اكتب رسالة مختصرة تبيّن فيها يسر الشريعة بناء على ما درسته في تفسير آيات الطلاق.
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد
خلق الله عباده ولم يتركهم هملا، بل أرسل لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وإن مما لا شك فيه، أن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – هو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله تعالى بدين الإسلام، أكمل الأديان وأفضلها، وأعلاها وأجلها، وقد حوى من المحاسن والكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة ما يشهد لله تعالى بالكمال المطلق، وسعة العلم والحكمة.
وهذا الدين الإسلامي لهو أعظم برهان، وأجل شاهد لله بالتفرد والكمال المطلق، ولنبيه بالرسالة والصدق، قال تعالى في وصف نبي الرحمة: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وإني لأجدني مضطرة لهذه المقدمة، لبيان سماحة هذا الشرع ويسره، الدال على رحمة مشرعه، ورأفة نبيه، لما أراه من تفلت المحيطين وانسلالهم من الدين كانسلال الشعرة من العجين، زاعمين أن الدين عسر، ولا طاقة لهم اليوم بتعاليمه وبشرائعه، ضاربين بعرض الحائط ذلك الكم الهائل من الأحكام الميسرة التي راعت كافة أحوال الناس ومعايشهم. فأين هم عن قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم"؟ فربط الأمر بالاستطاعة، بينما النهي جاء على ما هو عليه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) [1]. ومن أجل التوجيهات للدعاة إلى الله أن يستعملوا باب محاسن الدين كمدخل على قلوب غير المسلمين، ليستميلوهم إلى هذا الدين العظيم.
فإن أخذنا الطلاق كنموذج على يسر الشريعة ومحاسن الدين، نرى أن النصارى لا طلاق في دينهم، مما يفتح أبواب الخيانات عند الزوجين، ناهيك عن التعنيف الذي قد يصل إلى القتل، لفك عقدة النكاح الذي يرونه أبديا، بل قد تجد عزوفا كبيرا عن الزواج عندهم تنصلا من تبعاته خاصة وأنهم قد أباحوا لأنفسهم ما يباح للزوجين.
أما عندنا، فقد جاء ديننا وسطا في كل الأمور، بما فيها الطلاق، حيث رغّب الشارع في الزواج والمحافظة على ديمومته، وسماه تعالى ميثاقا غليظا، قال تعالى: "وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا"، وندب إلى الزوجين إلى إحسان العشرة بينهما، وبيّن حقوق كل واحد منهما. أما إن حصل ما يكدر صفو الحياة الزوجية فقد أباح تعالى الطلاق دونما إفراط ولا تفريط.
- فمن يسر الشريعة، أن جعل الله أمر الطلاق بيد الزوج لتوافق ذلك مع فطرة الرجل وقوامته التي منحها الله إياها كونه المنفق على الزوجة، والذي سيفوته الكثير من المصالح بهذا الطلاق، فلن يتعجل بتطليق زوجه كونه صاحب المهر ومؤخر الصداق ونحوه، قال تعالى: "وللرجال عليهن درجة"، بينما نلحظ ضعف المرأة في هذا الجانب كون العاطفة لديها تحدد الكثير من قراراتها.
- ومنعت الشريعة دوام إيلاء الزوج لزوجته، فهدمت بذلك عادات الجاهلية حين كان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته إيذاء لها، ومنعا لها من أن تتخذ زوجا غيره، قال تعالى: "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم"، فحدّه الله بحد لا يضر بكليهما، وبقي للحالف فسحة فيما دون الأربعة أشهر.
- كما شرع الدين للمطلقة المدخول بها فترة العدة، وحدها بثلاثة قروء، والتي هي إما ثلاث حيضات وإما ثلاثة أطهار، وهذا لغير الحامل، ولا التي لم تحض، ولا القاعد، فقال تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فألغت بذلك عادة الجاهلية الذين لم تكن عندهم عدة، فصار من حق الزوج إرجاع زوجته في تلك المدة، التي ربما تسرع في تطليقها فندم، فلا ينهدم بيت الزوجية ويتشرد الأبناء في ساعة غضب أو تعجل مذموم.
- كما ألزمت الشريعة الزوجة بألا تكتم الحبل إن كان في رحمها جنينا، قال تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، فجعلها الله مؤتمنة على ذلك، حفظا لحق الزوج في إلزام الابن لأبيه، وحفظا لحق المولود في أن ينشأ الابن بين أبويه إن تراجع الزوج عن التطليق بعد علمه بالحبل، وكذلك حفاظا على عروة الزواج والعمل على ديمومتها.
- راعت الشريعة العشرة بين الزوجين، فجعلت الأولوية في الرجوع هي لأزواج ما قبل انقضاء القروء الثلاثة، إن أرادوا ردهن على جهة الإصلاح، قال تعالى: "وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا". فأعطت للمطلقة حق الاختيار ما بين العودة للأول، أو غيره، واشترطت الإصلاح كشرط لعودة المطلقة إلى زوجها الأول.
- ويظهر اهتمام الشريعة بالتفاصيل الدقيقة في مشاعر الزوجة، لتدفع التوهم الحاصل في أن الزواج هو فقط قضاء لوطر الزوج، بل بيّن تعالى أن للمرأة الحق في اللذة تماما كما للرجل، قال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". بل وكما للزوج الحق في أن تتزين له زوجته، كذلك لها الحق بأن لا ترى منه إلا كل مليح، وألا تشم منه إلا أطيب ريح. وما يتبع ذلك من حسن العشرة وضمان جميع الحقوق الزوجية.
- من يسر الشريعة وسماحة الدين أنه لم يجعل مرات الطلاق دونما عدد كما كانت عادة الجاهلية، حيث كان الرجل أن يطلق وقتما شاء، ويرجع امراته دون مهر ولا ولي متى شاء، فجاء الشرع بقصر الطلقات إلى ثلاث، مع إباحة الرجعة في المرة والثنتين، قال تعالى: "الطلاق مرتان"، فرفع بذلك الضرر عن المرأة.
- من رحمة الله بنا أن جعل شريعتنا السمحاء وسطا، فمن أراد فراق زوجته فليفارقها بإحسان، وذلك بأن يتركها تتم العدة من الثانية ثم تكون أملك لنفسها، وإن أراد أن يمسكها فلا يظلمها حقوقها ولا يعتدي، قال تعالى: "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
- من تسرع في يمين الطلاق على زوجته، فله أن يرجعها مع التزام حسن العشرة والتزام الحقوق الزوجية.
- حفظت الشريعة للمرأة حقوقها، فمنعت المطلق من أن يأخذ من مطلقته شيئا على وجه المضارة، قال تعالى: "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فجعلت الشرط في استرداد الزوج ما دفعه لزوجته هو نشوز الزوجة وفساد العشرة بينهما.
- كما حرمت عليه التضييق عليها ليجبرها على الافتداء مما أعطاها من الأصدقة أو ببعضه، قال تعالى: "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
- أما إن تضررت الزوجة من هذا النكاح، فقد أباح لها الشرع خلع نفسها، وذلك بأن تصطلح مع الزوج على ما يحقق مصالحهما، قال تعالى: "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به"، فذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الزوج وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي نفسها منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها.
- أما إن استحالت الحياة الزوجية بعد الثلاث طلقات، فأباح الشرع للمطلقة أن تتزوج رجلا آخر بمرد انتهاء عدتها، على أن يكون نكاحا حقيقيا بالوطء، قال تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره".
- وأما إن طلقها الثاني، فلها أن تعود للأول - إن شاءت – دون أن يأثما، قال تعالى: "فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله"، فيتعاشران بالمعروف.
- نهت الشريعة عن التلاعب بالطلاق جدا أو هزلا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة). [2]
وقال تعالى: "ولا تتخذوا آيات الله هزوا".
- أما إن طلق الرجل امرأته، فله أن يمسكها بمعروف، وذلك بأن يتركها في منزله ولا يخرجها منه طالما كان الطلاق رجعيا، لعل الله يشرح صدره فيحن لأيام العشرة التي كانت بينهما، وهذا يبين لنا حرص الدين على ديمومة عقد الزواج، أو إن لم ينو إرجاعها وانقضت عدتها، فعليه أن يسرحها بإحسان من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
- كما نهت الشريعة ولي المرأة عن عضلها، وهو أن يمنعها من الرجوع لزوجها دونما سبب وجيه معتبر، قال تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن ازواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
وهذا غيض من فيض، فمن تأمل أحوال الطلاق والقيود التي وضعها الشارع حفظا للحقوق، وسلامة للأسر المسلمة، لأدرك عظمة هذا الدين الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ووضع لها الأحكام التي تنسجم مع طبيعة البشر ولا تضاد فطرهم السليمة.
فهذا ديني، فليرني النسويات دينهن! فوالله لن تجد المرأة المسلمة دينا سمحا شاملا متوافقا كالإسلام، أبعد هذا النور تختار بعد بنات جلدتنا دينا آخر من الشرق أو من الغرب، فاللهم نسألك أن ترد أخواتنا للدين ردا جميلا.
فاللهم لك الحمد أن جعلتنا مسلمين، ثبتنا على هذا الدين القويم حتى نلقاك، فندخل جنة النعيم.
والحمد لله رب العالمين
[1] صحيح مسلم (1337).
[2] أبو داوود (2194)، الترمذي (1184)، ابن ماجه (2039)، والحاكم (198/2).
2. أجب على إحدى المجموعتين التاليتين:
المجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.
تناولت الآية المسائل التفسيرية التالية:
• سبب النزول
- روى الإمام احمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلمّا بلغ: "فهل أنتم منتهون"؟. قال عمر: انتهينا، انتهينا
. وهكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ وابن مردويه من طريق الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفيّ، عن عمر. وليس له عنه سواه، لكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. ذكره ابن كثير.
• من السائلون؟
المؤمنون، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر لشيوعها في الجاهلية. ذكره الزجاج.
• معنى "الخمر"
هو كل ما ستر الإنسان من شجر وغيره، ويقال: دخل فلان في خمار أي في الكثير الذي يستتر فيه وخمار المرأة قناعها، وإنما قيل له خمار لأنه يغطي.
والخمرة التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العجين وخمرته، وفطرته وأفطرته.. ذكره الزجاج.
الأدلة والشواهد:
- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خمروا الإناء). ذكره ابن عطية.
• المراد بالخمر
هو ما أسكر العقل وستره ومخالط له ومغط عليه. هو حاصل ما ذكره الزجاج وابن عطية.
و يدخل في حكمها كل ما عمل عمل الخمر فخامر العقل، وأن يكون في التحريم بمنزلتها أي في حكمها. ذكره الزجاج وابن عطية.
وأن المتعارف عليه هو خمر العنب إذا غلي ولم يطبخ. ذكره ابن عطية.
• حكم شرب الخمر وما في حكمه
جمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره، فقليله حرام. ذكره ابن عطية.
فيدخل فيه الخمر المجمع لعيه، وكل ما أسكر من غير خمر العنب.
الأدلة والشواهد:
عن ابن عمر رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام). ذكره ابن عطية.
• الحد في شرب الخمر
الحد واجب في القليل كما في الكثير، وقد جاء عن أهل العلم عدة أقوال:
القول الأول: الجلد أربعين مرة. حرزه أبو بكر وعمل بذلك عمر، ثم تهافت الناس فيها، فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين، وبه قال مالك، وقال الشافعي بالأربعين. ذكره ابن عطية.
القول الثاني: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضربا مشاعا. ذكره ابن عطية.
على أن لا يكون الضرب شديدا بحيث يبدو إبط الضارب، على أن يجتنب من المضروب الوجه والفرج والدماغ والخواصر بإجماع.
• مراحل تحريم الخمر
أرجح الأقوال أن الآية غير منسوخة، ولكنها تمهيد للنهي عن شربها، فتكون مراحل تحريم الخمر:
المرحلة الأولى: هذه الآية "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما اكبر من نفعهما". فجاء الأمر بداية بالتزهيد فيها. ذكره الزجاج.
ودليله قوله تعالى: "قل فيهما إثم كبير": فيكون قد زهّد فيها، فتعتبر أول تطرق إلى تحريم الخمر. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
قال سعيد بن جبير: لما نزلت "قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس": كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع. ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
ولهذا قال عمر، رضي اللّه عنه، لمّا قرئت عليه: اللّهمّ بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، حتّى نزل التّصريح بتحريمها في سورة المائدة: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون * إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون. ذكره ابن كثير.
المرحلة الثانية: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى". ذكره ابن عطية.
المرحلة الثالثة: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون، إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون". ذكره الزجاج وابن عطية.
الأدلة والشواهد:
- ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] قال: «انتهينا، انتهينا»، ذكره ابن عطية.
المرحلة الرابعة: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه". ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر". ذكره ابن عطية.
وقال بعض أهل النظر: بأن الخمر قد حرمت بالآية: قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثما، فهي حرام. ولم يجوّده ابن عطية، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. وقال قتادة: ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها.
• معنى "الميسر"
مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر. والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسرا لأنه موضع اليسر، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة.
ومنه قول الشاعر:
فلم يزل بك واشيهم ومكرهم = حتّى أشاطوا بغيب لحم من يسروا
واليسر: الذي يدخل في الضرب بالقداح. ذكره ابن عطية.
• المراد بالميسر
هو القمار، ذكره الزجاج وابن كثير.
قال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز. ذكره ابن عطية.
• القراءات في "كبير"
القراءة الأولى: كبير. وهي قراءة جمهور الناس وذكرها الزجاج وابن عطية.
وقال ابن عطية:
- وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق.
- ولاتفاق الجمهور على "أكبر" حجة للقراءة بها، وإجماعهم على رفض القراءة ب "كثير".
القراءة الثانية: كثير. في مصحف ابن مسعود وقرأها حمزة والكسائي. وذكره الزجاج وابن عطية.
وقال ابن عطية: وحجتها:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فهذه آثام كثيرة.
- وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك.
• متعلق "الإثم الكبير والمنافع" التي في الخمر والميسر
القول الأول: أن الإثم والسوء الذي فيهما، أكبر من المنافع التي فيهما، أي أن مفسدتهما ومضرتهما راجحة لا توازيها المصالح لتعلق الخمر بالعقل والدين. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
القول الثاني: أن الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبلها. قاله ابن عباس والربيع. وذكره ابن عطية.
القول الثالث: إثمهما في الدين. ذكره ابن كثير.
• الإثم الكبير الذي في الخمر والميسر
القول الأول: جاء في آية المائدة: "إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون".
فبيّن بأن الخمر: توقع العداوة والبغضاء وتحول بين المرء وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه. ذكره الزجاج.
وأما الميسر: يورث العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه. ذكره الزجاج.
القول الثاني: الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها، وفي الميسر أكل المال بالباطل. ذكره ابن عطية.
القول الثالث: الإثم في الخمر أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة. ذكره ابن عطية.
القول الرابع: إثمهما في الدين. ذكره ابن كثير.
• المنافع التي للناس في الخمر والميسر
القول الأول: فاللذة في الخمر والربح في المتجّر فيها، وكذلك المنفعة في القمار، يصير الشيء إلى الإنسان بغير كد ولا تعب. قاله مجاهد وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
الأدلة والشواهد:
حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا = وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
إلى غير ذلك من أفراحها. ذكره ابن عطية وابن كثير.
القول الثاني: فالخمر فيها نفع للبدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها. والميسر منفعته: بأن ما كان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ذكره ابن كثير.
2. حرّر القول في كل من:
أ: المراد بالقرء في قوله تعالى: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء}.
القرء لغة هو الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله، وقرء الريح وقت هبوبها. ذكره ابن عطية.
قال ابن جرير: أصل القرء في كلام العرب: الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. ذكره ابن كثير.
ف "القرء" هو من المشتركات اللفظية التي تحتمل معنيين متضادين:
قال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمّي الحيض: قرءًا، وتسمّي الطّهر: قرءًا، وتسمّي الحيض مع الطّهر جميعًا: قرءًا. وقال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أنّ القرء يراد به الحيض ويراد به الطّهر. ذكره ابن كثير.
ومن هنا يتبين أن للعلماء قولان في المراد ب "القرء"، هما:
القول الأول: أنه الحيض. قاله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي الدّرداء، وعبادة بن الصّامت، وأنس بن مالكٍ، وابن مسعودٍ، ومعاذٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، ومحمّد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشّعبيّ، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، ومكحولٍ، والضّحّاك، وعطاءٍ الخراسانيّ وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم وأهل الكوفة، وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصحّ الرّوايتين عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، وحكى عنه الأثرم أنّه قال: الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثّوريّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
وحجة أهل الكوفة في أن الأقراء و (القراء) والقروء الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم: (تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك) فهذا يعني أنّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيض، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال: (إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر فتطهّري، وصلّي ما بين القرء إلى القرء).
فهذا مذهب الكوفيين، والذي يقويه من مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول: القرء الحيض، ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت.
وقال الكسائي والقراء جميعا: أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ. ذكره الزجاج.
الأدلة والشواهد:
ويؤيّد هذا ما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود والنّسائيّ، من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزّبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لها: "دعي الصّلاة أيّام أقرائك". فهذا لو صحّ لكان صريحًا في أنّ القرء هو الحيض، ولكنّ المنذر هذا قال فيه أبو حاتمٍ: مجهولٌ ليس بمشهورٍ. وذكره ابن حبّان في الثّقات. ذكره ابن كثير.
القول الثاني: الطهر. قالته عائشة وقاله ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابتٍ، وسالمٍ، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسارٍ، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباحٍ، وقتادة، والزّهريّ، وبقيّة الفقهاء السّبعة، وهو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ [وغير واحدٍ، وداود وأبي ثورٍ، وهو روايةٌ عن أحمد، وسليمان بن يسار ومالك وأهل الحجاز، وذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
وقال أهل الحجاز: الأقراء والقروء واحد، وأحدهما قرء، مثل قولك: فرع، وهما الأطهار، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت: الأقراء الأطهار، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك، وفقهاء أهل المدينة، والذي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراء الأطهار.
الأدلة والشواهد:
- قول الأعشى:
مورّثة مالا وفي الأصل رفعة... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ذكره ابن كثير.
فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.
- قال ابن كثير: وقال مالكٌ في الموطّأ عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة أنّها قالت: انتقلت حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ، حين دخلت في الدّم من الحيضة الثّالثة، قال الزّهريّ: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرّحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناسٌ فقالوا: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: " ثلاثة قروءٍ " فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراء؟ إنّما الأقراء: الأطهار.
- بقوله تعالى: {فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} أي: في الأطهار. ولمّا كان الطّهر الّذي يطلّق فيه محتسبًا، دلّ على أنّه أحد الأقراء الثّلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إنّ المعتدة تنقضي عدّتها وتبين من زوجها بالطّعن في الحيضة الثّالثة، وأقلّ مدّةٍ تصدّق فيها المرأة في انقضاء عدّتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان]. ذكره ابن كثير.
وبتوجيه الأقوال، نرى أن كلا المعنيين صحيحين
والمعنى: إذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأها فيه، اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، ثم استقبل طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة. ذكره ابن عطية.
وكذلك المعنى الآخر الصحيح وهو: فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة. ذكره ابن عطية.
ب: المراد بقوله تعالى: {ما خلق الله في أرحامهنّ}، والحكمة من النهي عن كتمه.
جاء عن أهل العلم عدة أقوال في المراد ب "ما خلق الله في أرحامهن" يمكن اختصارها إلى قولين، هما
القول الأول: الحمل. قاله عمر وابن عباس وقتادة والسدي وذكره الزجاج وابن عطية.
القول الثاني: الحيض. قاله إبراهيم النخعي وعكرمة، وذكره ابن عطية ورجحه.
ومن السلف من قال بكلا القولين: الحمل والحيض. قاله ابن عمر وابن عباس ومجاهد والربيع والشعبي والحكم بن عيينة وابن زيد والضحاك وغير واحد، وذكره ابن عطية وابن كثير.
فيكون المعنى: ولا يحل للمطلقات أن يكتمن أمر الولد أي حملهن، وكذلك لا يحل لهن أن يكتمن حيضهن، فيقلن: لم نحض.
والحكمة من النهي عن كتمه:
** فإن كان كتمان أمر الحمل، فإن ضرره ب:
- إلزام الولد إلى غير أبيه. ذكره الزجاج.
- انقطاع حق الزوج من الارتجاع. ذكره ابن عطية.
الأدلة والشواهد:
- لأن اللّه جلّ وعزّ قال: {هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} ذكره الزجاج.
- وقال: (ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) فوصف خلق الولد. ذكره الزجاج.
- وقال قتادة: «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية»، وقال السدي: «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في ذلك». ذكره ابن عطية.
** وإن كان كتمان أمر الحيض فإن ضرره ب:
- ذهبت بحقه من الارتجاع. ذكره ابن عطية.
- وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرت به. ذكره ابن عطية.
- أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه. ذكره ابن عطية.
- وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع. ذكره ابن عطية.