دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى السابع ( المجموعة الأولى)

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 جمادى الآخرة 1441هـ/9-02-2020م, 04:09 AM
هيئة الإشراف هيئة الإشراف غير متواجد حالياً
معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,790
افتراضي نشر بحث اجتياز المستوى السادس

نشر بحث اجتياز المستوى السادس


يُنشر البحث بصورته النهائية في هذا الموضوع ويصحح في صفحات الاختبارات.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16 شعبان 1441هـ/9-04-2020م, 04:24 PM
سها حطب سها حطب غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 447
افتراضي بحث اجتياز المستوى السادس


تفسير قوله تعالى:
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67]
  • إعراب الآية:
(الواو) عاطفة.
(إذ) اسم دال على ما مضى من الزمن في محلّ نصب معطوف على نعمتي الآية السابقة.
(قال) فعل ماض مبني على الفتح.
(موسى) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمّة المقدّرة على الألف.
والجملة ( قال موسى ) في محل الجر مضاف إليه لإذ.
(لقوم) جارّ ومجرور متعلّق ب (قال) ، و (الهاء) مضاف إليه.
(يا) أداة نداء.
(قوم) منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدّرة على ما قبل الياء المحذوفة للتخفيف، و (الياء) المحذوفة مضاف إليه.
(إنّ) حرف مشبّه بالفعل للتوكيد.
(اللهَ) اسم إن منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
(يَأْمُرُكُمْ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على الرا و (الكاف) ضمير مفعول به و (الميم) حرف لجمع الذكور، ، والفاعل ضمير يعود على الله، وجملة (إِنَّ) في محل نصب مقول قال.
(أن) حرف مصدري ونصب.
(تذبحوا) مضارع منصوب وعلامة النصب حذف النون، والواو فاعل (بقرة) مفعول به منصوب.
والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بباء محذوفة متعلقة بيأمركم، تقديره: إن الله يأمركم بذبح بقرة.
(قالوا) فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.
(تَتَّخِذُنا) (الهمزة) للاستفهام الإنكاري (تتّخذ) مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت و (نا) ضمير في محلّ نصب مفعول به أول.
(هزوا) مفعول به ثان منصوب.
والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا.
(قال) فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة.
(أعوذ) مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا.
(بالله) جارّ ومجرور متعلّق ب (أعوذ).
(أن) حرف مصدري ونصب.
(أكون) فعل مضارع ناقص منصوب واسمه ضمير مستتر تقديره أنا.
(من الجاهلين) جارّ ومجرور وعلامة الجرّ الياء، وشبه الجملة في محل نصب خبر أكون.

  • مناسبة الآية لما قبلها:
ذكر الله تعالى فيما سبق بعض قبائح بني إسرائيل، وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، ثم أردفه هنا بذكر نوع آخر من مساوئهم وقبائحهم، ألا وهو مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إليهم، مع كثرة اللجاج والعناد للرسل وجفائهم في مخاطبة نبيهم موسى عليه السلام.
  • نظم القصة:
وأول هذه القصة، قوله سبحانه وتعالى الآتي: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} وإن كان مؤخرا في التلاوة.
  • وجه هذا الترتيب
ذكر الخازن في تفسيره :(وجهه أنه لما ذكر سابقا خبائثهم وجناياتهم ووبخوا عليها، ناسب أن يقدم في هذه القصة ما هو من قبائحهم، وهو تعنتهم على موسى، لتتصل قبائحهم بعضها ببعض).
وذكر ابن عاشور قولا آخر في تفسيره حيث قال: (فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة) وهي ( بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس)، (وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله: ويريكم آياته لعلكم تعقلون).

مقاصد الآية:
من مقاصد هذه الآية الكريمة:
الأول: توبيخ المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه.
الثاني: احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث.
الثالث: دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلامن قرأ الكتب أو أوحى إليه، وقد علم المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي وأن أهل الكتاب يعلمون برغم مخالفتهم له أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
  • المخاطب في الآية:
اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول لهم تعالى واذكروا إذ قال موسى لأسلافكم.
  • المراد بقوم موسى:
أي: بني إسرائيل.
  • معنى قوم:
يطلق على العقلاء خاصّة وقيل: يختصّ بالرجال لأنهم يقومون بالأمور، وهو قول كثير من أهل اللغة مثل الفراهيدي والأنباري وابن فارس والسمين الحلبي وغيرهم، قال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وقابله بقوله: {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقيل: لا يختصّ بالرجال، بل يطلق على الرجال والنساء، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ)، والمرسل إليهم يشمل النساء والرجال، ذكره الواحدي في البسيط والقرطبي في تفسيره والسمين الحلبي في الدر المصون.
وأصحاب هذا القول يقصرون التخصيص الوارد في بعض المواضع عليها، فيبطل فيها العموم.
وعلى القول الأول يكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع، وتغليب الرجال على النساء، قال ابن حيان ترجيحا للقول الأول: والمجاز خير من الاشتراك.
وقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وواحده امرؤ، وقياسه: أن لا يجمع، وشذّ جمعه حيث قالوا: أقوام، وجمع جمعه: أقاوم أو أقاويم.
  • معنى: ( بقرة)
البقر جنس سميت بذلك لأنهَا تشق الأرض بالحراثة، ذكره السمعاني.
وفي مسند أحمد ، حديث رقم 4184: ( أَن النبي نهى عن التبقر فِي الأهل والمال ) أَي: التَّوَسُّع، قال أحمد شاكر: سنده ظاهره الإنقطاع.
و (بقرةً) قال بعض العلماء: تاؤها للتأنيث وذكرها ثور.
وقال بعض العلماء: هي تاء الواحدة، والبقر يطلق على ذكره وأنثاه.
  • الحكمة من أمرهم بالذبح إجابة لسؤالهم عن القاتل:
لأن فيه إظهار لقدرة الله تعالى على إخراج الأشياء من أضدادها، فيحيى القتيل بقتل حي، ذكره سراج الدين بن عادل الحنبلي والقرطبي في تفسيريهما.
  • سبب أمرهم بذبح بقرة دونا عن غيرها من الأنعام:
نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ -ولم أجده في تفسيره : (لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته).
  • هل المأمور به في الآية أي بقرة أم بقرة معينة؟
القول الأول : أي بقرة :
روى هذا القول عبد الرحمن الهمذاني وابن جرير عن مجاهد، ورواه عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة، ورواه الطبري عن ابن عباس وعن عَبيدة وعن عكرمة وعن أبي العالية وابن زيد.
ونقله ابن كثير عن ابن جرير بإسناده عن ابن عباس وقال: (إسناده صحيح وقد رواه غير واحد عن ابن عباس )
ورى عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ عن بشر بن آدم، ثنا أبو سعيدٍ الحدّاد أحمد بن داود، ثنا سرور بن المغيرة الواسطيّ أبو عامرٍ، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «إنّ بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرةٍ لأجزأتهم، أو لأجازت عنهم». قال البزّار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد). [كشف الأستار عن زوائد البزار: 3 / 40]
وقال عنه ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة -رضي الله عنه-".
وأخرج الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم؛ شدد عليهم، والذي نفس محمد بيده؛ لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد).
وقتادة؛ غالب روايته عن التابعين
وروى سعيد بن منصور عن عكرمة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو أن بني إسرائيل أخذوا أدنى بقرة، فذبحوها، أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، ولولا أنهم قالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، ما وجدوها).
عزاه السيوطي في (الدر المنثور) إلى: الفريابي، وابن المنذر.
وفي الآية دليل على ثبوت العموم؛ لأن تقديرها: أن تذبحوا بقرة ما، كما تقول للغلام: ناولني حصاة، وادع لي رجلا، ذكره الجرجاني في درج الدرر في تفسير الآي والسور.
سبب استفصالهم عن أوصافها وقد أمروا بأي بقرة:
يحتمل ذلك عدة وجوه ذكرها النيسابوري في غرائب القرآن ورغائب الفرقان:
أحدها: أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى، وضعغه الطبري لأن الله لا يفرض فرضا على العباد إلا ويبنيه لهم.
ثانيها: أن القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال:المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى.
ثالثها: الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.

القول الثاني: إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها، ولهذا سألوا عن أوصافها:
ذكر الرازي في تفسيره لذلك عدة وجوه:
الأول: أنه إنه يصح أن يقال اذبح بقرة أي : اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت، ويصح أيضا أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت، لأنه لو أفاد العموم لكان قوله: اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريرا ولكان قوله: اذبحوا بقرة معينة نقضا، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول.
الثاني: أن قوله تعالى: فاذبحوا بقرة كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة، وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد، فإذن قوله: اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط، أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفادا من اللفظ.
الثالث: أن قوله تعالى: بقرة لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فردا معينا في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فردا أي فرد كان بدليل أنه إذا قال: رأيت رجلا فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك.
الرابع: قوله تعالى: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما لونها وقول الله تعالى: إنه يقول إنها بقرة لا فارض، ... إنها بقرة صفراء، ... إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت، بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة.
سبب تأخير البيان لصفة البقرة إن كانت بقرة معينة:
الذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا: إنه كان أمرا بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة.
وقال المانعون منه: سبب ذلك أنه كان أمرا بذبح أي بقرة كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك، وذلك لأن التكليف الأول كان كافيا لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقرة إذ ذاك هو الصلاح، فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد، لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختيارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا هاهنا.
وقيل: أن عدم تأخير البيان إنما يلزم لو كان الأمر على الفور.

سبب أمر الله تعالى لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة:
روى ابن جرير عن ابن عباس،وروى عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني وابن جرير عن مجاهد،
وروى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابْنِ سِيرِينَ، عن عبيدة السلماني، وروى عبد الرزاق عن قتادة ،وروى ابن جرير عن أبي العالية، وابن زيد، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي، ما مجموعه:
أن أخوين من بني إسرائل قتلا ابن عم لهما، فألقياه بين القريتين، فقاسوا ما بين القريتين فكانتا سواء فلما أصبحوا أخذوا أهل القرية فقالوا: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا،
وقيل كان رجل عقيم فقتله وليه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته،
وقيل كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه،
وقيل كان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه، فأشرف رئيس المدينة فنظر، فلم ير شيئا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب،
فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. وهموا أن يقتلوا، فقالوا أتقتتلون وفيكم نبي الله،فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ انْطَلَقُوا إِلَى مُوسَى فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يطلع على القاتل إن كنت نبيا كما تزعم،
في بيان من الذي جاء موسى:
قيل أن الذي جاء موسى هو القاتل، فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله،
وقيل أن الذي جاء موسى هم السبط الذين اتهموا فيه ، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به.
بيان دعاء موسى والأمر بذبح بقرة:

فدعا موسى ربه عز وجل، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأمره بذبح بقرة، فقال لهم، موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوه ببعضها فيحيا، فيخبركم بقاتله، واسم المقتول عاميل، فظنوا أنه يستهزئ بهم، فقالوا: نسألك عن القاتل لتخبرنا به، فتأمرنا بذبح بقرة استهزاء بنا، فذلك قولهم لموسى: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) يعني من المستهزئين، فعلموا أن عنده علم ذلك.

بيان تشديد بني إسرائيل على أنفسهم:

فسألوا موسى عن صفتها وشددوا فشدد الله عليهم فلم يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَبَاعَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا، أَوْ بِمِلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبً ، وقيل لم يجدوها إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.فَسَأَلُوا وَشَدَّدُوا , فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها.

وقيل كانت عند رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري ني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي، فأعطوه ثنتين فأبي، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها.

بيان الجزء الذي ضرب به القتيل:

فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها وقيل: فضرب بفخذ البقرة، وقيل ضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فقام حيا، فقال: قتلني فلان، ثم عاد في ميتته، فلم يورث قاتل بعد ذلك.

سياق آخر للقصة حكاه البغوي والخازن بدون سند أن حكمة ذلك: (أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لا بني حتى يكبر ، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق، فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا انطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت: أيها الفتى البار بوالدتك اركبني، فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا انطلق ، فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له أمه : إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق.
وبعث الله ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه وكان الله به خبيرا فقال له الملك:
بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق، وأتى الملك فقال:
استأمرت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال الملك:
فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك، فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها).

الحكم على هذه الإسرائيليات:
وهذه الروايات مما روي عن بني إسرائيل ولم يرد في شرعنا ما يناقضها ولا ما يثبت صحتها، فهي مما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم من التحديث به بدون أن نصدقه ولا نكذبه حتى لا نقع في القول على الله وأنبياءه بغير علم، ورجح بعض أهل العلم عدم روايتها تفسيرا للقرآن لما فيه من:
1- تحميل الآيات ما لا تحتمله.
2- التفسير بالضعيف المشكوك في صحة نسبه إلى قائله، لما في كتبهم من انقطاع.
قال بن كثير: (وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم).
قال السعدي : (واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة، ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (ولا حاجة بنا إلى أن نعلل لماذا قتل؛ أو لأي غرض؛ هذا ليس من الأمور التي تهمنا؛ لأن القرآن لم يتكلم بها؛ ولكن غاية ما يكون أن نأخذ عن بني إسرائيل ما لا يكون فيه قدح في القرآن، أو تكذيب له).

ومعنى الهزؤ في قوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
نقل الواحدي في التفسير البسيط عن أبي زيد قوله: هَزِئتُ به هُزْءًا وَمهْزَأةً، وهذا لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا؛ لأن الهُزْءَ حَدَثٌ، والمفعول الثاني من هذا الفعل يكون الأول كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ويكون التقدير: أتتخذنا أصحاب هزء.
الثاني: أن يكون جعل الهُزْءَ المهزوءَ به مثل الخلْق والصيد. وقوله : {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57] لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف، لأن الدِّين ليس بعين.
والهزؤ: اللعب والسخرية، كما قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسله ... قالت أراه معدما لا شيء له
المراد بقولهم : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}
فيها قولان :
الأول نقله البغوي عن الكلبي: أتستهزئ بنا ؟ نحن نسألك عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وقالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر ولم يعرفوا الحكمة فيه، وهو قول الطبري وعامة المفسرين.
الثاني ذكره السمرقندي والرازي: ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا، أي كأنهم لم يحققوا على موسى الاستهزاء.
الغرض من الاستفهام:
استفهام إنكاري.

ما يستلزمه قولهم لموسى أتتخذنا هزوا:
قال النيسابوري: (اختلف العلماء هاهنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر.
وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة).
وقال الماوردي: إنما يحمل على المجازاة، كقول نوح لقومه: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَن هذا الأمر من عند الله.

ومعنى {أَعُوذُ بِاللَّهِ}
قال بن فارس في مقاييس اللغة في مادة عوذ: (يدل على معنى واحد، وهو الالتجاء إلى الشيء، ثم يحمل عليه كل شيء لصق بشيء أو لازمه، قال الخليل: تقول أعوذ بالله - جل ثناؤه - أي ألجأ إليه - تبارك وتعالى -، عوذا أو عياذا. ذكر أيضا أنهم يقولون: فلان عياذ لك، أي ملجأ. وقولهم: معاذ الله، معناه أعوذ بالله).
وذكر قول لبيد:
والعين ساكنة على أطلائها ... عوذ تأجل بالفضاء بهامها
(تأجل: تصير آجالا، أي قطعا. وإنما سميت لما ذكرناه من ملازمة ولدها إياها، أو ملازمتها إياه).

معنى الجهل:
قال بن فارس في مقاييس اللغة:
(جهل) الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم،والآخر الخفة وخلاف الطمأنينة.
ومعنى قول موسى عليه السلام على الأول : أعوذ بالله من عدم العقل والجواب لا على وفق السؤال، ذكره البغوي.
ومعنى قول موسى عليه السلام على الثاني : أعوذ بالله من المستهزئين بالمؤمنين فأطلق الجهل على الاستهزاء، ذكره الزجاج
وقيل اطلق الجهل هنا على الاستهزاء إطلاقا لاسم السبب على المسبب، أَيْ: أعوذ بالله أن أكون مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بالمؤمنين، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك ذكره النيسابوري.


فوائد وعبر:
1-استخدام الأسلوب القصصي للتأثير في القلوب والتعليم هدي قرآني ونبوي.
2- التحذير من اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة، وتمحل المعاذير، التي يتسم بها بنو إسرائيل.
3 - التنطع في الدين والإلحاف في السؤال، يقتضي التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال».

4- التحذير من الاستهزاء بالأنبياء وبالأوامر.

5- قد لا تظهر الحكمة من الشرائع والأوامر في بداية الأمر، لكن على المسلم أن يلتزم الطاعة وإن لم تظهر له الحكمة.

6- الرد الرفيق على على السفاهات بالتعريض والتلميح يعيد المطاول لجادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه .

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 شوال 1441هـ/31-05-2020م, 04:56 AM
عائشة إبراهيم الزبيري عائشة إبراهيم الزبيري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
المشاركات: 328
افتراضي

بحث المستوى السادس
تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ).

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، كثر في سورة البقرة الحديث عن أخبار بني إسرائيل، وترتب على هذا كثرة الأخبار الإسرائيلية المذكورة في السورة، وقد قمت باختيار قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لتكون موضع دراستي للأخبار الإسرائيلية الواردة فيها، ومحاولة الحكم عليها.
وسأذكر في هذا البحث أولاً أهم المسائل المتعلقة بالمقطع الأول من الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، ثم سأذكر قصته والمسائل الواردة في القصة، وسأختم بالمسائل المتعلقة بخاتمة الآية: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ).

• المسائل الواردة في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ):
أولاً: الغرض من الاستفهام والمراد من (ألم تر):
قال تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم..) هذا استفهام غرضه التعجب والاستعظام لما فعله هؤلاء القوم كما يقال ألم تر إلى ما يصنع فلان؟، والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: ألم تعلم أو تخبر بإعلامي إياك، فالرؤيا هنا رؤية قلبية لا بصرية؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يدرك هؤلاء القوم، فكان تصديق خبر الله كالنظر إليه عياناً، وإن كان الخطاب في أصله للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعم أمته من بعده.

ثانياً: المراد من ألوف:
وقد ورد في المراد بألوف أقوال لأهل العلم:
القول الأول: ألوف جمع ألف، وهو العدد، قال به ابن عباس، وأبو مالك، والضحاك، ووهب بن منبه، والسدي، عطاء الخرساني، الحجاج بن أرطأة، وأبو صالح.

التخريج:
- أما قول ابن عباس، فقد رواه ابن جرير الطبري والحاكم في مستدركه من طريق سفيان عن ميسرة عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأخرجه كذلك وكيع والفريابي وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في الدر المنثور، ورواه الطبري أيضاً من طريق محمد بن سعد وعائلته الضعفاء.
ورواه ابن أبي حاتم فقال: (حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا عبد الحميد الحمّانيّ، عن النّضر أبي عمر الخزّاز، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ)، وعبد الحميد الحماني أختلف فيه الأئمة النقاد، وضعفوا النضر، وأخرج هذا الأثر كذلك عبد بن حميد من طريق عكرمة عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في الدر المنثور.
وكذلك رواه ابن جرير من طريق آخر فقال: (حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ)، وكذلك أخرجه ابن المنذر كما ذكره السيوطي في الدر المنثور، وابن جريج لم يلتق ابن عباس.
وابن عباس رضي الله عنه ممن لم يقرأ في كتب أهل الكتاب ولكنه يروي عمن قرأ فيه.
- وأما قول أبو مالك الغفاري فرواه ابن أبي حاتم من طريق أسباطٌ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وكذلك أخرجه ابن المنذر كما ذكره السيوطي، ولابن أبي حاتم رواية أخرى بدون ذكر السدي فيها، والسدي من غير المتثبتين.
- أما قول الضحاك فقد رواه ابن أبي حاتم بإسناد لا بأس به فقال: أخبرنا أبو زهرة أحمد بن الأزهر فيما كتب إلي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن علي بن الحكم، عن الضحاك، وكان لفظه: (وهم ألوف فالألوف، كثرة العدد) فلم يذكر عدداً محدداً.
- وأما قول وهب بن منبه فقد رواه ابن جرير الطبري فقال: (حدّثنا محمّد بن سهل بن عسكرٍ، قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدّثني عبد الصّمد أنّه سمع وهب بن منبّهٍ)، ووهب ممن قرأ في كتب أهل الكتاب، وقد كان حبراً قبل إسلامه.
- أما قول السدي فقد رواه الطبري فقال: حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، والسدي ممن لا يتثبت مما يرويه.
- أما قول عطاء الخرساني فقد رواه ابن جرير فقال حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن عوسجة، عن عطاءٍ الخراسانيّ، وهذه الرواية تحرّف فيها عباس إلى عبد الرحمن بن عوسجة عند الطبري، لأن عبد الرحمن أكبر من عطاء ولم يبلغه أبو أحمد الزبيري، وعباس هو المعروف بالرواية عن عطاء، كما ذكر إسلام منصور عبد الحميد في تخريجه لتفسير الطبري، وعطاء الخرساني ممن لا يتثبت مما يرويه.
- أما قول حجاج بن أرطأة فقد رواه ابن جرير فقال: حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن الحجّاج بن أرطأة، ومحمد بن حميد أغلب الائمة النقاد على تركه وتضعيفه.
- أما قول أبو صالح مولى أم هانئ فقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدّثنا أبي ثنا بكير بن الأسود العائذيّ، ثنا سعيد بن مسروقٍ الكنديّ، ثنا إسماعيل، عن أبي صالحٍ، وبكير لعله بكر وهو ليس بالقوي، وسعيد بن مسروق مجهول الحال.

ويتفرع عن هذا القول مسألة عدد الفارين، والأعداد التي ذكرت في الآثار هي:
1. ثلاثة آلاف أو أكثر، وهو مروي عن عطاء الخرساني.
2. تسعة آلاف، وهو مروي عن أبو صالح.
3. أربعة آلاف، وهو مروي عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير وعكرمة، وهب بن منبه، الحجاج بن أرطأة.
4. بضع وثلاثون ألف، وهو مروي عن السدي، وأبي مالك.
5. أربعون ألف أو ثمانون ألف، وقيل: أربعون ألفاً وثمانية آلاف، وهو مروي عن ابن عباس من طريق ابن جريج.
وقد سبق ذكر الأسانيد وتخريجها مع التعليق عليها.

ويمكننا تقسيم هذه الأقوال إلى قسمين: الأول: ما يساوي عشرة آلاف وأقل، والقسم الثاني: ما هو أكثر من عشرة آلاف.
أما الأقوال الداخلة في القسم الأول فهي ضعيفة، لأنه سبحانه وتعالى وصفهم بأنهم ألوف وهو جمع كثرة، ولا يطلق على ما دون العشرة بألوف، بل يقال آلاف على وزن أفعال لأنه جمع قلة، فما دون العشرة يطلق عليه آلاف وليس ألوف.
وبهذا يعلم بأن الأقوال الداخلة في القسم الثاني أقوى وأرجح لموافقتها للغة التي جاء بها القرآن، ونستطيع بهذا تبين صحة نسبة الآثار عن ابن عباس، فالآثار المروية عنه بأنهم أربعة آلاف من طريق سعيد بن جبير وعكرمة وإن كان ظاهرها الصحة إلا أنها فيها نكارة، لاستبعاد أن يخطأ من هو من أفصح العرب في هذا، أو أنه نقله عمن أخذه عنه ممن قرأ في كتب أهل الكتاب بدون تغيير فخالفت النص القرآني، فترد هذه الزيادة المنكرة ويبقى باقي الأثر متوقف فيه، والله أعلم.

القول الثاني: من الإتلاف، أي: خرجوا قلوبهم مؤتلفة غير مختلفة، وهو من آلف كقاعد وقعود كما ذكر البغوي، وقد قال النحاس عن هذا القول بأنه ليس بمعروف، وتفرد بهذا القول ابن زيد، رواه عنه ابن جرير فقال: حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال ابن زيدٍ: (قريةٌ كانت نزل بها الطّاعون، فخرجت طائفةٌ منهم، وأقامت طائفةٌ. فألحّ الطّاعون بالطّائفة الّتي أقامت، والّتي خرجت لم يصبها شيءٌ. ثمّ ارتفع، ثمّ نزل العام القابل، فخرجت طائفةٌ أكثر من الّتي خرجت أوّلاً. فاستحرّ الطّاعون بالطّائفة الّتي أقامت. فلمّا كان العام الثّالث نزل، فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال اللّه تعالى ذكره: {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ} ليست الفرقة أخرجتهم كما يخرج للحرب والقتال. قلوبهم مؤتلفةٌ، إنّما خرجوا فرارًا، فلمّا كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة...).
وهذه القصة قد رواها غيره بنفس السياق إلا إنها لم تحتوي على ما يشبه قوله: (ليست الفرقة أخرجتهم...)، ولعله فهمه من سياق القصة إذ هم قد خرجوا جميعاً في العام الثالث أو الثاني على بعض الروايات، ففسر لفظة ألوف بمعنى الإتلاف، وقد ذكر بعض من ساق هذه القصة بما يشبه سياقها عدد الفارين من ديارهم بخلافه لم يذكر عدد الفارين.
وإسناد هذا القصة والله أعلم صحيح، ولكنها شاذة مخالفة لما رواه الثقات غيره وما عليه الصحابة والتابعون من تفسير الألوف بالعدد، وقد قال ابن جرير الطبري: (وأولى القولين في تأويل قوله: {وهم ألوفٌ} بالصّواب، قول من قال: عنى بالألوف. كثرة العدد، دون قول من قال: عنى به الائتلاف، بمعنى ائتلاف قلوبهم، ... لإجماع الحجّة على أنّ ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشّاذّ ما استفاض به القول من الصّحابة، والتّابعين).

ثالثاً: وجه النصب في حذر الموت:
أما قوله تعالى: (حذر الموت) بنصب حذر، فذلك لأن أصل الكلام هنا هو: خرجوا من ديارهم لحذر الموت، فيكون مفعول لأجله منصوب، فلما حذفت اللام بقي النصب على حاله على أنه مفعول لأجله، ويجوز أن يكون النصب على المصدر، أي: خرجوا من ديارهم حذراً من الموت، وقد ذكر الوجهين الزجاج، والواحدي في البسيط، وقد ذكر القرطبي الوجه الأول.

رابعاً: سبب الموت الذي حذروا منه:
في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: الطاعون والوباء القاتل، قال به ابن عباس، وأبو مالك، وهلال بن يساف، والحسن، وقتادة، وعمرو بن دينار، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وابن زيد، وأشعث بن أسلم البصري.

التخريج:
- أما قول ابن عباس، فقد رواه ابن جرير الطبري والحاكم من طريق سفيان عن ميسرة عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وكذلك أخرجه وكيع والفريابي وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في الدر المنثور.
ورواه ابن أبي حاتم كذلك فقال: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا عبد الحميد الحمّانيّ، عن النّضر أبي عمر الخزّاز، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، وأخرجه كذلك عبد بن حميد من طريق عكرمة عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في الدر المنثور.
- أما قول أبو مالك فقد رواه ابن أبي حاتم من طريق أسباطٌ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وكذلك أخرجه ابن المنذر كما ذكره السيوطي.
- وأما قول هلال بن يساف فقد رواه ابن جرير فقال في أول السند (حدّثت عن عمّار بن الحسن) بصيغة المبني للمجهول، فهو معلق ضعيف، وفي رواية أخرى له قال فيها أنه إذا وقع الوجع، ولم يصرح بأنه الطاعون، والوجع اسم جامع لكل مرض مؤلم كما ذكر الفراهيدي في العين، وروى هذه الرواية ابن أبي حاتم والهمذاني في تفسير مجاهد من طريق حصين ابن عبد الرحمن السلمي عن هلال بن يساف.
- وأما قول الحسن فقد رواه ابن جرير من ثلاث طرق الاول قال فيه: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن الأشعث، عن الحسن، والثاني: قال فيه: حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الحسن، والثالث قال: حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيّوب. عن حمّاد بن عثمان، عن الحسن، وحماد بن عثمان مجهول الحال، أما الحسن فهو من التابعين الثقات.
- أما قول قتادة فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، ورواه ابن أبي حاتم فقال: (حدّثنا أبو زرعة ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة)، وقتادة من الثقات الذين حدثوا عمن قرأ كتب أهل الكتاب.
- وأما قول عمرو بن دينار فقد رواه ابن جرير والهمذاني من طريق ابن أبي نجيح عن عمرو بن دينار، ورواه ابن أبي حاتم بزيادة مجاهد بين ابن أبي نجيح وعمرو بن دينار.
- أما قول السدي فقد رواه الطبري فقال حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، والسدي ممن لا يتثبت مما يرويه.
- وأما قول محمد بن إسحاق فقد رواه ابن جرير حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، ومحمد بن حميد كما ذكرت سابقاً أغلب الأئمة النقاد على تضعيفه وتركه.
- وأما قول ابن زيد فقد رواه ابن جرير فقال: حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال ابن زيدٍ.
- وأما ما روي عن أشعث بن أسلم فقد رواه ابن جرير من طريق ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصريّ.

وقد ورد في شرعنا ما وافق هذا من النهي عن الخروج من الأرض التي نزل فيها البلاء والوجع، وألا يدخل تلك الأرض من ليس فيها، فقد روى البخاري في صحيحه عن عامر بن سعد، أنه سمع أسامة بن زيد، يحدث سعدا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال: «رجز، أو عذاب، عذب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه» (البخاري/ 6974) ورواه (مسلم/2218).
وكذلك الحادثة الشهيرة التي وقعت لعمر رضي الله عنه لما كان يريد دخول الشام فسمع عن انتشار الوباء فيها، فاستشار الصحابة هل يعود أو يدخل الشام، حتى استقر رأيه على العودة فقال أبو عبيدة الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف - وكان متغيبا في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. (البخاري باختصار/ 5729).
وكذلك ما رواه أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون " قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: "غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف" (المسند/ 25118)
وقد وردت هذه الأحاديث من طرق كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، جميعها تفيد نفس المعنى.

وقد يورد هنا إشكال، وهو أنه مادام أن الآجال مكتوبة ومحدده فلماذا نهى عليه الصلاة والسلام من دخول الأرض الموبوءة، وهو قد أمر بعدم الخروج منها، فلا فرق بين الدخول وبين البقاء فيها، فيجاب عنه بأربع إجابات ذكرها أهل العلم:
1. خوفاً على اعتقاده واعتقاد غيره، فإنه قد يدخلها فيدركه الموت فيها لحضور لأجله، فيصبح الناس يقولون لو لم يدخلها لما مات، فنهي عن دخولها لئلا يقال ذلك، وكذلك قد يقول بعد إصابته بالبلاء لولا دخولي لما نزل بي البلاء، وهذا كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)، ذكره الجصاص وابن العربي في أحكام القرآن، والقرطبي في تفسيره.
2. أنه يعرض نفسه للبلاء، وهذا لا يجوز لأنه وجب صيانة النفس من كل مكروه مخوف، ذكره ابن العربي في أحكام القرآن، والقرطبي.
3. لئلا يشتغل بالكرب الذي هو فيه عن مهمات دينه، ذكره ابن العربي.
4. خوفاً عليه من التسخط عند وقوع البلاء، أو ذهاب الصبر على ما ينزل من القضاء، ذكره ابن العربي.

أما سبب الأمر بالبقاء في البلدة كذلك لعدة أسباب:
1. لأنه قد يكون قد أخذ نصيبه من المرض الذي أصاب القرية، لاشتراكه معهم في سبب هذا المرض، فلا فائدة من فراره، فإذا فر وتلك حاله زاد عليه المرض بسبب مشقة السفر، فيهلك في الطريق، ومع كثرة الفارين يهلك كل منهم في طريق وفج، ذكره القرطبي.
2. وليسلم اعتقاده ودينه، فهو إذا فر ونجا قد يقول: إنما نجوت بسبب خروجي، ذكره ابن العربي، والقرطبي.
3. ولأن في الفرار من البلاد تخلية لها من الأشداء، فإنه في الغالب الذي يقدر على الفرار هم الشباب الأشداء، فيبقى في البلاد المستضعفين لوحدهم لا معين لهم، فيتأذنون بذلك أذى شديداً، ذكره ابن العربي، والقرطبي.

وهنا قد يورد إشكال آخر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن دخول البلد الذي فيه الطاعون أو الخروج منه ومع ذلك فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد دخلوا لبلد قد انتشر فيها الطاعون، كما فعل الزبير بن العوام رضي الله عنه حينما أراد غزو مصر وقد قيل له بأن بها الطاعون، فقال: (إنما جئنا للطعن والطاعون) كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وابن وهب من طريق هشام عن أبيه.
وكذلك لما بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى الشام أوصاهم بوصاياه المشهورة: (لا تَخُونُوا وَلا تَغِلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا طِفْلا صَغِيرًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا وَلا امْرَأَةً، وَلا تَعْقِرُوا نَخْلا وَلا تُحَرِّقُوهُ، وَلا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلا تَذْبَحُوا شَاةً وَلا بَقَرَةً وَلا بَعِيرًا إِلا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَوْفَ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَأْتُونَكُمْ بِآنِيَةٍ فِيهَا أَلْوَانُ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَتَلْقَوْنَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا حَوْلَهَا مِثْلَ الْعَصَائِبِ، فَاخْفِقُوهُمْ بِالسَّيْفِ خَفْقًا انْدَفِعُوا باسم الله، أفناكم اللَّهُ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ) كما رواه الطبري في تاريخه من طريق الحسن البصري، فدعا لهم بالطعن والطاعون.
وللعلماء توجيهان لهذا الأمر وهما:
الأول: أن أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما رآهم على الاستقامة مع الحرص على الجهاد خشي عليهم الفتنة، فأحب أن يموتوا على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتنوا، وقد كانت الشام مشهورة بالطاعون، فدعا عليهم بالموت على ما هم عليه إما بالطعن أو الطاعون لئلا يفتنوا.
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام قال بأن فناء أمته ستكون بالطعن والطاعون، فأراد بأمته أعظم صحابته، فهو يخبر بأنه سيفتح البلاد من هذه صفته، أي: يموت إما بالطعن أو الطاعون، فرجا أبو بكر الصديق أن يكون هذا البعث الذي بعثه هم الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك بقي بعض الصحابة في الشام ولم يحب الخروج منها لتصيبه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر عن معاذ بن جبل أنه قال عن الطاعون: (إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم. اللهم أدخل على آل معاذ نصيبهم من هذه الرحمة) رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق ثابت بن يزيد عن عاصم عن أبي منيب الأحدب، ورواه غيره من طرق أخرى عدة، وهذان التوجيهان ذكرهما الجصاص.
وقد قال عليه الصلاة والسلام كذلك: (الطاعون شهادة لكل مسلم) (صحيح البخاري/ 2830)، وهذا سبب آخر لتمني معاذ وغيره الموت فيه لعلمهم أن الذي يموت فيه هو شهيد، وهذا خاص في الصابر عليه المحتسب الأجر ولا يدخل فيه الجازع والكاره له والفار منه، كما ذكر القرطبي.


القول الثاني: أن سبب الموت الذي فروا منه الجهاد، قال به ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، ومحمد بن إسحاق، ومطر.

التخريج:
- أما قول ابن عباس فقد رواه ابن جرير فقال: (حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ)، وابن جريج لم يلق ابن عباس، وكذلك رواه ابن جرير وابن ابي حاتم من طريق محمد بن سعد وعائلته الضعفاء.
- أما قول عكرمة فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عكرمة.
- أما قول الضحاك فقد ذكره ابن أبي حاتم مرة بإسناد لا بأس به فقال: أخبرنا أبو زهرة أحمد بن الأزهر فيما كتب إلي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، عن علي بن الحكم، عن الضحاك، ومرة ذكره بلا إسناد وبصيغة التضعيف.
- وأما قول محمد بن إسحاق فقد رواه ابن جرير حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، ومحمد بن حميد كما ذكرت سابقاً أغلب الأئمة النقاد على تضعيفه وتركه.
- ويلاحظ تكرر ابن إسحاق في القولين وبنفس الإسناد، وذلك لأنه ذكر القولين بصيغة الاحتمال لأحدهما فقال: (بلغني أنّه كان من حديثهم أنّهم خرجوا فرارًا من بعض الأوباء من الطّاعون، أو من سقمٍ كان يصيب النّاس حذرًا من الموت)
- وأما قول مطر فقد ذكره ابن أبي حاتم بلا إسناد في تفسيره وبصيغة التضعيف.

ولعل سبب هذا التفسير هو الآية التي تليها التي فيها الأمر بالقتال، قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أنّ اللّه سميعٌ عليمٌ}، ففسرها أصحاب هذا القول على أنها خطاب للذين فروا منه، فربطوا بين الآيتين، وقد ذُكر ذلك صريحاً في الأثر الذي رُوي عن ابن عباس من طريق ابن جريج وطريق محمد بن سعد وعائلته، والأثر عن الضحاك، فما ذكر عنهم هو أكثر تفصيلاً من باقي الآثار في هذا القول، ففي أثره الذي ذكره الطبري: (...وهم ألوفٌ فرارًا من الجهاد في سبيل اللّه، فأماتهم اللّه، ثمّ أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله: {وقاتلوا في سبيل اللّه} الآية)، ولكن تفسير الآية على أن خطاب فيها للذين خرجوا من ديارهم يترتب عليه إشكالات ذكرها الطبري، فإن أمرهم بالقتال:
1. "إما أن يكون عطفا على قوله: "فقال لهم الله موتوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
2. أو يكون عطفا على قوله: "ثم أحياهم"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله: "وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله: "ثم أحياهم"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
3. أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط "القول"، كما قال تعالى ذكره: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 12]، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها."

وقد قال ابن عطية بأن الجمهور على أن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد، وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة، فبعد أن قال تعالى: (ألم تر..) قال: (وقاتلوا في سبيل...)، وأما القول بأنه الخطاب فيها للذين خرجوا من ديارهم فهو مروي فقط عن ابن عباس والضحاك، والله أعلم.
والقول بأنهم فروا من الجهاد ومعاقبة الله لهم على ذلك ورد ما يقاربه في ديننا الإسلامي، فقد توعد سبحانه المتولين من الحرب حين ملاقاة العدو، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ 15 وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ 16﴾ (الانفال: 15-16)، فقد توعد سبحانه وتعالى من تولى عن القتال يوم الزحف بالغضب والعذاب في جهنم، ولكن في ديننا خصص التوعد الشديد بالفرار يوم الزحف، أما ما ورد في الآثار عن قصة بني إسرائيل وفرارهم من القتال كان عاماً، فيوجد اتفاق وافتراق بين ديننا وبين الخبر الإسرائيلي، والله أعلم.


القول الثالث: أنهم فروا من الجهاد والطاعون معاً، وهذا القول نسبه الثعلبي إلى الضحاك ومقاتل والكلبي، ولكن ما ورد عن الضحاك كما ذكرت سابقاً كان الفرار من الجهاد ولم يذكر الطاعون، وأما مقاتل والكلبي فقد نقل الثعلبي قولهم فقال: (وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي: إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلّوا، وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتّى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فرارا من الموت، فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتّى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمّا خرجوا قال لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا، وماتت دوابهم كموت رجل واحد، فأتى عليهم ثمانية أيام حتّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.) ومقاتل والكلبي من المتهمين بالكذب الشديدي الضعف فلا يؤخذ منهم.
ولعل سبب هذا القول محاولة الجمع بين القولين في الآية بإدخال القصتين معاً والله أعلم.

الترجيح:
والقول بأنهم فروا من الطاعون هو أكثر الأقوال شهرة وقوة، ولا يمنع ذلك من أنه قد يكون في الحقيقة فرارهم هو من القتال لعدم وجود معارض لذلك في الآية، ومقصود الآية هو التنبيه على أمر خاطئ فعلوه يجب أن نحذر منه وهو الفرار من الموت، فإن الموت لا يدفع بالهرب، فكل مرئ مكتوب متى هو حتفه لا يتقدم ولا يتأخر، وهذا لا يعني بألا يتخذ الإنسان الأسباب الواقية الدافعة للموت من أخذ الأدوية والعلاجات، والاستعداد لملاقاة العدو بالتمرن على القتال والتسلح، ولكن ما قصدناه هو إذا جاء وحان وقت مواجهته بعد اتخاذ الأسباب سابقاً فلا فرار حين إذ، فالطاعون إذا حل بعدما أخذ الإنسان الأسباب لدفعه لا يفر منه، وكذلك القتال إذا وجب بعدما اتخذت الأسباب فلا فرار، والطاعون والقتال ليسا سببان مؤكدان للموت فقد ينجو منهما من ينجو لعدم حلول أجله بعد ولكنهما في الغالب مميتان.


• قصة الآية والمسائل الواردة فيها:
وبعد ذكر أهم المسائل التي ذكرت في هذه الآية والمسائل التي كان الخلاف فيها مشاعاً ظاهراً، سأذكر هنا سياق القصة ككل على شكل مسائل ألخص تحتها القصة من مجموع الآثار مع ذكر الخلاف إن وجد، وسأنسب كل قول لمن قاله بدون ذكر الإسناد أو الطريق الذي روي منه، فقد سبق الإشارة إلى جميع الأسانيد تقريباً والتعليق عليها، وسأذكر الإسناد في حالة لم يسبق الإشارة إليه أو في حالة وجود تعليق إضافي على السند فسأذكره من جديد.

أولاً: من هم؟ وأين تواجدوا؟
أنهم فرقة من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم، قيل: بأنهم من داوردان قال به ابن عباس من طريق عكرمة وأبي مالك والسدي وأبي صالح وزاد أبو مالك والسدي: قبل واسطٍ، وماتوا في واد أفيح.
وقيل: من أذرعات وهو قول سعيد بن عبد العزيز أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هشام بن خالد، عن محمد بن شعيب عنه.
وهم قد خرجوا من ديارهم فراراً من الموت كما هو ظاهر الآية، واختلفت الآثار المندرجة تحت هذا النوع حول سبب الفرار هل هو الطاعون أم القتال وعلى كم كان عددهم كما ذكرت سابقاً فلا حاجة لإعادته هنا.

ثانياً: خرجوا جميعاً أم متفرقين؟
أغلب الآثار ذكرت أنهم خرجوا جميعاً، وذلك بأنهم في أول مرة أصابهم الطاعون خرجت فرقة منهم وبقيت فرقة، فنجى أغلب الذين خرجوا، ومات أغلب الذين بقوا في ديارهم، فقالوا لو أصابهم مرة ثانية سيخرجون جميعاً، فلما أصابهم مرة ثانية خرجوا جميعاً فأماتهم الله سبحانه وتعالى، كما روي عن أبي مالك، والسدي، وهلال بن يساف، بالأسانيد السابق ذكرها، و وفي بعض الروايات أنه هناك مرة ثانية خرج أغلبهم ثم أخيرة التي خرجوا فيها جميعاً فأماتهم الله فيها، كما روي عن قتادة وابن زيد كذلك بالأسانيد السابق ذكرها، وخلاصة الأمر أنهم لما خرجوا جميعاً أماتهم الله سبحانه وتعالى، وقد جاءت بعض الآثار مختصرة بلا تفاصيل كما في أثر ابن عباس من طريق سعيد بن جبير.
ولكن هناك أثران يدلان على أنهم لم يخرجوا جميعاً، الأول فيه أنه لما خرجت فرقة ولم تبقى أماتهم الله رواه الطبري عن شيخه محمد بن حميد -هو أقرب للترك من الضعف- أن أشعث بن أسلم البصري قال بينما كان عمر يصلي ويهوديان خلفه وذكر باقي الأثر والذي فيه ذكر لقصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، وفيها ذكر أنه لما وقع فيهم الوباء خرج منهم قوم، ولفظة منهم تدل على التبعيض، أي: لم يخرج جميعهم، ولكن هذه القصة إسنادها ضعيف، فبالإضافة إلى ضعف شيخ المصنف فإن أشعث بن أسلم لم يلق عمر، فقط روى عن أبيه أنه لقى أبو موسى الأشعري، وقد علق المحقق أحمد شاكر على هذا الإسناد وقال بأنه قد رواه الطبري في تاريخه عن أشعث عن سالم النصري الذي لاقى عدد من الصحابة، وقد رأى بأن هذا الإسناد هو الأقرب للصواب والله أعلم.
والأثر الآخر كذلك رواه الطبري من طريق ابن أبي نجيحٍ عن عمرو بن دينارٍ، وسياقه في ذكر القصة يختلف عن عموم الآثار، ففيه أن الفرقة التي خرجت في أول الأمر ونجت لما استقرت أصابها الطاعون مرة أخرى فبقية فرقة وخرجت فرقة، ثم لما استقروا أصابهم مرة ثالثة فخرج الجميع إلا قليل، فأماتهم الله، ففي هذا السياق لم يعودوا لموطنهم الأول بعد زوال الطاعون.

ثالثاً: مكان موتهم
وقد ورد أنهم لما بلغو وادياً فيحاء وهو بين جبيلين نزلوا فيه، فأماتهم الله هناك ببعث ملكين أحدهما بأعلى الوادي والآخر بأسفله فنادوا فيهم أن موتوا فماتوا، كما ذكر أبو مالك، وكذلك ذكره السدي بدون ذكر لصفة الوادي.
وورد في أثر آخر أنهم لما نزلوا بصعيد من البلاد أماتهم الله هناك، ثم كنسهم وأزالهم أهل تلك البلاد عن طرقاتهم وبيوتهم كما ذكر هلال بن يساف، بالإضافة إلى ذلك حظروا عليهم حظيرة لما صعب دفنهم لكثرة أعدادهم، وحتى لا تأكلهم السباع، كما ذكر ابن إسحاق.

رابعاً: مدة مكثهم موتى:
قد قيل بأن مدة مكثهم موتى كان ثمانية أيام، قد ذكره الثعلبي عن الضحاك ومقاتل والكلبي، ولم يذكر في الآثار شيء من ذلك، بل الآثار الواردة تدل على عكس ذلك من مكوثهم مدة طويلة حتى أصبحوا عظاماً ثم إحياء الله سبحانه وتعالى لهم كما في المسألة السابقة، وقد أشار إلى ذلك ابن الجوزي في زاد المسير، وكذلك إن صح تفسير هذه الآية بآية الذي مر على قرية فإن فيها تصريح بأنه سبحانه وتعالى أماته مئة عام بعد خلوّ القرية، أي: فترة طويلة ليس ثمانية أيام، فيكون بهذا معارض لما ورد في شرعنا، والله أعلم.

خامساً: مرور نبي عليهم
ثم هؤلاء الذين أماتهم الله سبحانه وتعالى قد مرّ عليهم نبي من أنبيائهم فرأى عظامهم وبقاياهم، فتعجب من أمرهم ودخلته الرحمة لهم، وتعجبه وتفكره كان بسبب تعجبه من قدرة الله عليهم، وهذا النبي يقال له حزقيل، كما ذكره وهب بن منبه من طريق عبد الصمد، والسدي، وابن إسحاق، وأشعث بن أسلم وفي رواية للسدي عند ابن أبي حاتم أنه هزقل.
ويطلق عليه ابن العجوز، وذلك لأن أمه كانت قد سألت الله الولد وكانت قد كبرت فرزقها الله حزقيل، قد روى هذا الطبري فقال حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن وهب بن منبّهٍ، وابن حميد ضعيف متروك، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن، وإن صح الأثر فإنه من الإسرائيليات التي لم يورد في شرعنا ما يوافقه أو يخالفه فيتوقف فيه.
وقيل: الذي مر عليهم هو نفسه المذكور في قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال انى يحي هذه الله بعد موتها...) كما ذكر ابن زيد.

سادساً: دعوة النبي لهم
ثم هذا النبي قيل له: أتحبّ أن يحييهم اللّه؟ كما في رواية ابن اسحاق، أو قال سبحانه وتعالى: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ كما في رواية السدي -أي: أشار الله سبحانه وتعالى إليه بدعوتهم ليريه آية من آياته- فقال: نعم. فقيل له: نادهم فقال: أيّتها العظام الرّميم الّتي قد رمّت، وبليت، ليرجع كلّ عظمٍ إلى صاحبه فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضًا. ثمّ قيل له: قل أيّها: اللّحم، والعصب، والجلد اكس العظام بإذن ربّك قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثمّ اللّحم، والجلد، والأشعار، حتّى استووا خلقًا ليست فيهم الأرواح، ثمّ دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السّماء شيء كربةٌ حتّى غشي عليه منه، ثمّ أفاق والقوم. وألفاظ القصة تختلف من رواية لأخرى ولكن يبقى المعنى نفسه، فقد روى هذه القصة وهب بن منبه من طريق عبد الصمد وأبو مالك وهلال بن يساف والسدي وابن إسحاق بألفاظ مختلفة، وبعضها ذكرت القصة مختصرة بعدم ذكر محتوى ما قيل له وما قاله وما حدث بالتفصيل والترتيب، بل قيل فيها أنه قال ما شاء الله فقط بدون تفصيل فأحياهم الله، كما في رواية أشعث بن أسلم لقصة عمر واليهوديان، أو أنه دعا الله أن يحييهم فأستجاب الله له، كما في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقيل: بأن النبي دعا الله أن يحييهم لما رآهم عظاماً، كما في رواية سعيد بن مسيب عن ابن عباس، ورواية الهمذاني عن هلال بن يساف.

سابعاً: سبب دعاء النبي لهم والحكمة من إعادتهم أحياء بعد موتهم
سبب دعوة النبي لهم بالعودة كما ذكرت بعض الآثار هو ليعبدوه ويعمروا الأرض بعبادته، ذكر ذلك في أثر ابن عباس الذي رواه سعيد بن جبير، وكذلك رواه الهمذاني عن هلال بن يساف أن النبي قال لما رأى بقايا عظامهم: (يا رب لو شئت أحييتهم فعبدوك وولدوا أولادا يعبدونك ويعمرون بلادك).
أما سبب إحياء الله لهم من جديد لحكم عديدة لعل أحدها ليكملوا بقية أيامهم، ذكره قتادة والحسن، فهو سبحانه لو كان أماتهم موتة آجالهم التي تنقضي بها أعمارهم لما أحياهم وإن دعا بذلك نبي من الأنبياء، وإنما كانت موتتهم موتة عقوبة، فقد قال ابن العربي: (فأماتهم الله تعالى مدة، ثم أحياهم آية، وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها).
والذين قالوا بأنهم فروا من الجهاد قالوا بأن الحكمة من إحياءهم هو ليأمروا بالجهاد الذي فروا منه، كما في رواية ابن جريج ومحمد بن سعد وعائلته عن ابن عباس، وكذلك روي عن الضحاك، وذلك ليتيقنوا بأن الموت والحياة بيد الله فلا يخشوه، ويدفعهم ذلك للإقدام على الجهاد الذي خافوه سابقاً، فهم جعلوا الخطاب في آية: (وقاتلوا في سبيل الله) للذين أميتوا ثم أحيوا، وهذه الحكمة التي ذكروها هي مشابهة للحكمة من إلحاقه سبحانه وتعالى آية (وقاتلوا في سبيل الله...) بما سبقها عند من قال بأن الخطاب فيها للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإخبارهم بخبر الذين فروا من الموت وإماتة الله لهم تجعلهم يتيقنون بأن الحياة والموت بيد الله وحده، ولذلك أمرهم بالقتال في سبيل الله بعده مباشرة.
وقد أورد الطبري أثر وهب بن منبه من طريق عبد الصمد الذي فيه أن قوم حزقيل نزل بهم بلاء وشدة حتى تمنوا الموت ليستروحوا مما هم فيه، فأوحى الله إليه: إنّ قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنّهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأيّ راحةٍ لهم في الموت أيظنّون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ وأمره سبحانه أن يذهب إلى مكان معين ليجد فيه هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم عظام فأمره أن ينادي فيهم كما سبق ذكره، فعلى هذا الأثر سبحانه وتعالى أحياهم ليري قوم حزقيل قدرته وعظيم أمره فيصبروا ويتيقنوا ويثبتوا، ووهب كما ذكرت سابقاً ممن قرأ في كتب أهل الكتاب، ولكن ذلك لا يقطع بصحة ما ينقله فقد يكون ما قرأه قد حرف، أو أحد الرواة عنه قد كذب عليه أو كان ضعيفاً، والله أعلم.

ثامناً: صفتهم بعد الإحياء
أما بالنسبة لصفتهم وحالهم بعد الإحياء بعد الموت، فقد روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق عمرو العنقزي عن أسباط عن منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين قاموا أحياء: سبحانك ربّنا وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، وزاد الطبري (فرجعوا إلى قومهم أحياءً، يعرفون أنّهم كانوا موتًى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبًا إلاّ عاد دسمًا مثل الكفن حتّى ماتوا لآجالهم الّتي كتبت لهم)، وقد جعله ابن أبي حاتم من كلام أبي مالك مروي من طريق أسباط عن السدي عن أبي مالك، وليس من كلام مجاهد، فأسباط خلال ذكره لقول أبي مالك الطويل ذكر الأثر عن منصور عن مجاهد، ثم عاد ليكمل الأثر عن أبي مالك، كما وضح ابن أبي حاتم في تفسيره، والله أعلم.

وأغلب هذه المسائل مما لم يرد في شرعنا ما يوافقها ولا يخالفها إلا ما أشرت إليه في موضعه، وهي قد وردت بأسانيد لينة كما ذكر ابن عطية، ومما يتبين من بعض التعليقات التي ذكرتها على بعض الأسانيد التي أعانني الله على استظهار الضعف فيها والله أعلم بحقيقتها، وعدم ورود هذه الأخبار في شرعنا ما لا يوافقها ولا يخالفها يدل على عدم أهميتها فهي مما لا طائل تحته، فإن شرعنا لم يذكر فيه إلا ما فيه فائدة عائدة على العباد.

• المسائل الواردة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ):
فيه مسائل: 1. محل هذا الفضل، 2. المراد بالناس، 3. وما هو هذا الفضل، وكل مسألة تحتها أقوال، ولكن سأتناول أول مسألتين معاً لتعلقهما ببعض:
المسألة الأولى والثانية: محل الفضل ولمن هذا الفضل من الناس:
1. أن الله لذو فضل على الناس جميعاً في الدنيا، فهو عام في جميع الناس ومنهم من ذكروا في أول الآية من الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله، فالله متفضل على الجميع، وهذا القول مفهوم من قول الطبري، وابن الجوزي، وابن كثير، وذكره البغوي.
2. أن الله لذو فضل على هؤلاء الذين ذكروا في الآية على الخصوص في الدنيا، وهو مفهوم قول الزجاج، والواحدي، وابن عطية.
3. أن الله لذو فضل على المؤمنين في الآخرة، ذكره البغوي ولعله مأخوذ مما رواه ابن أبي حاتم في هذه الآية بسنده أنه قال: (حدّثنا أبي ثنا أحمد بن أبي الحواريّ، ثنا رباحٌ، ثنا عبد اللّه بن سليمان، ثنا موسى بن أبي الصّبّاح، في قول اللّه عزّ وجلّ إنّ اللّه لذو فضلٍ على الناس
قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله، فيقومون بن يديه، ثلاثة أصنافٍ، قال: فيؤتى برجلٍ من الصّنف الأوّل، فيقول: عبدي لماذا عملت؟ فيقول: يا ربّ خلقت الجنّة وأشجارها وثمارها وأنهارها وجوزها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، شوقًا إليها. قال فيقول: عبدي إنّما عملت للجنّة فادخلها، ومن فضلي عليك، أن أعتقك من النّار، قال: فيدخل هو ومن معه الجنّة.
قال: ثمّ يؤتى بالصّنف الثّاني، قال: فيقول: عبدي لماذا عملت؟ فيقول: يا ربّ خلقت نارًا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها وما أعددت لأعدائك ولأهل معصيتك فيها، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، خوفًا منها. فيقول: عبدي:
إنّما عملت خوفًا من النّار، فإنّي قد أعتقتك من النّار، ومن فضلي عليك، أدخلك جنّتي، فيدخل هو ومن معه الجنّة قال: ثمّ يؤتى برجلٍ من الصّنف الثّالث: فيقول:
عبدي لماذا عملت؟ فيقول: ربّي شوقًا إليك وحبًّا لك، فيقول اللّه عزّ وجلّ: عبدي إنّما عملت حبًّا لي وشوقًا لي. فيتجلّى له الرّب عزّ وجل ويقول: ها أنذا، انظر إليّ.
ثمّ يقول: من فضلي عليك أن أعتقك من النّار وأبيحك جنتي وأ زيرك ملائكتي، وأسلّم عليك بنفسي. فيدخل هو ومن معه الجنّة.)
وهذا الأثر رواه تابعي وهو من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي فهو مقطوع، والله أعلم.

أما المسألة الثالثة: ما هو هذا الفضل الذي تفضل الله به على الناس:
1. إرشاد الناس لطريق الحق بتبصيرهم بطريق الحق وتحذيرهم من طرق الباطل وغيرها من النعم الدينية والدنيوية، ذكره الطبري، وهذا القول يمكن أن يكون خاصاً كذلك بالذين أماتهم الله، فيكون فضل الله عليه وهو ما أنعم الله عليهم من التبصير بطريق الحق بالأوامر والنواهي والتي منها الجهاد على أحد القولين، فيكون إنعام الله عليهم قبل إماتتهم، ذكره ابن عطية.
2. أنه يريهم الآيات الباهرة والواضحة الدالة على الطريق المستقيم، ومن تلك الآيات إعادة إحياء هؤلاء، ليعلم بذلك أن الأمور كلها بيد الله، فيستسلم الناس لقضائه وتخلص رغبتهم ورهبته إليه، ذكره الطبري، وابن كثير.
وقد ربط الطبري بين الأمرين فإنه سبحانه وتعالى من طرق تبيينه لطريق الحق بث الآيات التي فيها عظة للمعتبرين التي منها إعادة إحياء هؤلاء.
3. أما من قال بأن هذا الفضل خاص بالذين أحيوا بعدما أماتوا، فقالوا يراد بالفضل هو إحيائهم بعد إماتتهم، فأصبحوا أصحاب بصيرة برؤية الآية العظيمة في أنفسهم، وهذه نعمة عظيمة، ذكره الزجاج والواحدي، فيكون فضل الله عليهم على هذا القول بعد إماتتهم وإحيائهم بخلاف القول الأول يكون الفضل قبل إماتتهم، وتكون إماتتهم كعقاب لعدم الشكر.
وجميع هذه الأقوال لا تعارض بينها، فإن نعم الله على خلقه لا حصر لها ولا عدد، فلا مانع من أن ينعم الله على هؤلاء الذين أميتوا قبل إماتتهم بتبصيرهم بطريق الحق، ثم بعد إماتتهم عقوبة وتذكير لهم أحياهم، فتجددت نعمة الله عليهم بإحيائه لهم وجعلهم آية للناس وإعطائهم فرصة أخرى لشكره بعد أن تحصلوا على البصيرة واليقين، وهذا فيما يخص أصحاب هذه الآية.
وكذلك إن كانت عامة لجميع الناس، فإنه سبحانه ينعم عليه بالآيات البينة التي ترشده للطريق المستقيم، وما دامت الآية قالت: (الناس) وهو لفظ عام لم يخصصه شيء، فيبقى على عمومه، ويدخل فيه كل من يمكن أن يدخل فيه ومنهم أصحاب هذه الآية الذين أحيوا بعدما أماتهم الله، ويدخل فيه جميع النعم التي أنعمها الله على الناس كافة الدينية والدنيوية كما ذكر الطبري، والله أعلم.

المسائل الواردة في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ):
أولاً: المراد بالشكر وبالناس الذين لا يشكرون:
1. أن المراد بالشكر هنا هو عبادة الله وحده وعدم صرف أي نوع من العبادة لغيره، فيكون المراد من قوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) لا يشكرونه وذلك بصرفهم العبادة لغيره من الرهبة والرغبة لغيره ممن لا يملك الضر ولا النفع، فيكون المقصود على هذا القول بأكثر الناس هم المشركين الكفار، وهذا مفهوم من قول الطبري.
2. أن المراد بالشكر هنا الانقياد لأوامره ونواهيه وعدم الخروج عنها، فيكون معنى الآية، أن الذين لا يشكرونه هم المؤمنين الذين لم ينقادوا للأوامر والنواهي، فهم لم يشكروه تمام الشكر، ومن باب أولى يدخل فيها الكفار الذين لا يؤمنون به فهم لم يشكروه البتة، وكذلك يدخل في هذا القول أصحاب هذه الآية فهم لما لم ينقادوا لأمر الله وظنوا أن حولهم وقوتهم هي التي تنجيهم كان ذلك منهم عدم شكر لله ولنعمه، وهذا يتسق مع قول من قال بأن خاتمة الآية هي في أصحابها ممن أُميتوا ثم أُحيوا، وهذا مفهوم من قول والواحدي، والبغوي، وابن عطية.
وعلى القول الثاني يرد علينا إشكال مع ما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بإسناد جيد في قوله: ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون قال: (إنّ المؤمن ليشكر نعم اللّه عليه وعلى خلقه)، فعلى القول الأول لا إشكال، أما القول الثاني فيمكننا القول بأنه أراد المؤمن كامل الإيمان يكون شاكراً لله، أما من نقص إيمانه أو حال عدم كمال إيمانه من فعل المعاصي والمنكرات يكون غير شاكر لله على نعمه، والله أعلم.

ثانياً: دلالة لفظة (أكثر):
يفيد قوله تعالى: (أكثر الناس) على أن كثير من الناس لا يشكر الله من منطوق الآية، وكذلك يستفاد من مفهومها أن هناك قلة شاكرة لله حق الشكر، وهذا يدعو إلى الاجتهاد لأن يكون المرء منهم فلا ييأس ويقنط ويرجو أن يكون من الشاكرين.




المصادر:
1. تفسير مجاهد، لمجاهد بن جبر القرشي (104ه)، دار الفكر الإسلامي الحديث، مصر، الطبعة الأولى 1410ه، المحقق: محمد عبد السلام أبو النيل.
2. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (170ه)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، المحقق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي.
3. تفسير عبد الرزاق، عبد الرزاق ين همام الصنعاني (211ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1419ه، المحقق: محمود محمد عبده.
4. مسند الامام أحمد بن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241ه)، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى 1416ه، المحقق: أحمد محمد شاكر.
5. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (256ه)، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422ه، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر.
6. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261ه)، دار إحياء التراث العربي بيروت، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي.
7. غريب القرآن، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (276ه)، دار الكتب العلمية، 1398ه، المحقق: أحمد صقر.
8. فتوح البلدان، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (279ه)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988م.
9. جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (310ه)، دار الحديث، القاهرة 1413ه، المحقق: إسلام منصور عبد الحميد وآخرون.
10. معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق إبراهيم بن سري الزجاج (311ه)، عالم الكتب بيروت، الطبعة الأولى 1408ه، المحقق: عبد الجليل عبده شلبي.
11. تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ)، مكتبة نزار بن علي الباز، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة 1419ه، المحقق: سعد محمد الطيب.
12. معاني القرآن، أبو جعفر النحاس أحمد بن محمد (338ه)، جامعة أم القرى، الطبعة الأولى 1409، المحقق محمد علي الصابوني.
13. أحكام القرآن، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (370هـ)، المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415ه، المحقق: عبد السلام محمد على شاهين.
14. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (405ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411ه، مصطفى عبد القادر عطا.
15. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي (427ه)، دار إحياء التراث، بيروت، الطبعة الأولى 1422ه، تحقيق: أبو محمد بن عاشور.
16. الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، مكي بن أبي طالب القيسي (437ه)، جامعة الشارقة، الطبعة الأولى 1429ه.
17. النكت والعيون، علي بن محمد الماوردي (450ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، المحقق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم.
18. الوسيط في تفسير القرآن المجيد، علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (468ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415ه، تحقيق عدة شيوخ.
19. التفسير البسيط، علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (468ه)، جامعة الإمام محمد بن سعود، الطبعة الأولى 1430ه.
20. معالم التنزيل في تفسير القرآن، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (510ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1420، المحقق: عبد الرزاق المهدي.
21. أحكام القرآن، محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري (543هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 1424ه، المحقق: محمد عبد القادر عطا.
22. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب ابن عطية الأندلسي (546ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1422ه، عبد السلام عبد الشافي محمد.
23. زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي (597هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1422ه، المحقق: عبد الرزاق المهدي.
24. الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (671ه)، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية 1384ه، تحقيق: أحمد البريدوني وإبراهيم أطفيش.
25. سير أعلام النبلاء، أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (748ه)، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1405ه.
26. تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (774ه)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420ه، المحقق: سامي بن محمد سلامة.
27. الدر المنثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911ه)، دار الفكر، بيروت.
28. موقع موسوعة الحديث.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تجب, نشر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:30 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir