترة، وكان يستعملها في السفر، والصلاة وراء السترة سنة مؤكدة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها)).
الحديث الثاني حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء)).
والحديث متفق على صحته بين البخاري ومسلم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا يجوز للمسلم أن يمسك ذكره بيمينه وهو يبول، لأنه قد يناله شيء من النجاسة، ولأن اليمنى يجب أن تبعد عن هذا، لأنها للمصافحة والأكل والأخذ والعطاء، فينبغي أن تكون بعيدة عن التلطخ بالنجاسة، وإذا أراد أن يمسك ذكره يمسكه باليسرى، لا باليمنى.
المسألة الثانية: ألا يتمسح من الخلاء بيمينه، ليس للمؤمن والمؤمنة التمسح من الخلاء باليمين، بل باليسار، فيستجمر بها ويستنجي بها، وهذا من الآداب الشرعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم أمته الآداب الشرعية في الوضوء والاستجمار والصلاة ، وغير ذلك فقد دعا الأمة إلى كل خلق كريم، ونهاها عن كل خلق ذميم، والله جل وعلا شرع لعباده مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق وسيء الأعمال.
ومن الآداب الشرعية في الشرب أن يشرب بيمينه، والأفضل أن يكون بثلاثة أنفاس، والسنة أن يفصل الإناء عن فمه ويتنفس ولا يتنفس في الإناء وهو يغترف لأنه قد يشرق به، أو يخرج من فمه شيء يُقَذِّر الماء.
الحديث الثالث حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، يقول إنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير))، وفي رواية: ثم قال: ((بلى؛ إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول))، وفي اللفظ الآخر: ((لا يستنـزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)).
هذا فيه دلالة على تحريم النميمة وتحريم التساهل بالبول، وأن الواجب العناية بالنزاهة من البول والتطهر منه في بدنه وثيابه فلا يتلطخ شيء من ذلك، والتنزه من البول أمر واجب والتلطخ به أمر محرم، ولهذا استحق من تلطخ بالبول ولم يتنزه منه العذاب في القبر مقدماً وفي الحديث الآخر: ((استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)) نسأل الله السلامة.
والنميمة فيها فساد عظيم، لأنها تثير الفتن والشحناء بين الناس، فكل كلام تنقله من قوم إلى قوم، ومن شخص إلى شخص لا يرضى به المنقول إليه يسبب فتنة، وهذا يسمى بالنميمة، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة نمام)) والنميمة من الكبائر، ولهذا استحق من تعاطاها العقاب في قبره مقدَّما على عقاب النار نعوذ بالله.
وفيه أنه أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين غرز على كل قبر واحدة، وقال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا))، هذا خاص بالقبرين، ولا يشرع أن يفعل مع القبور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله إلا مع القبرين اللذيْن أطلعه الله على عذاب أصحابهما، ولم يفعل هذا مع القبور الأخرى، فدل ذلك على أنه لا يشرع أن تُغرز الجرائد أو الأغصان أو الشجر وغيرها على القبور، لعدم الدليل لأن الله جل وعلا أخفى عنا عذاب القبور رحمةً لنا، ولم يطلعنا على ذلك رحمةً منه سبحانه، ولو اطلع الناس على عذاب أهل القبور ما تهنؤوا بنوم ولا راحة، نسأل الله السلامة.


  #7  
قديم 13 محرم 1430هـ/9-01-2009م, 04:19 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح عمدة الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

القارئ:
باب دخول الخلاء والاستطابة
عَن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء قَالَ: ((اللهم إني أعوذ بك مِنَ الخبث والخبائث)) .
وعَن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قَال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول , ولا تستدبروها , ولكن شرقوا أو غربوا)) .
قَال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ .
الشيخ:

هذا الباب مِنْ تمام الطهارة , يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه , ولو كان شيئا طبيعيا عاديا ولوكان شيئا مما يستحيى عَنْ ذكره ولكن لا حياء في الدين (إن الله لا يستحيي مِنَ الحق) يتعلق بِهِ أحكام وأدعية وطهارة ونجاسة فلابد مِنْ معرفة أحكامه , فلأجل ذلك بينه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك.
ثبت في صحيح مسلم أن اليهود قالوا لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة , يعني حتى ما تفعلونه عند التخلي , فقال: (نعم والله -أقسم لهم- لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط , ونهانا أن تستنجي باليمين وأن نستجمر بها وأن نمس عوراتنا باليمين وأن نستنجي بأقل مِنْ ثلاثة أحجار), يعني بين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علم وفائدة .
الأحكام التي بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كلها ذات أهمية , فمنها الأدعية التي يدعى بها ، وبلا شك أنها مناسبة , مناسب أن يدعى لها بأدعية .

كذلك أيضا نقول: إن الله علم نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ونبيه علم أمته , وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها , فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان مِنَ الشرور , ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ الإنسان من النجاسة , ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل .


فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية , فأولا: ثبت في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إن هذه الحشوش محتضرة)) فأمر بأن يتحصن الإنسان مِنَ الشياطين بذكر الله .

محتضرة: يعني تحضرها الشياطين ، معلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة , تألف الأماكن النجسة , فإذا لم يتحفظ الإنسان مِنَ الشياطين عبثت بِهِ ، ورد أيضا في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم , يعني إذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت بِهِ فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي , إما حسي كأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي , وإما معنوي بأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه ؛ فلأجل ذلك أُمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى .
الثابت عند الدخول أن يذكر اسم الله للتحصن وأن يدعو بهذا الدعاء فيقول: ((بسم الله)) , يعني أتحصن وأتحفظ باسمه باسم ربي ليحصنني ويحفظني مِنْ كل سوء ومن كل شر , ثم يَقُولُ: ((أعوذ بالله مِنَ الخبث والخبائث)) ، الخبُث: الذكور. والخبائث: الإناث . أو الخبْث: يعني الشر . والخبائث: الأشرار . يعني فيستغيث مِنْ ذكران الشياطين وإناثهم، أو مِنَ الشر وأهل الشر، هذا هو المعنى في هذه الجملة .
كأنه يَقُولُ: أعوذ بك يا ربي وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك مِنَ الشرور ومِن أهل الشرور , إذا قَالَ ذلك -وهو صادق- حماه الله وحفظه مِنْ شر هذه الشياطين .
ورد زيادة في بعض الروايات أنه يَقُولُ:
((أعوذ بالله مِنَ الخبث والخبائث ومِنَ الرجس النجس الشيطان الرجيم)) فيخصص بعدما يعمم , إذا قَالَ: مِنَ الرجس النجس , الرجس و النجس معناها واحد , ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم , فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث مِنَ الشياطين , سواء مِنْ شياطين الجن أو مِنْ مردة الجن أو مِنْ شياطين الإنس , استعاذ مِنَ الشر وأهله .
متى يَقُولُ هذا ؟
عندما يريد أن يدخل بيت الخلاء , إذا أراد أن يدخل الخلاء , (إذا دخل الخلاء) يعني: أراد أن يدخله ؛ لأنه لا يستحب أن يقوله في نفس التخلي أو في نفس المكان المعد للتخلي ؛ لأنه مكان متستقذر , فتنزه أسماء الله أن يؤتى بها في ذلك المكان , ينزه أسماء الله عَنْ ذكره في ذلك المكان , وإن كان يجوز أن يذكر الله بقلبه ونحو ذلك ، هذا الذكر المندوب:
أولا: التسمية .
ثانيا: الاستعاذة مِنَ الخبث والخبائث , ومِنَ الرجس النجس الشيطان الرجيم .
أما عند الخروج مِنَ الخلاء فإنه يَقُولُ: ((غفرانك)) ، كما ورد في بعض الأحاديث , ومناسبة طلب المغفرة كأنه لما أحس بخفة مِنْ ثقل الأذى تذكر ثقل الذنوب فسأل المغفرة فقال: أسألك تخفيفا من الذنوب كما خففتني من الأذى .
ورد أيضا أنه عَلَيْهِ الصلاة والسلام كان يَقُولُ بعد الخروج: ((الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني)) وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه يَقُول: ((الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه)) .
وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته , فيناسب عند الدخول الدعاء بالاستعاذة مِنَ الشيطان , وعند الخروج حمد لله تعالى وشكره على ما أنعم بِهِ على عبده . هذا ما يأتي بِهِ مِنَ الأدعية .


أما الحديث الثاني فجاء بِهِ لأجل تبيين كيفية جلوسه , فأخبر في هذا الحديث بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحترم الكعبة المشرفة التي هي قبلة الصلاة ؛ فنهاهم أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول , وأمرهم بأن يستقبلوا المشرق أو المغرب حتى تكون القبلة عَنْ يمين أحدهم أو عَنْ يساره ؛ وذلك لأنه يخاطب أهل المدينة وأهل المدينة قبلتهم في الجنوب , يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال في الصلاة , ويكون المصلي قد جعل المشرق عَنْ يساره والمغرب عَنْ يمينه , فأمرهم في التخلي أن يجعلوا القبلة عَنْ يمين أحدهم أو عَنْ يساره , إما أن يشرقوا فتكون القبلة عن يمينه أو يغربوا فتكون القبلة عَنْ يساره , ولا يستقبل القبلة يجعلها أمامهم وهم يقضون الحوائج يعني عند التخلي , ولا يستدبرونها يجلعونها خلف ظهورهم عند ذلك التخلي ؛ احتراما للقبلة التي هي قبلة المصلي ، المصلي يستقبلها فتنزه هذه الجهة التي هي قبلة الصلاة عن أن يستقبلها الإنسان حالة التخلي , هكذا أرشدهم عَلَيْهِ الصلاة والسلام .
وهذا الحديث عام في جميع الحالات , وعمل بِهِ الصحابة , فهذا أبو أيوب راوي الحديث يَقُولُ: (فقدمنا إلى الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننصرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ) . لما فتحت الشام في عهد عمر دخل المسلمون الشام واستوطنوها وصارت أماكن التخلي في داخل البيوت بخلاف أهل المدينة ، فإن أهل المدينة كانوا في قرية وكانوا يتخلون يعني بقضون حوائجهم في البقيع , يعني يذهب أحدهم إلى خارج البلد ويقضي حاجته في الصحراء , ولكن لما توسعت المدن احتاجوا إلى أن يجعلوا بيوت الخلاء في داخل الدور ؛ لبعد المسافة أو الصحراء التي كانوا يتخلون فيها , كما في هذه البلاد وغيرها أصبحت أماكن التخلي في داخل البيوت , وهي التي تسمى بحمامات أو قديما تسمى صهاريج أو نحو ذلك , يعني تسمى أيضا مراحيض ودورات مياه أو خلاء بيوت خلاء أو كنف جمع كنيف
, هي التي معدة لقضاء الحاجة يعني للتغوط ، فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط, فيقول أبو أيوب: (لما قدمنا الشام ووجدنا المراحيض): المقاعد، وجدناها مهيأة مركبة على استقبال القبلة ، لم نتجرأ أن نجلس فيها فصار أحدنا ينحرف , إذا جلس انحرف عن يمينه أو عَنْ يساره واستغفر الله عما يقع فِيهِ مِنَ الخطأ ونحو ذلك .
وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت وفي خارجها , في الحمامات المبنية وفي الصحاري ونحوها , أن الحكم على عمومه ليس لَهُ مخصص , هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه .
وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في بناء , إذا كان في داخل مباني أو نحوها , ويستدل بحديث ابن عُمَر الذي ذُكر بعد هذا الحديث .
ولكن الصحيح أن الحكم عام , وبهذا ينتبه الإنسان إلى أن الحكم على الصحيح عام , وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومين المشهورين , واعتذروا عَن الأحاديث التي فيها شيء مِنَ الرخصة بأنها محمولة على عذر أو بأنها مِنَ الخصائص أو نحو ذلك .
وبهذا يُنتبه , ينتبه الإنسان إذا دخل الخلاء إلى أنه متى كان موجها إلى القبلة فإن عَلَيْهِ أن ينحرف ويميل عَنْهُ قليلا حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها , وكذلك أيضا ينتبه عند تأسيس الدورات هذه ينتبه عند تأسيسها إلى أنها لا تركب مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد مَنْ يدخلها أن ذلك جائز لتعميم الحكم ؛ لأن الأحاديث عامة كما فهم ذلك أبو أيوب مِن هذا الحديث وكما هو ظاهر عمومات النصوص ، النصوص التي فيها النهي: ((لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط)) , وكذلك حديث سلمان:(نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها). فهذا لأجل احترام هذه الجهة , احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي فتحترم ؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها , هذا هو الاحتياط في هذا الباب , وإن كان قد رخص بعض العلماء وهم أكثرهم في ذلك إذا كان في داخل البناء ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم .
والحديث الآخر إن شاء الله نقرأه فيما بعد , وهو يتعلق بهذا الموضوع .

* * *
القارئ:
وعَن عَبْد اللَّهِ بن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنهما قَال: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة .
وعَن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قَال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة مِن ماء وعنزة فيستنجي بالماء)) .
والعنزة: الحربة الصغيرة . والإداوة: إناء صغير مِن جلد .
وعَن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول , ولا يتمسح مِنَ الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء)) .
الشيخ:
هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة كالتبول ونحوه , وقد عرفنا أن الشريعة .. الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة , ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة , ولا شك أن الأقذار مِن البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها وكيف يتطهر منها , وعلمه أيضا كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك , مما يدل على كمال هذه الشريعة وتتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة.
وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة , قَال: (نعم , لقد نهانا ألا نستقبل القبلة ببول أو غائط وألا نستنجي باليمين وألا نستنجي بأقل مِنْ ثلاثة أحجار) .
تقدم لنا حديث أبي أيوب , قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروهما ولكن شرقوا أو غربوا)). قَالَ أبو أيوب: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ) .
وأخذنا مِنْ هذا الحديث أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حالة التبول ونحوه , سواء في داخل البيوت أو خارجها ؛ حيث أن أبا أيوب فهم الأمر على الإطلاق فصار هو والصحابة إذا دخلوا تلك المراحيض وتلك المقاعد المبنية نحو الكعبة ينحرفون عنها ويخالفون ما بنيت عَلَيْهِ .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الاستدبار في داخل البيوت أو الاستقبال , واستدلوا بهذا الحديث عَن ابْنِ عُمَرَ حيث ذكر أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستدبر القبلة مستقبل الشام , يعني في المدينة القبلة في جهة الجنوب والشام في جهة الشمال , فهو يقضي حاجته على لبنات مستقبل الشام مستدبر القبلة , فجاء عَنْ بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط، أخذا بهذا الحديث .

وبعضهم قَالَ: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار وحملوا هذا الحديث على الخصوصية , أنه مِنْ خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبعضهم قَالَ: يحمل هذا على البنيان , ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء , فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل ولا تستدبر , وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك جمعا بين الأدلة .
ولكن الراجح مِنْ حيث الدليل، عموم الأدلة الموجهة إلى الأمة , وأن هذا الحديث يعتبر مِنْ خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما ورد غيره مِنَ الأحاديث ، ويمكن أن يكون هناك عذر ، أن يكون هناك عذر حيث أنه لو شرق أو غرب لكان مقابلا للمارة أو الناس , ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدبارا كليا بل يكون مائلا عنها يمنة أو يسرة.
فالحاصل أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة , فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت , وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو يعني مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلا ؛ حتى لايصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار .
ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة والتي هي جهة بيت الله الحرام , فيشرف وينزه عَن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة ، هذا هو الراجح مِنْ حيث الدليل تعميم النهي .

ومِن الأحاديث في هذا الباب حديث أنس الذي سمعنا في الاستنجاء ، ذكر أنه كان إذا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخلاء أو ذهب ليتخلى حمل إداوة مِنْ ماء وعنزة ليستنجي بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فقوله: (يدخل الخلاء), يعني: يذهب للتخلي ، للتبول ، أو للغائط ونحوه .
وقوله: (أحمل أنا وغلام نحوي) , أي: مثلي ومقارب لي في السن .
ذُكر أن هذا الغلام من الأنصار، يعني قريب منه في السن، يحمل هذا الإداوة مرة وهذا مرة , أو هذا يحمل الماء وهذا يحمل العنزة .
والإداوة: قدح يتخذ للشرب , يصنع مِنْ حجارة أو يصنع مِنْ خشب أو من صهر أو نحاس .
والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة محددة, حربة صغيرة , وقصده مِنَ العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب لوقع البول عَلَيْهِ حتى يأمن رشاشه , أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستنز به أو نحو ذلك .
.... ذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذهب إلى الخلاء تبعه غلام بماء ليستنجي به ويتبعه أحياناً بعنزة ليستتر بها , وقد فعل ذلك كثير من الصحابة معه , فتبعه ابن عباس بماء مرارا ً, وكذلك المغيرة بن شعبة , وكذلك أبو هريرة وغيرهم , وأحياناً لا يذكرون الماء وإنما يذكرون الحجارة , أنه يطلب منهم حجارة يستجمر بها , كما نقل ذلك ابن مسعود وأبو هريرة , وفي هذا دليل على الاكتفاء بالاستجمار ودليل على الاكتفاء بالاستنجاء أحياناً , والأفضل الجمع بينهما إذا تيسر .
الاستجمار: هو مسح آثار الغائط بالحجارة ونحوها ليزول الجرم جرم النجاسة .
والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان , فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء , وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح , والاستجمار قد يحصل أكثر ما يستعمل فيه الحجارة , ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة .
ومما يستعمل في هذه الأزمنة المناديل .. مناديل الأوراق ونحوها , فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة , إزالة جرم النجاسة وتنقية المكان , فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل , وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية , وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك .

الغسل هو أن يُصب الماء ويدلك باليد اليسرى ونحوه إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها ونحو ذلك .
هذا هو الاستنجاء , فالاستنجاء بالماء , والاستجمار بالأحجار .
وقد ورد الجمع بينهما في حديث في قصة أهل قبا الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} فسئلوا ما هذه الطهارة ؟ فأخبروا بأنهم يُتبعون الحجارة الماء، يعني: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها , فمدحوا بذلك وجعلت هذه هي الطهارة {يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}.
وحيث ثبت الاستنجاء في هذا الحديث .. في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه فإن أكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل , ولكن يقع أن كثيراً من الناس يبالغون في الغسل بالماء ويوسوس إليه أحدهم الشيطان أنه ما نظف المحل ولا يزال يغسل ويمضي عليه زمنا طويلا وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف .
قد ذكر العلماء أن أكثر ما قيل في الغسل سبع غسلات , ولكن الأولى أن يقال إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه , هذا هو الأصل أي يعود إلى ما كان عليه قبل إلى خشونته ولا حاجة إلى عدد , فقد ينظف بأقل من سبع , وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام .

وأما العنزة فذكروا أن حملها لأمرين:
الأمر الأول: أنه كان يحفرُ بها الأرض ؛ وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة إذا وقع البول عليها تطاير له رشاش فيتطاير على الثوب أو على الجسد فيحصل منه تنجيس , فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر , فيحفر الأرض الصلبة مثلاً أو يختار أرضاً رطبةً لينة رخوةً أو نحو ذلك , وإذا كان في أرض مبلطة أو نحوه يعني كما هو الحال في أكثر المراحيض ونحوه فإنه يحتاط , يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش , وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول , وبكل حال عليه أن يحتاط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا أو.. ((تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) , وسيأتينا حديث في ذلك , فبكل حال التنزه والتحفظ من النجاسة واجب حتى تقبل الصلاة وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته .
وأما القول الثاني: وهو أنه يتخذها سترة , فاستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس لحاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين , هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء , كان عليه الصلاة والسلام أولاً: يذهب بعيدا حتى يختفي عن أعين الناس, وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط مثلاً أو شيء شاخص أو نزل في مكان مطمئن من الأرض ليخفي شخصه ؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه , وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوبا حتى يستره عن أعين الناظرين , فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس .
وأما حديث أبي قتادة ففيه هذه المسائل:
المسألة الأولى: قوله: ((لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول))، والثانية: ((لا يتمسح من الخلاء بيمينه))، والثالثة: ((لا يتنفس في الإناء)) يعني: إناء الشرب .
في هذا تكريم اليد اليمنى , وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة , ويجعل شماله للأشياء المستقذرة , فيأكل بيمينه ويشرب بها ويأخذ بها ويعطي بها ويقدمها في الأشياء الفاضلة , فيقدمها في دخول المسجد وفي لبس النعل , ثبت عنه أنه قال:
((إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين , وإذا خلع فليبدأ بالشمال , ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع)) مما يدل على تفضيل اليمين , فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها , والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا}, {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه}، {وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة {وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين} .
كثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين ؛ لأنهم ذات اليمين أي ذهب بهم إلى اليمين , واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة , فلا جرم ميزت اليمين وفضلت ؛ فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره حالة بوله بيمينه تنزيهاً لها .
ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليد اليسرى ؛ لأن الإنسان قد يحتاج أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول , فإذن يمسكه -إذا كان ولابد- باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى , كذلك لا يستنجي باليد اليمنى ؛ لأن الاستنجاء مباشرة للنجاسة باليد .
الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط . وهو يحتاج إلى دلك . والدلك يكون باليد , فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة ولا تباشر الفرج , لا يمس فرجه بيده اليمنى , ويتولى ذلك باليد اليسرى , فيصب بيده اليمنى ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظِّف أثر النجاسة , ثم بعد ذلك يغسل يديه أو يغسل يده مما تلوثت أو مما علق بها , وكل ذلك كما عرفنا لأجل تكريم اليد اليمنى .
وقد ذكرت عائشة أن يسار النبي صلى الله عليه وسلم كانت للاستنجاء وللاستجمار وللتمخط ولنحو ذلك من الأشياء المستقذرة , يعني أنه يتولى إزالة المخاط وإزالة أثر يعني.. الاستجمار.. يمسك الأحجار التي يستجمر بها بيده اليسرى , ويغسل إذا غسل النجاسة على أحد الفرجين غسلها بيده اليسرى , وهكذا .
واختلفوا في إمساك السواك , إذا أراد أن يستاك هل يمسكه بيده اليمنى ؛ لأن ذلك تنظيف مثلاً , عمل مبرور ؟ أو يمسكه باليد اليسرى ؛ لأن ذلك إزالة قذر وإزالة وسخ في الأسنان ؟

ويختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليد اليسرى ؛ وذلك أنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم ومما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك , كذلك إذا خلل ما بين أسنانه يتخلل باليد اليسرى .
ولعل ذلك كله من باب تكريم اليمنى حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة أو مستكرهة أو نحو ذلك .
وأما الخصلة الثالثة التي هي أمره بألا يتنفس في الإناء فالمراد الشرب , الإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه, ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يبقى بعضه فيناوله الآخرين ليشربوا منه , وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون , فقد يخرج مع نفسه إذا تنفس مثلاً من أنفه شيء من الأذى أو نحوه أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر ؛ فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو من أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره.

قيل: (يا رسول الله إنا لا نروى بنفس واحد) , يعني أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى , قال: ((فأبن القدح عن فمك)) يعني: إذا أردت التنفس فأبن يعني: أخر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس , يعني يشرب ثم يحتاج إلى تنفس فيبين القدح ثم يتنفس ثم يشرب مرة ثانية إلى ثلاثة مرات , وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب , روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعب عبا ؛ فإنه من الكباد)) يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة لم يأمن أن تنصب على كبده فتأثر فيه , وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد بها أمته إلى شيء ينفعهم في حياتهم وإن كان من الأمور العادية , فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب سواء كان هناك من يشربه أو لم يكن , حتى لو لم يكن هناك من هو بحاجة , لو كنت مثلاً ستهريق بقية الماء لو كان ذلك الماء قليلاً وأنت ستشربه كله ولا تبقي منه شيئاً، أنت منهي بهذا الحديث عن أن تتنفس حالة الشرب .
وأيضاً فقد ذكروا أن في هذا تشبه بالدواب , الدواب كالبقر ونحوه الذي إذا شرب يتنفس حالة الشرب , هذا التشبه به تشبه بحيوان بهيم , مستقذر طبعاً التشبه به ؛ فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات .
الشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام ومعروف في كل حالة من الحالات أنه أمر معتاد وضروري , فأرشد إليه وبين كيفيته التي يحبها الشرع والتي توافق الفطرة السليمة , والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره , مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر .


* * *
القارئ:
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير , أما أحدهما فكان لا يستتر من البول , وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرس في كل قبر واحدة , فقالوا: يارسول الله لما فعلت هذا ؟ قال: ((لعله يخفف عنهما مالم يببسا)) .
الشيخ:
هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة , دلالة الحديث على وجوب البعد عن النجاسة وعلى أن البول من جملة النجاسة .. من جملة النجاسات , أخبر في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرين وكأنهما جديدين ثم أوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان أو أسمعه شيئاً من عذابهما , فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً أي ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل تركه أو يسير في أعين الناس , يحتقر في أعين الكثير من الناس.
أحدهما: ذكر أنه لا يستنزه أو لا يستبرئ من البول أي: لا يبالي ما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه .
والثاني : يمشي بالنميمة .
وفعل ما فعله من جعله هذه الجريدة أو غرسه في كل قبر نصف ذلك السعف أو تلك الجريدة ليخفف عنهما مالم ييبسا .
فأولاً: نعرف أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام ولم يكن لأحدٍ غيره , يعني: لم يطلع أحد على عذاب هذه القبور إلا من أطلعه الله , والاطلاع لابد أن يكون بوحي .
ثانيا: نعرف أنه ما فعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين: التحذير من التهاون بالبول والتحذير من السعي بالنميمة , وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما , أن العابد يعذب بتهاونه بهما في قبره.

وأما قوله: ((وما يعذبان في كبير)) فقد فهم بعض العماء أنها من صغائر الذنوب , ولكن ليس كذلك بل هما من الكبائر ,
وحينئذ فما معنى قوله: ((فما يعذبان في كبير))؟
ذكر العلماء أن معناه ليس ذلك شيء صعب عليهم تداركه , أو ليس كبيراً في أعين الناس , بل الناس يتساهلون به ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها , وأنه وإن كان ذنباً ولكن هو من صغائر الذنوب . ولكن وصل إلى أنه يعذب عليه في القبر , فالشيء الذي يعذب عليه في القبر ما يكون من الصغائر , ولهذا ورد في رواية قال: ((وما يعذبان في كبير)) , ثم قال: ((بلى)) أي: إنه لكبير ((بلى إنه لكبير)) , فدل على أنه ليس بكبير عند الناس ولكنه كبير عند الله , فلا يحتجّ بهذا على أنه ليس من الكبائر بل هو من كبائر الذنوب لماذا ؟
أولاً: عدم التنزه من البول , ورد في رواية: ((لا يستنزه من البول)) وفي رواية: ((لا يستتر من البول)) وفي رواية: ((لا يستبرئ من البول)) والمعنى واحد , المعنى: أنه لا يبالي أن يقع البول على ثيابه وعلى جسده ؛ فهو يقوم من غير استبراء, وربما يبول وهو يسير , وربما يقوم وهو يبول ونحو ذلك ؛ فيفسد بذلك بدنه وتفسد ثيابه ويتنجس , والنجس لا تقبل له عبادة ؛ لأن الله تعالى أمر بالطهارة في قوله: {فاطهروا}، {وإن كنتم جنباً فاطهروا} وأمر بتطهير الثياب: {وثيابك فطهر} ولا شك أن البول من جملة النجاسات .
وفي هذا الحديث أنه مما يعذب عليه , لماذا ؟
لأنه إذا تنجست ثيابه وصلى لم تقبل صلاته وهو يحمل النجاسة , وإذا لم تقبل صلاته ردت عليه هذه الصلاة , إذا بطلت صلاته فماذا معه ؟ ليس معه صلاة , والذي بطلت صلاته بطلت أعماله والعياذ بالله ؛ فإن الصلاة عمود الدين , فعرف بذلك أنه لأجل التنزه من البول ولأجل الاستبراء .
وقد ورد حديث آخر بلفظ:
((استنزهوا من البول ؛ فإن عامة عذاب القبر منه)) كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه ؛ لأنه ما يُتساهل أو يتهاون كثير من الناس به مع كونه يفسد العبادة , يفسد الصلاة , ويفسد القراءة مثلاً لمن يقرأ وهو محدث , ويُفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج وما أشبه ذلك .
فلذلك صار من كبائر الذنوب ......
فهذا الحديث يحث على التنزه من البول , وكيفية ذلك أن يتحفظ الإنسان ألا يصيب البول ثوبه أو بدنه , فعند التبول يتحرى مكاناً رخوا أو ليناً حتى يأمن من رشاش البول وتطاير قطرات على ثيابه أو على ساقه أو نحو ذلك ولا يتفطن لها , فيقع في فساد عباداته بذلك , وكذلك بعد التبول لا يقوم إلا بعدما يتأكد انقطاع أثر البول , فلا يقوم مثلاً وقد بقي شيء منه , فإن العادة أنه يتقاطر وهو يسير أو نحو ذلك .
ومن التنزه ألا يقوم إلا بعد الاستجمار بعد أن يمسح محل البول , أي يمسح الرجل مجرى البول كرأس الذكر , والمرأة تمسح مجرى البول ومخرجه حتى يتحقق أنه نظف ولم يبق فيه شيء , وإذا تيسر الاستنجاء وهو غسل محل البول بالماء أو غسل الفرج أو الفرجين كليهما بالماء حتى ينقطع فإن ذلك من أسباب الانقطاع انقطاع البول .
ولكن قد يصل بعض الناس قد يصل الأمر بهم إلى شيء من التوهم ومن الوسوسة , فكثير منهم يشتكي بأنه يحس بتقاطر أو بخروج كلما قام أو كلما انتهى من الاستنجاء ومشى أو نحو ذلك . فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء فإذا استنجى بغسل ذكره أُمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية .

وأما ما ذكره بعضهم .. أو ما ورد في حديث ضعيف: ((إذا بال أحدكم فلينتر ذكره)) فالنتر دليله لم يثبت, والصحيح أنه لاحاجة إلى النتر ولا إلى السلت أن يسلته مثلاً , ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول , ولا إلى قفزات كما يفعله بعضهم يقفز قفزات , ولا إلى نزلات ينزل مثلاً في منحدر , ولا إلى أن يعلق نفسه مثلا ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى.
كل ذلك يفعله الموسوسون لا حاجة إلى ذلك , ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع إن حلب در وإن ترك قر , فما دام يريد إخراجه فإنه يخرج , وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى , وذلك من تيسير الله على الإنسان , فلو كان مثلاً البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان حيث أنه دائماً و هو يمشي ويتحرك , ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد إخراجه .

فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات وثقوا بأن هذا ليس بشيء ما تحسونه , لكن إذا أحس.. أحس الإنسان بشيء متحقَق يعني أحس بخروج قطرات من ذكره أو من مجرى البول فإن ذلك يعتبر ناقضا , فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله .
وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما توهمات فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه , كثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات ويقول: إني أحس , ثم إذا فتش نفسه لم يجد شيئاً , إذا فتش عن ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها , أما إذا ابتلي والعياذ بالله بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه فإنه يعتبر معذورا , ولكن لا يتوضأ إلا بعدما يدخل الوقت , وعليه أن يتحفظ أن يجعل على رأسه أو فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة كقطن أو شاش أو نحو ذلك إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه , ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.


أما المسألة الثانية التي هي النميمة: النميمة معروف أنها: نقل الكلام من إنسان إلى آخر على وجه التحريش والإفساد , قال تعالى: {هماز مشاء بنميم}، والنمام: هو الذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا ليوقع الوحشة بين الناس , وليسبب التقاطع والتفرق بين هذا وهذا , ولا شك أنه مفسد وذنبه كبير , والعادة أنه يفعل ذلك إذا حسد إنساناً على أمر فإنه ينم فيه حتى يبغضه إلى أصحابه، ويقول: إنه يقول فيكم كذا وإنه يقول فيكم كذا , فتقع البغضاء وتقع المقاطعة وتقع الوحشة بين المسلمين بسبب هذا النمام .
وقد ورد وعيد شديد فيه , قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قتات)) القتات: هو النمام , ورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعه الواحدة ما لا يفسد الساحر في السنة , وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين وزيادة على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك .
ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم ما العاظة , هي النميمة القالة بين الناس)) فشبهه بالعاظة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر , فجلعه شبيها به لهذا السبب الذي هو النميمة .
النميمة على هذا من كبائر الذنوب ؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر , سببت أنه يعذب في القبر , وتتفاوت بحسب العمل الذي ترتب عليها , فالنمام الذي دائماً هذا ديدنه وهذه صياغته لا شك أن ذنبه كبير . وكذلك قد يكون ذنبه أصغر إذا لم يحصل مفسدة ولم يحصل إلا عمل يسير فيكون ذنبه أصغر . وعلى كل حال فهما من كبائر الذنوب , هذان الأمران .
أما كونه صلى الله عليه وسلم غرس هذه الجريدة في قبريهما وقال: ((لعله يخفف عنهما ما لم يببسا)) فقال بعضهم: إن ذلك لكون هذه الجريدة رطبة , والرطوبة فيها شيء من الخضرة , والخضرة قد تخفف الألم , قد يخضر بسببها القبر ويكون ذلك سبباً لتخفيف العذاب , وقيل: لأن الجريدة حالة خضرتها تسبح فتسبيحها قد يصل تأثيره إلى ذلك المدفون فيخفف عنه , هكذا قال بعضهم .
ولكن هل يجوز لنا أن نستعمل هذه الجريدة , أن نجعل في القبور جريدا ؟
لا يجوز ؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع سائر المقبورين مع كونه قد دفن بعض الناس وقد استغفر لبعضهم وقد صلى عليهم , ولو كان ذلك مشروعاً لفعله مع كل أحد , وكأنه خص هذين الاثنين بوحي من الله , يعني أوحى الله إليه أنه إذا غرس هذه الجريدة خفف عنهما , ولهذا قال:
((لعل)) . ولم يوحى إليه بغيرهما , وأيضاً فلم يفعل ذلك الصحابة ولو كان مشروعاً لشرعوا أن يضعوا في كل ما دفنوا إنسانا وضعوا في قبره جريدة خضراء , فلما لم يفعلوا ذلك عرف بذلك خصوصيته لهذين الأمرين فلا يشرع , والعبادات مبناها على التوقيف فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين .
وبكل حال يبتعد الإنسان عن أسباب عذاب القبر ؛ وذلك لأنه أول منازل الآخرة , القبر أول منازل الآخرة , حينما تخرج الروح من الجسد فالإنسان قد قامت قيامته , فإما أن يلقى عذابا وإما أن يلقى نعيماً .
وأسباب عذاب القبر كثيرة , منها هذان الأمران المذكوران في هذا الحديث , ولا شك أن من أسبابه الكفر مثلاً أو النفاق أو الأعمال السيئة أو سائر المعاصي وسائر الذنوب , كثيرة الذنوب التي تسبب عذاب القبر , كون الإنسان يعذب في قبره.

والمسلمون أهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره أو ينعم هذا في قبره , كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة , ولكن الكيفية محجوبة عنا , لو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث ولو لم نره , لو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا تنفي أنه يعذب أو ينعم أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه ؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة , و أهل الدنيا ليسوا بمطلعين على أمور الآخرة .


  #8  
قديم 15 رجب 1430هـ/7-07-2009م, 03:19 AM
أم مجاهد أم مجاهد غير متواجد حالياً
المستوى الأول - الدورة الأولى
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 137
افتراضي الشرح الصوتي لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله





موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, دخول

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:27 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir