المثال الأول: تحرير القول في المراد بالبطشة الكبرى في قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}
اختلف العلماء في المراد بالبطشة الكبرى على قولين:
القول الأول: هي بطشة اللّه بمشركي قريشٍ يوم بدرٍ، وهو قول ابن مسعود، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس والضحاك وعكرمة.
- قال ابن جرير: (بطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدّنيا فأهلكهم قتلاً بالسيف).
- قال الثعلبي: (هذا قول أكثر العلماء).
- وقال مكي بن أبي طالب: (وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين).
- وقال البغوي: (وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء).
التخريج:
- أما قول ابن مسعود فرواه عبد الرزاق في تفسيره وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وابن جرير في تفسيره، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، كلهم من طريق أبي الضحى مسلم بن صبيح القرشي عن مسروق عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال: (يعني يوم بدر)، وللأثر قصة رويت بألفاظ متقاربة، وله طرق أخرى عند ابن جرير.
- وأما قول سعيد بن جبير فرواه ابن الجعد في مسنده من طريق شريك النخعي عن سالم الأفطس عنه.
- وأما قول مجاهد فرواه ابن جرير من طرق عنه، ورواه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني في تفسير مجاهد.
- وأما قول أبي العالية فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق ابن عون عنه، ورواه ابن جرير في تفسيره من طريق ابن أبي عدي عنه.
- وأما قول عطاء الخراساني فهو في تفسيره الذي رواه رشدين بن سعد عن يونس بن يزيد الأيلي عنه.
- أما القول المروي عن أبيّ بن كعب؛ فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق قتادة عن أبي الخليل عن مجاهد عن أبيّ، وهو منقطع، ورواه عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة أنه بلغه عن أبيّ.
- وأما القول المروي عن ابن عباس فرواه ابن جرير من طريق محمد بن سعد العوفي عن آبائه عن ابن عباس.
- وأما القول المروي عن الضحاك فرواه ابن جرير بإسناد فيه انقطاع؛ فقال: (حدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى}: يوم بدرٍ).
- وأما القول المروي عن عكرمة فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عن رجل لم يسمّه، وأنّه رجع إلى هذا القول.
القول الثاني: هي بطشة اللّه بأعدائه يوم القيامة، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن البصري.
قال ابن عبّاسٍ: (قال ابن مسعودٍ: "البطشة الكبرى: يوم بدرٍ"، وأنا أقول: هي يوم القيامة). رواه ابن جرير من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس، وصححه ابن كثير.
قال ابن كثير: (والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا)
التخريج:
- أما قول ابن عباس فتقدّم تخريجه.
- وأما قول عكرمة فرواه ابن جرير من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عنه، وذكر إبراهيم عن رجل عن عكرمة أنه رجع عنه إلى القول الأول.
- وأما قول الحسن البصري فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه، ورواه أبو القاسم البغوي في "نسخة طالوت" بإسناد منقطع، ورواه عبد بن حميد كما في الدر المنثور.
الدراسة:
أما القول الأول فمبناه على أن الخطاب في الآيات لمشركي مكّة، وأنّ المراد بالدخان هو ما رأوه من جهد الجوع، وأنّ الله تعالى كشفه عنهم، ثم عادوا؛ فانتقم الله منهم يوم بدر بالبطشة الكبرى التي أهلكتهم، وأنّ المراد بالبطشة الأخذة التي يكون بها هلاك المكذبين للرسل، كما قال الله تعالى في إنذار لوط لقومه: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)}.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )) قال: ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }).
وهذا الأخذ الذي يكون به الهلاك هو معنى البطشة، وسميت بالبطشة الكبرى لأنها كُبرى البطشات التي يكون بها هلاكهم في الدنيا فلا نجاة لهم بعدها.
وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لمشركي قريش ، وقد وقع ما توعّدهم الله به من البطشة التي أهلكتهم، فحكمها عامّ في كلّ من فعل مثل فعلهم.
وأما القول الثاني فمبناه على أنّ المراد بالدخان ما يكون من أشراط الساعة، وأنّ وصف "الكبرى" يدلّ على منتهى الغاية، والبطشة يوم القيامة أشدّ وأكبر من بطشة يوم بدر، وهي أولى بوصف "الكبرى" عند الموازنة.
وهي أوفق لعموم ألفاظ القرآن فتشمل النقمة من جميع الكفار، ولا تختص بقتلى المشركين يوم بدر.
ولا ريب أن أكبر البطشات هي بطشة الله عز وجل بأعدائه يوم القيامة، كما دل على ذلك قول الله تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.
والراجح أن الآية تشمل القولين جميعاً، وأنّ أولى من يدخل في هذه الآية قتلى يوم بدر من المشركين، وكلّ من فعل مثل فعلهم من الكفر والتولّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الاتعاظ بما يصيبه من العذاب الأدنى في حياته الدنيوية فهو مستحقّ لنقمة الله تعالى منه ببطشةٍ كبرى تهلكه في الدنيا، وبطشةٍ كبرى في الآخرة يكون بها العذاب الأبدي.
وأسماء التفضيل يدخلها الاشتراك بتعدد الاعتبارات:
- فالبطشة الدنيوية التي تهلك صاحبها هي كبرى باعتبار البطشات في الدنيا.
- والبطشة التي يكون بها العذاب الأبدي في نار جهنم هي البطشة الكبرى والعذاب الأشدّ.
والقولان المذكوران في تفسير الآية صحيحان عن السلف، ودلالة الآية تسعهما، والراجح حمل الآية على المعنيين جميعاً.
قال السعدي: (إذا نزَّلت هذه الآيات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك، بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح والله أعلم).ا.هـ.
وقال محمد الأمين الشنقيطي: (وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة، ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة.
وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى.
وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن بأدلته)ا.هـ.
وقد ذكر الماوردي قولاً ثالثاً في هذه المسألة من باب الاحتمال، وهو أن يكون المراد بالبطشة الكبرى قيام الساعة لأنها هي خاتمة بطشاته في الدنيا، وهذا القول لم أجده منصوصاً عن أحد من السلف، وقد نقله القرطبي عن الماوردي، وسمكن أن يستدلّ له بقول الله تعالى: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}.
وهذا القول داخل في عموم معنى الآية؛ فالبطشة الكبرى في الدنيا تشمل كلّ ما يكون به هلاك المجرمين، وقيام الساعة هو خاتمة بطشات الدنيا.