حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
1: معنى الربّانيّ في قوله تعالى: {ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
اختلف المفسرون في معنى (الرباني) على أربعة أقوال :
القول الأول : هو الفقيه الحكيم العالم.
وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وأبي رزين ويحيى بن عقيل
قال ابن عبّاسٍ في الآية: هم الفقهاء المعلّمون.
رواه الطبري عن محمّد بن سعدٍ بسنده عن ابن عبّاسٍ.
ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن الفضل العسقلانيّ، عن عليّ بن الحسن المروزيّ، عن إبراهيم بن رستم عن قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عنه.
ولعل ابن عباس -رضي الله عنهما-أخذه من التربية، فالرباني هو الذي يربي الناس بالعلم، يربيهم به كما يربى الوالد ابنه.
كما إن الآية وصفت الربانيين بكونم معلمون للناس في قوله تعالى:{ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
قال المبرد: الرباني الذي يربُّ العلم ويَربُّ الناسَ به أي يعلمهم ويصلحهم.
وعلى هذا يكون الرباني من رب يرب رباً؛ أي يربيه فهو منسوب إلى التربية.
قال الجوهري : معنى الرباني في اللغة الرفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون)، وقوله: (كونوا ربانيين).
قال الأزهري في تهذيب اللغة: قيل للعلماء ربانيون، لأنهم يَرُبُّون العلم، أي يقومون به؛ ومنه الحديث: (ألك نعمة تَرُبُّها).
وقد قال ابن عباس : كونوا ربانيين: حلماء فقهاء، ويقال : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
رواه البخاري عند ترجمة ( باب العلم قبل القول والعمل).
قال أبو رزين في قوله تعالى كونوا ربانيين قال : حلماء علماء.
رواه عبدالرزاق الصنعاني عن معمر عن منصور بن المعتمر عنه.
ورواه سعيد بن منصور في سننه.
ولا تعارض مع ما سبق , فالحلم من اخص صفات المربي , لأن التربية هي التدرج بالمُربى في مصاعد الكمال , وهذا يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد , وهذا لا بد له من حلم وصبر.
وقد روي عن ابن الحنيفة أنه قال: لما مات ابن عباس مات رباني هذه الأمة.
القول الثاني : هو الحكيم التقي , وهذا القول يختلف عن الأول من جهة أن مناط الحكم على العالم بكونه ربانيا هو عمله بعلمه .
وهو قول سعيد بن جبير والحسن .
قال ابن جبير في قوله تعالى :"كونوا ربانيين"، قال: حكماء أتقياء.
رواه الطبري عن يحيى بن طلحة اليربوعي عن فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير.
قال عبّاد بن مصور: سألت الحسن عن قوله: ولكن كونوا ربّانيّين فقال :
كونوا أهل عبادةٍ، وأهل تقوى للّه.
رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن أحمد، عن موسى بن محكمٍ، عن أبي بكرٍ الحنفي عنه.
قال أبو جعفر النحاس : معنى الرباني: العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم.
قال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً في الرباني إذا أرادوا تخصيصاً بعلم الرب تبارك وتعالى، كما قالوا شعراني ولحياني.
قال الواحدي: فالرباني على قوله منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بعلم الرب؛ أي يعلم الشريعة وصفات الرب تبارك وتعالى.
قال الأصمعي والإسماعيلي: ( الرباني نسبة إلى الرب، أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل).
ومن كان كذلك فلا بد أن يكون عاملا بعلمه , فالتقوى هي فعل المأمور وترك المحظور.
لذا كان العلماء هم أشد الناس خشية لله كما قال تعالى :{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } , وأخشى الناس لله هم أتقى الناس بكل الأحوال , وقد ذم الله اعلالم الذي لم يعمل بعلمه فقال :{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} , بل ضرب له مثل السوء بقوله :{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
القول الثالث: هم ولاة الناس وقادتهم.
وهو قول ابن زيد حيث سمعه ابن وهب يقول في قوله تعالى :"كونوا ربانيين"، قال: الربانيون: الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم. وقرأ: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ﴾ ، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار العلماء.
رواه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب.
قال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار.
قال أبو جعفر النحاس : وهذا القول حسن لأن الأحبار هم العلماء والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر للسياسة مأخوذ من قول العرب رب أمر الناس يربه إذا أصلحه وقام به فهو راب ورباني على التكثير).
قال الأزهري في تهذيب اللغة : ويُسمَّى ابن المرأة: ربيب؛ لأنه يقوم بأمره ويملك عليه تدبيره، قال شمَّر: ويُقال لرئيس الملاحين: رَبَّانيٌّ....
قال أبو عبيدة : سمعت عالما يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون.
وتوجيه هذا القول بأن الله قد وصف الربانيين بالحكم بين الناس , وهذه من صفات ولاة الأمر , فقال : {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ.. } .وأيضا وصفهم بقيامهم بإصلاح الرعية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
ومعلوم بأن ولاة الأمور هم العلماء والأمراء , والعالم الرباني هو الذي يكون عالما بحال المسلمين من حوله ليعلم ما يصلحهم والمناسب لهم , فيرتب أولويات العلم بحسب حاجتهم , ويرشدهم في الملمات التي تلم بهم , فيكون معهم كنور المصباح الذي يرشد صاحبه في الظلمات , كما قال تعالى : {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} , فهو يمشي بنور من الله , ويتبعه الناس بما معه من نور وبصيرة ليقودهم في ظلمات الجهل والفتن.
القول الرابع : إن العرب لا تعرف هذه الكلمة , فهي ليست من لغتها .
قال أبو عبيدة : (وأحسب الكلمةَ ليست بعربية إنما هي عبْرانية أو سُريانية، وإنما عرفها الفقهاءُ وأهل العلم ) .
وهذا القول ضعيف لا يصح .
الراجح :
لا تعارض بين الأقوال السابقة-سوى الرابع- فأصل اشتقاق الكلمة واحد , سواء كان من الرب ، أو من التربية أو من الرب بمعنى الإصلاح والتعاهد , فجميعها معان يحملها كل من اتف بهذا الوصف .
فعلى هذا لا يكون المرء ربانيا إلا إذا كان :
- فقيها عالما حكيما .
- تقيا عاملا بعلمه .
- داعيا إليه بالحكمة ومصلحا للناس ولشؤونهم به.
فأصل المعنى اللغوي في جميع الأحوال يعود إلى الإصلاح والقيام بالشأن , إصلا النفس وإصلاح الغير .
وقد جاءت هذه المعاني مأمور بها في سورة العصر , قال تعالى :{وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
لذا قال ابو عمر الزاهد: سالت ثعلباً عن هذا الحرف؛ وهو الرَّباني فقال: سألت ابن الأعرابي فقال: "إذا كان الرجل عالماً عاملاً مُعلماً قيل له هذا ربَّانيّ، فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له ربَّانيّ".
وهذا ما رجحه الطبري فقال-وصدق رحمه الله- : وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها...
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم = وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل:"ولكن كونوا ربانيين".
ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"، لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم.