دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة البناء في التفسير > صفحات الدراسة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 26 شوال 1436هـ/11-08-2015م, 10:31 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كمال بناوي مشاهدة المشاركة
تلخيص الدرس الثالث من مقدمة التفسير
تعريف الحديث المرسل:-1

الحديث المرسل هو ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -الموقف من مراسيل الصحابة والتابعين:

قال ابن العثيمين رحمه الله : إن مراسيل الصحابة حجة , وأما مرسل التابعي فالتابعون يختلفون فمنهم من يقبل مرسله ومنهم من لا يقبل , فالذين تتبعوا وعرفوا أنهم لا يرسلون إلا عن صحابي مثل سعيد بن المسيب فإنه قد قيل إنه لا يرسل إلا عن أبي هريرة فيكون مرسله صحيح , والذين ليسوا على هذه الحال ينظر في المرسل نفسه إذا تعدد الطرق وتلقته الأمة بالقبول فإنه يكون صحيحاً.

3 - شروط قبول المراسيل

3 -1 تكون المراسيل مقبولة إذا كانت أخبارها صدقا:

ويكون ذلك بأمرين:

الأمر الأول :أن لايكون ناقل تلك الأخبار تعمد الكذب ، والكذب في الأخبار لا يكون إلا من الزنادقة والفاسقين أعداء الدين ، وأما الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان فلا يحصل منهم كذب على المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني:أن (ألا) يقع من ناقل هذه الأخبار خطأ أو سهو،وهذا وارد على مراسيل الصحابة والتابعين وتابعيهم.

3 -2 آلية التحقق من صدق أخبار المراسيل:

المراسيل إذا تعددت طرقها وليس فيها اتفاق أو مواطأة عليها فإنه يعلم بأنها صحيحة ، مثلاً لو أن رجلاً أخبرك بخبر عن واقعة وفصل ما فيها تفصيلاً كاملاً عن كل ما جرى فيها من قول وفعل وإن زدت فقل ومن حضور ثم جاء آخر وهذا الرجل ضعيف عندك ما تثق بخبره لكن جاءك رجل آخر حدثك بنفس الحديث وأنت تعلم أنه ما حصل بينه وبين الأول مواطأة ولا اتفاق , ثم جاء ثالث ورابع و هكذا , وإن كان هؤلاء كلهم ضعاف ولكن كون كل واحد منهم يذكر القصه على وجه مطابق للآخر مع طولها هذا يبعد أن يكون الخبر مختلقاً ، ويستبعد أن يكون غلطا كذلك ، لأنهم لا يمكن أن يغلطوا كلهم في قصة طويلة.

~ مثال 1 :قِصَّةُ المرأةِ التي حَبَسَتْ هِرَّةً، رواها ثلاثةٌ مِن الصحابةِ، كلٌّ منهم في جِهةٍ، فعُلِمَ بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَدَّثَ بها يَقيناً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن الصحابةِ ما أَخَذَها عن الآخَرِ.

~ مثال 2 : ثبتت غزوة بدر بالتواتر وأنها قبل أحد ، بل يعلم قطعاً أن حمزة وعلياً وعبيدة خرجوا إلى عتبة وشيبة والوليد وأن علياً قتل الوليد وأن حمزة قتل قرنه ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أم شيبة؟

4 -موقف أهل العلم من القصص التي في تفاصيلها أغلاط:

~ مثال 1 : اختلاف الرواة في الثمن الذي اشترى به النبي البعير من جابر ، فإن هذا الاختلاف لا يضر ، لأن أصل القصة ثابت من طرق متعددة ، ولذلك يرجع في ترجيح تفاصيل مثل هذه القصص إلى طرق أخرى.

~ مثال 2 : وكذلك اختلافهم في حديث طلالة بن عبيد في قيمة القلادة هل هي اثنى عشر ديناراً أو أقل أو أكثر ، هذا أيضاً لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف ليس في أصل القصة.

5 -موقف أهل العلم من الأحاديث التي أجمعت عليها الأمة:

إذا أجمعت الأمة على حديث ما ، وتلقته بالقبول فإنه يكون صحيحا ، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولذلك يجزم بصحة ما في صحيحي البخاري ومسلم . وإذا اتفقت الأمة كذلك على ظاهر حديث ما وكان يحتمل معنى باطنيا ، فإننا نجزم بصحة ما أجمعت الأمة عليه.

أحسنتم، بارك الله فيكم ونفع بكم
وهذه قائمة بعناصر الدرس نرجو أن تفيدكم:


المراسيل في التفسير
عناصر الدرس:
موضوع الدرس
● تمهيد:
- أكثر الأخبار المنقولة في التفسير ليست مرفوعة وإنما أغلبها موقوفا.
- ما كان من هذه الأخبار مرفوعا يكون مرسلا على الغالب
- مجيء الحديث والأسانيد على هذا النحو ليس موجبا لردّه.
- التعامل مع أسانيد التفسير ليس كالتعامل مع الأسانيد في الحديث
- يُقبل النقل إذا صدق فيه صاحبه.


شروط الحكم على صدق النقل
..1- انتفاء الكذب العمد
..2- انتفاء الخطأ

أولا: التحقق من انتفاء الكذب في النقل
..1- تعدد طرقه
. .2- خلوه من المواطأة والاتفاق
- غالب من يروون أسانيد التفسير لا يتعمّدون الكذب خاصة من الصحابة والتابعين وكثير من تابعي التابعين، لكن قد يعرض لهم الخطأ والنسيان.

ثانيا: التحقق من انتفاء الخطأ في النقل
- اتفاق الروايات في أصل الخبر يجزم بصدقه
- اختلاف الروايات في التفاصيل يُحتاج فيه إلى ترجيح بطرق أخرى مستقلة.
- مثال: قصة جمل جابر رضي الله عنه

● تعريف المرسل
● ضابط الحكم على صحة المرسل.
. .1- تعدد طرقه
. .2- خلوه من المواطأة والاتفاق
3- تلقّي العلماء له بالقبول

أمثلة للتعامل مع مرويات السلف في التفسير
هذه الطريقة تطبّق على المراسيل وعلى غيرها بل يستفاد منها في التاريخ والأدب وغير ذلك.
خلاصة الدرس.
تقييم التلخيص :
أولاً: الشمول (اشتمال التلخيص على مسائل الدرس) : 30 / 28
ثانياً: الترتيب (ترتيب المسائل ترتيبًا موضوعيًا) : 20 / 20
ثالثاً: التحرير العلمي (استيعاب الأقوال في المسألة وترتيبها وذكر أدلتها وعللها ومن قال بها) : 20 / 17
رابعاً: الصياغة (حسن صياغة المسائل وتجنب الأخطاء الإملائية واللغوية ومراعاة علامات الترقيم) : 15 /15
خامساً: العرض
(حسن تنسيق التلخيص وتنظيمه وتلوينه) : 15 / 15

= 95 %
وفقك الله

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 27 شوال 1436هـ/12-08-2015م, 08:51 PM
كمال بناوي كمال بناوي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2013
الدولة: ايطاليا
المشاركات: 2,169
افتراضي التلخيص الثاني من الرسائل التفسيرية

ملخص تفسير قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده لعلماء}:
1 - إثبات الخشية للعلماء

قال ابن رجب دلت الآية بالاتفاق على هذه المسألة لأن صيغة ''إنما'' تدل على ثبوت المذكور بالاتفاق وذلك للأسباب التالية:

1 -1 دلالة "إن" على التأكيد نفيا وإثباتا وكون "ما" زائدة كافة:

قال ابن رجب : خصوصية "إن" إفادة التأكيد ، والجمهور على أن "ما" هنا هي الكافة التي تدخل على إن وغيرها فتكفها عن العمل ، وكذلك قال جمهور النحاة على أنها زائدة كافة.

1 -2 مذهب الكوفيين وابن درستويه:

وهو أنّ "ما" مع إن وشبيهاتها اسمٌ مبهمٌ بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام ، وفي أنّ الجملة بعده مفسرةٌ له ، ومخبرٌ بها عنه.

1 -3 بطلان اعتبار "ما" هذه نافية :

وقد ذهب إلى هذا القول طائفة من الأصوليين وأهل البيان ، واستدلوا بذلك على إفادتها الحصر ، وأنّ "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه وهذا باطلٌ باتفاق أهل المعرفة باللسان.

وهذا القول باطل لأن:

_ "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا لا تفيد الإثبات.

_ "ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلة على سائر أخوات إنّ ، وليست في دخولها على هذه الحروف نافيةً بالاتفاق ، فكذلك الداخلة على إنّ.

1 -4 بطلان نسبة القول بأن "ما" هذه نافية لأبي علي الفارسي:

فقوله في "الشيرازيات ": إنّ العرب عاملوا "إنما" معاملة النفيّ و"إلا" في فصل الضمير ، لا يدل على أن "ما" نافيةٌ على ما لا يخفى وإنما مراده أنّهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلاّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفي ولم يصرّح بأنّ النفي مستفادٌ من "ما" وحدها.

1 -5 اعتبار ما بمعنى الذي:

وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبرٌ والعائد مستترٌ في يخشى ، و استدل لذلك بإطلاق "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء}.

2 - نفي الخشية عن غير أهل العلم:

قال ابن رجب وقد دلت الآية على نفي الخشية عن غير أهل العلم ، ويستفاد ذلك من صيغة "إنّما" أمّا على قول الجمهور وأنّ "ما" هي الكافة فيقول إذا دخلت "ما" الكافة على "إنّ " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وقد حكاه بعض العلماء عن جمهور الناس وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيلٍ، والحلواني وغيرهم.

2 -1 اختلاف أهل العلم في دلالة الآية على نفي الخشية عن غير العلماء:

1 -2-1 دلالتها على ذلك بالمنطوق:

قال ابن رجب : قال كثيرٌ من أصحابنا : إنّ دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء وهو قول أبي حامد ، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية.
2-1-2 دلالتها على ذلك بالمفهوم:

قال ابن رجب : ذهبت طائفةٌ من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيلٍ والحلواني ، إلى أنّ دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثيرٍ من الحنفية، والمتكلمين وقد انقسم أصحاب هذا القول إل قسمين:

القسم الأول : من لا يرى كون المفهوم حجّةً بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين.

القسم الثاني : من يراه حجةً من الجملة، ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنّه لا مفهوم لها ، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا ، وغيرهم ، وبيان ذلك أنّ "إنّما" مركبةٌ من "إنّ " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إنّ " والزائد لا معنى له.

2 -1 -3 بطلان قول من أثبت الخشية لغير العلماء:

استدل أصحاب هذا القول بورود "إنما" لغير الحصر في مواطن كثيرة من القرآن والسنة :

_ مثال 1 : {قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}.

فإنّه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده.

ويجاب عليه بأن المراد به أنه لم يوح إليّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك.

_ مثال 2 : قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ". فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" فلو كانت "إنّما" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته سوى القرآن آياتٍ له تدلّ على صدقه لاعترافه بنفي ذلك وهذا باطلٌ قطعًا فدلّ على أنّ "إنما" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام وشبهه.

ويجاب على هذا كون الحديث سيق لبيان آيات الأنبياء العظام الذي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلومٌ أن أعظم آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثر أمّته هي الوحي وهو الذي كان يدعو به الخلق كلّهم، ومن أسلم في حياته خوفًا فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرهم، فالنفي توجه إلى أنه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح وعصا موسى ويده وإبراء المسيح الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإنّ هذه أعظم آيات الأنبياء قبله وبها آمن البشر لهم.

وأمّا آيته هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي التي أوحي إليه وهي التي توجب إيمان البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

ولهذا قيل: إنّ آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآياته - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يوم القيامة،سيق لبيان آيات الأنبياء العظام الذي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلومٌ أن أعظم آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثر أمّته هي الوحي وهو الذي كان يدعو به الخلق كلّهم، ومن أسلم في حياته خوفًا فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرهم، فالنفي توجه إلى أنه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح وعصا موسى ويده وإبراء المسيح الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإنّ هذه أعظم آيات الأنبياء قبله وبها آمن البشر لهم.

وأمّا آيته هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي التي أوحي إليه وهي التي توجب إيمان البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

ولهذا قيل: إنّ آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآياته - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يوم القيامة.

_ وأما قولهم إنّ "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه:

أحدها : أنّ "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنىً زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:

فالآن صرت لا تحيد جوابًا ....... بما قد يرى وأنت حطيب.

_ والثاني: أن يقال: لا ريب أنّ "إنّ " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوّي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنىً آخر مغايرًا له وهو الحصر المدّعى ثبوته بدخول "ما".

_ الوجه الثالث: أنّ "إن" المكفوفة "بما" استعملت في الحصر فصارت حقيقةً عرفيّةً فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع.

وخلاصة القول الحصر تارةً يكون عامًا كقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو} ، ونحو ذلك ، وتارةً يكون خاصًّا بما يدل عليه سياق الكلام فليس الحصر أن ينفي عن الأوّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنه ثابتٌ له من ذلك النوع الذي أثبت له في الكلام.

3 - نفي العلم عن غير أهل الخشية:

وأما الدليل على ذلك فمن جهة الحصر أيضا فإنّ الحصر المعروف المطرد فهو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العلماء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - وأنه قد يكون مرادًا أيضًا فيصير الحصر من الطرفين ويكونان متلازمين.

_ مثال 1 : قوله تعالى: {إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب} فيه الحصر من الطرفين، فإن اقتضى أن إنذاره مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فإن هذا هو المختصّ بقبول الإنذار، والانتفاع به فلذلك نفى الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأنّ الإنذار إنما هو للعاقل له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره أي من قبل إنذاره وانتفع به فإنّ اتباع الذكر، وخشية الرحمن بالغيب مختصة بمن قبل الإنذار كما يختص قبول الإنذار والانتفاع بأهل الخشية واتباع الذكر.

_ مثال 2 : قوله تعالى: إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا} الآية ، فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية، كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار، والذين خرّوا سجدًا في أهل الإيمان ونحو ذلك.

3 -1 هل ثبوت الخشية لجنس العلماء أو لكل فرد من العلماء?

قال ابن رجب القول الثاني هو الصحيح وذلك من وجهين:

_ الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني وحصر الثاني في الأول، كما تقدّم بيانه، فحصر الخشية في العلماء يفيد أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالمٌ وإن لم يفد لمجرده أنّ كلّ عالم فهو يخشى اللّه وتفيد أنّ من لا يخشى فليس بعالم، وحصر العلماء في أهل الخشية يفيد أنّ كلّ عالم فهو خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكلّ فردٍ من أفراد العلماء.

_ والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضٍ للمحصور فيه أو هو شرطٌ له؟

قال الشيخ أبو العباس - رحمه اللّه -: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضٍ فهو عامٌّ فإنّ العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، ومراده بالمقتضي – العلة المقتضية.
3-2 تفاسير السلف للآية:

_ وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا".

_ عن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ".

_ وعن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ".

_ وعن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا وكفى بالاغترار باللّه جهلاً".

_ وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيّ في هذه الآية: "العلماء باللّه الذين يخافونه ".

_ وعن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ.

ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك، والحكمة والإيمان بك وما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك.

_ وعن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ".

_ وروى الدارميّ من طريق عكرمة عن ابن عباسٍ: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} قال: "من خشي اللّه فهو عالمٌ ".

وكذلك قال كثير غيرهم.

3 -3 أمور تبين أن العلم والخشية متلازمان:

_ إحداها:

أن العلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية.

_ الوجه الثاني:

أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلكومما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّه واطّلاعه، ومشاهدته، ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين، كلّ هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشرّ.

_ الوجه الثالث:

أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أنًّ تصوره لذلك ليس تامًّا.

_ الوجه الرابع:

أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه له وتفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.

_ الوجه الخامس:

أنّ كل ما علم علمًا تامًّا جازمًا بانّ فعل شيئًا يضرّه ضررًا راجحًا لم يفعله، فإنّ هذا خاصة العاقل، فإنّ نفسه تنصرف عمّا يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإنّ اللّه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.

_ الوجه السادس:

وهو أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد ألبتة فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك ، ومن هاهنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها.

_ الوجه السابع:

وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجى أن يتخلص من تبعته بسببٍ من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 27 شوال 1436هـ/12-08-2015م, 09:13 PM
كمال بناوي كمال بناوي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2013
الدولة: ايطاليا
المشاركات: 2,169
افتراضي استدراك للتلخيص الثاني من الرسائل التفسيرية

ملخص تفسير قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده لعلماء}:
1 - إثبات الخشية للعلماء

قال ابن رجب دلت الآية بالاتفاق على هذه المسألة لأن صيغة ''إنما'' تدل على ثبوت المذكور بالاتفاق وذلك للأسباب التالية:

1 -1 دلالة "إن" على التأكيد نفيا وإثباتا وكون "ما" زائدة كافة:

قال ابن رجب : خصوصية "إن" إفادة التأكيد ، والجمهور على أن "ما" هنا هي الكافة التي تدخل على إن وغيرها فتكفها عن العمل ، وكذلك قال جمهور النحاة على أنها زائدة كافة.

1 -2 مذهب الكوفيين وابن درستويه:

وهو أنّ "ما" مع إن وشبيهاتها اسمٌ مبهمٌ بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام ، وفي أنّ الجملة بعده مفسرةٌ له ، ومخبرٌ بها عنه.

1 -3 بطلان اعتبار "ما" هذه نافية :

وقد ذهب إلى هذا القول طائفة من الأصوليين وأهل البيان ، واستدلوا بذلك على إفادتها الحصر ، وأنّ "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه وهذا باطلٌ باتفاق أهل المعرفة باللسان.

وهذا القول باطل لأن:

_ "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا لا تفيد الإثبات.

_ "ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلة على سائر أخوات إنّ ، وليست في دخولها على هذه الحروف نافيةً بالاتفاق ، فكذلك الداخلة على إنّ.

1 -4 بطلان نسبة القول بأن "ما" هذه نافية لأبي علي الفارسي:

فقوله في "الشيرازيات ": إنّ العرب عاملوا "إنما" معاملة النفيّ و"إلا" في فصل الضمير ، لا يدل على أن "ما" نافيةٌ على ما لا يخفى وإنما مراده أنّهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلاّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفي ولم يصرّح بأنّ النفي مستفادٌ من "ما" وحدها.

1 -5 اعتبار ما بمعنى الذي:

وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبرٌ والعائد مستترٌ في يخشى ، و استدل لذلك بإطلاق "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء}.

2 - نفي الخشية عن غير أهل العلم:

قال ابن رجب وقد دلت الآية على نفي الخشية عن غير أهل العلم ، ويستفاد ذلك من صيغة "إنّما" أمّا على قول الجمهور وأنّ "ما" هي الكافة فيقول إذا دخلت "ما" الكافة على "إنّ " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وقد حكاه بعض العلماء عن جمهور الناس وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيلٍ، والحلواني وغيرهم.

2 -1 اختلاف أهل العلم في طرق دلالة الآية على نفي الخشية عن غير العلماء:

1 -2-1 دلالتها على ذلك بالمنطوق:

قال ابن رجب : قال كثيرٌ من أصحابنا : إنّ دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء وهو قول أبي حامد ، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية.
2-1-2 دلالتها على ذلك بالمفهوم:

قال ابن رجب : ذهبت طائفةٌ من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيلٍ والحلواني ، إلى أنّ دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثيرٍ من الحنفية، والمتكلمين وقد انقسم أصحاب هذا القول إل قسمين:

القسم الأول : من لا يرى كون المفهوم حجّةً بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين.

القسم الثاني : من يراه حجةً من الجملة، ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنّه لا مفهوم لها ، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا ، وغيرهم ، وبيان ذلك أنّ "إنّما" مركبةٌ من "إنّ " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إنّ " والزائد لا معنى له.

2 -1 -3 بطلان قول من أثبت الخشية لغير العلماء:

استدل أصحاب هذا القول بورود "إنما" لغير الحصر في مواطن كثيرة من القرآن والسنة :

_ مثال 1 : {قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}.

فإنّه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده.

ويجاب عليه بأن المراد به أنه لم يوح إليّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك.

_ مثال 2 : قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ". فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" فلو كانت "إنّما" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته سوى القرآن آياتٍ له تدلّ على صدقه لاعترافه بنفي ذلك وهذا باطلٌ قطعًا فدلّ على أنّ "إنما" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام وشبهه.

ويجاب على هذا كون الحديث سيق لبيان آيات الأنبياء العظام الذي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلومٌ أن أعظم آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثر أمّته هي الوحي وهو الذي كان يدعو به الخلق كلّهم، ومن أسلم في حياته خوفًا فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرهم، فالنفي توجه إلى أنه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح وعصا موسى ويده وإبراء المسيح الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإنّ هذه أعظم آيات الأنبياء قبله وبها آمن البشر لهم.

وأمّا آيته هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي التي أوحي إليه وهي التي توجب إيمان البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

ولهذا قيل: إنّ آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآياته - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يوم القيامة

_ وأما قولهم إنّ "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه:

أحدها : أنّ "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنىً زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:

فالآن صرت لا تحيد جوابًا ....... بما قد يرى وأنت حطيب.

_ والثاني: أن يقال: لا ريب أنّ "إنّ " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوّي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنىً آخر مغايرًا له وهو الحصر المدّعى ثبوته بدخول "ما".

_ الوجه الثالث: أنّ "إن" المكفوفة "بما" استعملت في الحصر فصارت حقيقةً عرفيّةً فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع.

وخلاصة القول الحصر تارةً يكون عامًا كقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو} ، ونحو ذلك ، وتارةً يكون خاصًّا بما يدل عليه سياق الكلام فليس الحصر أن ينفي عن الأوّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنه ثابتٌ له من ذلك النوع الذي أثبت له في الكلام.

3 - نفي العلم عن غير أهل الخشية:

وأما الدليل على ذلك فمن جهة الحصر أيضا فإنّ الحصر المعروف المطرد فهو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العلماء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - وأنه قد يكون مرادًا أيضًا فيصير الحصر من الطرفين ويكونان متلازمين.

_ مثال 1 : قوله تعالى: {إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب} فيه الحصر من الطرفين، فإن اقتضى أن إنذاره مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فإن هذا هو المختصّ بقبول الإنذار، والانتفاع به فلذلك نفى الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأنّ الإنذار إنما هو للعاقل له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره أي من قبل إنذاره وانتفع به فإنّ اتباع الذكر، وخشية الرحمن بالغيب مختصة بمن قبل الإنذار كما يختص قبول الإنذار والانتفاع بأهل الخشية واتباع الذكر.

_ مثال 2 : قوله تعالى: إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا} الآية ، فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية، كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار، والذين خرّوا سجدًا في أهل الإيمان ونحو ذلك.

3 -1 هل ثبوت الخشية لجنس العلماء أو لكل فرد من العلماء?

قال ابن رجب القول الثاني هو الصحيح وذلك من وجهين:

_ الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني وحصر الثاني في الأول، كما تقدّم بيانه، فحصر الخشية في العلماء يفيد أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالمٌ وإن لم يفد لمجرده أنّ كلّ عالم فهو يخشى اللّه وتفيد أنّ من لا يخشى فليس بعالم، وحصر العلماء في أهل الخشية يفيد أنّ كلّ عالم فهو خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكلّ فردٍ من أفراد العلماء.

_ والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضٍ للمحصور فيه أو هو شرطٌ له؟

قال الشيخ أبو العباس - رحمه اللّه -: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضٍ فهو عامٌّ فإنّ العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، ومراده بالمقتضي – العلة المقتضية.
3-2 تفاسير السلف للآية:

_ وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا".

_ عن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ".

_ وعن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ".

_ وعن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا وكفى بالاغترار باللّه جهلاً".

_ وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيّ في هذه الآية: "العلماء باللّه الذين يخافونه ".

_ وعن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ.

ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك، والحكمة والإيمان بك وما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك.

_ وعن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ".

_ وروى الدارميّ من طريق عكرمة عن ابن عباسٍ: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} قال: "من خشي اللّه فهو عالمٌ ".

وكذلك قال كثير غيرهم.

3 -3 أمور تبين أن العلم والخشية متلازمان:

_ إحداها:

أن العلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية.

_ الوجه الثاني:

أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلكومما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّه واطّلاعه، ومشاهدته، ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين، كلّ هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشرّ.

_ الوجه الثالث:

أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أنًّ تصوره لذلك ليس تامًّا.

_ الوجه الرابع:

أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه له وتفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.

_ الوجه الخامس:

أنّ كل ما علم علمًا تامًّا جازمًا بانّ فعل شيئًا يضرّه ضررًا راجحًا لم يفعله، فإنّ هذا خاصة العاقل، فإنّ نفسه تنصرف عمّا يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإنّ اللّه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.

_ الوجه السادس:

وهو أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد ألبتة فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك ، ومن هاهنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها.

_ الوجه السابع:

وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجى أن يتخلص من تبعته بسببٍ من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 28 شوال 1436هـ/13-08-2015م, 09:25 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كمال بناوي مشاهدة المشاركة
التلخيص الرابع من مقدمة التفسير

الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال:
١-زمن وقوع هذا الخلاف:
٢-الجهات التي وقع منها هذا الخلاف:

٢-١الجهة الأولى:
الصنف الأول:
الصنف الثاني:

٢-١-١ الخطأ الواقع في الدليل والمدلول من هذا الأصناف:
٢-١-١ الخطأ الواقع في الدليل لا في المدلول:

٢-٢ الجهة الثانية:




١-زمن وقوع هذا الخلاف:
حدث بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شيء من هذا الخلاف.
٢-الجهات التي وقع منها هذا الخلاف:
٢-١الجهة الأولى:
قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، تجد الرجل يعتنق مذهبا معيناً ثم يحاول أن يصرف معاني النصوص إلى ذلك المعنى المعين الذي كان يعتقده سواء في أسماء الله وصفاته أو في التوحيد أو ما أشبه ذلك.
وأصحاب هذه الجهة صنفان:
الصنف الأول: يسلبون لفظ القرآن مادل عليه وأريد به.
مثال:قولُه تعالى: {وُجوهٌ يومَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّهَا ناظِرَةٌ} فمدلولُ هذه الآيةِ أنَّ اللَّهَ تعالى يُـرى يومَ القيامةِ، لكنَّ المعتزلةَ – وتَبِعَهم على ذلك الرافضةُ والزَّيْديَّةُ – إذا جاءوا إلى هذهِ الآيةِ يسلُبُون المعنى الذي دلَّ عليه القرآنُ، فيَنفون الرُّؤْيةَ، ويُحرِّفُون معنى الآيةِ {إلى رَبِّهَا ناظِرَةٌ} من معنى النظَرِ بالعَيْنِ إلى معنًى آخَرَ؛ إلى النظَرِ بمعنى الانتظارِ، مع أنَّ مادَّةَ (نَظَر) إذا عُدِّيَتْ بـ (إلى) لا تكونُ بمعنى الانتظارِ في اللغةِ العربيةِ، وإنما تكونُ بمعنى النظَرِ بالعَينِ.
الصنف الثاني: يحمِلُون اللفظَ على ما لم يدلَّ عليه ولم يُرَدْ به
مثال: قولُه تعالى: {لَنْ تَرَانِي} فهم يَحمِلُونه على ما لم يدلَّ عليه مِن نفيِ الرُّؤْيةِ في القيامةِ، مع أنَّ اللفظَ لا يدلُّ على ذلك.
فتلاحِظُ أنهم في الآيةِ الأولى التي تدلُّ على إثباتِ الرُّؤيةِ سَلبُوها معناها وما دلَّتْ عليه وأُريدَ بها، وفي الآيةِ الثانيةِ التي لا تدلُّ على نفيِ
الرُّؤيةِ حَملُوها على ما لم يُرَدْ بها ولم تدلَّ عليه في نفيِ الرُّؤْية.ِ
وقد يكون خطأ هذين الصنفين في:
٢-١-١ الدليل والمدلول:
فخطَؤُهم في المثالَيْن السَّابِقَين في الدليلِ , وهو (لَنْ تَرانِي)؛ لأنها لا تدلُّ على نفيِ الرُّؤْيةِ، وفي المدلولِ , وهو قولُهم: إنَّ (لن) للتأبِيدِ، وكذلك (إلى رَبِّها نَاظِرَةٌ) فسَّروا النظَرَ هنا بالانتظارِ، وهذا خطأٌ في الدليلِ والمدلولِ؛ لأنَّ الآيةَ لا تدلُّ على الانتظارِ، وإنما تدلُّ على النظَرِ إلى اللَّهِ تعالى.
٢-١-٢ في الدليل لا في المدلول:
يكونُ خطؤُهم في الدليلِ لا في المدلولِ " يعني أن ما فسَّروا به الآيةَ قد يكونُ حقًّا في ذاتِه، لكنَّ خطَأَهم في الدليلِ وهو كونُ الآيةِ دلَّتْ عليه، لا في المدلولِ الذي هو ذاتُ الكلامِ.
مثالُ ذلك: قولُه تعالى: {إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} فسَّرَه بعضُ المتصوِّفَةِ بقولِه: هذا مَثلٌ ضربَه اللَّهُ للدُّنيا، ثم قسَّمَ الناسَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: فالهالِكُون في الدنيا هم الذين شَرِبُوا من النَّهَرِ، والذين خَلَطُوا عملًا صالحًا وآخَرَ سيِّئًا هم الذين غَرَفُوا غُرْفةً بأيديهم، والمتَّقُون الأبرارُ هم الذين لم يَشرَبُوا منه.
فهذا الكلامُ في حدِّ ذاتِه صحيحٌ، لكنَّ الخطأَ في الدليلِ؛ أي: إنَّ الآيةَ لا تدلُّ على هذا.
٢-٢ الجهة الثانية:
قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغه أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به،أي أنهم لم ينظروا إلى أسبابِ النزولِ، ولا إلى سِياقِ الكلامِ، ولا إلى دَلالةِ النصوصِ، ولا إلى تفاسيرِ السلَفِ، (ثم هؤلاءِ كثيرًا ما يَغْلَطُونَ في احتمالِ اللفظِ لذلك المعنى في اللغةِ)، فيَحْمِلونَ الكلامَ على مَحامِلَ بعيدةٍ، ويقولونَ: إنَّ اللغةَ تَحْتَمِلُ ذلك.
فإذاً الصحابة حين يفسرون لا يفسرون بمجرد اللفظ بدلالة اللفظ فقط بل يفسرون بدلالة اللفظ مع العلم الذي معهم عن المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به، ولهذا تجد أن تفاسيرهم في الغالب لا يكون فيها اختلاف أعني اختلاف تضاد بل هي متفقة لأنهم يراعون ذلك الأصل.
أما كثير من المتأخرين فوسعوا الأمر وفسروا بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، وقد أخطؤوا وذلك إما :
—لعدم مراعاة معنى اللفظ في القرآن، القرآن العظيم ترد فيه بعض الألفاظ في أكثر القرآن أو في كله على معنى واحد هذا يكون بالاستقراء فتحمل الآية التي فيها اللفظ على معهود القرآن لا يحتمل على احتمالات بعيدة
مثال١: الخير في القرآن يقول العلماء الأصل فيه أنه المال {وإنه لحب الخير لشديد } يعني لحب المال.
وقال: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} يعني طريقاً لتحصيل المال، وهكذا فإذا أتى في آية استعمال لفظ الخير فأول ما يتبادر للذهن أن المراد بالخير المال فإذا لم يناسب للسياق صرف إلى المعنى الآخر هذا يسمى المعهود معهود استعمال القرآن.
مثال ٢: (الزينة) الزينة في القرآن أخص من الزينة في لغة العرب، لغة العرب فيها أن الزينة كل ما يتزين به وقد يكون من الذات وقد لا يكون من الذات يعني إذا تزين المرء بالأخلاق سمي متزيناً لكن في القرآن الزينة أطلقت واستعملت في أحد المعنيين دون الآخر ألا هو الزينة الخارجة عن الذات التي جلبت لها الزينة لهذا قال جل وعلا: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} فإذاً الزينة ليست من ذات الأرض وإنما هي مجلوبةٌ إلى الأرض: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الزينة خارجة عن ذات ابن آدم فهي شيء مجلوب ليتزين به {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} زينها – جل وعلا – بزينة هذه الزينة من ذاتها أو خارجة عنها؟ قال: {زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } فالكواكب هي خارجة عن ذات السماء وهي في السماء فجعلها الله – جل وعلا- زينة لخروج.
فإذا أتت آية مشكلة مثل آية النور في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} يأتي لفظ الزينة هنا هل يحمل على كل المعهود في اللغة؟ أو يحمل على المعهود في القرآن؟
لاشك أن الأولى كما قال شيخ الإسلام في تأصيله أن يراعى معهود المتكلم به، والمخاطب، والمخاطبين والحال فهنا في أحد هذه فالقرآن فيه أن الزينة خارجةٌ عن الذات شيء مجلوب إلى الذات فإذا أتى أحد وقال: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} أن ما ظهر من الزينة هو الوجه هذا فسر الزينة بأنه شيء في الذات، وهذا معناه أنه فسرها بشيء غير معهود في استعمال القرآن للفظ الزينة لهذا كان الصحيح التفسير المشهور عن الصحابة عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن الزينة هي القُرط مثلاً والكحل واللباس ونحو ذلك، {لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} فإذاً لا تبدي الزينة لكن ما ظهر منها ما ظهر من الزينة ما ظهر من الشيء المجلوب للتزين به فلا حرج على المرأة في ذلك.
فإذاً لا يفسر الزينة هنا بأنها الوجه، لماذا؟
لأن تفسير الزينة بأنها الوجه تفسير للزينة بشي في الذات وهذا مخالف لما هو معهود من معنى الزينة في القرآن وهذا له أمثلة كثيرة نكتفي بما مر.
—لعدم مراعاة حال المخاطبين تفسر الآية باحتمال لغوي لكن هذا الاحتمال ليس بواردٍ على حال المخاطبين.
مثال: في قـولـه تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فيأتي من يأتي من المفسرين بالرأي فيجعلون سؤالهم عن الأهلة سؤالاً فلكياً معقداً، وهم إنما سألوا عن الهلال لم يبدو في أول الشهر صغيراً ثم يكبر ثم يكبر؟ وكان سؤالاً بسيطاً؛ لأن هذا حال العرب لم يكن عندهم من علم الفلك العلم المعقد إنما سألوا عن أمر ظاهر بين فتفسيـر سؤالهم بأنه سؤال عن أمرٍ فلكي معقد هذا لم يرع فيه حال أولئك وإنما فسر بغرائب الأهلة: {يسألونك عن الأهلة} فيأتـي المفسر مثل الرازي وغيره يأتون ينطلقون في الأحوال الفلكية في ذلك، هذا ليس من المعهود ولا من المعروف في حال الذين سألوا ولا حال العرب الذين نزل القرآن ليخاطبهم أول الأمر.
أحسنتم بارك الله فيكم ونفع بكم.
فاتتكم بعض المسائل مثل الكلام على مميزات تفاسير الصحابة والتابعين، وحكم التفسير بالرأي عموما، وحكم هذه الأنواع المذكورة في الدرس.
ونلاحظ اعتمادكم على النسخ الحرفي لكلام الشرّاح في بعض المسائل، والواجب أن يلخص الطالب بنفسه كلام الشارح.


تقييم التلخيص :
أولاً: الشمول (اشتمال التلخيص على مسائل الدرس) : 30 / 27
ثانياً: الترتيب (ترتيب المسائل ترتيبًا موضوعيًا) : 20 / 20
ثالثاً: التحرير العلمي (استيعاب الأقوال في المسألة وترتيبها وذكر أدلتها وعللها ومن قال بها) : 20 / 17
رابعاً: الصياغة (حسن صياغة المسائل وتجنب الأخطاء الإملائية واللغوية ومراعاة علامات الترقيم) : 15 /15
خامساً: العرض
(حسن تنسيق التلخيص وتنظيمه وتلوينه) : 15 / 15

= 94 %
وفقك الله

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 28 شوال 1436هـ/13-08-2015م, 01:11 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كمال بناوي مشاهدة المشاركة
ملخص تفسير قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده لعلماء}:
أين قائمة العناصر أولا أحسن الله إليكم؟

1 - إثبات الخشية للعلماء

قال ابن رجب دلت الآية بالاتفاق على هذه المسألة لأن صيغة ''إنما'' تدل على ثبوت المذكور بالاتفاق وذلك للأسباب التالية:

1 -1 دلالة "إن" على التأكيد نفيا وإثباتا وكون "ما" زائدة كافة:

قال ابن رجب : خصوصية "إن" إفادة التأكيد ، والجمهور على أن "ما" هنا هي الكافة التي تدخل على إن وغيرها فتكفها عن العمل ، وكذلك قال جمهور النحاة على أنها زائدة كافة. يمكنكم الاقتصار على قول الجمهور هنا، وتؤخر مناقشة الخلافات في المسألة ضمن المسائل اللغوية.

1 -2 مذهب الكوفيين وابن درستويه:

وهو أنّ "ما" مع إن وشبيهاتها اسمٌ مبهمٌ بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام ، وفي أنّ الجملة بعده مفسرةٌ له ، ومخبرٌ بها عنه.

1 -3 بطلان اعتبار "ما" هذه نافية :

وقد ذهب إلى هذا القول طائفة من الأصوليين وأهل البيان ، واستدلوا بذلك على إفادتها الحصر ، وأنّ "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه وهذا باطلٌ باتفاق أهل المعرفة باللسان.

وهذا القول باطل لأن:

_ "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا لا تفيد الإثبات.

_ "ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلة على سائر أخوات إنّ ، وليست في دخولها على هذه الحروف نافيةً بالاتفاق ، فكذلك الداخلة على إنّ.

1 -4 بطلان نسبة القول بأن "ما" هذه نافية لأبي علي الفارسي:

فقوله في "الشيرازيات ": إنّ العرب عاملوا "إنما" معاملة النفيّ و"إلا" في فصل الضمير ، لا يدل على أن "ما" نافيةٌ على ما لا يخفى وإنما مراده أنّهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلاّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفي ولم يصرّح بأنّ النفي مستفادٌ من "ما" وحدها.

1 -5 اعتبار ما بمعنى الذي:

وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبرٌ والعائد مستترٌ في يخشى ، و استدل لذلك بإطلاق "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء}.

2 - نفي الخشية عن غير أهل العلم:

قال ابن رجب وقد دلت الآية على نفي الخشية عن غير أهل العلم ، ويستفاد ذلك من صيغة "إنّما" أمّا على قول الجمهور وأنّ "ما" هي الكافة فيقول إذا دخلت "ما" الكافة على "إنّ " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وقد حكاه بعض العلماء عن جمهور الناس وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيلٍ، والحلواني وغيرهم.

2 -1 اختلاف أهل العلم في طرق دلالة الآية على نفي الخشية عن غير العلماء:

1 -2-1 دلالتها على ذلك بالمنطوق:

قال ابن رجب : قال كثيرٌ من أصحابنا : إنّ دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء وهو قول أبي حامد ، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية.
2-1-2 دلالتها على ذلك بالمفهوم:

قال ابن رجب : ذهبت طائفةٌ من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيلٍ والحلواني ، إلى أنّ دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثيرٍ من الحنفية، والمتكلمين وقد انقسم أصحاب هذا القول إل قسمين:

القسم الأول : من لا يرى كون المفهوم حجّةً بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين.

القسم الثاني : من يراه حجةً من الجملة، ولكن ينفيه هاهنا لقيام الدليل عنده على أنّه لا مفهوم لها ، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا ، وغيرهم ، وبيان ذلك أنّ "إنّما" مركبةٌ من "إنّ " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إنّ " والزائد لا معنى له.

2 -1 -3 بطلان قول من أثبت الخشية لغير العلماء:

استدل أصحاب هذا القول بورود "إنما" لغير الحصر في مواطن كثيرة من القرآن والسنة :

_ مثال 1 : {قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}.

فإنّه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده.

ويجاب عليه بأن المراد به أنه لم يوح إليّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك.

_ مثال 2 : قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ". فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" فلو كانت "إنّما" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته سوى القرآن آياتٍ له تدلّ على صدقه لاعترافه بنفي ذلك وهذا باطلٌ قطعًا فدلّ على أنّ "إنما" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام وشبهه.

ويجاب على هذا كون الحديث سيق لبيان آيات الأنبياء العظام الذي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلومٌ أن أعظم آيات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثر أمّته هي الوحي وهو الذي كان يدعو به الخلق كلّهم، ومن أسلم في حياته خوفًا فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرهم، فالنفي توجه إلى أنه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح وعصا موسى ويده وإبراء المسيح الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإنّ هذه أعظم آيات الأنبياء قبله وبها آمن البشر لهم.

وأمّا آيته هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي التي أوحي إليه وهي التي توجب إيمان البشر إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}.

ولهذا قيل: إنّ آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآياته - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يوم القيامة

_ وأما قولهم إنّ "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه:

أحدها : أنّ "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنىً زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:

فالآن صرت لا تحيد جوابًا ....... بما قد يرى وأنت حطيب.

_ والثاني: أن يقال: لا ريب أنّ "إنّ " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوّي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنىً آخر مغايرًا له وهو الحصر المدّعى ثبوته بدخول "ما".

_ الوجه الثالث: أنّ "إن" المكفوفة "بما" استعملت في الحصر فصارت حقيقةً عرفيّةً فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع.

وخلاصة القول الحصر تارةً يكون عامًا كقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو} ، ونحو ذلك ، وتارةً يكون خاصًّا بما يدل عليه سياق الكلام فليس الحصر أن ينفي عن الأوّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنه ثابتٌ له من ذلك النوع الذي أثبت له في الكلام.

3 - نفي العلم عن غير أهل الخشية:

وأما الدليل على ذلك فمن جهة الحصر أيضا فإنّ الحصر المعروف المطرد فهو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العلماء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - وأنه قد يكون مرادًا أيضًا فيصير الحصر من الطرفين ويكونان متلازمين.

_ مثال 1 : قوله تعالى: {إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرّحمن بالغيب} فيه الحصر من الطرفين، فإن اقتضى أن إنذاره مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فإن هذا هو المختصّ بقبول الإنذار، والانتفاع به فلذلك نفى الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأنّ الإنذار إنما هو للعاقل له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره أي من قبل إنذاره وانتفع به فإنّ اتباع الذكر، وخشية الرحمن بالغيب مختصة بمن قبل الإنذار كما يختص قبول الإنذار والانتفاع بأهل الخشية واتباع الذكر.

_ مثال 2 : قوله تعالى: إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا} الآية ، فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية، كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار، والذين خرّوا سجدًا في أهل الإيمان ونحو ذلك.

3 -1 هل ثبوت الخشية لجنس العلماء أو لكل فرد من العلماء?

قال ابن رجب القول الثاني هو الصحيح وذلك من وجهين:

_ الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني وحصر الثاني في الأول، كما تقدّم بيانه، فحصر الخشية في العلماء يفيد أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالمٌ وإن لم يفد لمجرده أنّ كلّ عالم فهو يخشى اللّه وتفيد أنّ من لا يخشى فليس بعالم، وحصر العلماء في أهل الخشية يفيد أنّ كلّ عالم فهو خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكلّ فردٍ من أفراد العلماء.

_ والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضٍ للمحصور فيه أو هو شرطٌ له؟

قال الشيخ أبو العباس - رحمه اللّه -: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضٍ فهو عامٌّ فإنّ العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، ومراده بالمقتضي – العلة المقتضية.
3-2 تفاسير السلف للآية:

_ وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا".

_ عن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ".

_ وعن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ".

_ وعن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا وكفى بالاغترار باللّه جهلاً".

_ وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيّ في هذه الآية: "العلماء باللّه الذين يخافونه ".

_ وعن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ.

ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك، والحكمة والإيمان بك وما علم من لم يخشك وما حكم من لم يؤمن بك.

_ وعن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ".

_ وروى الدارميّ من طريق عكرمة عن ابن عباسٍ: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} قال: "من خشي اللّه فهو عالمٌ ".

وكذلك قال كثير غيرهم.

3 -3 أمور تبين أن العلم والخشية متلازمان:

_ إحداها:

أن العلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية.

_ الوجه الثاني:

أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلكومما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّه واطّلاعه، ومشاهدته، ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين، كلّ هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشرّ.

_ الوجه الثالث:

أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أنًّ تصوره لذلك ليس تامًّا.

_ الوجه الرابع:

أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه له وتفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.

_ الوجه الخامس:

أنّ كل ما علم علمًا تامًّا جازمًا بانّ فعل شيئًا يضرّه ضررًا راجحًا لم يفعله، فإنّ هذا خاصة العاقل، فإنّ نفسه تنصرف عمّا يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإنّ اللّه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.

_ الوجه السادس:

وهو أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد ألبتة فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك ، ومن هاهنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها.

_ الوجه السابع:

وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجى أن يتخلص من تبعته بسببٍ من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان.
بارك الله فيكم وأحسن إليكم.
وقفتم على المسائل الرئيسة في الملخص،
ولكن ربما صعوبة بعض المسائل اللغوية في الرسالة كانت سببا في التركيز الشديد عليها من قبل بعض الطلاب حتى أنها أثّرت على كثير من المسائل المهمّة في الرسالة، وكان من المناسب الاختصار فيما يتعلق باللغة عدا ما يفيد في إثبات المسائل الأساسية في الرسالة كأن نكتفي بذكر قول الجمهور ونؤخر مناقشة الخلافات نهاية الملخص حتى لا تؤثر على المسائل الأخرى في الرسالة كما أشرت.
والاختصار الحاصل عندكم هو في المسألة الأخيرة: بيان أن العلم يوجب الخشية وأن فقده يستلزم فقد الخشية، وهي من أهم مسائل الرسالة وفيها الكثير من الفوائد التي يحسن الإلمام بها والإشارة إليها في الملخص لأنها مما يخدم الرسالة ويوضح مقصدها، ويمكنك مطالعة هذه المسائل في الملخص التالي مع التنبيه إلى أنه بحاجة إلى بعض التهذيب لأني وضعته على عجل لكنه يفيدكم في طريقة عرض المسائل إن شاء الله:

تلخيص رسالة في تفسير قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
لابن رجب الحنبلي رحمه الله.


عناصر الرسالة:

دلالة الآية على إثبات الخشية للعلماء
دلالة الآية على نفي الخشية عن غير العلماء
دلالة الآية على نفي العلم عن غير أهل الخشية
● الأقوال الواردة عن السلف في تفسير الآية.
● بيان أن العلم يوجب الخشية وأن فقده يستلزم فقد الخشية
● بيان أن فقد الخشية يستلزم فقد العلم
بيان العلم النافع الذي يوجب خشية الله تعالى.

● فوائد
• إثبات الخشية للعلماء يقتضي ثبوتها لكل واحد منهم
أصل العلم النافع العلم باللّه.
قابلية ما في القلب من التصديق والمعرفة للزيادة والنقصان هو ما كان عليه الصحابة والسلف من أهل السنة.
• صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعضٍ هو الذي عليه السلف وأئمة السنة خلافًا لبعض المعتزلة.
• هل يمكن للتائب أن يعود إلى ما كان عليه قبل المعصية؟

• هل يجزم بقبول التوبة إذا استكملت شروطها؟

• هل يمحى الذنب من صحيفة العبد إذا تاب؟

• أمر الله للعباد إنما يكون بما فيه صلاحهم ونهيه إنما يكون عما فيه فسادهم.

فائدة في قوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)}.
• خلاصة القول في نوع "ما" الداخلة على "إنّ"
.
• خلاصة
القول في إفادة "إنّما" للحصر.


تلخيص المسائل الواردة في تفسير ابن رجب رحمه الله لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.



● دلالة الآية على إثبات الخشية للعلماء
دلت الآية على إثبات الخشية للعلماء من صيغة "إنما" التي تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتّفاق؛ لأنّ خصوصية "إن" إفادة التأكيد، وأمّا
"ما"فالجمهور على أنّها كافةٌ.

● دلالة الآية على نفي الخشية عن غير العلماء
دلت الآية على نفي الخشية عن غير العلماء
من صيغة "إنّما" أيضا لأنّ "ما" الكافة إذا دخلت على "إنّ " أفادت الحصر وهو قول الجمهور.

- واختلفوا في دلالتها على النفي هل هو بطريق المنطوق، أو بطريق المفهوم؟
فقال كثيرٌ من الحنابلة، كالقاضي في أحد قوليه وصاحب ابن المنّي والشيخ موفّق الدّين: إنّ دلالتها على النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء وهو قول أبي حامد، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية.
وذهبت طائفةٌ منهم كالقاضي في قوله الآخر وابن عقيلٍ والحلواني إلى أنّ دلالتها على النفي بطريق المفهوم وهو قول كثيرٍ من الحنفية، والمتكلمين.
- واختلفوا أيضًا هل دلالتها على النفي بطريق النّص، أو الظاهر؟

فقالت طائفة: إنّما تدلّ على الحصر ظاهرًا، أو يحتمل التأكيد، وهذا الذي حكاه الآمديّ عن القاضي أبي بكرٍ، والغزاليّ، والهرّاسيّ، وغيرهم من الفقهاء وهو يشبه قول من يقول إنّ دلالتها بطريق المفهوم فإنّ أكثر دلالات المفهوم بطريق الظاهر لا النّص.
وظاهر كلام كثيرٍ من الحنابلة وغيرهم، أن دلالتها على النّفي والإثبات كليهما بطريق النّص لأنّهم جعلوا "إنّما" كالمستثنى والمستثنى منه سواء وعندهم أن الاستثناء من الإثبات نفيٌ ومن النفي إثباتٌ، نصًّا لا محلاً.

● دلالة الآية على نفي العلم عن غير أهل الخشية
دلت الآية على نفي العلم عن غير أهل الخشية، من جهة الحصر أيضا فإنّ الحصر المعروف المطرد هو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العلماء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - وأنه قد يكون مرادًا أيضًا فيصير الحصر من الطرفين ويكونان متلازمين، فيكون قوله: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} يقتضي أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالم، ويقتضي أيضًا أنّ العالم من يخشى اللّه.

● الأقوال الواردة عن السلف في تفسير الآية
ما ورد عن السلف في تفسير الآية يوافق ما سبق من إثبات الخشية للعلماء ونفيها عن غيرهم ونفي العلم عن غير أهل الخشية.
- فعن ابن عباس قال: "يريد: إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وجلالي وسلطاني ".
- وعن مجاهدٍ والشعبيّ: "العالم من خاف اللّه ".
- وعن ابن مسعودٍ قال: "كفى بخشية اللّه علمًا وكفى بالاغترار باللّه جهلاً".
- وعن الربيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: من لم يخش اللّه فليس بعالمٍ، ألا ترى أنّ داود قال: ذلك بأنّك جعلت العلم خشيتك، والحكمة والإيمان بك، وما علم من لم يخشك وما حكمة من لم يؤمن بك؟
- وعن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء}قال: "الحكمة الخشية فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ".
- وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لا يكون الرجل عالما حتّى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا".
وعن أبي حازمٍ نحوه.
- وسئل الإمام أحمد عن معروفٍ، وقيل له: هل كان معه علمٌ؟ فقال: "كان معه أصل العلم، خشية اللّه عزّ وجلّ ".
ويشهد لهذا قوله تعالى: {أمّن هو قانتٌ آناء اللّيل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون). وكذلك قوله تعالى: (إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ}.
وقوله: {أنّه من عمل منكم سوءًا بجهالةٍ ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفورٌ رّحيمٌ}.
وقوله: {ثمّ إنّ ربّك للّذين عملوا السّوء بجهالةٍ ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ (119)}.
- قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمدٍ عن هذه الآية: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ}
فقالوا: كلّ من عصى اللّه فهو جاهلٌ، وكلّ من تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ ".
- وروي عن مجاهدٍ، والضحاك، قالا: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالاً ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فيه ".

● بيان أن العلم يوجب الخشية وأن فقده يستلزم فقد الخشية.
وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول:
أن العلم باللّه تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت، والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية.
ولهذا فسّر الآية ابن عباسٍ، فقال: "يريد إنما يخافني من علم جبروتي، وعزتي، وجلالي، وسلطاني ".
ويشهد له قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمكم باللّه وأشدّكم له خشيةً"
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا"
وفي "المسند" وكتاب الترمذيّ وابن ماجة من حديث أبي ذرٍّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إنّ السماء أطّت وحقّ لها أن تئطّ، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته ساجدٌ للّه - عز وجلّ - واللّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزّ وجلّ ".

وقال الترمذيّ: حسنٌ غريبٌ.

الوجه الثاني: أنّ العلم بتفاصيل أمر اللّه ونهيه، والتصديق الجازم بذلك وبما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة اللّه واطّلاعه، ومشاهدته، ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين، كلّ هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور.
وإنّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشرّ، قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطًا (28)}.

والشهوة وحدها، لا تستقلّ بفعل السيئات إلا مع الجهل، فإنّ صاحب الهوى لو استحضر هذه الأمور المذكورة وكانت موجودةً في ذكره، لأوجبت له الخشية القامعة لهواه، ولكنّ غفلته عنها مما يوجب نقص إيمانه الذي أصله التصديق الجازم المترتب على التصور التام،
ولهذا كان ذكر اللّه وتوحيده والثناء عليه يزيد الإيمان، والغفلة والإعراض عن ذلك يضعفه وينقصه، كما كان يقول من يقول من الصحابة: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة".

الوجه الثالث: أنّ تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ولم يطلب هذا دلّ على أنًّ تصوره لذلك ليس تامًّا، وإن كان قد يصور الخبر عنه.
وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصوّر المخبر به فإذا أخبر بما هو محبوبٌ أو مكروهٌ له، ولم يكذّب الخبر بل عرف صدقه لكن قلبه مشغولٌ بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب، في الأثر المعروف عن الحسن وروي مرسلاً عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "العلم علمان، فعلم في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم ".

الوجه الرابع: أنّ كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض اللّه له وتفاصيل الوعيد عليه وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه لكنّه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح.
فيكون جهله بذلك هو الذي جرّأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشيةً من عقابه.

الوجه الخامس: أنّ الله جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرّها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرّها ضررًا راجحًا، لذلك لا يقدم عاقل على فعل ما يضرّه مع علمه بما فيه من الضرر إلا لظنّه أنّ منفعته راجحة إمّا بأن يجزم بأن ضرره مرجوح، أو يظنّ أن خيره راجح.
فالزاني والسارق ونحوهما، لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم من الرجم والقطع ونحو ذلك، لم يقدموا على ذلك، فإذا علم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العلم بأنها تضرهم ضررًا راجحًا، أو ظنّ أنها تنفعهم نفعًا راجحًا، وذلك كلّه جهل إما بسيط وإمّا مركب.
ومثال هذا ما جاء في قصة آدم أنه: {يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما}.

قال: {ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20)}.
وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانًا فهو له قرينٌ (36) وإنّهم ليصدّونهم عن السّبيل ويحسبون أنّهم مهتدون (37)}.
فالفاعل للذنب لو جزم بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، لكنه يزين له ما فيه من اللذة التي يظنّ أنها مصلحة، ولا يجزم بوقوع عقوبته، بل يرجو العفو بحسناتٍ أو توبةٍ أو بعفو الله ونحو ذلك، وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة، فأوجب له ذلك الخشية المانعة له من مواقعتها.

الوجه السادس: وهو أن لذّات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد البتة فإنّ لذاتها سريعة الانقضاء وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك.
ولهذا قيل: "إن الصبر على المعاصي أهون من الصبر على عذاب اللّه، وقيل: "ربّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً".
- ما في الذنوب من اللذات كما في الطعام الطيب المسموم من اللذة، فهي مغمورة بما فيه من المفسدة ومؤثر لذة الذنب كمؤثر لذة الطعام المسموم الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل ومن هاهنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها.
-
المذنب قد لا يتمكن من التوبة، فإنّ من وقع في ذنبٍ تجرّأ عليه عمره وهان عليه خوض الذنوب وعسر عليه الخلاص منها ولهذا قيل: "من عقوبة الذنب: الذنب بعده ".
- إذا قدّر للمذنب أنه تاب منه فقد لا يتمكن من التوبة النصوح الخالصة التي تمحو أثره بالكلية.
- وإن قدّر أنه تمكن من ذلك، فلا يقاوم اللذة الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة على النّدم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة؛ من الألم والمشقة، ولهذا قال الحسن: "ترك الذنب أيسر من طلب التوبة".
- يكفي المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة الّتي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها.

- إن قدّر أنه عفي عنه من غير توبةٍ فإن كان ذلك بسبب أمرٍ مكفرٍ عنه كالمصائب الدنيوية، وفتنة القبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، ونحو ذلك، فلا يستريب عاقلٌ أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة.

- إن عفي عنه بغير سببٍ من هذه الأسباب المكفرة ونحوها، فإنه لابّد أن يلحقه عقوبات كثيرة منها:
1: ما فاته من ثواب المحسنين، فإن اللّه تعالى وإن عفا عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال تعالى: {أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21).

وقال: (أم نجعل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار (28)}.
2: ما يلحقه من الخجل والحياء من اللّه عز وجلّ عند عرضه عليه وتقريره بأعماله، وربما كان ذلك أصعب عليه من دخول النار ابتداءً.
كما جاء في الأحاديث والآثار كما روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "يدني اللّه عزّ وجلّ العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه، فيستره من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، قال: فيمرّ بالحسنة، فيبيضّ لها وجهه ويسرّ بها قلبه قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟
فيقول: نعم، يا رب أعرف، فيقول: إني قد قبلتها منك.
قال: فيخرّ للّه ساجدًا، قال: فيقول اللّه عزّ وجلّ: ارفع رأسك يا ابن آدم وعد في كتابك، قال: فيمرّ بالسيئة فيسود لها وجهه، ويوجل منها قلبه وترتعد منها فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعمله غيره، قال: فيقول اللّه عزّ وجلّ: أتعرف يا عبدي؟
قال: فيقول: نعم، يا رب أعرف، قال: فيقول: إني قد غفرتها لك؟
قال: فلا يزال حسنةٌ تقبل فيسجد، وسيئةٌ تغفر فيسجد، فلا ترى الخلائق منه إلا السجود، قال: حتى تنادي الخلائق بعضها بعضًا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص اللّه قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين اللّه عز وجل ".
ومما قد وقفه عليه وروي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبد اللّه بن سلامٍ وغيرهما، ويشهد لهذا حديث عبد اللّه بن عمر الثابت في "الصحيح "- حديث النجوى - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامة دعا اللّه بعبده فيضع عليه كنفه فيقول: ألم تعمل يوم كذا وكذا ذنب كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وغفرت ذلك لك اليوم " وهذا كلّه في حقّ من يريد اللّه أن يعفو عنه ويغفر له فما الظنّ بغيره؟

الوجه السابع: وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظنّ أنّه يحصل له لذته العاجلة، ورجى أن يتخلص من تبعته بسببٍ من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذةً ولا يلحقه به مضرةٌ.
وهذا من أعظم الجهل، فإن الذنوب تتبعها ولابدّ من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان، وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف، ما لا يوازي الذرة منه جميع لذات الدنيا، فيحصل لصاحب المعصية العيشة الضنك، وتفوته الحياة الطيبة، فينعكس قصده بارتكاب المعصية، فإنّ اللّه ضمن لأهل الطاعة الحياة الطيبة، ولأهل المعصية العيشة الضنك، قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكًا}،
وقال: {وإنّ للّذين ظلموا عذابًا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}
وقال في أهل الطاعة: {من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينّه حياةً طيّبةً}.

● بيان أن فقد الخشية يستلزم فقد العلم
فقد الخشية يسلتزم فقد العلم وذلك لأن العلم له موجب ومقتضى وهو اتباعه والاهتداء به وضدّه الجهل، فإذا انتفت فائدته ومقتضاه، صار حاله كحاله عند عدمه وهو الجهل.وقد تقدّم أن الذنوب إنّما تقع عن جهالةٍ، وظهرت دلالة القرآن على ذلك وتفسير السلف له بذلك، فيلزم حينئذٍ أن ينتفي العلم ويثبت الجهل عند انتفاء فائدة العلم ومقتضاه وهو اتباعه. ومن هذا الباب قوله تعالى:{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا}، وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ " وهذا كما يوصف من لا ينتفع بسمعه وبصره وعقله في معرفة الحقّ والانقياد له بأنه أصم أبكم أعمى قال تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون}.

بيان العلم النافع الذي يوجب خشية الله تعالى.
العلم النافع علمان:
1: علم باللّه بجلاله وعظمته، وهو الذي فسر الآية به جماعةٌ من السلف.
2: علم بأوامر الله ونواهيه وأحكامه وشرائعه وأسرار دينه وشرعه وخلقه وقدره.
ولا تنافي بين هذا العلم والعلم باللّه؛ فإنّهما قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، وأكمل الأحوال اجتماعهما جميعًا وهي حالة الأنبياء - عليهم السلام - وخواصّ الصديقين ومتى اجتمعا كانت الخشية حاصلةٌ من تلك الوجوه كلها، وإن انفرد أحدهما حصل من الخشية بحسب ما حصّل من ذلك العلم، والعلماء الكمّل أولو العلم في الحقيقة الذين جمعوا الأمرين.

وقد روى الثوريّ عن أبي حيّان التميمي سعيد بن حيّان عن رجلٍ قال: كان يقال: العلماء ثلاثةٌ: "فعالمٌ باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالمٌ بأمر اللّه ليس عالمًا باللّه، وعالمٌ باللّه عالمٌ بأمر اللّه ".
فالعالم باللّه وبأوامر اللّه: الذي يخشى اللّه ويعلم الحدود والفرائض.
والعالم باللّه ليس بعالم بأمر اللّه: الذي يخشى اللّه ولا يعلم الحدود والفرائض.
والعالم بأمر اللّه ليس بعالم باللّه: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى اللّه عزّ وجلًّ.

● فوائد
إثبات الخشية للعلماء يقتضي ثبوتها لكل واحد منهم.
قوله تعالى: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء} يقتضي ثبوت الخشية لكل واحد من العلماء ولا يراد به جنس العلماء، وتقريره من جهتين:
الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني وحصر الثاني في الأول، كما تقدّم بيانه، فحصر الخشية في العلماء يفيد أنّ كلّ من خشي اللّه فهو عالمٌ وإن لم يفد لمجرده أنّ كلّ عالم فهو يخشى اللّه وتفيد أنّ من لا يخشى فليس بعالم، وحصر العلماء في أهل الخشية يفيد أنّ كلّ عالم فهو خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكلّ فردٍ من أفراد العلماء.
والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضٍ للمحصور فيه أو هو شرطٌ له؟
قال الشيخ أبو العباس - رحمه اللّه -: (وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضٍ فهو عامٌّ فإنّ العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف).
ومراده بالمقتضي – العلة المقتضية - وهي التي يتوقف تأثيرها على وجود شروط وانتفاء موانع كأسباب الوعد والوعيد ونحوهما فإنها مقتضياتٌ وهي عامةٌ، ومراده بالشرط ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود السبب وهو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، كالإسلام بالنسبة إلى الحجّ.

والمانع بخلاف الشرط، وهو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود وهذا الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنّما يتم على قول من يجوّز تخصيص العلة وأما من لا يسمّي علةً إلا ما استلزم الحكم ولزم من وجودها وجوده على كلّ حال، فهؤلاء عندهم الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء العلة، والمقصود هنا أنّ العلم إذا كان سببًا مقتضيًا للخشية كان ثبوت الخشية عامًا لجميع أفراد العلماء لا يتخلف إلا لوجود مانع ونحوه.


أصل العلم النافع العلم باللّه.
وهو العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله من قدره، وخلقه، والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة، وآياته المشاهدة المرئية من عجائب مصنوعاته، وحكم مبتدعاته ونحو ذلك مما يوجب خشيته وإجلاله، ويمنع من ارتكاب نهيه، والتفريط في أوامره.
ولهذا قال طائفةٌ من السلف لعمر بن عبد العزيز وسفيان بن عيينة: "أعجب الأشياء قلبٌ عرف ربه ثم عصاه ".

وقال بشر بن الحارث: "لو يفكر الناس في عظمة اللّه لما عصوا اللّه ".

قابلية ما في القلب من التصديق والمعرفة للزيادة والنقصان هو الذي عليه الصحابة والسلف من أهل السنة.
ويؤيد ذلك ما كان يقوله بعض الصحابة: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة".
وما جاء
في الأثر المشهور عن حماد بن سلمة عن أبي جعفرٍ الخطميّ عن جدّه عمير بن حبيبٍ وكان من الصحابة، قال: "الإيمان يزيد وينقص قيل: وما زيادته ونقصانه؟

قال: إذا ذكرنا اللّه ووحّدناه وسبّحناه، فتلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا، فذلك نقصانه ".
وفي مسندي الإمام أحمد والبزار من حديث أبي هريرة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "جدّدوا إيمانكم " قالوا: وكيف نجدد إيماننا يا رسول اللّه؟
قال: "قولوا: لا إله إلا اللّه ".
فالمؤمن يحتاج دائمًا كلّ وقتٍ إلى تحديد إيمانه وتقوية يقينه، وطلب الزيادة في معارفه، والحذر من أسباب الشكّ والريب والشبهة، ومن هنا يعلم معنى قول النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " فإنه لو كان مستحضرًا في تلك الحال لاطّلاع اللّه عليه ومقته له جمع ما توعّده اللّه به من العقاب المجمل والمفصل استحضارًا تامًّا لامتنع منه بعد ذلك وقوع هذا المحظور وإنما وقع فيما وقع فيه لضعف إيمانه ونقصه.

صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعضٍ هو الذي عليه السلف وأئمة السنة خلافًا لبعض المعتزلة.
فإنّ أحد الذنبين قد يعلم قبحه فيتوب منه ويستهين بالآخر لجهله بقبحه وحقيقة مرتبته فلا يقلع عنه، ولذلك قد يقهره هواه ويغلبه في أحدهما دون الآخر فيقلع عما لم يغلبه هواه دون ما غلبه فيه هواه، ولا يقال لو كانت الخشية عنده موجودةً لأقلع عن الجميع، لأن أصل الخشية عنده موجودةٌ، ولكنها غير تامةٍ، وسبب نقصها إما نقص علمه، وإما غلبة هواه، فتبعّض توبته نشأ من كون المقتضي للتوبة من أحد الذنبين أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كون المانع من التوبة من أحدهما أشدّ من المانع من الآخر.

• هل يمكن للتائب أن يعود إلى ما كان عليه قبل المعصية؟
اختلف الناس في ذلك على قولين، والقول بأنه لا يمكن عوده إلى ما كان عليه قول أبي سليمان الدّرانيّ وغيره.

• هل يجزم بقبول التوبة إذا استكملت شروطها؟
اختلف الناس في ذلك على قولين:فالقاضي أبو بكر وغيره من المتكلمين على أنّه لا يجزم بذلك.
و
أكثر أهل السنة والمعتزلة وغيرهم على أنه يقطع بقبولها.


• هل يمحى الذنب من صحيفة العبد إذا تاب؟
ورد في "مراسيل الحسن " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد اللّه أن يستر على عبده يوم القيامة أراه ذنوبه فيما بينه وبينه ثمّ غفرها له ".
ولهذا كان أشهر القولين أنّ هذا الحكم عامٌّ في حقّ التائب وغيره، وقد ذكره أبو سليمان الدمشقيّ عن أكثر العلماء، واحتجّوا بعموم هذه الأحاديث مع قوله تعالى: {ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا}.

وقد نقل ذلك صريحًا عن غير واحدٍ من السلف كالحسن البصريّ وبلال بن سعد - حكيم أهل الشام - كما روى ابن أبي الدنيا، وابن المنادي وغيرهما عن الحسن: "أنه سئل عن الرجل يذنب ثم يتوب هل يمحى من صحيفته؟ قال: لا، دون أن يوقفه عليه ثم يسأله عنه "
ثم في رواية ابن المنادي وغيره: "ثم بكى الحسن، وقال: لو لم تبك الأحياء من ذلك المقام لكان يحقّ لنا أن نبكي فنطيل البكاء".

وذكر ابن أبي الدنيا عن بعض السلف أنه قال: "ما يمرّ عليّ أشد من الحياء من اللّه عزّ وجلّ ".
وفي الأثر المعروف الذي رواه أبو نعيمٍ وغيره عن علقمة بن مرثدٍ: "أنّ الأسود بن يزيد لما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع، ومن أحقّ بذلك مني؟واللّه لو أتيت بالمغفرة من اللّه عزّ وجلّ، لهمّني الحياء منه مما قد صنعته، إنّ الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه ".
ومن هذا قول الفضيل بن عياضٍ بالموقف: "واسوءتاه منك وإن عفوت ".

• أمر الله للعباد إنما يكون بما فيه صلاحهم ونهيه إنما يكون عما فيه فسادهم.

إن اللّه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عمّا نهاهم عنه بخلاً به، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عمّا فيه فسادهم، وهذا هو الذي عليه المحققون من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم، كالقاضي أبي يعلى وغيره.
وإن كان بينهم في جواز وقوع خلاف ذلك عقلاً نزاعٌ مبنيّ على أن العقل هل له مدخل في التحسين والتقبيح أم لا؟
وكثير منهم كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب على أنّ ذلك لا يجوز عقلاً أيضًا وأما من قال بوقوع مثل ذلك شرعًا فقوله شاذٌ مردودٌ.

والصواب: أنّ ما أمر اللّه به عباده فهو عين صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، فإنّ نفس الإيمان باللّه ومعرفته وتوحيده وعبادته ومحبته وإجلاله وخشيته وذكره وشكره؛ هو غذاء القلوب وقوتها وصلاحها وقوامها، فلا صلاح للنفوس، ولا قرة للعيون ولا طمأنينة، ولا نعيم للأرواح ولا لذة لها في الدنيا على الحقيقة، إلا بذلك، فحاجتها إلى ذلك أعظم من حاجة الأبدان إلى الطعام والشراب والنّفس، بكثيرٍ، فإنّ حقيقة العبد وخاصيته هي قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بتألهه لإلهه الحقّ الذي لا إله إلا هو، ومتى فقد ذلك هلك وفسد، ولم يصلحه بعد ذلك شيء البتة، وكذلك ما حرّمه اللّه على عباده وهو عين فسادهم وضررهم في دينهم ودنياهم، ولهذا حرّم عليهم ما يصدّهم عن ذكره وعبادته كما حرم الخمر والميسر، وبين أنه يصدّ عن ذكره وعن الصلاة مع مفاسد أخر ذكرها فيهما، وكذلك سائر ما حرّمه اللّه فإنّ فيه مضرةً لعباده في دينهم ودنياهم وآخرتهم، كما ذكر ذلك السلف، وإذا تبيّن هذا وعلم أنّ صلاح العباد ومنافعهم ولذاتهم في امتثال ما أمرهم الله به، واجتناب ما نهاهم اللّه عنه تبيّن أن من طلب حصول اللذة والراحة من فعل المحظور أو ترك المأمور، فهو في غاية الجهل والحمق، وتبيّن أنّ كلّ من عصى اللّه هو جاهل، كما قاله السلف ودلّ عليه القرآن كما تقدم، ولهذا قال: {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (216)}.
وقال: {ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا (66) وإذًا لآتيناهم من لدنّا أجرًا عظيمًا (67) ولهديناهم صراطًا مستقيمًا (68)}.

فائدة في قوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)}.
اختلف المفسرون في الجمع بين إثبات العلم ونفيه هاهنا.
1: قالت طائفة: الذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، هم الشياطين الذين يعلّمون الناس السحر، والذين قيل فيهم: {لو كانوا يعلمون} هم الناس الذين يتعلمون.
قال ابن جرير: وهذا القول خطأٌ مخالفٌ لإجماع أهل التأويل على أنّ قوله: (ولقد علموا) عائدٌ على اليهود الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان.
2: ذكر ابن جرير أنّ الذين علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه هم اليهود، والذين قيل فيهم: لو كانوا يعلمون، هم الذين يتعلمون من الملكين، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهال بأمر اللّه ووعده ووعيده.
وهذا أيضًا ضعيفٌ فإنّ الضمير فيهما عائدٌ إلى واحدٍ، وأيضًا فإن الملكين يقولان لمن يعلمانه: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فقد أعلماه تحريمه وسوء عاقبته.

3: قالت طائفة: إنما نفى عنهم العلم بعدما أثبته لانتفاء ثمرته وفائدته، وهو العمل بموجبه ومقضتاه، فلمّا انتفى عنهم العمل بعلمهم جعلهم جهّالاً لا يعلمون، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، وهذا حكاه ابن جريرٍ وغيره، وحكى الماوردي قولاً بمعناه، لكنه جعل العمل مضمرا، وتقديره لو كانوا يعملون بما يعلمون.
4: قيل: إنهم علموا أنّ من اشتراه فلا خلاق له، أي لا نصيب له في الآخرة من الثواب، لكنهم لم يعلموا أنه يستحق عليه العقاب مع حرمانه الثواب، وهذا حكاه الماورديّ وغيره.
وهو ضعيف أيضًا، فإنّ الضمير إن عاد إلى اليهود، فاليهود لا يخفى عليهم تحريم السحر واستحقاق صاحبه العقوبة، وإن عاد إلى الذين يتعلمون من الملكين فالملكان يقولان لهم: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} والكفر لا يخفى على أحدٍ أن صاحبه يستحقّ العقوبة، وإن عاد إليهما، وهو الظاهر، فواضح، وأيضًا فإذا علموا أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ فقد علموا أنه يستحقّ العقوبة، لأنّ الخلاق: النصيب من الخير، فإذا علم أنه ليس له نصيب في الخير بالكلية فقد علم أن له نصيبًا من الشرّ، لأنّ أهل التكليف في الآخرة لا يخلو واحد منهم عن أن يحصل له خير أو شرّ لا يمكن انتكاله عنهما جميعًا ألبتة.

5: قالت طائفة: علموا أنّ من اشتراه فلا خلاق له في الآخرة، لكنهم ظنّوا أنهم ينتفعون به في الدنيا، ولهذا اختاروه وتعوّضوا به عن بوار الآخرة وشروا به أنفسهم، وجهلوا أنه في الدنيا يضرّهم أيضًا ولا ينفعهم، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ذلك، وأنّهم إنما باعوا أنفسهم وحظّهم من الآخرة بما يضرّهم في الدنيا أيضًا ولا ينفعهم.
وهذا القول حكاه الماورديّ وغيره، وهو الصحيح، فإنّ اللّه تعالى قال: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} أي هو في نفس الأمر يضرّهم ولا ينفعهم بحالٍ في الدنيا وفي الآخرة.

ولكنّهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يقدموا عليه إلا لظنّهم أنه ينفعهم في الدنيا.
ثم قال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} أي قد تيقّنوا أنّ صاحب السحر لا حظّ له في الآخرة، وإنما يختاره لما يرجو من نفعه في الدنيا، وقد يسمّون ذلك العقل المعيشي أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشةً طيبةً، قال اللّه تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} أي: إن هذا الذي يعوضوا به عن ثواب الآخرة في الدنيا أمرٌ مذمومٌ مضر لا ينفع لو كانوا يعلمون ذلك ثم قال: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خير لّو كانوا يعلمون} يعني: أنهم لو اختاروا الإيمان والتقوى بدل السّحر لكان اللّه يثيبهم على ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرّة ما هو أعظم مما يحصّلونه بالسّحر من خير الدنيا مع ما يدّخر لهم من الثواب في الآخرة.
والمقصود هنا:
أن كل من آثر معصية اللّه على طاعته ظانًّا أنه ينتفع بإيثار المعصية في الدنيا، فهو من جنس من آثر السحر - الذي ظنّ أنه ينفعه في الدنيا - على التقوى والإيمان، ولو اتّقى وآمن لكان خيرًا له وأرجى لحصول مقاصده ومطالبه ودفع مضارّه ومكروهاته.
ويشهد كذلك أيضًا ما في "مسند البزار" عن حذيفة قال: "قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس فقال: "هلمّوا إليّ، فأقبلوا إليه فجلسوا"، فقال: "هذا رسول ربّ العالمين جبريل - عليه السلام. - نفث في روعي: أنّه لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ولا يحملنّكم استبطاء الرّزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ".


• خلاصة القول في نوع "ما" الداخلة على "إنّ"
القول الأول: أنّها كافةٌ، وأن "ما" هي الزائدة التي تدخل على إنّ، وأنّ، وليت، ولعلّ، وكأن، فتكفها عن العمل، وهذا قول جمهور النحاة.
القول الثاني: أنّ "ما" مع هذه الحروف اسمٌ مبهمٌ بمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام وفي أنّ الجملة بعده مفسرةٌ له ومخبرٌ بها عنه، وهو قول
بعض الكوفيين، وابن درستويه.
القول الثالث: أن "ما" هنا نافيةٌ واستدلّوا بذلك على إفادتها الحصر، وأنّ "إن" أفادت الإثبات في المذكور، و"ما" النفي فيما عداه وهو قول بعض الأصوليين وأهل البيان.
وهذا باطلٌ باتفاق أهل المعرفة باللسان فإنّ "إن" إنما تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا لا تفيد الإثبات.
و"ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلة على سائر أخوات إنّ: لكنّ وكأن وليت ولعلّ، وليست في دخولها على هذه الحروف نافيةً بالاتفاق فكذلك الداخلة على إنّ وأنّ.
-
نسب القول بأنها نافيةٌ إلى أبي علي الفارسي لقوله في كتاب "الشيرازيات ": إنّ العرب عاملوا "إنما" معاملة النفيّ و"إلا" في فصل الضمير لقوله: "وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ".

وهذا لا يدل على أنّ "ما" نافيةٌ على ما لا يخفى وإنما مراده أنّهم أجروا "إنما" مجرى النفي و"إلاّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفي ولم يصرّح بأنّ النفي مستفادٌ من "ما" وحدها.
القول الرابع: أنه لا يمتنع أن يكون "ما" في هذه الآية بمعنى الذي والعلماء خبرٌ والعائد مستترٌ في يخشى.

وأطلقت "ما" على جماعة العقلاء كما في قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، و {فانكحوا ما طاب لكم مّن النّساء}.

• خلاصة
القول في إفادة "إنّما" للحصر.
اختلف النحاة في ذلك على أقوال:
القول الأول: إذا دخلت "ما" الكافة على "إنّ " أفادت الحصر هذا هو الصحيح، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: من خالف في إفادتها الحصر.
حجتهم في ذلك:
1- قالوا إنّ "إنّما" مركبةٌ من "إنّ " المؤكدة و"ما" الزائدة الكافة فيستفاد التوكيد من "إنّ " والزائد لا معنى له، وقد تفيد تقوية التوكيد كما في الباء الزائدة ونحوها، لكنها لا تحدث معنى زائدا.
2- وقالوا إن ورودها لغير الحصر كثيرٌ جدًّا كقوله تعالى: {إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربّهم يتوكّلون (2)}.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرّبا في النسيئة". وقوله: "إنّما الشهر تسعٌ وعشرون " وغير ذلك من النصوص ويقال: "إنّما العالم زيد" ومثل هذا لو أريد به الحصر لكان هذا.
وقد يقال: إن أغلب مواردها لا تكون فيها للحصر فإنّ قوله تعالى: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ}، لا تفيد الحصر مطلقًا فإنّه سبحانه وتعالى له أسماءٌ وصفاتٌ كثيرةٌ غير توحّده بالإلهية، وكذلك قوله: {قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إلهٌ واحدٌ}.
فإنّه لم ينحصر الوحي إليه في هذا وحده.
مناقشة أقوالهم:
- الصواب أن "إنما" تدلّ على الحصر في هذه الأمثلة، ودلالتها عليه معلومٌ بالاضطرار من لغة العرب، كما يعلم من لغتهم بالاضطرار معاني حروف الشرط والاستفهام والنفي والنّهي وغير ذلك، ولهذا يتوارد "إنّما" وحروف الشرط والاستفهام والنّفي الاستثناء كما في قوله تعالى: {إنّما تجزون ما كنتم تعملون} فإنه
كقوله: {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون}،
وقوله: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ وقوله: {إنّما إلهكم اللّه الّذي لا إله إلاّ هو}فإنه كقوله: {وما من إلهٍ إلاّ اللّه}وقوله: {ما لكم من إلهٍ غيره}، ونحو ذلك، ولهذا كانت كلّها واردةً في سياق نفي الشرك وإبطال إلهية سوى اللّه سبحانه.

- وأما قولهم إنّ "ما" الكافة أكثر ما تفيده قوة التوكيد لا تثبت معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه:

أحدها: أنّ "ما" الكافة قد تثبت بدخولها على الحروف معنىً زائدًا.
وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت على الباء أحدثت معنى التقليل، كقول الشاعر:
فالآن صرت لا تحيد جوابًا ....... بما قد يرى وأنت حطيب
قال: وكذلك تحدث في "الكاف " معنى التعليل، في نحو قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم) ، ولكن قد نوزع في ذلك وادّعى أنّ "الباء" و"الكاف " للسببية، وأنّ "الكاف " بمجردها تفيد التعليل.
والثاني: أن يقال: لا ريب أنّ "إنّ " تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوّي هذا التوكيد وتثبت معنى الكلام فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنىً آخر مغايرًا له وهو الحصر المدّعى ثبوته بدخول "ما" يخرج عن إفادة قوّة معنى التوكيد وليس ذلك بمنكرٍ إذ المستنكر ثبوت معنى آخر بدخول الحرف الزائد من غير جنس ما يفيده الحرف الأوّل.
الوجه الثالث: أنّ "إن" المكفوفة "بما" استعملت في الحصر فصارت حقيقةً عرفيّةً فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع، وهكذا يقال في الاستثناء فإنه وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفيةً في مناقضة المستثنى فيه، وهذا شبية بنقل اللفظ عن المعنى الخاص إلى العام إذا صار حقيقة عرفيةً فيه لقولهم "لا أشرب له شربة ماءٍ" ونحو ذلك، ولنقل الأمثال السائرة ونحوها، وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم وهو يقتضي أنّ دلالة "إنّما" على الحصر إنّما هو بطريق العرف والاستعمال لا بأصل وضع اللغة، وهو قولٌ حكاه غيره في المسألة.

القول الثالث:
من جعل "ما" موصولةً.
فتفيد الحصر من جهةٍ أخرى وهو أنّها إذا كانت موصولةً فتقدير الكلام "إن الذين يخشون الله هم العلماء" وهذا أيضًا يفيد الحصر" فإنّ الموصول يقتضي العموم لتعريفه، وإذا كان عامًّا لزم أن يكون خبره عامًّا أيضًا لئلا يكون الخبر أخصّ من المبتدأ، وهذا النوع من الحصر يسمّى ئحصر المبتدأ في الخبر، ومتى كان المبتدأ عامًّا فلا ريب إفادته الحصر.


التقييم:
- الشمول (اشتمال التلخيص على مسائل الدرس) 23/30
- الترتيب (ترتيب المسائل ترتيبًا موضوعيًا) 19/20
- التحرير العلمي (استيعاب الأقوال في المسألة وترتيبها وذكر أدلتها وعللها ومن قال بها) 14/20
- الصياغة (حسن صياغة المسائل وتجنب الأخطاء الإملائية واللغوية ومراعاة علامات الترقيم) 14/15
- العرض (حسن تنسيق التلخيص وتنظيمه وتلوينه) 15/15

النسبة: 85/100
وفقكم الله


رد مع اقتباس
  #56  
قديم 5 ذو القعدة 1436هـ/19-08-2015م, 12:33 AM
كمال بناوي كمال بناوي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2013
الدولة: ايطاليا
المشاركات: 2,169
افتراضي تلخيص درس من تفسير المعوذتين

الحكمة من ترتيب صفات الله عز وجل في قوله {قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس} بهذاالترتيب

عناصر الدرس:

1 _ معنى {برب الناس}

2 _ معنى {ملك الناس}

3 _ معنى {إله الناس}

وقد رتب الله تعالى هذه الصفات بهذا الترتيب لتضمنها الدلالة على أمور عظيمة وهي:

4 _ الأمر الأول:تضمنها المبدأ والغاية والولاية:

5 _ الأمر الثاني:أن هذه الصفات الثلاث حجة قاطعة على وجوب التوحيد:

6 _ الأمر الثالث:أن أصل بلاء الناس هو في الشرك بالله في هذه الصفات الثلاث وضعف تعبدهم له بها

6 _1 أنواع الشرك التي تقع في هذه الصفات الثلاثة:

6 _2 الشرك عبادة للشيطان:

6 _3 الآثار السيئة للشرك:

7 _ الأمر الرابع:أن التعبد لله بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث واجب وبيان الآثار الجليلة لذلك

7 _1 ما يقتضيه الإيمان بربوبية الله تعالى:

7 _2 ما يقتضيه الإيمان بملكه تعالى:

7 _3 ما يقتضيه الإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى:

8 _الأمر الخامس:أن مدار الخلق والأمر على هذه الصفات الثلاث:

9 _الأمر السادس:أن مدار عمل الشيطان على إخلال العباد بهذه الصفات الثلاث:

10 _ الأمر السابع:تضمن هذهالسورة لإيجاز بديع لمدار الإبتلاء في هذه الحياة الدنيا وسبيل النجاة منه:

11 _ الأمر الثامن:من حقق الإخلاص في التعبد للهبما تقتضيه هذه الصفات كان في عصمة من كيد عدوه:

11 _1 أقسام الناس من حيث تقصيرهم في الإيمان بربوبية الله في حالتي الرخاء والشدة:

11 -2 ثمرات الإيمان بملك الله تعالى:

11 _3 ثمرات الإيمان بألوهية الله عز وجل:

12 _السعادة الحقيقية هي في الرضا بالله ربا وملكا وإلها:

12 _1 بعض من ثمرات هذا الرضا:

12 _2 ذكرأمور تخدش هذا الرضا:



1 _ معنى {برب الناس} أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم.

2 _ معنى {ملك الناس} المتصرف فيهم بما يشاء، فلا يخرج أحدٌ منهم عن ملكه وتصرفه.

3 _ معنى {إله الناس} معبودهم الذي يألهونه ويخضعون له ويتقربون إليه ، فيحبونه غاية المحبة، ويعظمونه غاية التعظيم، ويخضعون له غاية الخضوع، وهو إلههم الذي لا إله لهم سواه.

وقد رتب الله تعالى هذه الصفات بهذا الترتيب لتضمنها الدلالة على أمور عظيمة وهي:

4 _ الأمر الأول:تضمنها المبدأ والغاية والولاية:

فمبدؤ الناس منه تعالى فهو ربهم الذي أنشأهم من العدم ، وهو وليهم الذي يتولى تصريف شؤونهم كلها ، وهو إلههم وغايتهم الذي يعبدونه ويتوجهون إليه بطاعتهم ومحبتهم وخضوعهم.

5 _ الأمر الثاني:أن هذه الصفات الثلاث حجة قاطعة على وجوب التوحيد:

فالله تعالى ليس له شريك في ربوبيته فهو خالق الناس ومربيهم بنعمه ، وهو ملكهم المتصرف فيهم بما يشاء ، ومادام المشركون مقرين بذلك ، فهو حجة قاطعة عليهم في تفرد الله في ألوهيته كذلك ، فالخالق والمدبر هو المستحق للعبادة دون غيره.

6 _ الأمر الثالث:أن أصل بلاء الناس هو في الشرك بالله في هذه الصفات الثلاث وضعف تعبدهم له بها

6 _1 أنواع الشرك التي تقع في هذه الصفات الثلاثة:

_ الشرك الأكبر ومنه جلي وخفي وذلك بنسبة خلق بعض المخلوقات لغير الله ، واعتقاد كون بعض المخلوقات تملك جلب النفع ودفع الضر للعباد ، والدعاء والذبح والنذر والتعبد بغيرها من العبادات لغير الله تعالى.

_الشرك الأصغر ومنه كذلك الجلي والخفي وذلك بالغفلة عن نسبة النعم لله عز وجل ، أو تعظيم بعض الخلق بشهود الظاهر من تسببه في النفع والضر ، وإما بتعلق القلب بغير الله جل وعلا فيكون في القلب نوع تأله وتعبد لغير الله تعالى.

6 _2 الشرك عبادة للشيطان:

وكل شرك إنما هو من الشيطان لأن عبادة غير الله عز وجل إنما هي عبادة للشيطان كما قال الله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلا تعقلون}.

وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه آزر: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}.

فجعل إبراهيم عليه السلام عبادة أبيه للأصنام التي سماها آلهة عبادة للشيطان.

لأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ

6 _3 الآثار السيئة للشرك:

وكل شرك في أي نوع من هذه الأنواع له آثاره السيئة على العبد، من تسلط الشياطين، ومن عقوبات الذنوب والمعاصي.

7 _ الأمر الرابع:أن التعبد لله بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث واجب وبيان الآثار الجليلة لذلك

7 _1 ما يقتضيه الإيمان بربوبية الله تعالى وأثر ذلك:

فيقتضي التصديق بأنه خالقهم ومنشؤهم من العدم، ومصور صورهم ومقدر أرزاقهم وأقدارهم وآجالهم، وهو المنعم عليهم . فيؤثر هذا في قلب المؤمن الاعتراف بنعم الله جل وعلا وشكرها بالقول والعمل.

7 _2 ما يقتضيه الإيمان بملكه تعالى وأثر ذلك:

فيقتضي التصديق الجازم بأن الله تعالى هو الذي يملك الناس كلَّهم، لا يخرج أحد منهم عن ملكه، بل هو مالكهم الذي له جميع معاني الملك، فهو يملك أجسادهم وأرواحهم وجميع أعضائهم ومنافعهم، ويملك تصرفاتها، ويملك تدبيرها والتصرف فيها، فلا تتصرف إلا بإذنه، وهو الذي يملك بقاءهم وفناءهم؛ فيبقيهم متى شاء، ويفنيهم إذا شاء، ويعيدهم إذا شاء.

فيؤثر ذلك يقينهم بوجوب إخلاص العبادة لله وحده.

7 _3 ما يقتضيه الإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى :

فتقتضي إخلاص العبادة لله وحده؛ واجتناب جميع ما ينقض الإخلاص أو يضعفه.

8 _الأمر الخامس:أن مدار الخلق والأمر على هذه الصفات الثلاث:

_ فعالم الخلق بدؤه وملكه وغايته لله تعالى وحده لا شريك له ، فكله من خلق الله وإيجاده ، والخلق كلهم ملك لله يتصرف فيهم كيف يشاء ، وكلهم عباد لله طوعا وكرها قال تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}.

_ وكذلك عالم الأمر: فالله تعالى هو رب الناس وهو الذي يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يشاء ويحلّ لهم ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء ؛ كل ذلك من آثار ربوبيته لهم.

وهو تعالى ملك الناس: يثيب من يشاء ، ويعاقب من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويقرّب من يشاء، ويبعد من يشاء.

وهو سبحانه الحكم العدل في كل ذلك، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى.

9 _الأمر السادس:أن مدار عمل الشيطان على إخلال العباد بهذه الصفات الثلاث:

فميدان الصراع مع الشيطان هو في هذه الأمور الثلاثة؛ فمن أخلصها لله جل وعلا؛ فقد خلص من شر الشيطان وشركه، وكان من عباد الله المخلصين ، فإن ما يقدح في التوحيد يرجع دائما لهذه الأمور الثلاثة.

10 _ الأمر السابع:تضمن هذه السورة لإيجاز بديع لمدار الإبتلاء في هذه الحياة الدنيا وسبيل النجاة منه:

فبين الله للناس فيها أنه ربهم وملكهم وإلههم، وأن عدوهم هو الشيطان الرجيم، وأن سلاحه هو الوسوسة وأنه سعيه إنما هو ليشركوا بالله جل وعلا في ربوبيته وملكه وإلهيته ليكون مصيرهم إلى عذاب الله وسخطه،ثم بين لعباده سبيل النجاة من كيده وشره ، وأنه إنما يكون بالاستعاذة بالله جل وعلا بالقلب والقول والعمل.

11 _ الأمر الثامن:من حقق الإخلاص في التعبد لله بما تقتضيه هذه الصفات كان في عصمة من كيد عدوه:

فمن أحسن التعبد لله تعالى بهذه الصفات الجليلة فقد حُفظ من كيد كل وسواس خناس ، وكان في حفظ الله ورعايته ومعيّته، لا يخاف ولا يحزن، ولا يضلّ ولا يشقى ، فإذا كنت تؤمن بأن الله تعالى هو ربّ الناس فليظهر أثر هذا الإيمان على عامّ شأنك وخاصّه، وفي حال الشدة والرخاء، وحال العافية والبلاء.

11 _1 أقسام الناس من حيث تقصيرهم في الإيمان بربوبية الله في حالتي الرخاء والشدة

أما في حالة الرخاء فهم طائفتان:

_ الطائفة الأولى: فمنهم من إذا كان في عافية وَدَعَة نسي أن الله تعالى هو ربّ الناس، وهو وإن كان يقر بذلك بلسانه لكنّ قلبه في غفلة عن ذلك، وعملُه عمل الغافل اللاهي عن هذه الحقيقة العظيمة وهي أن الله ربّ الناس، فتراه يعظّم ما حقّره الله، ويستهين بما عظّمه الله، ويقبل على ما أمر الله بالإعراض عنه ، ويعرض عما أمر الله بالإقبال عليه .

_ الطائفة الثانية: وهم بعكس الطائفة الأولى يذكرون الله تعالى ويعظمونه بالقول والعمل ، ويرغبون فيما رغب فيه ، ويشكرونه على نعمه ويتفكرون في مخلوقاته.

وأما في حال الشدة فينقسمون ثلاثة أقسام:

- قسم يتضرعون إلى الله ويوحدونه ويمجدونه ويتوبون إليه ويستعيذون به فينجيهم الله ويتوب عليهم.

- وقسم يلجؤون إلى غيره ويستعيذون بغيره فيحق عليهم الغضب.

- وقسم يكون أصل لجوئهم واستعاذتهم بالله، لكن يكون في تلك الاستعاذة من التفريط والتقصير وضعف التوبة ما يجعلهم متذبذبين بين العافية والبلاء، وبين الطمأنينة والشقاء، وهم على درجات في ذلك.

11 -2 ثمرات الإيمان بملك الله تعالى:

فإذا حقق العبد الإيمان بملك الله عز وجل أثمر له ذلك حسن التوكل على الله جلّ وعلا ، ولم يستعجل شيئاً قبل أوانه، ولم يطلب فضل الله بمعصية الله، بل يسير بنور من الله على هدى من الله ويصبر على ما ابتلاه به الله، حتى يفرج الله عنه، لا يتكلّف شيئاً قبل أوانه فيطلبه بمعصية الله، ولا يفرّط ويهمل ويترك ما أمر الله به من بذل الأسباب المشروعة لجلب النفع ودفع الضر. فإذا فعل العبد ذلك كان مهتدياً بالله متبعاً لرضوان الله في هذا.

11 _3 ثمرات الإيمان بألوهية الله عز وجل:

وكذلك إيمان العبد بأن الله تعالى هو إله الناس يثمر له اليقين بأنّ كل ما يُدعى من دونه فهو باطل، وكلّ تعلّق بغيره فهو عناء وشقاء، وكل ما يطلبه الناس لجلب النفع أو دفع الضر بغير هدى الله فإنما ذلك عليهم وبال وشقاء.

12 _السعادة الحقيقية هي في الرضا بالله ربا وملكا وإلها:

أسعد الناس هو من رضي بالله ربَّا ورضي به ملكاً ورضي به إلها؛ لأنه يستريح من العناء الكثير والشقاء العظيم الذي وقع فيه من لم يتبع هدى الله في كل ذلك.

12 _1 بعض من ثمرات هذا الرضا:

الاستراحة من العناء الكثيروالشقاء العظيم ، ولزوم هدى الله في أمره كله ، والفوز برضوان الله.

12 _2 ذكرأمور تخدش هذا الرضا:

- فالذي يتسخط مما ابتلي به لم يرض بالله ربّا.

- والذي يصدّق السحرة والكهنة والجهلة فيما يزعمون من التصرفات ويستعجل دفع البلاء أو جلب النفع بالذهاب إليهم واللجوء إليهم واتباعهم فيما يأمرون مما يسخط الله لم يرض بالله ملكاً.

- والذي لا يتّقي ما بيَّنه الله له وأوجب عليه أن يتقيه؛ متسببٌ على نفسه بالضلال.

- والذي لا يلجأ إلى الله تعالى في السراء والضراء ولا يدعوه ولا يرجوه لم يرض بالله إلها.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الطالب, صفحة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:05 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir