دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 ذو القعدة 1439هـ/6-08-2018م, 06:45 PM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي نشر بحث اجتياز المستوى السادس

نشر بحث اجتياز المستوى السادس


يُنشر البحث بصورته النهائية في هذا الموضوع ويصحح في صفحات الاختبارات.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20 ذو الحجة 1439هـ/31-08-2018م, 09:21 PM
أمل يوسف أمل يوسف غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 570
افتراضي

قوله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }(102)

جاءت هذه الآية الشريفة في سياق الكلام عن حال فريق من الذين أوتوا الكتاب وهم علماؤهم وأحبارهم حين جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم فرفضوا الكتاب الذي جاء به موسى إذ كان مشتملا على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم لايعلمون مافيه
ولما نبذوا الحق كان لابد من تناول الباطل وكان ذلك كماقال تعالى {واتبعوا ماتتلو الشياطين}
وقد روي في سبب نزول هذه الآية روايات عدة كثير منها غير صريح في سبب النزول وبعضها صريح وسأكتفي بنقل الصريح في ذلك :
أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح، فأنزل الله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية). [لباب النقول: 19]
وروى الطبري أيضا من طريق الربيع بن أنس قال:
(إن اليهود سألوا محمدا زمانا عن أمور التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم؛ فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا...) وإنهم (سألوه عن السحر وخاصموه به؛ فأنزل الله تعالى {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان..} الآية، وذلك أن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت مجلس سليمان وكان سليمان لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس وقالوا هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه؛ فأخبرهم النبي بهذا الحديث فرجعوا من عنده بخزي وقد أدحض الله حجتهم).

وفي الآية عدة مسائل :
-الأولى :مرجع الضمير في قوله تعالى {واتبعوا} :فقيل المراد اليهود من بنى اسرائيل في عهد سليمان عليه السلام
قال بهذا القول :ابن جريج وابن إسحاق
قول ابن جريج:رواه ابن جرير من طريق الحسين عن حجاج عنه
قول ابن إسحاق رواه ابن جرير من طريق ابن حميد عن سلمة عنه

-وقيل بل عني بهم اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
قال بهذا القول :السدي ،الربيع ،وابن زيد
قول السدى:رواه ابن جرير من طريق موسى بن هارون عن عمرو عن أسباط عنه
قول الربيع:رواه ابن جرير بصيغة التضعيف عن عمار بن الحسن عن ابن أبي جعفر عن أبيه عنه
قول ابن زيد:رواه ابن جرير من طريق ابن وهب عنه

والراجح كما قال ابن جرير : أنّ ذلك توبيخٌ من اللّه لأحبار اليهود الّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجحدوا نبوّته وهم يعلمون أنّه للّه رسولٌ مرسلٌ، وتأنيبٌ منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنّه كتاب اللّه، واتّباعهم واتّباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشّياطين في عهد سليمان.

وعلى كلا القولين فالمعنى أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين ،فماهو الذي تلته الشياطين على ملك سليمان؟
-قيل إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان، وهو قول السدي كما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق أسباط
عَنِ السُّدِّيِّ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَيَسْمَعُونَ كَلامَ الْمَلائِكَةِ فِيمَا يَكُونُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ أَوْ أَمْرٍ فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ، فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ النَّاسَ فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا، حَتَّى إِذَا أَمَّنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ فَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً، فَاكْتَتَبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي الْكُتُبِ، وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَلَمْ يَكُنْ أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلا احْتَرَقَ.
-وقيل إن سليمان، عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان، وهو قول ابن عباس كما رواه ابن أبي حاتم

- وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه، كما رواه ابن جرير قال حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر:"من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا". حتى إذا صنعوا أصناف السحر، (جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه:"هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم"، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود

-وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ،كما رواه ابن أبي حاتم قال :
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنِي أَبِي ثنا عَمِّي الْحُسَيْنُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا وَكَانَ حِينَ ذهب ملك سليمان ارتد فيام مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ. وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا رَجَّعَ اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ وَقَامَ النَّاسُ عَلَى الدِّينِ كَمَا كَانَ، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ حَدَثَانَ ذَلِكَ. فَظَهَرَ الْجِنُّ وَالإِنْسُ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ أَخْفَاهُ مِنَّا، فَأَخَذُوهُ فَجَعَلُوهُ دِينًا

وهذه الروايات جميعها لاتخلو من ضعف إلا أنها تدل على أن الذي تلته الشياطين واختلقته على ملك سليمان وفي عهده السحر والكهانة وأنه كان يسخر الجن ويحكم به فبرأه الله تعالى بهذه الآيات .

ومعنى {ما} :موصولة بمعنى الذي أي اتبعوا الذى تتلو الشياطين على ملك سليمان ،وهو السحر
قال الطبري : حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) ، أي السحر
ومعنى تتلو هناإما: بمعنى تروي وتحدث من التلاوة ؛فيكون المعنى أن الشياطين هى التى علمت الناس السحر وروته لهم
وهو قول مجاهد وقتادة وعطاء وابن عباس
وإما {تتلو } أي تتبعه وترويه وتعمل به ،قال به ابن عباس وابن رزين
وكلا المعنيين محتمل فيجوز أن تكون الشياطين قد تلت ماتلته قراءة ورواية وعملا أيضا فاتبعت اليهود من اتبعت من الشياطين في العمل بالسحر وروايته

وقوله {على ملك سليمان }أي{ في} ملك سليمان ،قال به ابن إسحاق وابن جريج
وقال ابن كثير : وَعَدَّاهُ بعلى؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَتْلُو: تَكْذِبُ.قال والتضمن أحسن وأولى

ووجه نفي الكفر عن سليمان عليه السلام بعد ذكر اتباع اليهود ماتلته الشياطين من السحر والعمل به،أن هؤلاء نسبوا ماتلته الشياطين من العمل بالسحر وروايته إلى سليمان النبي وأن هذا كان علمه وبه كان يحكم الجن والإنس والشياطين ويسوسهم ويستعبدهم فوسموه بالكفر برميهم إياه بالسحر وأنكروا نبوته وقالوا بل كان ساحرا
وحسنوا أنفسهم بإتيانهم السحر وممارستهم إياه عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه

فأكذب الله تعالى هؤلاء وبرأ سليمان النبي من هذا البهتان وبين أن هؤلاء الذين رموه بالكفر والسحر كانوا هم المتبعين لما تتلوه الشياطين في عهد سليمان إذ كان ملكا ولم يأمرهم به
وقد رويت في هذا المعنى أخبارا كثيرة ومن ذلك:
مارواه ابن جرير قال : حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام.

وقال ابن جرير :حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل جل ثناؤه: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ، فأنزل الله جل وعز عذره.

- وقال الواحدي في أسباب النزول : أخبرنا محمد بن عبد العزيز القنطري، أخبرنا أبو الفضل الحدادي، أخبرنا أبو يزيد الخالدي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينما نحن عند ابن عباس إذ قال: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق، فإذا جرب من أحدهم الصدق كذب معها سبعين كذبة، فيشربها قلوب الناس. فاطلع على ذلك سليمان فأخذها فدفنها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قال شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الممنع الذي لا كنز له مثله؟ قالوا: نعم، قال: تحت الكرسي، فأخرجوه فقالوا: هذا سحر.
فتناسخته الأمم، فأنزل الله تعالى عذر سليمان (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان) .

-قال بن أبي حاتم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، قال: كان آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ "الْأَعْظَمَ"، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَخْرَجَهُ الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا: هَذَا الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَا . قَالَ: فَأَكْفَرَهُ جُهَّالُ النَّاسِ وَسَبُّوهُ، وَوَقَفَ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَزَلْ جُهَّالُهُمْ يَسُبُّونَهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}.وقد صحح ابن حجر رواية الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير في فتح الباري
قال صاحب الصحيح المسبور في التفسير بالمأثور :
وهاتان الروايتان (رواية ابن أبي حاتم والواحدي)من أخبار أهل الكتاب ولكنها لا تتعارض مع الكتاب والسنة بل لبعض فقراتها شواهد فهي توافق عصمة سليمان عليه السلام وتبريء ساحته مما ألصق به من مفتريات الإسرائيليات.
واستراق الشياطين السمع ثابت كما في قوله تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظاها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) الحجر

وقوله تعالى {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}
اختلف أهل العلم في معنى {ما } على قولين :
-فقيل هى بمعنى لم ،وهو قول ابن عباس والربيع
قول ابن عباس رواه ابن جرير قال :حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: «قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فإنّه يقول: لم ينزل اللّه السّحر».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثني حكّامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ:قول الربيع رواه ابن جرير قال {وما أنزل على الملكين} قال:«ما أنزل اللّه عليهما السّحر».
فيكون معنى الآية على هذا القول :واتبعوا ماتتلوه الشياطين في حق سليمان من السحر والكفر وقد أكذبهم الله فقال {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }فنفى عنه الكفر والسحر ونفاه أيضا عن الملكين فقال {وما أنزل على الملكين }أي وما أنزل الله السحر على الملكين جبرائيل وميكائيل كما زعمت سحرة اليهود أن الله تعالى أنزل السحر على لسانهما إلى سليمان بن داود عليهما السلام ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل والمراد بالناس رجلان أحدهما يدعى هاروت و الآخر ماروت.

-وقيل {ما}موصولة بمعنى الذي ؛فيكون المعنى {وما أنزل على الملكين } أي يتعلمون نوع آخر من السحر ويكون المراد بالملكين ملكين من ملائكة الله وقيل في هذا النوع الآخر من السحر أقوالامنها:
،قول السدي وقتادة وروى نحوه عن ابن عباس وابن زيد وروى عن قتادة والزهري عن عبيد االله بنحوه بلفظ آخر
-قول ابن عباس رواه ابن جرير قال : حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} قال:«التّفريق بين المرء وزوجه».
-قول قتادة رواه ابن جرير : حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قوله:
{يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فالسّحر سحران: سحرٌ تعلمه الشّياطين، وسحرٌ يعلمه هاروت وماروت».
-قول ابن زيد رواه ابن جرير قال : حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} فقرأ حتّى بلغ: {فلا تكفر}، قال: «الشّياطين والملكان يعلّمون النّاس السّحر».
-قول السدي رواه ابن جرير قال : حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:«أمّا قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فهذا سحرٌ آخر خاصموه به أيضًا؛ يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين، وإنّ كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرًا».
-قول قتادة والزهري عن عبيد الله :رواه ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: قال معمرٌ: قال قتادة والزّهريّ، عن عبيد اللّه: «{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين النّاس، وذلك أنّ الملائكة سخروا من حكام بني آدم»، قال: «فحاكمت إليهما امرأةٌ فحافا لها، ثمّ ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك وخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا».
قال معمرٌ: قال قتادة: «فكانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر».

-وقيل معنى {ما}معنى {الذي} وهى معطوفة على {ما }الأولى في قوله {ماتتلو الشياطين} وأن الأولى في معنى السحر والثانية في معنى التفريق بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل وهو قول مجاهد
قول مجاهد رواه ابن جرير قال حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
«{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} وهما يعلّمان ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، وذلك قول اللّه، وقالوا كفر سليمان: وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا»، وكان يقول: «أمّا السّحر فإنّما يعلّمه الشّياطين، وأمّا الّذي يعلّم الملكان فالتّفريق بين المرء وزوجه، كما قال اللّه تعالى».:
-وقيل يجوز أن تكون {ما }بمعنى لم ويجوز أن تكون بمعنى الذي ،وهو قول القاسم بن محمد
-قول القاسم بن محمد رواه ابن جرير وابن وهب المصري من طريق اللّيث بن سعدٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم بن محمّدٍ، وسأله رجلٌ عن قول اللّه: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فقال الرّجل: يعلّمان النّاس ما أنزل عليهما، أم يعلّمان النّاس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم: «ما أبالي أيّتهما كانت»

وعلى القول بأن {ما}بمعنى الذي يرد إشكالا وهو :هل يجوز أن ينزل الله السحر ؟
وقد أجاب ابن جرير رحمه الله على هذا الإشكال من عدة وجوه فقال :
إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله، وبين جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
وليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته. وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.
فليس في إنزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما به. إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما.

والراجح في هذا كما وضحه ابن جرير :أن {ما}بمعنى الذي لا بمعنى الجحد والنفي وأن سياق الآية ومعناها فيه دلالة واضحة على رد هذا القول ووجه ذلك:
-أن قوله تعالى {هاروت وماروت }لايخلو من أن يكونا بدلا إما عن الملكين وإما عن الناس في قوله {يعلمون الناس السحر}
فلو كانا بدلا من الملكين وكانت {ما}تفيد النفي كان المعنى أن الملكين هاروت وماروت ما أنزل عليهما شىء ولم يعلما السحر فيبقى الإشكال بعده في قوله تعالى {فيتعلمون منهما مايفرقون به بين المرء وزوجه} فكيف يتعلم منهما مالم يعلماه من التفريق بين المرء وزوجه ؟ومن هو الذي يعلم السحرة التفريق بين المرء وزوجه؟
ولو كان المراد بهما الناس اللذين تعلما السحر من الشياطين فيعلماه للسحرة من بعد ذلك لوجب أن يرتفع السحر من بنى آدم بهلاكهما لأنه إنما يؤخذ هذا العلم من قبلهما وهذا القول مردود إذ المشاهد بخلاف ذلك
فدل على أن الراجح والصواب أن {ما}بمعنى الذي وأن المراد بهاروت وماروت الملكين
قال ابن جرير:
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين، إذْ كانا = عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه = يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. (فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك
ثم ذكر قول الحسن مؤيدا به هذا القول فقال: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن في قوله: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) إلى قوله: (فلا تكفر) ، أخذ عليهما ذلك.

-وقال ابن جرير : حكي عن بعض القرّاء أنّه كان يقرأ: {وما أنزل على الملكين} يعني به رجلين من بني آدم.
وقد دلّلنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال؛ فأمّا من جهة النّقل فإجماع الحجّة على خطأ القراءة بها من الصّحابة والتّابعين وقرّاء الأمصار، وكفى بذلك شاهدًا على خطئها

-وقد ذكر القرطبي قولا في بيان المراد بهاروت وماروت وكر أنهما بدلا من الشياطين وأن الكلام فيه تقديم وتأخير وتقدير الكلام :وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت وقال :هذا أصح ماحملت عليه الآية وأولى ماقيل فيها
وقد تعقبه الآلوسي برد هذا القول وأنه مخالف لظاهر التأويل

وقد وردت أقوالا عن السلف فى المراد ب{الملكين }:
-قول ابن عطيةرواه ابن أبي حاتم بصيغة التضعيف قال: حدّثت عن عبيد اللّه بن موسى، ثنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة: {وما أنزل على الملكين} قال: «ما أنزل على جبريل وميكائيل السّحر».
-قراءة عبد الرحمن بن أبي أبزى ورواها ابن أبي حاتم قال : حدّثنا الفضل بن شاذان، ثنا محمّد بن عيسى، ثنا معلّى بن أسدٍ، ثنا بكر بن مصعبٍ، ثنا الحسن بن أبي جعفرٍ، أنّ عبد الرّحمن بن أبزى كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين داود وسليمان)
-قول على رواه ابن أبي حاتم من طريق إبراهيم بن موسى، أنبأ أبو معاوية، عن ابن أبي خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ، عن عليٍّ، قال: «هما ملكان من ملائكة السّماء»، يعني: {وما أنزل على الملكين}.
-قول الضحاك رواه ابن أبي حاتم عن عن ثابتٍ، عن الضّحّاك، في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال: كان الضّحّاك يقرؤها: (الملكين)،
قال: «هما علجان من أهل بابل»)
قال ابن كثير : وَجَّه أصحابُ هَذَا الْقَوْلِ الْإِنْزَالَ بِمَعْنَى الخَلْق، لَا بِمَعْنَى الْإِيحَاءِ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزُّمَرِ: 6] ، {وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الْحَدِيدِ: 25] ، {وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غَافِرٍ: 13] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً". وَكَمَا يُقَالُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.

-وقد وردت أخبارا إسرائيلية في بيان الملكين المذكورين في الآية أذكر طرفا منها:
- روى ابن جرير قال :حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا معاذ بن هشامٍ، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، قال: حدّثنا أبو شعبة العدويّ في جنازة يونس بن جبيرٍ أبي غلاّبٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ اللّه أفرج السّماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلمّا أبصروهم يعملون الخطايا، قالوا: يا ربّ هؤلاء بنو آدم الّذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلّمته أسماء كلّ شيءٍ، يعملون بالخطايا، قال: أما إنّكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا»،
قال:«فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض».
قال: «فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأحلّ لهما ما فيها من شيءٍ غير أن لا يشركا باللّه شيئًا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ».
قال: «فما اشهرّا حتّى عرض لهما امرأةٌ قد قسم لها نصف الحسن يقال لها: بيذخت، فلمّا أبصراها كشرا بها إربا، فقالت: لا إلاّ أن تشركا باللّه وتشربا الخمر وتقتلا النّفس وتسجدا لهذا الصّنم. فقالا: ما كنّا لنشرك باللّه شيئًا. فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلاّ أن تشربا الخمر. فشربا حتّى ثملا، ودخل عليهما سائلٌ فقتلاه. فلمّا وقعا فيه من الشّرّ، أفرج اللّه السّماء لملائكته،
فقالوا: سبحانك كنت أنت أعلم».
قال: «فأوحى اللّه إلى سليمان بن داود أن يخيّرهما بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا، فكبّلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل»
.

-قال ابن جرير : حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى الأرض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما.

-وروى عبد الرزاق من طريق الثورى عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب قال: «ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا ملكين، فاختاروا هاروت وماروت»،
قال: «فقال لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس وليس بيني وبينكما رسول، انزلا ولا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تسرقا»،
قال عبد الله بن عمر: قال كعب: «فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما»)
.

-قال ابن جرير:حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «أنّه كان من أمر هاروت وماروت أنّهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إنّي أعطيت بنى آدم عشرًا من الشّهوات فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربّنا لو أعطيتنا تلك الشّهوات ثمّ نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشّهوات العشر فاحكما بين النّاس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتّى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتّى أتتهما امرأةٌ تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربيّة الزّهرة، واسمها بالنّبطيّة بيذخت، واسمها بالفارسيّة أناهيذ، فقال أحدهما لصاحبه: إنّها لتعجبني. فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك ذلك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب اللّه؟ قال الآخر: إنّا نرجو رحمة اللّه. فلمّا جاءت تخاصم زوجها ذكرا لها نفسها، فقالت: لا، حتّى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها. ثمّ واعدتهما خربةً من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلمّا أراد الّذي يواقعها، قالت: ما أنا بالّذي أفعل حتّى تخبراني بأيّ كلامٍ تصعدان إلى السّماء؟ وبأيّ كلامٍ تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلّمت فصعدت. فأنساها اللّه ما تنزل به فبقيت مكانها، وجعلها اللّه كوكبًا،
فكان عبد اللّه بن عمر كلّما رآها لعنها، وقال: هذه الّتي فتنت هاروت وماروت، فلمّا كان اللّيل أرادا أن يصعدا فلم يطيقها فعرفا الهلكه، فخيّرا بين عذاب الدّنيا من عذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا، فعلّقا ببابل فجعلا يكلّمان النّاس كلامهما وهو السّحر».

وقال: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت

قال أحمد شاكرفي تحقيق الطبري تعقيبا على الرواية السابقة: الفرج بن فضالة التنوخي القضاعي: ضعيف قال البخاري: "منكر الحديث"، وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1/134، والصغير: 192، 199، والضعفاء للبخاري: 29، والنسائي: 25، وابن أبي حاتم 3 /2 /85 - 86.


قال ابن حجر العسقلاني:
بعد ان ذكر الروايات في شأن هاروت وماروت :
طعن في هذه القصة من أصلها بعض أهل العلم ممن تقدم وكثير من المتأخرين وليس العجب من المتكلم والفقيه إنما العجب ممن ينتسب إلى الحديث كيف يطلق على خبر ورد بهذه الأسانيد القوية مع كثرة طرقها أو تباين أسانيدها أنه باطل أو نحو ذلك من العبارة مع دعواهم تقوية أحاديث غريبة أو واردة من أوجه لكنها واهية واحتجاجهم بها والعمل بمقتضاها.
و في طرق هذه القصة القوي والضعيف ولا سبيل إلى رد الجميع فإنه ينادى على من أطلقه بقلة الإطلاع والإقدام على رد ما لا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص فيؤخذ بما اجتمعت عليه ويؤخذ من المختلف ما قوي، ويطرح ما ضعف أو ما اضطرب فإن الاضطراب إذا بعد به الجمع بين المختلف ولم يترجح شيء منه التحقق بالضعيف المردود. والله المستعان). [العجاب في بيان الأسباب: 1/314-343]
قال أحمد شاكر في تعقيبه على الحديث المرفوع في مسند الإمام أحمد :أما هذا الذي جزم به الحافظ، بصحة وقوع هذه القصة، صحة قريبة من القطع، لكثرة طرقها وقوة مخارج أكثرها-: فلا، فإنها كلها طرق معلولة أو واهية، إلى مخالفتها الواضحة للعقل، لا من جهة عصمة الملائكة القطعية فقط، بل من ناحية أن الكوكب الذي نراه صغيراً في عين الناظر قد يكون حجمه أضعاف حجم الكرة الأرضية بالآلاف المؤلفة من الأضعاف فأنى يكون جسم المرأة الصغير إلى هذه الأجرام الفلكية الهائلة!!.


تعليق أحمد شاكر على القصة :

وهذه الأخبار، في قصة هاروت وماروت، وقصة الزهرة، وأنها كانت امرأة فمسخت كوكبا - أخبار أعلها أهل العلم بالحديث.
وقد جاء هذا المعنى في حديث مرفوع، ورواه أحمد في المسند: 6178، من طريق موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ [أَبِي] بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رَبِّ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 30] ، قَالُوا: رَبَّنَا، نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: هَلُموا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى نُهْبِطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ؟ قَالُوا: برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ ومثُلت لَهُمَا الزُّهَرة امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَتَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْإِشْرَاكِ. فَقَالَا وَاللَّهِ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا. فَذَهَبَتْ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَقْتُلَا هَذَا الصَّبِيَّ. فَقَالَا لَا وَاللَّهِ لَا نَقْتُلُهُ أَبَدًا. ثُمَّ ذَهَبَتْ فَرَجَعَتْ بقَدَح خَمْر تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ. فَشَرِبَا فَسَكِرَا، فَوَقْعَا عَلَيْهَا، وَقَتَلَا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا أَبَيْتُمَاهُ عَلِيَّ إِلَّا قَدْ فَعَلْتُمَاهُ حِينَ سَكِرْتُمَا. فخيرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا".
وقد فصلت القول في تعليله في شرح المسند، ونقلت قول ابن كثير في التفسير :"وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم".

حكم هذه المرويات :
قال ابن كثير : وَقَدْ رَوَى فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ، كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَّهَا خَلْقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ،
حَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ مِنْ غَيْرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ فِيهَا، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.

تعقيب أحمد شاكر على حديث ابن عمر المرفوع في المسند :
إسناده ضعيف، لما سنذكره. فقد نقله ابن كثير في التفسير 1: 254 عن هذا الموضع، وقال: "وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكير [يعني شيخ أحمد هنا]، به. وهذا حديث غريب == من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جُبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم، المديني الحذاء، وروى عن ابن عباس، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام، وبكر ابن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة، وعبد الله بن لهيعة، وعمرو بن الحرث، ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود وابن ماجة، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئاً من هذا ولا هذا [يعني من الجرح أو التعديل]، فهو مستور الحال.
وقد تفرد به عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلي الله عليه وسلم -". ثم ذكر أنه له متابعاً من وجه آخر عن نافع، فذكره من رواية ابن مردويه بإسناده إلى عبد الله بن رجاء "حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر: سمع النبي -صلي الله عليه وسلم - يقول، فذكره بطوله". ثم ذكر نحواً، من هذه القصة من تفسير الطبري بإسناده من طريق الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلي الله عليه وسلم -،
ثم قال ابن كثير:
"وهذان أيضاً غريبان جداً. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي -صلي الله عليه وسلم -"، ثم روى نحواً من ذلك من تفسير عبد الرزاق، من روايته عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار ثم قال: "رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق، به. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري، به". ثم أشار إلى أن ابن جرير رواه بنحوه من طريق المعلى بن أسد عن موسى بن عقبة "حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار، فذكره".
قال ابن كثير: "فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل".

وقد علق أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله على كلام ابن كثير في هذا الموضع، قال: "من المحقق أن هذه القصة لم تذكر في كتبهم المقدسة، فإن لم تكن وضعت في زمن روايتها، فهي من كتبهم الخرافية.
ورحم الله ابن كثير الذي بين لنا أن الحكاية خرافية إسرائيلية، وأن الحديثْ المرفوع [يعني هذا الحديث] لا يثبت". وذكره ابن كثير أيضاً في التاريخ 1: 37 - 38 إشارة، فقال:"وأما == ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت، من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم، فعلماها، فقالته، فرفعت كوكباً إلى السماء-: فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل.
وقد روى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه في ذلك حديثاً"، ثم أشار إلى هذا الحديث بإيجاز، ثم أشار إلى رواية عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم [عن أبيه]، عن كعب الأحبار، ثم إلى رواية الحاكم من حديث ابن عباس، ثم إلى حديث آخر رواه البزار من حديث ابن عمر في أن سهيلاً "كان عشاراً ظلوماً، فمسخه الله شهاباً"، وضعفه جداً، ثم قال: "ومثل هذا الإسناد لا يثبت به شيء بالكلية.
وإذا أحسنّا الظن قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار. ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها". وموسى بن جُبير، راوي هذا الحديث عن ابن عمر: هو الأنصاري المدني الحذاء مولى بني سلمة، وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان يخطىء ويخالف"، وقال ابن القطان: "لا يعرف حاله". وقد ترجمه البخاري في الكبير 4/ 1/ 281 فلم يذكر فيه جرحاً.
وأما إشارة الحافظ ابن كثير
في التفسير إلى رواية ابن مردويه من طريق عبد الله بن رجاء عن سعيد بن سلمة عن موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر-: فإنها وإن كانت متابعة للإسناد الذي هنا إلا أنها ضعيفة عندي أيضاً، فإن عبد الله بن رجاء الغداني- بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة- ثقة صدوق من شيوخ البخاري، ولكنه كان كثير الغلط والتصحيف، كما قال ابن معين وعمرو بن علي الفلاس، فمثل هذا ومثل موسى بن جُبير يتوقى روايته الأخبار المنكرة التي تخالف العقل أو بديهيات الإِسلام، كمثل هذا
الحديث. ولا نقصد بذلك إلى تضعيف الراوي وطرح كل ما يروي، ولكنا نجزم بأن مثل روايته هذه من الغلط والسهو، ونرجح- كما رجح الحافظ ابن كثير- رواية موسى ابن عقبة عن سالم أبيه عن كعب الأحبار، ونجعلها تعليلاً للرواية التي فيها أنه مرفوع إلى النبي -صلي الله عليه وسلم -. وكذلك باقي إسناد ابن مردويه، فيه مثل هذا التعليل...

ثم قال :وأما رواية الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه= عن كعب الأحبار، التي رجحها الحافظ ابن كثير-: فإنها أيضاً في تفسير الطبري 1: 363 رواها من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه عن كعب الأحبار. فهذه متابعة قوية لرواية الثوري عن موسى بن عقبة. ورواه الطبري أيضاً من طريق مؤمل ابن إسماعيل وعبد الرزاق، كلاهما عن الثوري عن محمد بن عقبة عن سالم عن أبيه عن كعب الأحبار، ومحمد بن عقبة هو أخو موسى بن عقبة، فقد تابع أخاه على أن الحديث من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار.

وكل هذا يرجح ما رجحه ابن كثير: أن الحديث من قصص كعب الأحبار الإسرائيلية، وأنه ليس مرفوعاً إلى
النبي -صلي الله عليه وسلم -، وأن من رفعه فقد أخطأ ووهم، بأن الذين رووه من قصص كعب الأحبار أحفظ وأوثق ممن رووه مرفوعاً. وهو تعليل دقيق من إمام حافظ جليل. ولحديث ابن عمر هذا- مرفوعاً- طريق آخر ضعيف أيضاً: فرواه الحاكم في المستدرك 4: 607 - 608 من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، مرفوعاً، مطولاً، في قصة بسياق آخر. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتركُ حديث يحيى ابن سلمة عن أبيه من المحالات التي يردها العقل، فإنه لا خلاف أنه من أهل الصنعة، فلا ينكر لأبيه أن يخصه بأحاديث ينفرد بها عنه"!!. وتعقبه الذهبي بتضعيف يحيى هذا، فقال: "قال النسائي: متروك، وقال أبو حاتم: منكر الحديث". ويحيى بن سلمة بن كهيل هذا ضعيف، كما قلنا في 776، وقد ضعفه البخاري جداً كما نقلنا هناك. ونزيد هنا أنه قال في التاريخ الأوسط: "منكر الحديث"، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وذكره ابن حبان في الضعفاء، فقال: "منكر الحديث جداً، لا يحتج به"، وقال الذهبي في الميزان: "وقد قوّاه الحاكم وحده، وأخرج له في المستدرك، فلم يُصبْ". وأما كلمة الحاكم أن ترك حديثه عن أبيه من المحالات، فإنما يريد بها أنهم أنكرَوا عليه أحاديث رواها عن أبيه لم يروها أحد غيره، فرد الحاكم عليهم بأنه لا ينكر أن يخصه أبوه بأحاديث ينفرد بها عنه، وهذا صحيح لو كان ثقة مقبول الرواية" أما وهو ضعيف منكر الحديث فلا.

والمراد ببابل: قال بعضهم
إنّها بابل دنباوند. رواه ابن جرير قال:حدّثني بذلك موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ.
وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق.
قال ابن جرير :حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قصّةٍ ذكرتها عن امرأةٍ قدمت المدينة، فذكرت أنّها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلّمت منهما السّحر.
{وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}وقوله تعالى :أي وأخذ عليهما ألا يأتيهما أحد من بنى آدم يريد أن يتعلم السحر حتى يقولا له {إنما نحن فتنة }أي بلاء واختبار فلاتكفر بتعاطيك السحر وممارستك إياه بعد تعلمه ،وهو معنى قول السدي وقتادة والحسن وابن جريج
-قول السدي:رواه ابن جرير قال : حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: «إذا أتاهما -يعني: هاروت وماروت- إنسانٌ يريد السّحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنّما نحن فتنةٌ. فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرّماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نورٌ يسطع حتّى يدخل السّماء، وذلك الإيمان وأقبل شيءٌ أسود كهيئة الدّخان حتّى يدخل في مسامعه وكلّ شيءٍ منه، فذلك غضب اللّه، فإذا أخبرهما بذلك علّماه السّحر. فذلك قول اللّه: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} الآية
-قول قتادة :رواه ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: قال قتادة: «كانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}
-قول الحسن:رواه ابن جرير قال: حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسن، قال:«أخذ عليهما أن يقولا ذلك»
-قول ابن جريج :رواه ابن جرير قال: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: «أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}، لا يجترئ على السّحر إلاّ كافرٌ»
وقوله تعالى {فيتعلمون منهما مايفرقون به بين المرء وزوجه }أي وإذا قالوا لمن يعلمونهم {إنما نحن فتنة فلاتكفر}فيأبون إلا أن يتعلموا منهما أي من الملكين ؛فيتعلمون مابه يفرقون بين المرء وزوجه وهو السحر

والسحر :اختلف في حقيقته ومعناه ؛فقيل :هو خدع يفعلها الساحر حتى يخيل للمسحور أشياء بخلاف حقيقتها وماهى عليه وهذا السحر لايمكن للساحر فيه أن يقلب الأعيان أو يغيرها بل من قبيل التخييل
وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى ابن جرير قال :
حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن نميرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يهوديٌّ من يهود بني زريقٍ يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما يفعله»
وكما جاء عن سحرة فرعون فى قوله تعالى عن موسى عليه السلام {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}
-وقيل السحر :قد يقدر الساحر على قلب الأعيان مثل أن يحول إنسانا حمارا ونحو ذلك ومستندهم في ذلك مارواه ابن جرير قال حدثنا الرّبيع بن سليمان، قال: حدّثنا ابن وهبٍ، قال: أخبرنا ابن أبي الزّناد، قال: حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّها قالت: «قدمت عليّ امرأةٌ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيءٍ دخلت فيه من أمر السّحر ولم تعمل به».
قالت عائشة لعروة:«يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيشفيها، كانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها، وتقول: إنّي لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوجٌ فغاب عنّي، فدخلت عليّ عجوزٌ فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلمّا كان اللّيل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيءٍ حتّى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السّحر؟ فقالا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئًا؟ قلت: لم أر شيئًا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري. فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت وخفت. ثمّ رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنّك على رأس أمرك. فأربيت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا متقنّعًا بحديدٍ خرج منّه حتّى ذهب في السّماء وغاب عنّي حتّى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: رأيت فارسًا متقنّعًا خرج منّه فذهب في السّماء حتّى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي. فقلت للمرأة: واللّه ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا، فقالت: بلى، لن تريدي شيئًا إلاّ كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، فقلت: أطلعي، فأطلعت، وقلت: أحقلي، فأحقلت، ثمّ قلت: أفركي. فأفركت، ثمّ قلت: أيبسي، فأيبست، ثمّ قلت: أطحني. فأطحنت، ثمّ قلت: أخبزي، فأخبزت. فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئًا إلاّ كان سقط في يدي وندمت واللّه يا أمّ المؤمنين، واللّه ما فعلت شيئًا قطّ ولا أفعله أبدًا».
وقد استدل هؤلاء أيضا بقوله تعالى {مايفرقون به بين المرء وزوجه}وأنه لو كان تخييلا وحسبانا مااستطاعوا أن يفرقوا به تفريقا على الحقيقة

والصواب هو القول الأول لأنه لو كان في وسع السّحرة إنشاء الأجسام وقلب الحقائق الأعيان عمّا هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحقّ فصلٌ، ولجاز أن تكون جميع المحسات ممّا سحرته السّحرة فقلبت أعيانها ،ذكره ابن جرير
واستدل ابن جرير على صحة هذا القول بقوله : وفي وصف اللّه جلّ وعزّ سحر سحرة فرعون بقوله: {فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى}. وفي خبر عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان إذ سحر يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء ولا يفعله، أوضح الدّلالة على بطول دعوى المدّعين: أنّ السّاحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذّر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان، وصحّة ما قلنا.
-وقال آخرون :بل السحر أخذ بالعين،ذكر هذه الأقوال الطبري

-وأما عن كيفية تفريق الساحر بين الرجل وزوجته :
والجواب على هذا السؤل مبنى على حقيقة السحر الذي عرفناه سالفا :
-فإن كان السحر هو تخييل الشيء للمرء بخلاف ماهو في عينه وحقيقته فيكون التفريق بتخييل لكل واحد من الزوجين خلاف ماهو في حقيقته بتقبيحه وتبغيضه إليه حتى يحدث الزوج نفسه بفراق امرأته فيكون التفريق بينهما بهذا السبب والعرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسبيبه
قال به قتادة كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سعيد، عن قتادة
: «{فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} وتفريقهما أن يؤخذ كلّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ويبغضّ كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه
-وأما القول بنفي كون الملكان يعلمان السحر فكان تأويلهم لقوله تعالى {فيتعلمون منهما }: {فيتعلّمون منهما} إلى: فيتعلّمون مكان ما علّماهم ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا من كذا وكذا كذا
وقوله تعالى {وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله }المعنى أن هؤلاء المتعلمون من الملكين مايفرقون به بين المرء وزوجه لايضرون به إلا من قضى الله عليه بذلك إذ الأمر كله بيده ومرجعه إليه
روى ابن جرير بسنده عن سفيان في قوله: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه} قال: «بقضاء اللّه»)
وقوله تعالى {ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم}أي وأما هذا الذي يتعلمونه من الملكين ممايفرقون به بين المرء وزوجه فإن ضرره عائد عليهم ولاشك في الآخرة وعاقبة أمرهم وإن كان يحصل لهم بعض المنافع والمآكل الدنيوية من وراء ذلك الفعل في الدنيا ولكن لما كانت الدنيا فانية ومتاعها قليل جعل النفع المتحصل من ورائها لاشىء يذكر مقارنة بالضرر العائد على الفاعلين لذلك في الآخرة
وقوله تعالى {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}أي ولقد علم هؤلاء اليهود المشار إليهم في السياق السابق بقوله تعالى {ولماجاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لايعلمون}و{اتبعوا ماتتلو الشياطين على ملك سليمان} فهؤلاء الذين نبذوا كتاب الله ولم يعملوا بمافيه وكفروا بما أنزل على النبي وهو مصدق لما معهم واتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان وما أنزل على الملكين هاروت وماروت فآثروا السحر وهو الباطل على الحق وهو كتاب الله تعالى المنزل على رسوله
ولقد علم هؤلاء اليهود بما عهده الله إليهم أن الساحر ماله في الآخرة من خلاق،وهو قول قتادة والسدي وابن زيد

قول قتادة : رواه ابن جريرمن طريق سعيد ، عن قتادة:«{ولقد علموا لمن اشتراه} أى: لمن أستحبه {ما له في الآخرةٍ من خلاقٍ} يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد اللّه إليهم أنّ السّاحر لا خلاق له عند اللّه يوم القيامة».
قول السدي:رواه ابن جرير قال :حدّثنا موسى، قل: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
قول ابن زيد رواه ابن جريرمن طريق ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال: «قد علمت يهود أنّ في كتاب اللّه في التّوراة أنّ من اشترى السّحر وترك دين اللّه ما له في الآخرة من خلاقٍ، ومن لم يكن له خلاق فالنّار مثواه ومأواه».:
ومعنى قوله {ماله في الآخرة من خلاق}فيها أقوال:

-قيل :ماله في الآخرة من نصيب ،وهو قول مجاهد والسدي وسفيان
وقول مجاهد رواه ابن جرير من طريق شبل بن أبي نجيح عنه
وقول السدى رواه ابن جرير من طريق موسى بن هارون عن عمرو عن أسباط عنه
وقول سفيان رواه ابن جرير من طريق إسحاق عن وكيع عنه
-وقيل:الخلاق الدين وهو قول الحسن كما رواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عنه
-وقيل :خلاق أي قوام وهو قول ابن عباس كمارواه ابن جرير من طريق الحسين عن حجاج عن ابن جريج عنه
والراجح كما ذكر ابن جرير :أن معنى الخلاق هنا النصيب ،إذأن هذا المعنى هو الذي ينسجم مع السياق وذلك أن من كان فاقدا للإيمان والعمل الصالح فإنه فاقد لحظه ونصيبه من الجنة فى الآخرة أى لانصيب له من الخير ألبتة
وأيضا هو المعنى في كلام العرب ،ومنه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليؤيّدنّ اللّه هذا الدّين بأقوامٍ لا خلاق لهم»، يعني: لا نصيب لهم ولا حظّ في الإسلام والدّين. ومنه قول أميّة بن أبي الصّلت:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم ....... إلاّ سرابيل من قطرٍ وأغلال
وقوله تعالى {ولبئس ماشروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فيه ذم من الله تعالى لليهود الذين باعوا دينهم الذي فيه نجاة أنفسهم من الهلاك وآثروا السحر وتعلمه وتعليمه والعمل به على الإيمان بكتاب الله ورسوله عنادا منهم وبغيا مع معرفتهم بما أعد الله تعالى لمن ارتكب ذلك من العقوبات والعذاب ولكن قوله تعالى {لو كانوا يعلمون}يوهم أنهم لا يعلمون عاقبة فعلهم في حين أن السياق قبله قال تعالى فيها {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}
والجمع بينهما ممكن :إذ أنه لما كان العالم الذي لايعمل بما علم كالجاهل الذي لم يعلم أصلا ولاعمل وصفوا بأنهم لايعلمون وهم في الحقيقة والواقع يعلمون لكن لايعملون بمقتضى علمهم
وهذا كما قال تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء }فمنطوق الآية يدل أن الذين يخشون فقط هم العلماء والخشية ثمرة العلم ،ودلت الآية بمفهومها أن من لم يخش الله فليس بعالم على القيقة وإن كان قد علم لأنه فقد ثمرة العلم
وهكذا هنا أيضا في هذه الآية فإنهم لما نبذوا ماتعلموه في كتابهم وما أخذ الله عليهم من العهد بالإيمان برسل الله وكتبه وأقبلوا على تعلم ماحرم الله ونهى عنه فتعلموه وعلموه وعملوا به ؛فكانوا في حكم الجهال الذين لا يعلمون
المصادر:
-تفسير الطبري
-تفسير ابن أبي حاتم
-تفسير البغوى
-تفسير ابن عطية
-تفسير الماوردي
-سنن ابن وهب
-فتح الباري
-لباب النقول
-تفسير ابن كثير
-تفسير القرطبي
-تفسير عبد الرزاق
-الدر المنثور
-مسند الإمام أحمد
-الصحيح المسبور في التفسير بالمأثور
-أسباب النزول للواحدى

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21 ذو الحجة 1439هـ/1-09-2018م, 07:55 AM
الصورة الرمزية هيا أبوداهوم
هيا أبوداهوم هيا أبوداهوم غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 607
افتراضي

قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..
هذه الآية تبين لنا عن موقف بني اسرائيل مع أوامر الله ومدى اعتراضهم في الانقياد والتسليم لأمر الله ،فيذكرهم الله بسالف عهدهم من نقضهم للميثاق ،وهي جاءت بعد ذكر مخالفتهم لأنبياءهم في تشريعاتهم وقساوتهم ، وهنا ضرب آخر لمخالفتهم ولكن في مصالح دنياهم ،وهي آية فيه احتجاج لمشركي العرب لأنهم كانوا لايؤمنون بالبعث ، فقال الزجاج في معاني القرآن : قال الزجاج : (هذه الآية احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلا من قرأ الكتب أو أوحى إليه) .
وهي عن قصة رجل من بني اسرائيل قتل الآخر ليرثه فاختصموا إلى موسى في أمر المقتيل ، وذكروا أن اسم القتيل عاميل وهو قول ذكره الثعلبي والقرطبي والألوسي ولم أجد له أصل .
و اختلفوا في الذي قتل القتيل :
القول الأول : أن الذي قتل القتيل هو قريبه ، وهذا القول قاله ابن عباس و السدي و عبيدة السلماني .
وقول ابن عباس رواه ابن جرير من طريق أبيه عن ابن عباس .
وهذه الرواية أيضا جاءت بسند آخر لابن جريج، من طريق حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وابن جريج هو ممن ينقل من الاسرائليات .
وقول عبيدة السلماني رواه ابن أبو حاتم والبيهقي من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني.، ورواه ابن جرير من طريق هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني.
وقول السدي رواه ابن جرير من طريق أسباط عن السدي.
وهذه الروايات هناك اختلاف أيضا في سياقها ، والسدي الكبير كان ممن يروي عن الاسرائليات .
القول الثاني : أن الذي قتل القتيل هو جماعة من الورثة ، وهذا قول ابن زيد ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس.
وأما قول ابن زيد فرواه ابن جرير من طريق يونس عن ابن وهب عن ابن زيد .
ويونس كان ممن يروي أحاديث منكرة وهو سيء الحفظ .
قَال مُحَمَّد بْن سعد : كَانَ حلو الحديث، كثيره، وليس بحجة، ربما جاء بالشئ المنكر.
وكل الأخبار التي فيها اختلاف في سياقاتها لأنها قد تكون منقولة من الاسرائليات ، وهو من الذي يجوز نقله فلا نصدقه ولا نكذبه ولا نعتمد منها إلا ما وافق الحق ، وهذا ما ذكره ابن كثير في آخر كلامه عن الأخبار التي وردت .
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : وهذه السّياقات [كلّها] عن عبيدة وأبي العالية والسّدّيّ وغيرهم، فيها اختلافٌ ما، والظّاهر أنّها مأخوذةٌ من كتب بني إسرائيل وهي ممّا يجوز نقلها ولكن لا نصدّق ولا نكذّب فلهذا لا نعتمد عليها إلّا ما وافق الحقّ عندنا، واللّه أعلم.
والاسرائليات على ثلاثة أقسام تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة التفسير :
القسم الأول : ما وافق الكتاب والسنة فهذا نصدقه .
القسم الثاني : مايخالف أدلة الكتاب والسنة فهذا نرفضه .
القسم الثالث: مسكوت عنه ، فلا نصدقه ولا نكذبه ونؤمن به ويجوز الحكاية عنه .
والذي في الآية هو من القسم الثالث لذلك يجوز نقله والتحديث بها ولا نصدقه ولا نكذبه .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه البخاري والترمذي ورواه أحمد والدارمي في سننه من طريق عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بني إسرائيل وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبي داود والإمام أحمد وعبد الرزاق من طريق بن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم فقال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه.
وقوله تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه ) : فالواو هنا للعطف وهي استئنافية ، والمراد بالقوم هم بنو اسرائيل .
وأما قوله : (يأمركم) : فهنا جاءت بصيغة المضارع للدلالة على الحضور في زمن القصة ،ويذكر أبو الطيب القنوجي في فتح البيان في مقاصد القرآن أن قوله ( يأمركم ) أنها تدل على أن الآمر لايدخل في عموم الأمر ؛ فموسى عليه السلام لم يدخل في الأمر، بدليل قوله تعالى : ( فذبحوها ) .
وقرأت ( يأمركم ) بقراءات :
القراءة الاولى : باسكان الراء وهي قراءة أبو عمرو ،والسوسي وذكره أبو عمرو الداني والسمين الحلبي والقرطبي والألوسي .
قال النحاس في إعراب القرآن (ت 338 هـ) : (قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف [ ص: 415 ] الإعراب ، وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة) .
وذكر السمين الحلبي ( ت: 756) : ( وروي عن أبي عمرو سكونها سكونا محضا واختلاس الحركة وذلك لتوالي الحركات، ولأن الراء حرف تكرير فكأنها حرفان، وحركتها حركتان، وقيل: شبهها بعضد، فسكن أوسطه [ ص: 417 ] إجراء للمنفصل مجرى المتصل) .
القراءة الثانية : باختلاس الضمة ، وهي قراءة الدوري .وذكره الألوسي ، وغيره في كتب القراءت .
القراءة الثانية : بضم الراء ، وهي قراءة الباقين ، وذكره السمين .والألوسي ، وغيرهم في كتب القراءت كجمال الدين شرف ومحمد محمد سالم وغيرهم .
وهذه القراءة في قراءة الجمهور ؛ لأنه مضارع معرب مجرد من ناصب وجازم، وذكر ذلك السمين الحلبي .
القول الثالث: بابدال الهمزة ألفا ، وهي قراءة ورش والسوسي وذكره السمين الحلبي ، والألوسي ،وغيرهم من كتب القراءت كجمال الدين شرف ومحمد محمد سالم وغيرهم .

فأمرهم الله تعالى بذبح البقرة ليكون معجزة موسى بكشف من القاتل .
والذبح في اللغة : قطع الحلقوم من باطن عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق، كما ذكر ذلك ابن منظور ، ويقول الراغب الأصفهاني في غريب القرآن : أن أصل الذَّبْح: شقّ حلق الحيوانات. أما النحر فهو موضِع القِلَادةِ من الصَّدر.
واختلف المفسرون في من يكون له الذبح ومن يكون له النحر على أقوال :
القول الأول : أن الذبح للبقر والنحر لغيرها من المواشي ، وهو قول ابن كثير .
وهذا القول حجتهم :
أولا : بسبب نص القرآن والأمر يقتضي الوجوب في قوله تعالى : ( يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .
ثانيا : لأنه أقرب في منحره .
ثالثا : قوله تعالى : ( فصل لربك وانحر ) ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن ، وذبح الغنم ، وإنما تؤخذ الأحكام من جهته .
القول الثاني : ان الذبح والنحر لا خلاف بينهما ، وهو قول ابن المنذر وذكره ابن كثير وابن قدامة وهو من خلاصة ما ذكره الأصفهاني .
قال ابن قدامة في المغني : قال ابن المنذر : إنما كرهه ، ولم يحرمه .
ورجح ابن القدامة القول الثاني لأسباب :
أولا : أنه قول أكثر أهل العلم منهم عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومالك ، والليث ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور.
ثانيا : قول النبي صلى الله عليه وسلم { أمرر الدم بما شئت } . وقالت أسماء : نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة ،وعن عائشة ، قالت : { نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة } . ولأنه ذكاة في محل الذكاة ، فجاز أكله ، كالحيوان الآخر .
وحديث ( أمرر الدم بما شئت ) هو حديث رواه النسائي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق مري بن قطري عن عدي بن حاتم ، وبهذا اللفظ رواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الخامس والستين ، من القسم الثالث ; والحاكم في " المستدرك " ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.
ثالثا : قول ابن المنذر : إنما كرهه ، ولم يحرمه .
القول الثالث: أن التخيير في البقر ، وأن النحر أولى في الإبل ، والذبح أولى في الغنم ، وذكر ذلك القرطبي .
قال الشيخ صالح الفوزان في المخلص الفقهي : (والسنة نحر الإبل ؛ بأن يطعنها بمحدد في لبتها ، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وذبح غيرها في حلقه ).

فأمرهم الله بذبح بقرة وهي نكرة فيعم أي نوع من البقر .
وروى عبد الرزاق في مصنفه من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة قال : «لو أخذ بنو إسرائيل أدنى بقرة لأجزأت عنهم ولولا أنهم قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون ما وجدوهاا».
والبقرة هو اسم للأنثى وأما الذكر فهو الثور ،وجمعه بقر وبقرات ، والتاء في قوله ( بقرة) ليس للتأنيث ولكن دخلته على أنه واحد ، وقد ذكر ذلك الماوردي في النكت والعيون وابن منظور في لسان العرب ، واسم البقرة مأخوذ من الشق من قولهم بقر بطنه إذا شقه، لأنها تشق الأرض في الحرث، وذكر ذلك أبو حيان وابن منظور .
واختار الله لهم أن يذبحوا بقرة دون غيرها لأسباب ذكرها الماوردي في النكت والعيون :
أولا : أنها من جنس ما عبدوه من العجل .
ثانيا : ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه.
ثالثا : ليعلم بإجابتهم زوال ما كان في نفوسهم من عبادته.
فكان جواب بني اسرائيل عند أمر الله ( قالوا أتتخذنا هزوا ) ، فواجبهم كان كسؤال .
واختلف أهل العلم في الغرض من هذا السؤال :
القول الأول : توهما منهم أنه يداعبهم ، وهذا القول ذكره الألوسي
القول الثاني : استفهموا على سبيل الاسترشاد لا على وجه الإنكار والعناد، وهذا القول ذكره الألوسي وابن عاشور .
والأرجح هو القول الثاني لأن ابن عاشور في التحرير والتنوير ذكر أن الاستفهام حقيقي .
فقال ابن عاشور : وقولهم أتتخذنا هزؤا استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل.

فالسؤال على أنواع :
النوع الأول : نوع محمود ، كما قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
مثل : أمور الدين الضرورية ولحاجة ، والعلم ، ونحوه .
النوع الثاني : نوع مذوم السؤال عنه ومنهي عنه ، لذلك قال تعالى : ( (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ، و قال عليه الصلاة والسلام : (( دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )). رواه البخاري .
مثل :
- التعنت والتعمق، وما لا فائدة منه ولا حاجة له.
-و الاستهزاء والسخريه.
- والمسائل التي لم تقع .
-والسؤال عن القضاء والقدر.
-وعن قيام الساعة.
وغيره .

وقوله : ( قالوا أتتخذنا ) : فالقول هنا جاء بالماضي للدلالة على المضي ، والواو هنا ضمير يعود على بني اسرائيل .
وقوله ( أتتخذنا ) :هنا الضمير ( التاء ) يعود على موسى ، وذكر ذلك يحي عبابنة في القراءات القرآنية رؤى لغوية .
و جاء فيه قراءة أخرى بالياء ( يتخذنا )، وهي قراءة عاصم وابن محيصن والحجدري ، على أن الضمير لله تعالى ، وهذا ما ذكره الثعلبي و ابن عطية والألوسي .
وهذه القراءة شاذة ذكره ابن خالويه .
وقوله ( هزوا ) بمعنى اللعب والسخرية ، وهذا ما ذكره الماوردي والقرطبي وابن منظور .
و ذكر ابن عاشور في التحرير والتنوير أسباب تبرأ موسى من الهزء :
أولا : لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح.
ثانيا : لأن في الهزء مزحا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه ، وذكره أيضا ابن الجوزي .
ثالثا : أنه لايليق في المجامع العامة والخطابة .
رابعا : أنه لايليق بمقام الرسول .

وجاءت فيها ست قراءات لكن ثلاث منها متواترة مشهورة والبقية قراءات شاذة .
والقراءت الثلاثة المشهورة المتواترة وهي :
الأول : قرأ حفص : بابدال الهمزة واوا مع ضم الزاي وصلا ووقفا فتقرأ ( هزوا) ، وذكره أبو عمرو الداني ،والسمين الحلبي و ومحمد حسن .
الثاني : قرأ حمزة بالهمز مع اسكان الزاي وصلا فقط ( هزءا)، ذكره أبو عمرو الداني والسمين الحلبي ومحمد حسن .
الثالث : وقرأ الباقون بالهمز مع ضم الزاي وصلا ووقفا ( هزءا) ، وذكره محمد حسن .
وهذه القراءة وجه الضم في الزاي انه جاء على الأصل، وأنه لهجة أهل الحجاز .
الرابع : قرأ خلف العاشر «هزوا» مع اسكان الزاي وصلا ووقفا، ووجه الاسكان التخفيف. وهو ماذكره محمح سالم محيسن .
فاسكان الزاي هو لهجة تميم وأسد وعامة قيس .
وقوله تعالى : ( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) : فمعنى ( أعوذ بالله ) : أي أتبرأ وأمتنع بالله ،وهذا حاصل ماذكره البغوي وابن منظور .
وأما قوله (من الجاهلين ): جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر أكون، ومفرد جاهل .
فما معنى الجهل ؟
الجهل هو نقيض العلم وضد الحلم وهذا حاصل ما ذكره ابن منظور وابن عاشور .
وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا .
ويقول السعدي في تفسيره أن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه.

وأما متعلق الجار والمجرور يحتمل معنين :
المعنى الأول : الاستعاذة من الجهل من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، وهذا حاصل ما ذكره البغوي وابن عطية .
المعنى الثاني : الاستعاذة من الجهل كما جهلوا في قولهم أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله تعالى، وهذا أيضا حاصل ما ذكره البغوي وابن عطية .

وفي هذه الآية لها فوائد عظيمة :
-منها أن الأمر يقتضي الوجوب كما في قوله تعالى : ( يأمركم ) .
-ومنها أن الذبح والنحر هي الطرق الشرعية للذكاة ، وأن السنة في البقر هو الذبح .
- ومنها أنه لا يليق في مقام النبوة الاستهزاء والمزح في أوامر الله ، ومن باب أولى العلماء وأهل العلم لا يليق بهم المزح في أوامر الله والاستهزاء بها ، لأن العلماء ورثة الأنبياء .
-ومنها أن التعنت والعناد في اتباع أوامر سبب تعسر الأمور أكثر وسبب في التنطع وسبب في الضلال ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ)،وكما قال عليه الصلاة والسلام : إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) .
- ومنها النهي عن كثرة السؤال فيما لا حاجة فيه .
- ومنها الحاجة إلى سؤال أهل العلم في الأمور الضرورية لرفع الجهل .
- ومنها التأدب في سؤال أهل العلم .
-ومنها أن الجهل صفة ممقوتة ، فنحتاج أن نحاول أن نبتعد عنها ونسعى في رفع الجهل عن أنفسنا أولا ثم عن غيرنا .
-ومنها أن المستهزيء يستحق صفة الجهل .

..........................
المراجع :
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،تأليف عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)، عناية سعد بن فواز الصميل ، ص46 ، دار ابن الجوزي .
معاني القرآن وإعرابه،تأليف إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)،موقع جمهرة العلوم .
تفسيرابن عطية ، المحرر الوجيز ،تأليف عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ)، 1 / 245 -246،موقع جمهرة العلوم .
تفسير الماوردي ، النكت والعيون ، تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري،تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم،دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان، نسخة الكترونية .
اعراب القرآن للنحاس ، أبو جعفر النَّحَّاس أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي (المتوفى: 338هـ)،جمهرة العلوم .
جامع البيان في تأويل آي القرآن ،لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، تحقيق محمود شاكر ، طبعة دار المعارف بمطر ،نسخة الكترونية .
تفسير القرآن العظيم ،إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، دار طيبة للنشر ، 1422هـ / 2002م، نسخة الكترونية .
معالم التنزيل (تفسير البغوي)، المؤلف: الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد،المحقق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش، دار طيبة، 1409 هـ - 1989 م، نسخة الكترونية .
لسان العرب ،محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)،دار صادر - بيروت،الطبعة الثالثة - 1414 هـ، نسخة الكترونية .
التحرير والتنوير ،محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)،الدار التونسية للنشر - تونس،نسخة الكترونية .
التفسير والمفسرون : للدكتور محمد حسين الذهبي ، نسخة الكترونية .
شرح مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ، إعداد مركز العروة الوثقى ، ص294-295، دار ابن حزم ، القاهرة .
الكشف والبيان عن تفسير القرآن ، تأليف أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427هـ)،تحقيق لإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان،الطبعة الأولى 1422، هـ - 2002 م، نسخة الكترونية .
تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم،أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ)،المحقق أسعد محمد الطيب،مكتبة نزار مصطفى الباز ، الطبعة الثالثة - 1419 هـ
الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن احمد الأنصاري ، المجلد الأول ، دار الفكرللطباعة والنشر والتوزيع ، نسخة الكترونية .
سير أعلام النبلاء ، تأليف حمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، مؤسسة الرسالة ، نسخة الكترونية .
تهذيب الكمال في أسماء الرجال ،يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي، تحقيق د. بشار عواد معروف،مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1400 – 1980، نسخة الكترونية .
التيسير في القراءت السبع ،تأليف عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444هـ)،دار الكتاب العربي - بيروت،الطبعة الثانية، 1404هـ/ 1984م، نسخة الكترونية .
الدرر المصون ، لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، دار القلم ، نسخة الكترونية .
الإرشادات الجلية في القراءات السبع من طريق الشاطبية ، تأليف محمد محمد محمد حسن سالم ، دار محيسن للطباعة والنشر والتوزيع ، ص 94 ، نسخة الكترونية .
تفسير الألوسي ، تأليف شهاب الدين السيد محمود الألوسي، دار احياء التراث العربي ، نسخة الكترونية .
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، تأليف برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي ، نسخة الكترونية .
المفردات في غريب القرآن ،تأليف أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ)،تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى - 1412 هـ، نسخة الكترونية .
المغني لابن قدامة ، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ)، مكتبة القاهرة، نسخة الكترونية .
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي، الطبعة الأولى ، نسخة الكترونية .
معجم القراءات ، تأليف الدكتور عبد اللطيف الخطيب ، المجلد الأول، دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع .
الملخص الفقهي ، تلخيص الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ، الجزء الثاني ، قسم المعاملات وغيرها ، أحكام الذكارة ، دار ابن الجوزي ، 469 .
مصحف دار الصحابة في القراءات السبع المتواترة من طريق الشاطبية، لفضيلة الشيخ جمال الدين محمد شرف ، ص 10 ، الناشر دار الصحابة للتراث بطنطا .
اعراب القرآن للنحاس، أبو جعفر محمد بن إسماعيل النحاس، الطبعة الثالثة ، سنة النشر: 1409 هـ - 1988 م، نسخة الكترونية .
القراءات وأثرها في علوم العربية، المؤلف: محمد محمد محمد سالم محيسن (المتوفى: 1422هـ) الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة الطبعة: الأولى، 1404 هـ - 1984
الإختلاف بين القراءات، المؤلف: أحمد البيلي،نسخة الكترونية.
فتح البيان في مقاصد القرآن، أبي الطيب محمد صديق بن حسن/القنوجي البخاري،الجزء الأول ، دار الكتب العلمية ،ص 143، نسخة كتاب الكتروني .
التفسير الكبير،لإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين ،دار الكتب العلمية ببيروت،سنة النشر: 2004م – 1425هـ، نسخة الكترونية .
القراءات القرآنية رؤى لغوية معاصرة ، تأليف أ.د يحي عبابنة ، نسخة الكترونية .
مختصر في شواذ القرآن ، المؤلف: ابن خالويه، الناشر: مكتبة المتنبي،نسخة الكترونية .
مصنف عبد الرزاق ، أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (المتوفى: 211هـ)،جمهرة العلوم .
مسند الإمام أحمد ، نسخة الكترونية .
سنن أبي داود ، نسخة الكترونية .
سنن النسائي ، نسخة الكترونية .
صحيح البخاري ، نسخة الكترونية .
سنن الترمذي ، نسخة الكترونية .
زاد المسير في علم التفسير ، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)،تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى - 1422 هـ، نسخة الكترونية .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21 ذو الحجة 1439هـ/1-09-2018م, 05:41 PM
مضاوي الهطلاني مضاوي الهطلاني غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 864
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
تكفل الله تعالى ببيان كتابه ، فقال تعالى :( ثم ان علينا بيانه) وبتفسير معانيه قال تعالى :( وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) وقال تعالى :( وَالسَّمَاءِوَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَمَاالطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3(
فبعض آياته جاء تفسيرها في موضع آخرمن القرآن ، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ،أو بفعله صلى الله عليه وسلم ، فمنذ نزل القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح ويبين ما جاء في آياته وينبه على معانيه مبلغاً ما أمره الله بتبليغه ومبيناً للناس ما نزل إليهم ، قال تعالى :(. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ..) وبيانه صلى الله عليه وسلم كان بتفسير المجمل وشرح ما أشكل ، مبيناً لأحكام الشرع وموضحاً لغاياته ومقاصده.
فسار الرعيل الأول على نهجه ، فأقبلوا على مائدة القرآن تلاوة وتدبرا وتفسير ، متعلمين لأحكامه ، ومطبقينها في حياتهم و مستنبطين حكمه و اسراره ،عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: ( حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا العلم والعمل جميعًا )ثم جاء من بعدهم من التابعين ، فأخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم ، ما أخذوا من النبي صلى الله عليه وسلم من معاني القرآن ، وما وفقوا لاستنباطه ، ثم دون التفسير بعصر التدوين كغيره من العلوم ، وجمعت الرويات في التفسير ، التي نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام والتابعين ،ودخل بعض تلك الكتب الرويات الإسرائيلية ، التي هي من مرويات من أسلم من أهل الكتاب كوهب بن منبه وكعب الأحبار ، وغيرهم ،فتناقل بعض المفسرين هذه المرويات دون تمحيص ، وبعضهم نزه تفسيره منها ، ومنهم من تعرض لها ليبين حكمها .
ولنقف مع آية من سورة البقرة كمثال على ذلك ، ثم نبين حكم الروايات الإسرائيلية ، مستمدين العون والتوفيق ، منه سبحانه وتعالى .
قال تعالى :(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)
(فَأَزَلَّهُمَا) فيها قرأتان
الأولى: (فَأَزَلَّهُمَا) بالتشديد وهي قراءة الجمهور ،وهي بمعنى استزلهما ، من الزلل وهو الخطأ ،سمي زللاً لأنه زوال عن الحق.
الثانية: ( فَأزَالهُما) قراءة حمزة ، بمعنى نحَّاهما من قولك :زُلتُ عن المكان ، إذا تنحيت عنه.
(الشَّيْطَانُ ) فيعال من شطن أي بعد.
وقيل: إنه من شاط والنون فيه غير أصلية ، شيطان سمّي بذلك لتمرّده وبعده عن الخير وعن رحمة الله تعالى.
ولا خلاف بأن من أزلهما وأغواهما هو إبليس .
(عَنْهَا )عن إما بمعنى السببية ، فيكون مرجع الضمير عنها للشجرة ، أي أوقعهما في الزلة بسبب الشجرة.كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]،
أو( عن) على بابها ، فيكون مرجع ضمير (عنها )إلى الجنة ،وهو الأظهر لتقدم ذكرها وهي توافق قراءة ( فأزالهما) أي نحّاهما عن الجنة .
وقيل :الضمير يرجع للطاعة وهو بعيد.
(فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ )أي مما كانا فيه من النعيم ورغد العيش ، وأهبطوا إلى دار النصب والتعب.
وقيل :من الطاعة إلى المعصية.
والتعبير باللفظ المبهم ( مما كانا فيه) أبلغ للدلالة على فخامة وعظم ما كانا فيه من النعيم والخيرات ، وليذهب ذهن السمع كل مذهب في تصور ذلك النعيم .
وليحرك مشاعر الحسرة والأسف على ما فات آدم من النعيم بسبب مخالفة أمر الله ، وموعظة للعبد لأن يمتثل أمر ليعود إلى داره التي أُخرج أبويه منها بسبب مخالفة أمر الله.
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ)
اختلف في الخطاب في قوله ( اهبطوا)
فيه ستة أقوال.
أحدها: آدم وإبليس ،قاله أبو العالية ومجاهد في تفسيره و رواه عنه ابن أبي حاتم
والثاني: إلى آدم وحواء وإبليس والحية، قاله ابن عباس وابو صالح و السدي ، رواه ابن جرير ، ورواه السدي عن ابن عباس وفيه انقطاع رواه ابن أبي حاتم
والثالث: إلى آدم وإبليس، والحية قاله مجاهد. رواه ابن جرير
والرابع: إلى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل في تفسيره
والخامس: إلى آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء.
والسادس: إلى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعا على التثنية، كقوله: ﴿وكنا لحكمهم شاهدين﴾ [ الأنبياء: ٧٨ ] ذكره ابن الأنباري، وهو العلة في قول مجاهد أيضا.
والراجح المراد آدم وحواء وإبليس قال تعالى:(فَقُلْنا ياآدَمُ إنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ [طه: ١١٧]
(بعضكم لبعض عدو)
أي عدواة بينكم وذرياتكم ، آدم وذريته مع إبليس وذريته كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }
واختلف في مكان هبوطهم من الأرض على عدة أقوال:
-قيل:أهبط آدم بالصّفا، وحوّاء بالمروة»روي عن ابن عمر . رواه ابن أبي حاتم
- قيل: إنّ أوّل ما أهبط اللّه آدم إلى الأرض أهبطه بدحنا، أرضٌ بالهند وفي رواية اخرى ،دحنا بين مكّة والطّائف»روي عن ابن عباس.رواه ابن أبي حاتم
-وقيل :أهبط آدم بالهند، وحوّاء بجدّة، وإبليس بدست ميسان من البصرة على أميالٍ، وأهبطت الحيّة بأصبهان»قاله مقاتل في تفسيره وروي عن الحسن رواه ابن أبي حاتم
( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ )
-قيل إن المستقر : القرار على الأرض ، كما قال تعالى ( جعل لكم الأرض فراشا)قاله أبو العالية رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
وروي عن الربيع رواه ابن جرير .
-وقيل : هو القبور ، قاله ابن عباس رواه ابن أبي حاتم
-قيل: «مستقرٌّ فوق الأرض، ومستقرٌّ تحت الأرض. قاله ابن عباس رواه ابن أبي حاتم
قال ابن جرير :والمستقرّ في كلام العرب هو موضع الاستقرار فإذا كان ذلك كذلك، فحيث كان من الأرض موجودًا حالًّا، فذلك المكان من الأرض مستقرّه.
وإنّما عنى اللّه جلّ ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الجنّة والسّماء.
(وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)
المتاع: ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وأنس وحديث، قاله ابن عطية.
والحين :
قيل :بلاغ إلى الموت ، قاله السدي رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
وقيل :الحياة، رواه السدي عن ابن عباس رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
وقيل : قيام الساعة ، روي عن مجاهد رواه ابن جرير
وقيل : إلى أجل ، قاله ابن قتيبة ،روي عن مجاهد رواه ابن جرير ، وقاله مكي بن أبي طالب.
وقيل : غاية ووقت ، قاله أبو عبيدة
وقيل : الحين الذي لا يدرك ، روي عن عكرمه رواه ابن أبي حاتم
والمعنى : انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار . وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت .
بعد أن بينا تفسير الآية والأقوال ، نبين معنى الإسرائيليات :
الإسرائيليات هي الأخبار والروايات المنقولة عن بني إسرائيل.
ومن الروايات الإسرائيلية في تفسير هذه الآية ، والتي سوف نقف عندها ،كيفية إزلاال الشيطان لهما و كيفية وسوسته لآدم ، مما جعله يقع في الزلل ويأكل من الشجرة ، ففيه عدة أقوال.
أحدها: أنه احتال حتى دخل إليهما الجنة، وكان الذي أدخله الحية، روي عن ابن عباس، والسدي، وهب بن منبه،وغيرهم
قال وهب بن منبه، : لما أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه " وذريته " - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا ، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر:قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء .رواه ابن جرير
قال محمد أبو شهبه : رد وهب بقوله: (يفعل الله مايشاء ) تهرب من الجواب وعجز عن تصحيح هذا الكذب الظاهر .
-وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:
قال ابن جرير حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق ، فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [سورة طه:] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة . رواه بن جرير
وهذه الرواية عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة ، في سندها أسباط عن السدي ، والسدي تكلم فيه فمنهم من وثقة ومنهم من ضعفه.
-وعن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة. رواه ابن جرير وهذا الحديث ضعيف لجهالة الراوي
-روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسط قال: سمعت سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل، فلمّا أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة،ذكره الثعلبي ومكي بن أبي طالب وغيرهم.
والثاني: أنه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن.
والثالث: أنه وسوس إليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق.
الرابع :مشافهه ، قال الزجاج: الأجود: أن يكون خاطبها، لقوله: ﴿وقاسمهما﴾
بتأمل تلك الرويات ، نجد أنه لا يوجد لها سند صحيح عن رسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن صحابته رضي الله عنهم، وإنما هي شيء يُروى عن وهب بن منبه وأبي العالية والسدي وغيرهم ممن أخذ ذلك عن أهل الكتاب .
قال ابن كثير رحمه الله :
" ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن منبه وغيرهم ، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحية ، وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته " انتهى من " تفسير ابن كثير " (1/236)
ولو أكتفينا بما جاء بكتاب الله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمثل هذه القصة وأمثالها مما ذكر فيه روايات اسرائيلية ، لكان فيه الغنية عن هذه ، فهذه أمور من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله .
وقال المطهر بن طاهر المقدسي رحمه الله :
" زعم القصاص وأهل الكتاب مراجعات كثيرة وعجائب في هذه القصة ، وأن إبليس عرض نفسه على دواب الأرض كلها فأبت ذلك ، حتى كلم الحية وقال : أمنعك من ابن آدم وأنت في ذمتي إن أدخلتني الجنة ، فجعلته في فمها أو بين نابيها ، وكانت الحية من أحسن الدواب وخزان الجنة ، فكلّمهما من فيها ... وفيما قص الله تعالى في القرآن كفاية عن زيادة رواية غيره " انتهى مختصرا من "(1)
ويبين محمد أبو شهبه أثر هذه النقول والروايات
فقال : وفي كتب التفسير من هذه الإسرائيليات طامات وظلمات، والكثير منها لم ينبِّه ناقلوه على أصله، ولم يوقف على قائله، فكانت مثارا للشك، والطعن، والتقول على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال : ولهذا: ركز المبشرون والمستشرقون طعونهم في الإسلام ونبيه على مثل هذه الإسرائيليات والموضوعات؛ لأنهم وجدوا فيها ما يسعفهم على ما نصبوا أنفسهم له من الطعن في الإسلام، وإرضاء لصليبيتهم التي رضعوها في لبان أمهاتهم." أهـ(2)
إذا ينبغي أن نبين حكم الروايات الإسرائيلية وكيفية التعامل معها .
الروايات الإسرائيلية التي وصلت إلينا على مراتب وأنواع )3)
أولاً : ما قصة الله علينا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، من أخبار بني اسرائيل ،كما قال تعالى :(إنّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} ،
فهذا يجب تصديقه ،لأنه من كلام ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
ثانياً: ما كان يحدث به بعض أهل الكتاب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ثلاثة أقسام
1- منها ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتصديقهم فيه ، كما جاء في البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد: أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون}).
2- ما أخبر صلى الله عليه وسلم بتكذيبهم فيه، كما جاء في السنن الكبرى ، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن اليهود تقول: إذا جاء الرجل امرأته مجباة جاء الولد أحول، فقال: «كذبت يهود» فنزلت{نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم}).
3-ما وقف فيه صلى الله عليه وسلم ،فلم يصدقهم ولم يكذبهم ،فعند عبد الرزاق وأحمد من طريق ابن شهاب، عن ابن أبي نملة، أن أبا نملة الأنصاري، أخبره أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود، فقال: يا محمد، هل تتكلم هذه الجنازة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أعلم ".
قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم)).
ثالثاً: ما حدث به الصحابة رضي الله عنهم ، ممن قرأ كتبهم، كعبدالله بن سلام ، وسلمان الفارسي وعبدالله بن عمرو. فقد أذن صلى الله عليه وسلم بالتحديث عن بني اسرائيل، كما في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار».
رابعاً : الصحابة الذين رووها ممن قرأ كتب أهل الكتاب ، فنقلوها عنهم ، منهم أبو هريرة وابن عباس ، رضي الله عنهم ، فقد رووا عن كعب ووهب بن منبه .
خامساً : التابعين الذين قرؤا كتب أهل الكتاب ورووا عنهم ، منهم كعب بن ماتع الحميري ووهب بن منبه ونوف بن فضالة البكالي.
سادساً: التابعين الثقات الذين رووا عمن قرأ كتب أهل الكتاب ، وحدثوا عنهم ، منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وعكرمة وغيرهم.
سابعاً: ما يروية غير الثقات والذين يخلطون الغث والسمين ، وهم أكثر من أشاع الإسرائيليات
ثامناً: ما يرويه بعض شديدي الضعف والمتّهمين بالكذب ممن لهم تفاسير قديمة في القرن الثاني الهجري.
منهم : محمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان ، وموسى بن عبد الرحمن الثقفي، وأبو الجارود زياد بن المنذر.
تاسعاً: ما يرويه أصحاب كتب التفسير المشتهرة من تلك الإسرائيليات بأسانيدهم إلى من تقدّم؛ كما يروي عبد الرزاق وابن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم ، لكن الروايات الإسرائيلية المنكرة في تفاسيرهم أقلّ بكثير مما في تفاسير من بعدهم.
عاشراً : ما يوجد في تفاسير بعض المتأخرين من الإسرائيليات ، كالثعلبي والواحدي والماوردي ، ويكثر بها الروايات المنكرة ، لتساهل أصحابها في الرواية عن الكذابين وحذف الأسانيد اختصاراً.وينقل عن هذه التفاسير ابن الجوزي والقرطبي والخارن وغيرهم.
هذه أقسام الإسرائيليات التي وصلت إلينا ، ونلاحظ أن الروايات الإسرائيليات، منها ما صح سنده ،لمن نقلت عنه ، ومنها مالم يصح ومنها ما حذف اسناده ، ومنها ما في متنه نكارة ، فعلى طالب العلم تمحيص تلك الروايات والتحقق من صحة وسلامة سندها لمن نسبت إليه ، وسلامة متنها من النكارة .
أما أحكام هذه الروايات فهي:
1- ما كان يخالف شرعنا ، فهو باطل لا يصح روايته ، إلا على سبيل التشنيع بهم وبيان تحريفهم ، كما في الصحيحين عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، فقال: (كذب عدو الله) ، وفي رواية لمسلم: قال ابن عباس: أسمعته يا سعيد؟
قال سعيد: قلت: نعم.
قال: كذب نوف.
وكما مرّ بنا في تفسير الآية السابقة ، ذكر أن حواء كانت سبب في إغواء آدم ليأكل من الشجرة ، وفي خبر سعيد بن المسيب أنها سقته الخمر ، حتى ذهب عقله ، ثم أكل من الشجرة، وهذا مخالف لما جاء في القرآن ،ففي هذه الآية أن الشيطان أزلهما ( آدم وحواء) وفي سورة الأعراف ، أن كلاهما باشر المعصية بتزيين الشيطان ووسوسته قال تعالى:(ف دَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ )وفي سورة طه قال تعالى :( ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} [طه : 121] نسب العصيان والغواية لآدم .
فليست حواء هي المسؤولة عن خطيئة آدم ، كما تقوله الروايات الإسرائيلية وكما هو عند النصارى .
وأيضاً ، فإن آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه ، فاجتباه ربه وهداه .
كذلك بعد توبة الله على آدم وزوجه ، لم يلحق ذريتهم أثر ذلك الذنب ، كما هو عند النصارى وكما في الرواية ، فقد ذكروا أن الله عاقب المرأة بتكثير اتعاب الحبل والوجع ، وعاقب بناتها بعدها، ولكن القرآن يدل على خلاف ذلك ، مما فيه إكرام للمرأة كأم والوصية بها قال تعالى:( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) وجعل لها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ثلاث حقوق ، والأب حق واحد .
2- ما كان يوافق شرعنا ، يصدق .
3- مالا يخالف ولا يوافق ، لا يصدق ولا يكذب ، وغالبه مما لا فائدة منه ، كما في تعيين مكان هبوط آدم وحواء وإبليس. وتعيين الشجرة التي نهي آدم عن الأكل منها، وغيرها، فلا تصدق ولا تكذب.
حال المرويات الإسرائيلية في كتب التفسير :
1-"بعض هذه الإسرائيليات بل الكثير منها جاء موقوفا على الصحابة، ومنسوبا إليهم رضي الله عنهم فيظن من لا يعلم حقيقة الأمر، ومن ليس من أهل العلم بالحديث أنها متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من الأمور التي لا مجال للرأي فيها، فلها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكن مرفوعة واضحة.
قال محمد أبو شهبه :"يجد الباحث الحصيف المنصف مخارج لهذه الروايات الموقوفة على الصحابة، وهي في نفسها مكذوبة وباطلة فهي: إما إسرائيليات، أخذها بعض الصحابة الذين رووها، عن أهل الكتاب ،"الذين أسلموا؛ ورووها ليعلم ما فيها من الغرائب والعجائب، ولم ينبهوا على كذبها وبطلانها اعتمادا على ظهور كذبها وبطلانها، ولعلهم نبهوا إلى كذبها وعدم صحتها، ولكن الرواة لم ينقلوا هذا عنهم، وإما أن تكون مدسوسة على الصحابة، وضعها عليهم الزنادقة، والملحدون، كي يظهروا الإسلام وحملته بهذا المظهر المنتقد المشين، وأما ما يحتمل الصدق والكذب منها، وليس فيه ما يصدم نقلًا صحيحًا، أو عقلا سليمًا، فذكروه لما فهموه من الإذن لهم في روايتها من قوله صلى الله عليه وسلم: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وهذا النوع أقل خطرًا من الأول، إلا أنه لا فائدة تُذكَر من الاشتعال به، بل كان حجابا لجمال القرآن، وتفسيره الصحيح.
وكذلك جاء الكثير جدًّا من هذه الإسرائيليات عن "التابعين، واحتمال أخذها عن أهل الكتاب الذين أسلموا، أكثر من احتمال أخذها عن الصحابة، فمنشؤها في الحقيقة هو ما ذكر لك، وهي: التوراة وشروحها، والتلمود وحواشيه، وما تلقوه عن أحبارهم، ورؤسائهم الذين افتروا، وحرفوا وبدلوا، ورواتها الأول، هم: كعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهما؛ والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم بريئون من هذا.
ويجوز أن يكون بعضها مما ألصق بالتابعين، ونسب إليهم زورا ولا سيما أن أسانيد معظمها لا تخلو من ضعيف أو مجهول، أو متهم بالكذب، أو الوضع، أو معروف بالزندقة، أو مغمور في دينه وعقيدته."اهـ الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير "(4)
2- من يروى من مرويات إسرائيلية في طبقة التابعين ، هم من الثقات في أنفسهم ،لا يتعمدون الكذب أو الخطأ ، ككعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهم ، لكن قد يدخل على تلك المرويات الخطأ ، بأن تكون من الأصل محرفة ، أو يكون أخطأ في فهم المعنى ،فينقلونها بالمعنى ، أو يكون الخطأ من بعض الرواة ، الناقلين لتلك المرويات ، فينسبوا لهم روايات غير صحيحة ، أو بدون إسناد أو غير ذلك .
2- إن كثرة الرويات الإسرائيلية واشتهارها ، ووجود النكارة في متنها ، سببه تداول القصاص لها ، واحيانا روايتها بالمعنى ، وعدم روايتها بالأسانيد ، وجهلهم بالرجال ، وأحوالهم ، فانتشرت تلك الروايات ، لما فيها من العجائب ، والغرائب ، مما تتشوق النفوس لمعرفته.
3- زادت وعظمت النكارة في القرن الثاني والثالث عنها في الأول ، لأنهم ابتلوا بالرواة الكذابين ، فمنهم من يغير الإسناد فيجعله عن بعض الصحابة
كما فعل الكلبي يروي بعض تلك الإسرائيليات عن أبي صالح عن ابن عباس، وهي كذب على ابن عباس، ومنهم من يروي الإسرائيليات المنكرة ولا يسندها كمقاتل بن سليمان البلخي.
4- تجنب المفسرون الكبار روايات الكذابين ، ونزهوا كتبهم من رواياتهم ، كالسدي الصغير ، وابن الجارود وغيرهم ومنهم من ينقلها بغير اسناد كالثعلبي والماوردي .
ذكر الاسرائيليات في التفسير :
الإسرائيليات ليست مما يتعلق بأصول الدين والشرع و الحلال والحرام والإعتقاد ، وإنما هي فيما يتعلق بأخبار الأمم الماضية ، وقصصهم ، والملاحم والفتن ، وبدء الخلق ، وأسرار الكون ، وأحوال يوم القيامة ، لذلك اختلف أهل العلم في إيرادها في التفسير :
1- فمنهم من أجازها
"قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في مقدمة التفسير ، في أثناء الكلام عن تفاسير الصحابة، قال: "وهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود، وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل "ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث، من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد" أهـ(5)
ووافقه تلميذه ابن كثير على ذلك فقال في مقدمة تفسيره ، بعد أن ذكر أنواع الإسرائيليات وحكمها ، وفي أثناء حديثه عن المسكوت عنه
"....إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى فى القرآن مما لا فائدة فى تعيينه تعود على المكلفين فى دنياهم و لا دينهم و لكن نقل الخلاف عنهم ( أهل الكتاب ) فى ذلك جائز.كماقال تعالى:( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) إلى آخر الآية -الكهف:22-.(6)
2- ومنهم من رأى ، تخليه التفسير من هذه المرويات .
منهم أحمد شاكر رحمه الله فقد علق على ما ذكر الحافظ ابن كثير في مقدمته من جواز التحديث عن المسكوت عنه من الروايات الإسرائيلية فقال:
إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه و لا كذبه شئ، و ذكر ذلك فى تفسير القرآن، و جعله قولاً أو رواية فى معنى الآيات، أو فى تعيين ما لم يعين فيها، أو فى تفصيل ما أجمل فيها شئ آخر !!
لأن فى إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله، ما يوهم أن هذا الذى لا نعرف صدقه و لا كذبه مبين لمعنى قول الله سبحانه، و مفصل لما أجمل فيه !وحاشا لله ولكتابه من ذلك.
وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أذن بالتحدث عنهم أمرنا ألا نصدقهم و لانكذبهم، فأى تصديق لرواياتهم و أقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله و نضعها منه موضع التفسير أو البيان ؟!اللهم غفراً.اهـ(6)
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي، عند تفسير ( ثم قست قلوبكم ) في سورة البقرة
واعلم أن كثيراً من المفسرين، رحمهم الله، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليها الآيات القرآنية وجعلوها تفسيراً لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
والذي أرى أنه، وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه، تكون مفردة غير مقرونة، ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعاً إذا لم تصح عن رسول الله .
وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم".
فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكاً فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه و معانيه.
فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها، أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعاً بها، ولا يستريب بهذا أحد.
ولكن بسب الغفلة عن هذا، حصل ما حصل. والله الموفق"تفسير السعدي
3- ومنهم من يرى الإستغناء عن تلك الكتب التي تحوي الإسرائيليات والتخلص منها .، ذكره محمد أبو شهبه في كتابه(الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير)
"فمنهم من يرى الاستغناء عن كتب التفسير التي اشتملت على الموضوعات والإسرائليات التي جنت على الإسلام والمسلمين وجرت عليهم كل هذه الطعون والهجمات من أعداء الإسلام، وذلك بإبادتها أو حرقها، حتى يحال بين الناس، وبين قراءتها، والاكتفاء بالكتب الخالية أو المقلة منها، وتأليف تفاسير أخرى خالية من هذه الشوائب والمناكير وهو رأي فيه إسراف وغلو؛ إذ ليس من شك في أن هذه الكتب فيها بجانب الإسرائيليات علم كثير، وثقافة إسلامية أصيلة، وأن ما فيها من خير وحق أكثر مما فيها من شر وباطل، فهل لأجل القضاء على الشر نقضي على الخير،"أهـ(7)
ولا شك أن هذا تعسف ، بل هذا يلقي العبئ على طلبة العلم بتحقيق تلك الكتب التفسيريه ، وبيان ما فيها ، من روايات اسرائيلية ، وتوثيق الصحيح منها ، وبيان السقيم ، مع بقاء هذا التراث الأصيل العظيم ، لننهل منه خير المعاني ، وأنفعها .
والله أعلم
.....................................................
(1)البدء والتاريخ " (2/95-96) .المطهر بن طاهر المقدسي
(2) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبوشهبه
(4) الإسرائيليا ، الشيخ عبد العزيز المطيري ، معهد آفاق التيسير
(5) مقدمة التفسير لأبن تيمية
(6) عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير ،أحمد شاكر
(7) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبوشهبه
.............................
المراجع :
التفاسير:
مصنف عبد الرزاق ، تفسير مجاهد ، ابن جرير، وابن أبي حاتم ،ومقاتل، مكي بن أبي طالب ، وابن الجوزي ، ابن عطية ، وابن كثير، والطاهر بن عاشور وابن سعدي .
الكتب :
(1)البدء والتاريخ " (2/95-96) .المطهر بن طاهر المقدسي
(2) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبوشهبه
(4) الإسرائيليا ، الشيخ عبد العزيز المطيري ، معهد آفاق التيسير
(5) مقدمة التفسير لأبن تيمية
(6) عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير ،أحمد شاكر

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21 ذو الحجة 1439هـ/1-09-2018م, 05:44 PM
الصورة الرمزية هيا أبوداهوم
هيا أبوداهوم هيا أبوداهوم غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 607
افتراضي

تعديل للبحث :

قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..
هذه الآية تبين لنا عن موقف بني اسرائيل مع أوامر الله ،ومدى اعتراضهم في الانقياد والتسليم لأمر الله ،فيذكرهم الله بسالف عهدهم من نقضهم للميثاق ،وهي جاءت بعد ذكر مخالفتهم لأنبياءهم في تشريعاتهم وقساوتهم ، وهنا ضرب آخر لمخالفتهم ولكن في مصالح دنياهم ،وهي آية فيه احتجاج لمشركي العرب لأنهم كانوا لايؤمنون بالبعث ، فقال الزجاج في معاني القرآن : قال الزجاج : (هذه الآية احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلا من قرأ الكتب أو أوحى إليه) .
وهي عن قصة رجل من بني اسرائيل قتل الآخر ليرثه فاختصموا إلى موسى في أمر المقتيل ، وذكروا أن اسم القتيل عاميل وهو قول ذكره الثعلبي والقرطبي والألوسي ولم أجد له أصل .

و اختلفوا في الذي قتل القتيل :
القول الأول : أن الذي قتل القتيل هو قريبه ، وهذا القول قاله ابن عباس و السدي و عبيدة السلماني .
وقول ابن عباس رواه ابن جرير من طريق أبيه عن ابن عباس .
وهذه الرواية أيضا جاءت بسند آخر لابن جريج، من طريق حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وابن جريج هو ممن ينقل من الاسرائليات .
وقول عبيدة السلماني رواه ابن أبو حاتم والبيهقي من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني.، ورواه ابن جرير من طريق هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني.
وقول السدي رواه ابن جرير من طريق أسباط عن السدي.
وهذه الروايات هناك اختلاف أيضا في سياقها ، والسدي الكبير كان ممن يروي عن الاسرائليات .
القول الثاني : أن الذي قتل القتيل هو جماعة من الورثة ، وهذا قول ابن زيد ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس.
وأما قول ابن زيد فرواه ابن جرير من طريق يونس عن ابن وهب عن ابن زيد .
ويونس كان ممن يروي أحاديث منكرة وهو سيء الحفظ .
قَال مُحَمَّد بْن سعد : كَانَ حلو الحديث، كثيره، وليس بحجة، ربما جاء بالشئ المنكر.
وكل الأخبار التي فيها اختلاف في سياقاتها لأنها قد تكون منقولة من الاسرائليات ، وهو من الذي يجوز نقله فلا نصدقه ولا نكذبه ولا نعتمد منها إلا ما وافق الحق ، وهذا ما ذكره ابن كثير في آخر كلامه عن الأخبار التي وردت .
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : وهذه السّياقات [كلّها] عن عبيدة وأبي العالية والسّدّيّ وغيرهم، فيها اختلافٌ ما، والظّاهر أنّها مأخوذةٌ من كتب بني إسرائيل وهي ممّا يجوز نقلها ولكن لا نصدّق ولا نكذّب فلهذا لا نعتمد عليها إلّا ما وافق الحقّ عندنا، واللّه أعلم.

والاسرائليات على ثلاثة أقسام تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة التفسير :
القسم الأول : ما وافق الكتاب والسنة فهذا نصدقه .
القسم الثاني : مايخالف أدلة الكتاب والسنة فهذا نرفضه .
القسم الثالث: مسكوت عنه ، فلا نصدقه ولا نكذبه ونؤمن به ويجوز الحكاية عنه .
والذي في الآية هو من القسم الثالث لذلك يجوز نقله والتحديث بها ولا نصدقه ولا نكذبه .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه البخاري والترمذي ورواه أحمد والدارمي في سننه من طريق عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بني إسرائيل وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبي داود والإمام أحمد وعبد الرزاق من طريق بن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم فقال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه.
وقوله تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه ) : فالواو هنا للعطف وهي استئنافية ، والمراد بالقوم هم بنو اسرائيل .
وأما قوله : (يأمركم) : فهنا جاءت بصيغة المضارع للدلالة على الحضور في زمن القصة ،ويذكر أبو الطيب القنوجي في فتح البيان في مقاصد القرآن أن قوله ( يأمركم ) أنها تدل على أن الآمر لايدخل في عموم الأمر ؛ فموسى عليه السلام لم يدخل في الأمر، بدليل قوله تعالى : ( فذبحوها ) .
وقرأت ( يأمركم ) بقراءات :
القراءة الاولى : باسكان الراء وهي قراءة أبو عمرو ،والسوسي وذكره أبو عمرو الداني والسمين الحلبي والقرطبي والألوسي .
قال النحاس في إعراب القرآن (ت 338 هـ) : (قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف [ ص: 415 ] الإعراب ، وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة) .
وذكر السمين الحلبي ( ت: 756) : ( وروي عن أبي عمرو سكونها سكونا محضا واختلاس الحركة وذلك لتوالي الحركات، ولأن الراء حرف تكرير فكأنها حرفان، وحركتها حركتان، وقيل: شبهها بعضد، فسكن أوسطه [ ص: 417 ] إجراء للمنفصل مجرى المتصل) .
القراءة الثانية : باختلاس الضمة ، وهي قراءة الدوري .وذكره الألوسي ، وغيره في كتب القراءت .
القراءة الثانية : بضم الراء ، وهي قراءة الباقين ، وذكره السمين .والألوسي ، وغيرهم في كتب القراءت كجمال الدين شرف ومحمد محمد سالم وغيرهم .
وهذه القراءة في قراءة الجمهور ؛ لأنه مضارع معرب مجرد من ناصب وجازم، وذكر ذلك السمين الحلبي .
القول الثالث: بابدال الهمزة ألفا ، وهي قراءة ورش والسوسي وذكره السمين الحلبي ، والألوسي ،وغيرهم من كتب القراءت كجمال الدين شرف ومحمد محمد سالم وغيرهم .

فأمرهم الله تعالى بذبح البقرة ليكون معجزة موسى بكشف من القاتل .
والذبح في اللغة : قطع الحلقوم من باطن عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق، كما ذكر ذلك ابن منظور ، ويقول الراغب الأصفهاني في غريب القرآن : أن أصل الذَّبْح: شقّ حلق الحيوانات. أما النحر فهو موضِع القِلَادةِ من الصَّدر.

واختلف المفسرون في من يكون له الذبح ومن يكون له النحر على أقوال :
القول الأول : أن الذبح للبقر والنحر لغيرها من المواشي ، وهو قول ابن كثير .
وهذا القول حجتهم :
أولا : بسبب نص القرآن والأمر يقتضي الوجوب في قوله تعالى : ( يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .
ثانيا : لأنه أقرب في منحره .
ثالثا : قوله تعالى : ( فصل لربك وانحر ) ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن ، وذبح الغنم ، وإنما تؤخذ الأحكام من جهته .
القول الثاني : ان الذبح والنحر لا خلاف بينهما ، وهو قول ابن المنذر وذكره ابن كثير وابن قدامة وهو من خلاصة ما ذكره الأصفهاني .
قال ابن قدامة في المغني : قال ابن المنذر : إنما كرهه ، ولم يحرمه .
ورجح ابن القدامة القول الثاني لأسباب :
أولا : أنه قول أكثر أهل العلم منهم عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومالك ، والليث ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور.
ثانيا : قول النبي صلى الله عليه وسلم { أمرر الدم بما شئت } . وقالت أسماء : نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة ،وعن عائشة ، قالت : { نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة } . ولأنه ذكاة في محل الذكاة ، فجاز أكله ، كالحيوان الآخر .
وحديث ( أمرر الدم بما شئت ) هو حديث رواه النسائي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق مري بن قطري عن عدي بن حاتم ، وبهذا اللفظ رواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الخامس والستين ، من القسم الثالث ; والحاكم في " المستدرك " ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.
ثالثا : قول ابن المنذر : إنما كرهه ، ولم يحرمه .
القول الثالث: أن التخيير في البقر ، وأن النحر أولى في الإبل ، والذبح أولى في الغنم ، وذكر ذلك القرطبي .
قال الشيخ صالح الفوزان في المخلص الفقهي : (والسنة نحر الإبل ؛ بأن يطعنها بمحدد في لبتها ، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وذبح غيرها في حلقه ).

فأمرهم الله بذبح بقرة وهي نكرة فيعم أي نوع من البقر .
وروى عبد الرزاق في مصنفه من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة قال : «لو أخذ بنو إسرائيل أدنى بقرة لأجزأت عنهم ولولا أنهم قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون ما وجدوهاا».
والبقرة هو اسم للأنثى وأما الذكر فهو الثور ،وجمعه بقر وبقرات ، والتاء في قوله ( بقرة) ليس للتأنيث ولكن دخلته على أنه واحد ، وقد ذكر ذلك الماوردي في النكت والعيون وابن منظور في لسان العرب ، واسم البقرة مأخوذ من الشق من قولهم بقر بطنه إذا شقه، لأنها تشق الأرض في الحرث، وذكر ذلك أبو حيان وابن منظور .

واختار الله لهم أن يذبحوا بقرة دون غيرها لأسباب ذكرها الماوردي في النكت والعيون :
أولا : أنها من جنس ما عبدوه من العجل .
ثانيا : ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه.
ثالثا : ليعلم بإجابتهم زوال ما كان في نفوسهم من عبادته.
فكان جواب بني اسرائيل عند أمر الله ( قالوا أتتخذنا هزوا ) ، فواجبهم كان كسؤال .
واختلف أهل العلم في الغرض من هذا السؤال :
القول الأول : توهما منهم أنه يداعبهم ، وهذا القول ذكره الألوسي .
القول الثاني : استفهموا على سبيل الاسترشاد لا على وجه الإنكار والعناد، وهذا القول ذكره الألوسي وابن عاشور .
والأرجح هو القول الثاني لأن ابن عاشور في التحرير والتنوير ذكر أن الاستفهام حقيقي .
فقال ابن عاشور : وقولهم أتتخذنا هزؤا استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل.

فالسؤال على أنواع :
النوع الأول : نوع محمود ، كما قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
مثل : أمور الدين الضرورية ولحاجة ، والعلم ، ونحوه .
النوع الثاني : نوع مذموم السؤال عنه ومنهي عنه ، لذلك قال تعالى : ( (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ، و قال عليه الصلاة والسلام : (( دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )). رواه البخاري .
مثل :
- التعنت والتعمق، وما لا فائدة منه ولا حاجة له.
-و الاستهزاء والسخريه.
- والمسائل التي لم تقع .
-والسؤال عن القضاء والقدر.
-وعن قيام الساعة.
وغيره .

وقوله : ( قالوا أتتخذنا ) : فالقول هنا جاء بالماضي للدلالة على المضي ، والواو هنا ضمير يعود على بني اسرائيل .
وقوله ( أتتخذنا ) :هنا الضمير ( التاء ) يعود على موسى ، وذكر ذلك يحي عبابنة في القراءات القرآنية رؤى لغوية .
و جاء فيه قراءة أخرى بالياء ( يتخذنا )، وهي قراءة عاصم وابن محيصن والحجدري ، على أن الضمير لله تعالى ، وهذا ما ذكره الثعلبي و ابن عطية والألوسي .
وهذه القراءة شاذة ذكره ابن خالويه .
وقوله ( هزوا ) بمعنى اللعب والسخرية ، وهذا ما ذكره الماوردي والقرطبي وابن منظور .
و ذكر ابن عاشور في التحرير والتنوير أسباب تبرأ موسى من الهزء :
أولا : لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح.
ثانيا : لأن في الهزء مزحا مع استخفاف واحتقار للممزوح معه ، وذكره أيضا ابن الجوزي .
ثالثا : أنه لايليق في المجامع العامة والخطابة .
رابعا : أنه لايليق بمقام الرسول .

وجاءت فيها ست قراءات لكن ثلاث منها متواترة مشهورة والبقية قراءات شاذة .
والقراءت الثلاثة المشهورة المتواترة وهي :
الأول : قرأ حفص : بابدال الهمزة واوا مع ضم الزاي وصلا ووقفا فتقرأ ( هزوا) ، وذكره أبو عمرو الداني ،والسمين الحلبي و ومحمد حسن .
الثاني : قرأ حمزة بالهمز مع اسكان الزاي وصلا فقط ( هزءا)، ذكره أبو عمرو الداني والسمين الحلبي ومحمد حسن .
الثالث : وقرأ الباقون بالهمز مع ضم الزاي وصلا ووقفا ( هزءا) ، وذكره محمد حسن .
وهذه القراءة وجه الضم في الزاي انه جاء على الأصل، وأنه لهجة أهل الحجاز .
الرابع : قرأ خلف العاشر «هزوا» مع اسكان الزاي وصلا ووقفا، ووجه الاسكان التخفيف. وهو ماذكره محمح سالم محيسن .
فاسكان الزاي هو لهجة تميم وأسد وعامة قيس .

وقوله تعالى : ( قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) : فمعنى ( أعوذ بالله ) : أي أتبرأ وأمتنع بالله ،وهذا حاصل ماذكره ابن جرير و البغوي وابن منظور وابن عاشور.
وأما قوله (من الجاهلين ): جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر أكون، ومفرد جاهل .

فما معنى الجهل ؟
الجهل في اللغة : الجَهْل : نقيض العِلْم ، وقد جَهِله فلان جَهْلاً وجَهَالة ، وجهِلَ عليه ، وقد ذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب .
ويسمى السفه جهلا في اللغة أيضا .
فقال ابن سيدة : سَفِهَ علينا وسَفُهَ جهل.
يقال: سَفِهَ فلانٌ رأْيه إذا جهله وكان رأْيه مضطرباً لا استقامة له.

وذكر أهل العلم في معنى الجهل في الآية على قولين :
الأول : نقيض العلم ، وهذا ما ذكره الرازي و ابن منظور وابن عاشور وغيرهم .
الثاني : ضد الحلم ، والسفه ، والكلام الذي لافائدة منه ، وهذا حاصل ماذكره ابن جرير وابن الجوزي والرازي وابن عاشور والزمخشري والسعدي .
قال تعالى : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
وقد ورد لهما في كلام العرب ، قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا .
والقولان تحتملها الآية ، فالإنشغال بالاستهزاء لايكون إلا بسبب الجهل الذي هو عدم العلم ،وهو حاصل ما ذكر ذلك فخر الدين الرازي .
والاستهزاء أيضا يكون بالكلام الذي لافائدة منه وبالسفاهة .
وهذا كله لايليق في مقام النبوة .

ومن أهل العلم من قسم الجهل على أنواع ،وقد تكلم فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل ، وذكر الشيخ ابن عثيمين في شرح الأصول الثلاثة أنواع الجهل .
فأنواع الجهل :
النوع الأول : الجهل البسيط : وهو وهو عدم الإدراك بالكلية.
النوع الثاني : الجهل المركب :وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
وقال ابن القيم في نونيته :
قفل من الجهل المركب فوقه ... قفل التعصب كيف ينفتحان.

وقد عرف العمريطي في نظمه لورقات إمام الحرمين الجهل بنوعيه فقال:

الجهل قل تصور الشيء على**** خلاف وضعه الذي به علا

وقيل حد الجهل فقد العلم **** بسيطاً أو مركباً قد سمي

بسيطه في كل ما تحت الثرى**** تركيبه في كل ما تصورا.

وأما متعلق الجار والمجرور يحتمل معنين :
المعنى الأول : الاستعاذة من الجهل من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، وهذا حاصل ما ذكره البغوي وابن عطية .
المعنى الثاني : الاستعاذة من الجهل كما جهلوا في قولهم أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله تعالى، وهذا أيضا حاصل ما ذكره البغوي وابن عطية .

وفي هذه الآية فوائد عظيمة :
-منها أن الأمر يقتضي الوجوب كما في قوله تعالى : ( يأمركم ) .
-ومنها أن الذبح والنحر هي الطرق الشرعية للذكاة ، وأن السنة في البقر هو الذبح .
- ومنها أنه لا يليق في مقام النبوة الاستهزاء والمزح في أوامر الله ، ومن باب أولى العلماء وأهل العلم لا يليق بهم المزح في أوامر الله والاستهزاء بها ، لأن العلماء ورثة الأنبياء .
-ومنها أن التعنت والعناد في اتباع أوامر سبب تعسر الأمور أكثر وسبب في التنطع وسبب في الضلال ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ)،وكما قال عليه الصلاة والسلام : إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) .
- ومنها النهي عن كثرة السؤال فيما لا حاجة فيه .
- ومنها الحاجة إلى سؤال أهل العلم في الأمور الضرورية لرفع الجهل .
- ومنها التأدب في سؤال أهل العلم .
-ومنها أن الجهل صفة ممقوتة ، فنحتاج أن نحاول أن نبتعد عنها ونسعى في رفع الجهل عن أنفسنا أولا ثم عن غيرنا .
-ومنها أن المستهزيء يستحق صفة الجهل .

وهذه الرسالة أتمنى أن تفيد من كل من قرأها ، فيقف على الآية ويتدبرها ،ويأخذ العبرة منها لينتفع من كتاب الله، ويعمل بها فيكون حجة له لا عليه ، كما قال تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، و قال صلى الله عليه وسلم: والقرآن حجة لك أو عليك.، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بلغوا عني ولو آية ) .
أسأل الله العظيم أن ينفعنا جميعا بالقرآن ويوفقنا للعمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

..........................

المراجع :
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،تأليف عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)، عناية سعد بن فواز الصميل ، ص46 ، دار ابن الجوزي .
معاني القرآن وإعرابه،تأليف إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)،موقع جمهرة العلوم .
تفسيرابن عطية ، المحرر الوجيز ،تأليف عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ)، 1 / 245 -246،موقع جمهرة العلوم .
تفسير الماوردي ، النكت والعيون ، تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري،تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم،دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان، نسخة الكترونية .
اعراب القرآن للنحاس ، أبو جعفر النَّحَّاس أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي (المتوفى: 338هـ)،جمهرة العلوم .
جامع البيان في تأويل آي القرآن ،لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، تحقيق محمود شاكر ، طبعة دار المعارف بمطر ،نسخة الكترونية .
تفسير القرآن العظيم ،إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، دار طيبة للنشر ، 1422هـ / 2002م، نسخة الكترونية .
معالم التنزيل (تفسير البغوي)، المؤلف: الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد،المحقق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش، دار طيبة، 1409 هـ - 1989 م، نسخة الكترونية .
لسان العرب ،محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)،دار صادر - بيروت،الطبعة الثالثة - 1414 هـ، نسخة الكترونية .
التحرير والتنوير ،محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)،الدار التونسية للنشر - تونس،نسخة الكترونية .
التفسير والمفسرون : للدكتور محمد حسين الذهبي ، نسخة الكترونية .
شرح مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ، إعداد مركز العروة الوثقى ، ص294-295، دار ابن حزم ، القاهرة .
الكشف والبيان عن تفسير القرآن ، تأليف أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427هـ)،تحقيق لإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان،الطبعة الأولى 1422، هـ - 2002 م، نسخة الكترونية .
تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم،أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ)،المحقق أسعد محمد الطيب،مكتبة نزار مصطفى الباز ، الطبعة الثالثة - 1419 هـ
الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن احمد الأنصاري ، المجلد الأول ، دار الفكرللطباعة والنشر والتوزيع ، نسخة الكترونية .
الكشاف ،أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري،مكتبة العبيكان، 1418 هـ - 1998 م ، الطبعة الأولى ، نسخة الكترونية .
سير أعلام النبلاء ، تأليف حمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، مؤسسة الرسالة ، نسخة الكترونية .
تهذيب الكمال في أسماء الرجال ،يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي، تحقيق د. بشار عواد معروف،مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1400 – 1980، نسخة الكترونية .
التيسير في القراءت السبع ،تأليف عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبو عمرو الداني (المتوفى: 444هـ)،دار الكتاب العربي - بيروت،الطبعة الثانية، 1404هـ/ 1984م، نسخة الكترونية .
الدرر المصون ، لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، دار القلم ، نسخة الكترونية .
الإرشادات الجلية في القراءات السبع من طريق الشاطبية ، تأليف محمد محمد محمد حسن سالم ، دار محيسن للطباعة والنشر والتوزيع ، ص 94 ، نسخة الكترونية .
تفسير الألوسي ، تأليف شهاب الدين السيد محمود الألوسي، دار احياء التراث العربي ، نسخة الكترونية .
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، تأليف برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي ، نسخة الكترونية .
المفردات في غريب القرآن ،تأليف أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ)،تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى - 1412 هـ، نسخة الكترونية .
المغني لابن قدامة ، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ)، مكتبة القاهرة، نسخة الكترونية .
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي، الطبعة الأولى ، نسخة الكترونية .
معجم القراءات ، تأليف الدكتور عبد اللطيف الخطيب ، المجلد الأول، دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع .
الملخص الفقهي ، تلخيص الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ، الجزء الثاني ، قسم المعاملات وغيرها ، أحكام الذكارة ، دار ابن الجوزي ، 469 .
مصحف دار الصحابة في القراءات السبع المتواترة من طريق الشاطبية، لفضيلة الشيخ جمال الدين محمد شرف ، ص 10 ، الناشر دار الصحابة للتراث بطنطا .
اعراب القرآن للنحاس، أبو جعفر محمد بن إسماعيل النحاس، الطبعة الثالثة ، سنة النشر: 1409 هـ - 1988 م، نسخة الكترونية .
القراءات وأثرها في علوم العربية، المؤلف: محمد محمد محمد سالم محيسن (المتوفى: 1422هـ) الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة الطبعة: الأولى، 1404 هـ - 1984
الإختلاف بين القراءات، المؤلف: أحمد البيلي،نسخة الكترونية.
فتح البيان في مقاصد القرآن، أبي الطيب محمد صديق بن حسن/القنوجي البخاري،الجزء الأول ، دار الكتب العلمية ،ص 143، نسخة كتاب الكتروني .
التفسير الكبير،لإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين ،دار الكتب العلمية ببيروت،سنة النشر: 2004م – 1425هـ، نسخة الكترونية .
القراءات القرآنية رؤى لغوية معاصرة ، تأليف أ.د يحي عبابنة ، نسخة الكترونية .
مختصر في شواذ القرآن ، المؤلف: ابن خالويه، الناشر: مكتبة المتنبي،نسخة الكترونية .
مصنف عبد الرزاق ، أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (المتوفى: 211هـ)،جمهرة العلوم .
مسند الإمام أحمد ، نسخة الكترونية .
سنن أبي داود ، نسخة الكترونية .
سنن النسائي ، نسخة الكترونية .
صحيح البخاري ، نسخة الكترونية .
سنن الترمذي ، نسخة الكترونية .
زاد المسير في علم التفسير ، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)،تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى - 1422 هـ، نسخة الكترونية .
التفسير الكبير ،الإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين ،دار الكتب العلمية ببيروت،سنة النشر: 2004م – 1425هـ ، نسخة الكترونية .
متن القصيدة النونية المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة الطبعة: الثانية، نسخة الكترونية .
درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ،لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ،ادارة الثقافة والنسر بالجامعة ، الطبعة الثانية ، نسخة الكترونية .
شرح الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن صالح العثيمين ،مؤسسة الشيخ صالح بن عثيمين الخيرية ، طبعة الكترونية .

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21 ذو الحجة 1439هـ/1-09-2018م, 11:59 PM
هناء هلال محمد هناء هلال محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 663
افتراضي

تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) )


بعد أن ذكر سبحانه مناظر إبراهيم لنمروذ وتعريف إبراهيم بربه أنه الذي يحيي ويميت ، وذكر لنا آية أخرى وهو إحياء الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، عطف لنا بسؤال إبراهيم عليه السلام أن يريه كيفية إحياء الموتى ، فقال تعالى : (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى )
وقوله (وإذ قال إبراهيم رب أرني) الواو حرف عطف على ما قبلها ، لأن المعنى ألم تر يا محمد بقلبك وتصديقك ، وليس بعينك ، فمعناه ألم تعلم فتذكر .
قوله (رب) فيه كمال أدب من إبراهيم مع خالقه ، وفيه رد على من أدعى أن إبراهيم سأل تلك المسألة شكا منه في قدرة الله ، فهو يدعوه ويعترف له بالربوبية التامة ، فلا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث ، وإنما يريد الانتقال من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين التي هي أسمى وأبلغ في المعرفة .
والرؤية : هي إدراك المرئي بالنظر إليه بالعين أو بالقلب .
والمراد هنا الرؤية بالعين ، قال القرطبي : لم يرد الرؤية بالقلب وإنما بالعين.
قال الأخفش : لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين .
وقال الشوكاني : ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية لأنه طلب أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة .
وقد ذكر الماوردي أن بعض من قال بغوامض المعاني فسر الآية بأن إبراهيم طلب من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب بالإيمان ، وقد رد الماوردي هذا التفسير وقال : هذا تأويل فاسد بما يعقبه من البيان ، وهو من التفسير الإشاري البدعي لهذه الآية .
اختلف العلماء في سبب مسألة إبراهيم أن يريه سبحانه كيف يحيي الموتى على أقوال ، منها :
أولا : أنه رأي دابة قد تقسمتها السباع والطيور ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفريق لحومها في بطون الطير والسباع ، فيرى ذلك عيانا فيزداد يقينا . ذكره ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد والضحاك
فروى ابن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أبنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال إنّ إبراهيم مرّ برجلٍ ميّتٍ، قال: زعموا أنّه حبشيٌّ- على ساحل البحر، فرأى دوابّ البحر تخرج فتأكل منه، وسباع الأرض، تأتيه فتأكل منه، والطّير تقع عليه فتأكل منه، قال: فقال إبراهيم عند ذلك:ربّ: هذه دوابّ البحر تأكل من هذه، وسباع الأرض والطّير، ثمّ تميت هذه فتبلى، ثمّ تحييها بعد البلى، فأرني كيف تحي الموتى.
وروى ابن جرير قال : حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى} ذكر لنا أنّ خليل اللّه إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم أتى على دابّةٍ توزّعتها الدّوابّ والسّباع، فقال: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}.
وحدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى} قال: مرّ إبراهيم على دابّةٍ ميتٍ قد بلي وتقسّمته الرّياح والسّباع، فقام ينظر، فقال: سبحان اللّه، كيف يحيي اللّه هذا؟ وقد علم أنّ اللّه قادرٌ على ذلك، فذلك قوله: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى}.
وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: بلغني أنّ إبراهيم، بينا هو يسير على الطّريق، إذا هو بجيفة حمارٍ عليها السّباع والطّير قد توزّعت لحمها وبقي عظامها. فلمّا دنا ذهبت السّباع، وطارت الطّير على الجبال والآكام، فوقف فعجّب ثمّ قال: ربّ قد علمت لتجمعنّها من بطون هذه السّباع والطّير {ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى} ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: مرّ إبراهيم بحوتٍ نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان منه في البرّ فالسّباع ودوابّ البرّ تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم، متى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}.

ثانيا : قال أخرون أن سبب مسألته المناظرة والمحاجاة التي جرت بينه وبين النمروذ الذي سأله وهل عاينت إحياء الموتى ، فطلب إبراهيم المعاينة من غير شك منه .
روى ابن جرير قال : حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، قال: لمّا جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى ممّا قصّه اللّه في سورة الأنبياء، قال نمروذ فيما يذكرون لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الّذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته الّتي تعظّمه بها على غيره ما هو؟ قال له إبراهيم: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال نمروذ: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ ثمّ ذكر ما قصّ اللّه من محاجّته إيّاه، قال: فقال إبراهيم عند ذلك: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي} من غير شكٍّ في اللّه تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنّه أحبّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: ليطمئنّ قلبي، أي ما تاق إليه إذا هو علمه.

ثالثا : أنه قال ذلك عندما لقي من قومه الأذى ، قاله الحسن .
قال ابن أبي حاتم : حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا موسى بن محلّمٍ، ثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، ثنا عبّاد بن منصورٍ، قال: سألت الحسن عن قوله: وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال: سأل نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ربّه، أن يريه كيف يحي الموتى، وذلك ممّا لقي من قومه من الأذى، فدعا ربّه عند ذلك، ممّا لقي منهم من الأذى، فقال: ربّ أرني كيف تحي الموتى

رابعا: قال أخرون أن مسألته كانت عند بشارته بأن الله اتخذه خليلا فسأله ليطمئن قلبه بأنه اصطفاه لنفسه خليلا .
وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير والسدي ، وذهب إليه الطحاوي في شرح مشكل الآثار
روى ابن جرير عن السدي قال : وقام إبراهيم يدعو ربّه يقول: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى} حتّى أعلم أنّي خليلك {قال أولم تؤمن} بأنّي خليلك، يقول تصدّق، {قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي} بخلولتك ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ.
وقال ابن جرير : حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عمرو بن ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيد بن جبيرٍ: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: بالخلّة.

خامسا: أنه قال ذلك لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى ، ومن قال بذلك استدل بعدة أدلة منها :
1- ما رواه ابن جرير قال : حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن أيّوب، في قوله: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: قال ابن عبّاسٍ: ما في القرآن آيةٌ أرجى عندي منها.ابن عباس قال : ما في القرآن أية أرجى عندي منها .
2- وما رواه ابن جرير قال : حدّثنا القاسم، قال: حدّثني الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاء بن أبي رباحٍ، عن قوله: {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب النّاس، فقال: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى}، {قال فخذ أربعةً من الطّير} ليريه.كما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، عن حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءً
3- وما رواه ابن جرير : حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: مرّ إبراهيم بحوتٍ نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان منه في البرّ فالسّباع ودوابّ البرّ تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم، متى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}.
4- وما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن أحق بالشك من إبراهيم قال : رب أرني كيف تحيي الموتى.
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (نحن أحق بالشك من إبراهيم ) ، وأن تكون مسألته لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، فطلب رؤية إحياء الموتى ليطمئن قلبه فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبه شيء .
وقد تعقب ابن جرير على هذا الترجيح من قبل المفسرين كابن كثير قال : ليس المراد بالشك ها هنا ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف .
وقال القرطبي : قال الجمهور : لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة .
وقال ابن عطية : وما ترجم به الطبري عندي مردود ، وما أدخل تحت الترجمة متأول .
وقد أجيب عن هذه الأدلة بعدة أجوبة .
أولا : الإجابة على قول ابن عباس : هذه أرجى آية
قال ابن عطية : محمل قوله أنها أرجى آية لما فيها من الدلالة على الله وسؤال الأحياء في الدنيا ، ويجوز لقوله (أو لم تؤمن) أي أن الإيمان يكفي فيه الإجمال ولا يحتاج لبحث ولا تنقير .
ثانيا : الإجابة على قول عطاء أن إبراهيم سأل الرؤية البصرية وهذه لا يتعلق بها شك ، وإنما الشك متعلق بالرؤية القلبية وهو منتفي عن إبراهيم عليه السلام لأنه يخالف عصمة الأنبياء .
ثالثا : الإجابة على رواية ابن زيد : أنها من باب الأخبار الإسرائيلية التي لا تقبل إذا خالفت ما ثبت في ديننا ، وقد ثبت أن الله عصم أنبياءه من تسلط الشيطان عليهم أو قذف شك في قدرة الله في قلوبهم ، قال تعالى : (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)
رابعا : أجيب عن حديث أبي هريرة بعدة أجوبة ، منها :
1- الإجماع المنعقد على عصمة الأنبياء والرسل أجمعين من الكفر والشرك وتسلط الشيطان عليهم .
2- انتفاء هذا المعنى من باب أولى على من وصل لمرتبة الخلة وأولي العزم من الرسل كإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، قال ابن عطية : الشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة .
3- ليس في الحديث اعتراف من الرسول صلى الله عليه وسلم بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما بمعنى : إذا لم أشك أنا في قدرة الله ، فإبراهيم أولي بذلك ، وهذا على سبيل التواضع والهضم ، وقد ذكر ذلك ابن حجر في الفتح ، والسيوطي في شرحه لصحيح مسلم ، ونقله البغوي عن أبي سليمان الخطابي ، وابن الجوزي .
وقال السيوطي في شرح مسلم : المعنى أن الشك يستحيل في حق إبراهيم ، وإنما خص إبراهيم لكون الآية قد يسبق منها إلى بعض الأذهان الفاسدة احتمال الشك .
4- قول إبراهيم عليه السلام حين سأله ربه (أو لم تؤمن) (قال بلى) يزيل كل لبس ، وينفي كل توهم في نسبة الشك لإبراهيم .
5- أن السؤال كان عن كيفية الإحياء وهيئته ، لا عن الإمكان ، ليزداد بذلك إيمانا ويقينا فقال : (رب أرني كيف تحيي الموتى) ، فالسؤال بكيف ليس فيه شك في القدرة .
فنفي الشك عن إبراهيم هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم .
والراجح في سبب مسألة إبراهيم رؤية إحياء الموتى :
ما ورد من أقوال منسوبة للسلف لا تخلو من ضعف ، ومنها ما هو مأخوذ من أخبار بني إسرائيل ، ولم يثبت فيها شيء مرفوع ، لذا فحكم ما ورد من إسرائيليات إن كان يخالف شرعنا فيرفض ، وإلا فيتوقف فيه لأنه لم يثبت فيه شيء .
ولهذا يمكن أن يكون أحد تلك الأقوال هو السبب ، ويمكن أيكون سببا أخر لم يذكر ، أو سأل بدون سبب ، فلا نستطيع تقديم أحد هذه الأقوال على غيرها دون دليل صحيح .

قوله تعالى : (قال أو لم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي)
فقوله (قال أولم تؤمن) : قال الماوردي في : ليست الألف للاستفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير ، وقال البغوي : قد آمنت فلم تسأل ، فشهد له بالإيمان .
قيل : أولم توقن بقدرتي على إحياء الموتى ، وقيل : أو لم تصدق بأني خليلك .
قال السعدي : أن الله قال له (أو لم تؤمن) ليزيل الشبهة عن خليلة .
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يقال له (أولم تؤمن) وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟
قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من فائدة جليلة للسامعين .
وقوله (ليطمئن قلبي) : الطمأنينة : السكون وعدم الانزعاج ، قاله الراغب ، وقال ابن منظور : اطمأن الرجل أي سكن .
والمراد بقوله : (ليطمئن قلبي) فيزداد يقينا بالرؤية بعد العلم بالخبر ، كما ذكر ذلك عن سعيد بن جبير والضحاك وقتادة والربيع .
قال ابن جرير : حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، وحدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبيرٍ: {ليطمئنّ قلبي} قال: ليزداد يقيني.
وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا أبو زهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك: {ولكن ليطمئنّ قلبي} يقول: ليزداد يقينًا.
وحدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: وأراد نبيّ اللّه إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه.
وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: قال معمرٌ وقال قتادة: ليزداد يقينًا.
وحدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا.

وقيل (ليطمئن قلبي) بالخلة ، ذكره السدي وسعيد بن جبير وابن زيد .
قال ابن جرير : حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {أولم تؤمن} قال: أولم توقن بأنّي خليلك.
وحدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قوله: {أولم تؤمن} قال: أولم توقن بأنّي خليلك؟.
وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {أولم تؤمن} قال: أولم توقن بأنى خليلك؟)..

وقال آخرون: معنى قوله: {ليطمئنّ قلبي} لأعلم أنّك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك ، ذكره ابن جرير عن ابن عباس
قال ابن جرير : حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ليطمئنّ قلبي} قال: أعلم أنّك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
كما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي صالحٍ كاتب اللّيث، حدّعن معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ

وقد حكى القرآن ما كان من جواب الخالق سبحانه على نبيه فقال : قوله تعالى : (قال فخذ أربعة من الطير )
فأمر الله سبحانه أن يأخذ أربعة من الطير ، واختلف أهل التأويل في هذه الأربعة على أقوال :
القول الأول : أنها أربعة من الطير من نفس النوع
قال ابن عاشور : ويجوز أربعة أجزاء من طير واحد ، فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزاءه ثم أدعهن .
القول الثاني : أنها أربعة من الطير مختلفة أجناسها وألوانها ، ومن قال بهذا القول أختلفوا في أنواع الطيور على أقوال :
فذكر أن الطيور هي الديك والطاووس والغراب والحمام ، وهو قول محمد بن إسحاق ، ومجاهد وابن جريج وابن زيد .
قال ابن جرير : حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: ثنّى محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم أنّ أهل الكتاب، الأوّل يذكرون أنّه أخذ طاووسًا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا.
وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الأربعة من الطّير: الدّيك، والطّاووس، والغراب، والحمام.
وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ: {قال فخذ أربعةً من الطّير} قال ابن جريجٍ: زعموا أنّه ديكٌ، وغرابٌ، وطاووسٌ، وحمامةٌ.
وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {قال فخذ أربعةً من الطّير} قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا، وغرابًا، وديكًا؛ مخالفةً أجناسها وألوانها).
وذكر القرطبي عن ابن عباس : مكان الغراب الكركي ، وعنه أيضا : مكان الحمام النسر ، وعنه أنه أخذ وزا ورألا وديكا وطاووسا .
وكل هذه الروايات من أخبار بني إسرائيل التي لم يرد نص صحيح مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم يؤيدها ، كما لم يأتي في الشرع ما يخالفها ، لذا فيتوقف فيها فلا تُصدق ولا تُكذب ، ونلاحظ أنه لا فائدة في الدين من ذكر هذا النوع من الإسرائليات .
قال ابن كثير : وتحديد نوع الطيور مما لا طائل تحت تعينها ، إذا لو كان في ذلك متهم لنص عليه القرآن .

قوله تعالى (فصرهن إليك)
قال الراغب : الصير أي الشق ، وفي الصحاح : صرى بوله صريا إذا قطعه ، وذكر الفيروز أبادي : الصرة : الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض .
وفي لسان العرب : صاره بمعنى أماله ، وصار وجهه يصور أي أقبل به و(صرهن إليك) أي وجههن .
اختلف القراء في قراءة الآية على قرائتين ، فقرأ أهل المدينة والحجاز والبصرة بضم الصاد ، فيكون المعنى من قول القائل : صرت إلى هذا الأمر إذا ملت إليه ، وأيضا بمعنى : وجههن.
ويكون المعنى : أضممهن إليك ووحههن نحوك .
وقرأ جماعة من أهل الكوفة بكسر الصاد ، فيكون المعنى : فطعهن .
وزعم جماعة من نحوي الكوفة أنه لا يعرف لقراءة من قرأ بضم الصاد وكسرها وجها في التقطيع ، أما نحويو البصرة فقالوا سواء بالضم أو بالكسر في هذا الموضع يعني به التقطيع .
قال ابن جرير : والأولى بالصواب قول نحويي البصرة ، لإجماع أهل التأويل على أن معنى (فصرهن) غير خارج عن المعنيين : إما قطعهن ،وإما اضممهن إليك .
وقال الفراء : هما لغتان فأما الضم فكثير ، وأما الكسر فمعناه قطعهن .
وقال ابن منظور : هما لغتان بمعنى واحد وكلهم فسروا بالضم أملهن وبالكسر بمعنى قطعهن .
قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن : (فصرهن) : أملهن من صرت الشيء فانصار أي أملته .
وقال مكي بن أبي طالب في المشكل من غريب القرآن : (فصرهن) : أملهن .
ومن قال بالتقطيع من السلف : ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والبخاري في صحيحه .
قال محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه : (فصرهن) : قطعهن .
وروى ابن جرير قال : حدّثنا سليمان بن عبد الجبّار، قال: حدّثنا محمّد بن الصّلت، قال: حدّثنا أبو كدينة، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فصرهنّ} قال: هي نبطيّةٌ فشقّقهنّ
وحدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن أشعث، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ: {فصرهنّ} قال: قال جناح ذه عند رأس ذه، ورأس ذه عند جناح ذه.
وحدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرٍو، عن عكرمة، في قوله: {فصرهنّ إليك} قال: قال عكرمة بالنّبطيّة: قطّعهنّ.
وحدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا إسرائيل، عن أبى يحيى، عن مجاهدٍ: {فصرهنّ إليك} قال: قطّعهنّ.
وحدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فصرهنّ إليك} أمر نبيّ اللّه عليه السّلام أن يأخذ أربعةً من الطّير فيذبحهنّ، ثمّ يخلط بين لحومهنّ وريشهنّ ودمائهنّ.
وحدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فصرهنّ إليك} يقول قطّعهنّ.
كما أخرج موسى بن مسعود النهدي عن سفيان الثوري قال : قطعهن بالنبطية .
وروى ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور ومحمد بن أحمد بن نصر الرملي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قطعهن .
ومن قال بالضم والتوثيق : روي عن ابن عباس وعطاء وابن زيد .
قال ابن جرير : حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {فصرهنّ إليك} صرهنّ: أوثقهنّ.
وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ قوله: {فصرهنّ إليك} قال: اضممهنّ إليك.
وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {فصرهنّ إليك} قال: اجمعهنّ).*
الراجح :
قال ابن جرير : والقول الأول هو قول أكثر أهل التأويل ، والقول الثاني قول نفر قليل من أهل التأويل .
قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في معنى (فصرهن) : أنها بمعنى القطع .
وقال الفخر الرازي : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودمائها وخلط بعضها ببعض ، ثم قال لهن تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد أن انضم كل جزء إلى أصله .

قوله تعالى : (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا)
اختلف المفسرون في عدد الأجزاء وعدد الجبال على أقوال منها :
أولا : على كل ربع من أرباع الدنيا ، رواه ابن جرير عن عباس قال : حدّثني محمد بن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عبّاسٍ: {ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا} قال: اجعلهنّ في أرباع الدّنيا: ربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيًا.
ثانيا : أربع أجزاء يوزعهن على أربعة أجبال ، ذكر ذلك عن قتادة والربيع ومحمد بن إسحاق
قال ابن جرير : حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قال: أمر نبيّ اللّه أن يأخذ أربعةً من الطّير فيذبحهنّ، ثمّ يخلط بين لحومهنّ وريشهنّ ودمائهنّ، ثمّ يجزّئهنّ على أربعة أجبلٍ، فذكر لنا أنّه شكل على أجنحتهنّ، وأمسك برءوسهنّ بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والرّيشة إلى الرّيشة، والبضعة إلى البضعة، وبعين خليل اللّه إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ دعاهنّ فأتين‍ه سعيًا على أرجلهنّ، ويلقي كلّ طيرٍ برأسه، وهذا مثلٌ آراه اللّه إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث اللّه النّاس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
وحدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال: ذبحهنّ، ثمّ قطّعهنّ، ثمّ خلط بين لحومهنّ وريشهنّ، ثمّ قسمهنّ على أربعة أجزاءٍ، فجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والرّيشة إلى الرّيشة، والبضعة إلى البضعة، وذلك بعين خليل اللّه إبراهيم، ثمّ دعاهنّ فأتينه سعيًا، يقول: شدًّا على أرجلهنّ. وهذا مثلٌ أراه اللّه إبراهيم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث اللّه النّاس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .
وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا ابن إسحاق، عن بعض، أهل العلم أنّ أهل الكتاب، يذكرون أنّه أخذ الأطيار الأربعة، ثمّ قطّع كلّ طيرٍ بأربعة أجزاءٍ، ثمّ عمد إلى أربعة أجبالٍ، فجعل على كلّ جبلٍ ربعًا من كلّ طائرٍ، فكان على كلّ جبلٍ ربعٌ من الطّاووس، وربعٌ من الدّيك، وربعٌ من الغراب وربعٌ من الحمام، ثمّ دعاهنّ فقال: تعالين بإذن اللّه كما كنتم، فوثب كلّ ربعٍ منها إلى صاحبه حتّى اجتمعن، فكان كلّ طائرٍ كما كان قبل أن يقطعه، ثمّ أقبلن إليه سعيًا، كما قال اللّه، وقيل: يا إبراهيم، هكذا يجمع اللّه العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويمنها، فأراه اللّه إحياء الموتى بقدرته، حتّى عرف ذلك بغير ما قال نمروذ من الكذب والباطل.

ثالثا : سبع أجزاء على سبعة أجبل ، وهي الأجبال الّتي كانت الأطيار والسّباع الّتي كانت تأكل من لحم الدّابّة الّتي رآها إبراهيم ميتةً، فسأل إبراهيم عند رؤيته إيّاها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها
قال ابن جرير : حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: لمّا قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدّابّة الّتي تفرّقت الطّير والسّباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما سأل، قال: {فخذ أربعةً من الطّير} قال ابن جريجٍ: فذبحها ثمّ اخلط بين دمائهنّ وريشهنّ ولحومهنّ، ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا حيث رأيت الطّير ذهبت والسّباع، قال: فجعلهنّ سبعة أجزاءٍ، وأمسك رءوسهنّ عنده، ثمّ دعاهنّ بإذن اللّه، فنظر إلى كلّ قطرةٍ من دمٍ تطير إلى القطرة الأخرى، وكلّ ريشةٍ تطير إلى الرّيشة الأخرى، وكلّ بضعةٍ وكلّ عظمٍ يطير بعضه إلى بعضٍ من رءوس الجبال، حتّى لقيت كلّ جثّةٍ بعضها بعضًا في السّماء، ثمّ أقبلن يسعين حتّى وصلت رأسها.
وحدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك، ثمّ اجعل على سبعة أجبالٍ، فاجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، ثمّ أدعهنّ يأتينك سعيًا، فأخذ إبراهيم أربعةً من الطّير، فقطّعهنّ أعضاءً، لم يجعل عضوًا من طيرٍ مع صاحبه، ثمّ جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسّمهنّ على سبعة أجبالٍ، ثمّ دعاهنّ فطار كلّ عضو إلى صاحبه، ثمّ أقبلن إليه جميعًا.
رابعا : أمر الله أن يجعل ذلك على كل جبل ، رواه ابن جرير عن مجاهد والضحاك
قال ابن جرير : حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ: {ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا} ثمّ بدّدهنّ أجزاءً على كلّ جبلٍ {ثمّ ادعهنّ}: تعالين بإذن اللّه، فكذلك يحيي اللّه الموتى؛ مثلٌ ضربه اللّه لإبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم.
وحدّثني المثنّى، قال: حدّثني إسحاق، قال: حدّثنا أبو زهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: أمره أن يخالف بين قوائمهنّ ورءوسهنّ وأجنحتهنّ، ثمّ يجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا.
الراجح :
قال ابن جرير : وأولى التأويلات قول مجاهد ، وهو أن الله أمر إبراهيم بتفريق الأطيار الأربعة بعد تقطيعها على جميع الأجبال التي يصل إليها إبراهيم في وقت تكليف الله إياه ، وذلك لأن قوله (كل جبل) لا يكون خارج من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا أو جميعا ، وفي الحالتين لا يكون إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الطيور عليها ، أما قول من قال إن ذلك أربعة أو سبعة فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك .
والسبب في أمر إبراهيم بوضعها على الجبال هو أن وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء ، ووضعها في أمكنة متباعدة وعسيرة التناول .
واتفقت الروايات على أن الله سبحانه أمر إبراهيم بأن يقطع الطيور إلى أجزاء ثم يخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، ثم يوزع على كل جبل منهن جزءا ، وقيل في بعض الروايات أنه أمسك برؤوس كل طائر فيدعهن فيقبلن يسعين حتى وصلت رأسها .
وهذا مثل أراه الله إبراهيم يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الجبال كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من نواحي الأرض بعد تفرقها فيها .
وقوله (ثم ادعهن) : هل دعاهن وهن ممزقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتا ، أم بعد ما أحيين ؟
قال ابن جرير : إن الله أمر إبراهيم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات إنما هو أمر تكوين ، لا أمر عبادة فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد ، والله أعلم .
وقوله (يأتينك سعيا) والسعي هو الإسراع والعدو في المشي ، وقيل هو المشي دون الطيران ، وخصص بالسعي ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ، وذكر البغوي أن الحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد عن الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور أو أن أرجلها غير سليمة .

قوله تعالى : (واعلم أن الله عزيز حكيم)
يعني تعالى بذلك : أعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار ورد إليها الروح وأعادها كهيئتها قبل تفريقها (عزيز) في بطشه إذا بطش لا يغلبه شيء من الجبابرة والمتكبرين الذي خالفوا أمره وعصوا رسله ، (حكيم) في أمره ونهيه وجميع فعله .
والأمر (واعلم) لإبراهيم ولكل من استن بسنته واتبع طريقته .
وقد أورد الماوردي اعتراض وهو لما أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى حين قال : (رب أرني أنظر إليك) ؟
والجواب بأمرين : أحدهما : ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف ، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف .
الثاني : أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن . والله أعلم .

المراجع :
تفسير ابن أبي حاتم
تفسير ابن جرير
تفسير الزجاج
تفسير المارودي
تفسير البغوي
تفسير ابن عطية
تفسير القرطبي
تفسير ابن كثير
تفسير الألوسي
تفسير ابن عاشور
تفسير أبو السعود
تفسير السعدي
التفسير الكبير للرازي
تفسير البيضاوي
تفسير الحاوي للقماش
تفسير المراغي
من كتب اللغة : الراغب ، لسان العرب ، ابن منظور
شرح النووي على صحيح مسلم

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27 ذو الحجة 1439هـ/7-09-2018م, 04:06 PM
فاطمة الزهراء احمد فاطمة الزهراء احمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 1,051
افتراضي

بِسْم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعين به ونتوكل عليه فهو القادر المحي المميت الكاسي العظام لحما بعد الموت ،والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين هاديا وبشيرا .
أما بعد :
فهذه رسالة تفسيرية في قوله تعالى :(أو كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتَ يَوْمًا أو بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فانظر إلى طَعَامِك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )259 البقرة .
مقصد الآية الكريمة :
هو بيان قدرة الله تعالى في الإحياء والبعث .
قال تعالى: {أَوْ كالذي مَرَّ} : الجمهورُ على سكونِ واوِ «أو»
وقيل : أنها هنا للتفصيلِ
وقيل: للتخيير بين التعجب مِنْ شأنهما.
وقرأ أبو سفيان ابن حسين «أوَ» بفتحِها، على أنها واوُ العطفِ، والهمزةُ قبلها للاستفهام.

وقيل في معنى الكاف في قوله: {كالذي} أربعةُ أوجهٍ:

أحدُها: أنه عطفٌ على المعنى وتقديرُه عند الكسائي والفراء: هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مَرَّ على قرية، هكذا قال مكي، أمَّا العطفُ على المعنى فهو وإنْ كان موجوداً في لسانهم كقوله:
- تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً ... بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّد
الثاني: أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ، وإليه نَحَا الزمخشري، وأبو البقاء، قال الزمخشري: «أو كالذي: معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي» ، فَحُذِفَ لدلالةِ «ألم تَرَ» لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ، لأنَّ الحذفَ ثابتٌ كثيرٌ بخلافِ العطفِ على المعنى.
الثالث: انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقول الآخر:
- فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتقدير: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مَرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادةِ.
والرابع: أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل، لا حرفٌ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه، فالتقديرُ: ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ.كما قال السمين الحلبي
ووردت أقوال في المراد ( بالذي ) في قوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية )
أولها : أنه (عزير )
قاله : ابن عباس من طريق سليم الخواص
وقاله : قتادة وناجية بن كعب وسليمان والربيع من طريق ابن أبي جعفر
وقاله : عكرمة من طريق ابن جريج
وقاله : السدي من طريق أسباط
وقاله :الضحاك من طريق عبيد بن سليمان
روى هذه الأقوال جميعا الامام الطبري رحمه الله
ثانيها : أنه إرميا بن حليقا وكان من سِبْط هارون عليه السلام ،قاله : وهب بن منبه عن بني إسرائيل وقال : أنه كان نبيا .
روى عنه ذلك الطبري من طريق عبد الصمد بن معقل
ومن طريق ابن حميد ومحمد بن سهل
وقاله : عبد الله بن عبيد بن عُمير من طريق محمد بن عمرو
ثالثها : أنه الخضر ،قاله ابن إسحاق وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، ورد عليه ابن عطية فقال :
قال ابْنُ إسْحاقَ: أرْمِياءُ هو الخَضِرُ، وحَكاهُ النَقّاشُ عن وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وهَذا كَما تَراهُ، إلّا أنْ يَكُونَ اسْمًا وافَقَ اسْمًا، لِأنَّ الخَضِرَ مُعاصِرٌ لِمُوسى، وهَذا الَّذِي مَرَّ عَلى القَرْيَةِ هو بَعْدَهُ بِزَمانٍ مِن سِبْطِ هارُونَ فِيما رَوى وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ.
رابعها-أنه رجل من بني إسرائيل ،نسب ابن عطية هذا القول لمجاهد .
خامسها:أنه غلام لوط ، قاله النقاش وهذا القول مردود والله أعلم لأن وهب بن منبه قال : أنه من سِبْط هارون وهذا بعد لوط عليه السلام بزمان .
والراجح من ذلك كما قال الطبري رحمه الله :
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه ﷺ ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب=(9) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا ﷺ على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد ﷺ في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد ﷺ وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد ﷺ وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون،(10) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا ﷺ لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
وسميت القرية في اللُّغَةِ ”قَرْيَةً“، لِاجْتِماعِ النّاسِ فِيها، يُقالُ: ”قَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ“، إذا جَمَعْتُهُ.
والمراد بالقرية المذكورة في الاية الكريمة كما ذكر المفسرون :
1-أنهابيت المقدس بعد أن خربها بختنصر البابلي ، والقائلون بذلك :
-وهب بن منبه من طريق عبد الصمد بن معقل ومن طريق ابن حميد
-قتادة ،من طريق بشر
-الضحاك من طريق عبيد بن سليمان
-عكرمة من طريق ابن جريج
-الربيع من طريق ابن أبي جعفر
وهذا هو القول المشهور عند المفسرين.
2- القول الثاني: أن المراد بها القرية التي أهلك الله فيها الذين خروجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
قاله : ابن زيد من طريق ابن وهب ورده ابن عطية بقوله :
وقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ لا يُلائِمُ التَرْجَمَةَ لِأنَّ الإشارَةَ بِهَذِهِ عَلى مُقْتَضى التَرْجَمَةِ هي إلى المَكانِ، وعَلى نَفْسِ القَوْلِ هي إلى العِظامِ والأجْسادِ، وهَذا القَوْلُ مِنَ ابْنِ زَيْدٍ مُناقِضٌ لِألْفاظِ الآيَةِ، إذِ الآيَةُ إنَّما تَضَمَّنَتْ قَرْيَةً خاوِيَةً لا أنِيسَ فِيها، والإشارَةُ بِهَذِهِ إنَّما هي إلى القَرْيَةِ، وإحْياؤُها إنَّما هو بِالعِمارَةِ ووُجُودِ البِناءِ والسُكّانِ.
روى هذه الأقوال جميعا ابن جرير ولم يرجح أيامن القولين .
معنى خاوية :
ورد في معناها قَوْلانِ: أحَدُهُما: الخَرابُ،روى هذا القول ابن جرير عن ابْنِ عَبّاسٍ من طرق ابن جريج ورواه عن الربيع من طريق ابن أبي جعفر عن أبيه ورواه عن الضحاك من طريق عبيد بن سليمان ورواه عن السدي من طريق أسباط .
والثّانِي: الخالِيَةُ، قاله الطبري وأبو عبيدة .

ورد في سبب خواء القرية إسرائليات كثيرة ،رد عليها ابن عطية بقوله :
روي في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا أحْدَثُوا الأحْداثَ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَ نَصَّرَ البابِلِيَّ فَقَتَلَهم وجَلاهم مِن بَيْتِ المَقْدِسِ فَخَرَّبَهُ، فَلَمّا ذَهَبَ عنهُ جاءَ أرْمِياءُ فَوَقَفَ عَلى المَدِينَةِ مُعْتَبِرًا فَقالَ: "أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها"، قالَ: فَأماتَهُ اللهُ تَعالى، وكانَ مَعَهُ حِمارٌ قَدْ رَبَطَهُ بِحَبْلٍ جَدِيدٍ، وكانَ مَعَهُ سَلَّةٌ فِيها تِينٌ وهو طَعامُهُ، وقِيلَ: تِينٌ وعِنَبٌ، وكانَ مَعَهُ رَكْوَةٌ مِن خَمْرٍ، وقِيلَ: مِن عَصِيرٍ، وقِيلَ: قُلَّةُ ماءٍ هي شَرابُهُ، وبَقِيَ مَيِّتًا مِائَةَ عامٍ فَرُوِيَ أنَّهُ بَلِيَ وتَفَرَّقَتْ عِظامُهُ هو وحِمارُهُ، ورُوِيَ أنَّهُ بَلِيَ دُونَ الحِمارِ، وأنَّ الحِمارَ بَقِيَ حَيًّا مَرْبُوطًا لَمْ يَمُتْ ولا أكَلَ شَيْئًا ولا بَلِيَتْ رِمَّتُهُ، ورُوِيَ أنَّ الحِمارَ بَلِيَ وتَفَرَّقَتْ أوصالُهُ دُونَ عُزَيْرٍ، ورُوِيَ أنَّ اللهَ بَعَثَ إلى تِلْكَ القَرْيَةِ مَن عَمَرَها ورَدَّ إلَيْها جَماعَةَ بَنِي إسْرائِيلَ حَيْثُ كَمُلَتْ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، وحِينَئِذٍ حَيِيَ عُزَيْرٌ، ورُوِيَ أنَّ اللهَ رَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَيْهِ وخَلَقَ لَهُ حَياةً يَرى بِها كَيْفَ تُعْمَرُ القَرْيَةُ وتُحْيا مِن ثَلاثِينَ سَنَةً تَكْمِلَةِ المِائَةِ، لِأنَّهُ بَقِيَ سَبْعِينَ مَيِّتًا كُلُّهُ، وهَذا ضَعِيفٌ تَرُدُّ عَلَيْهِ ألْفاظُ الآيَةِ.
ومعنى العروش في قوله : (خاوية على عروشها )
"العُرُوش"،هي الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"، وجمع قليله"أعرُش".(15) .
وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا"،(16) ومنه قول الله تعالى ذكره: ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [سورة الأعراف: 137] يعني يبنون، ومنه قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها.

اقتباس:
معنى (أنى ) في قوله :(أنى يحي هذه الله بعد موتها)
قال ابن عطية :
معناه : مِن أيِّ طَرِيقٍ؟ وبِأيِّ سَبَبٍ؟ وظاهِرُ اللَفْظِ السُؤالُ عن إحْياءِ القَرْيَةِ بِعِمارَةٍ وسُكّانٍ كَما يُقالُ الآنَ في المُدُنِ الخَرِبَةِ الَّتِي يَبْعُدُ أنْ تُعْمَرَ وتُسْكَنَ، فَكَأنَّ هَذِهِ تَلَهُّفٌ مِنَ الواقِفِ المُعْتَبِرِ عَلى مَدِينَتِهِ الَّتِي عَهِدَ فِيها أهْلَهُ وأحِبَّتَهُ، وضُرِبَ لَهُ المَثَلُ في نَفْسِهِ بِما هو أعْظَمُ مِمّا سَألَ عنهُ، والمَثَلُ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ في نَفْسِهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى أنَّ سُؤالَهُ إنَّما كانَ عن إحْياءِ المَوْتى مِن بَنِي آدَمَ، أيْ: أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ مَوْتاها.
وقَدْ حَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: كانَ هَذا القَوْلُ شَكًّا في قُدْرَةِ اللهِ عَلى الإحْياءِ فَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ المَثَلَ في نَفْسِهِ.
ورد هذا القول ابن عطية بقوله :
ولَيْسَ يَدْخُلُ شَكٌّ في قُدْرَةِ اللهِ عَلى إحْياءِ قَرْيَةٍ بِجَلْبِ العُمْرَةِ إلَيْها، وإنَّما يُتَصَوَّرُ الشَكُّ مِن جاهِلٍ في الوَجْهِ الآخَرِ والصَوابُ أنْ لا يُتَأوَّلَ في الآيَةِ شَكٌّ.
وسبب قوله ذلك كما ذكر الطبري :
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها،(24) . استنكارًا فيما -قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه،(25) . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره(26) ، فلما رأى ذلك قال: ﴿أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير﴾ .
(فأماته الله مائة عام ثم بعثه )
بعد قوله هذا أراد الله تعالى أن يُبين له قدرته على الإحياء والبعث فأماته مائة عام ثم بعثه وفِي هذا بيان لقدرته وعظمته .
واختلف المفسرون على أقوال في كيفية موته :
روي أنَّهُ بَلِيَ وتَفَرَّقَتْ عِظامُهُ هو وحِمارُهُ، ورُوِيَ أنَّهُ بَلِيَ دُونَ الحِمارِ، وأنَّ الحِمارَ بَقِيَ حَيًّا مَرْبُوطًا لَمْ يَمُتْ ولا أكَلَ شَيْئًا ولا بَلِيَتْ رِمَّتُهُ، ورُوِيَ أنَّ الحِمارَ بَلِيَ وتَفَرَّقَتْ أوصالُهُ دُونَ عُزَيْرٍ، ورُوِيَ أنَّ اللهَ بَعَثَ إلى تِلْكَ القَرْيَةِ مَن عَمَرَها ورَدَّ إلَيْها جَماعَةَ بَنِي إسْرائِيلَ حَيْثُ كَمُلَتْ عَلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، وحِينَئِذٍ حَيِيَ عُزَيْرٌ، ورُوِيَ أنَّ اللهَ رَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَيْهِ وخَلَقَ لَهُ حَياةً يَرى بِها كَيْفَ تُعْمَرُ القَرْيَةُ وتُحْيا مِن ثَلاثِينَ سَنَةً تَكْمِلَةِ المِائَةِ، لِأنَّهُ بَقِيَ سَبْعِينَ مَيِّتًا كُلُّهُ، وهَذا ضَعِيفٌ تَرُدُّ عَلَيْهِ ألْفاظُ الآيَةِ.
كما قال ابن عطية رحمه الله.
(قال كم لبثت )
قال : المارودي : واخْتَلَفُوا في القائِلِ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ مَلَكٌ.
والثّانِي: نَبِيٌّ.
والثّالِثُ: أنَّهُ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ المُعَمَّرِينَ مِمَّنْ شاهَدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وإحْيائِهِ
وأما معنى قوله ﴿كم لبثت﴾ فإن"كم" استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد. وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"، وتأويله: قال الله له: كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
معنى :(لبثت )مكثت
وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن، والباقُون بالإِدغام.
(قال لبثت يوما أو بعض يوم )
وذلك لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أماتَهُ في أوَّلِ النَّهارِ، وأحْياهُ بَعْدَ مِائَةِ عامٍ آخِرَ النَّهارِ، فَقالَ: يَوْمًا، ثُمَّ التَفَتَ فَرَأى بَقِيَّةَ الشَّمْسِ فَقالَ: ﴿أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾
و(أو )هي بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] ، بمعنى: بل يزيدون.(82) . فكان قوله: ﴿أو بعض يوم﴾ رجوعًا منه عن قوله: ﴿لبثت يومًا﴾ .
(قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾
قال ابن عطية :
وهذا مِمّا زادَهُ القُرْآنُ مِنَ البَيانِ عَلى ما في كُتُبِ اليَهُودِ لِأنَّهم كَتَبُوها بَعْدَ مُرُورِ أزْمِنَةٍ، ويُظَنُّ مِن هُنا أنَّهُ ماتَ في حُدُودِ سَنَةِ 560 قَبْلَ المَسِيحِ، وكانَ تَجْدِيدُ أُورْشَلِيمَ في حُدُودِ 458 فَتِلْكَ مِائَةُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا، وقِيلَ: إنَّ طَعامَهُ كانَ عَصِيرًا وتِينًا وعِنَبًا، فَوَجَدَ العَصِيرَ حُلْوًا، ووَجَدَ التِّينَ والعِنَبَ طَرِيًّا جَنِيًّا.
معنى (لم يتسنه )
قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ): (قوله " لم يتسنه " لم يتغيّر أشار به إلى قوله عز وجل {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} وفسره بقوله لم يتغيّر كذا روي عن ابن عبّاس والسّديّ والهاء فيه أصليّة أو هاء سكت من السّنة مشتقّ لأن لامها هاء أو واو وقيل أصله يتسنن من الحمأ المسنون فقلبت نونه حرف علّة كما في تقضي البازي ويجوز أن يكون المعنى لم يمر عليه السنون الّتي مرت يعني هو بحاله كما كان كأنّه لم يلبث مائة سنة وفي قراءة عبد الله لم يتسن وقرأ أبي لم يسنه بإدغام التّاء في السّين)
القراءات في (لم يتسنه )
اختلفوا في إثْباتِ الهاءِ في الفِعْلِ مِن قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: "لَمْ يَتَسَنَّهْ" و"اقْتَدِهْ"، و"ما أغْنى عَنِّي مالِيَهْ" و"سُلْطانِيَهْ"، "وَما أدْراكَ ما هِيَهْ" وإسْقاطِها في الوَصْلِ - لَمْ يَخْتَلِفُوا في إثْباتِها في الوَقْفِ - فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ عُمَرَ: هَذِهِ الحُرُوفَ كُلَّها بِإثْباتِ الهاءِ في الوَصْلِ، وكانَ حَمْزَةُ يَحْذِفُهُنَّ في الوَصْلِ، وكانَ الكِسائِيُّ يَحْذِفُها في "يَتَسَنَّهْ" و"اقْتَدِهْ" ويُثْبِتُها في الباقِي، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في "حِسابِيَهْ" و"كِتابِيَهْ" أنَّهُما بِالهاءِ في الوَقْفِ والوَصْلِ.
قال الطبري : والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
ومرجع الضمير في قوله (لم يتسنه )وسبب التعبير بالأفراد فيه:
عبر بالإفراد لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد أو أعاد الضمير إلى الشراب لأنه أقرب مذكور وثم جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها أي أنظر إلى طعامك لم يتسنه أو سكت عن تغير الطعام تنبيهًا بالأدنى على الأعلى لأنه إذا لم يتغير الشراب مع سرعة التغير إليه فعدم تغير الطعام أولى.كما قال القسطلاني
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ فَقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وغَيْرُهُ: المَعْنى: وانْظُرْ إلى اتِّصالِ عِظامِهِ وإحْيائِهِ جُزْءًا جُزْءًا، ويُرْوى أنَّهُ أحْياهُ اللهُ كَذَلِكَ حَتّى صارَ عِظامًا مُلْتَئِمَةً، ثُمَّ كَساهُ لَحْمًا حَتّى كَمُلَ حِمارًا، ثُمَّ جاءَ مَلَكٌ فَنَفَخَ في أنْفِهِ الرُوحَ فَقامَ الحِمارُ يَنْهَقُ، ورُوِيَ عَنِ الضَحّاكِ، ووَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيْضًا أنَّهُما قالا: بَلْ قِيلَ لَهُ: وانْظُرْ إلى حِمارِكَ قائِمًا في مَرْبَطِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِائَةَ سَنَةٍ. قالا: وإنَّما العِظامُ الَّتِي نَظَرَ إلَيْها عِظامُ نَفْسِهِ، قالا:
وأعْمى اللهُ العُيُونَ عن أرْمِياءَ وحِمارِهِ هَذِهِ المُدَّةَ.
وأكثر القصص المروية في ذلك ضعيفة كما ذكر المفسرون .
(ولنجعلك آية للناس )اللام صِلَةٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْنا بِكَ ذَلِكَ لِنُرِيَكَ قُدْرَتَنا، ولِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنّاسِ، أيْ: عَلَمًا عَلى قُدْرَتِنا، فَأُضْمِرَ الفِعْلُ لِبَيانِ مَعْناهُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ماتَ وهو ابْنُ أرْبَعِينَ سَنَةً، وابْنُهُ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ بُعِثَ وهو ابْنُ أرْبَعِينَ، وابْنُهُ ابْنُ عِشْرِينَ ومِائَةً، ثُمَّ أقْبَلَ حَتّى أتى قَوْمَهُ في بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقالَ لَهُمْ: أنا عُزَيْرٌ، فَقالُوا: حَدَّثَنا آباؤُنا أنَّ عُزَيْرًا ماتَ بِأرْضِ بابِلَ، فَقالَ لَهُمْ: أنا هو أرْسَلَنِيَ اللَّهُ إلَيْكم أُجَدِّدُ لَكم تَوْراتَكم، وكانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ، ولَيْسَ مِنهم أحَدٌ يَقْرَؤُها، فَأمْلاها عَلَيْهِمْ.
(
كود PHP:
وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسرها لحما 
قِيلَ: أرادَ عِظامَ نَفْسِهِ، وقِيلَ: عِظامُ حِمارِهِ، وقِيلَ: هُما جَمِيعًا.
قال ابن عاشور :
الظاهرأن المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون " ال " عوضا عن المضاف إليه ، فيكون قوله : إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلا أنه برز فيه العامل المنوي تكريره .
والراجح في ذلك كما قال الطبري :
وأولى الأقوال في هذه الآية بالصّواب قول من قال: إنّ اللّه تعالى ذكره بعث قائل {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها} من مماته، ثمّ أراه نظير ما استنكر من إحياء اللّه القرية الّتي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره، فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية الّتي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرةً له وحجّةً عليه في كيفيّة إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مجاهدٍ الّذي ذكرناه قبل.
وإنّما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأنّ قوله: {وانظر إلى العظام} إنّما هو بمعنى: وانظر إلى العظام الّتي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثمّ نكسوها لحمًا، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التّأويل جميعًا نظير الّذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطّاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: {وانظر إلى العظام} إلى أنّه أمرٌ له بالنّظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنّظر إليها، ولا إلى أنّه أمرٌ له بالنّطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار، وإذ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتّأويل أن يكون الأمر بالنّظر إلى كلّ ما أدركه طرفه ممّا قد كان البلى لحقه؛ لأنّ اللّه تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجّةً وله عبرةً وعظةً).
والقراءات في (ننشزها) ومعنى ذلك على كل قراءة فيها :
قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو (نُنْشِرُها) بِضَمِّ النُّونِ الأُولى، وكَسْرِ الشِّينِ وراءِ مَضْمُومَةٍ. ومَعْناهُ: نُحْيِيها، يُقالُ: أنْشَزَ اللَّهُ المَيِّتَ، فَنَشْرَهم. وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، نُنْشِزُها، بِضَمِّ النُّونِ مَعَ الزّايِ، وهو مِنَ النَّشَزِ الَّذِي هو الِارْتِفاعُ. والمَعْنى: نَرْفَعُ بَعْضَها إلى بَعْضِ لِلْحَياءِ. وقَرَأ الأعْمَشُ: نَنْشُزُها، بِفَتْحِ النُّونِ، ورَفْعِ الشِّينِ مَعَ الزّايِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبانُ عَنْ عاصِمٍ: نَنْشُرُها، بِفَتْحِ النُّونِ مَعَ الرّاءِ، كَأنَّهُ مِنَ النَّشْرِ عَنِ الطَّيِّ، فَكَأنَّ المَوْتَ طَواها، والإحْياءَ نَشْرَها.
وعلق الامام الطبري على هذه القراءات بقوله :
والقول في ذلك عندي أنّ معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان، لأنّ معنى الإنشاز التّركيب والإنبات وردّ العظام من التراب إلى الجسد، وأن معنى الأنشار الأحياء والأعاده وإحياء العظام وإعادتها لا شكّ أنّه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إيّاها، فهما وإن اختلفا في اللّفظ فمتقاربا المعنى، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمّة مجيئًا يقطع العذر ويوجب الحجّة، فبأيّهما قرأ القارئ فمصيبٌ لاتقاق معنييهما، ولا حجّة توجب لإحداهما من القضاء بالصّواب على الأخرى.
فإن ظنّ ظانٌّ أنّ الإنشار إذا كان إحياءً فهو بالصّواب أولى؛ لأنّ المأمور بالنّظر إلى العظام وهي تنشر إنّما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها}
فإنّ إحياء العظام لا شكّ في هذا الموضع إنّما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الرّوح الّتي كانت فارقتها عند الممات، والّذي يدلّ على ذلك قوله: {ثمّ نكسوها لحمًا} ولا شكّ أنّ الرّوح إنّما نفخت في العظام الّتي أنشرت بعد أن كسيت اللّحم.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنّهما متّفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانةٌ عن صحّة ما قلنا فيه.
فأمّا القراءة الثّالثة فغير جائزةٍ القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: (كيف ننشرها) بفتح النّون وبالرّاء، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصّحيح الفصيح من كلام العرب).
(فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )
متعلق البيان هنا :أنه بان له إحياء الموتى
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ: "أعْلَمُ" مَقْطُوعَةَ الألِفِ، مَضْمُومَةَ المِيمِ. والمَعْنى: قَدْ عَلِمْتُ ما كُنْتُ أعْلَمُهُ غَيْبًا مُشاهَدَةً. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِوَصْلِ الألِفِ، وسُكُونِ المِيمِ عَلى مَعْنى الأمْرِ، والِابْتِداءِ عَلى قِراءَتِهِما بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وظاهِرُ الكَلامِ أنَّهُ أمَرٌ مِنَ اللهِ لَهُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنزِلَةَ غَيْرِهِ، فَأمَرَها وخاطَبَها. وقَرَأ الجَعْفِيُّ عَنْ أبِي بَكْرٍ، قالَ: "اعْلِمْ" بِكَسْرِ اللّامِ عَلى مَعْنى الأمْرِ بِإعْلامِ الغَيْرَشِ.
وذكر سعيد بن منصور في سننه هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنه فقال :
حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، قال: كان ابن عبّاسٍ يقرأ: {قال أعلم أنّ الله على كلّ شيءٍ قديرٌ} ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم، قال اللّه: {أعلم أنّ الله على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
وعلق الطبري رحمه الله على ذلك فقال :
وأولى القراءتين في ذلك بالصّواب قراءة من قرأ: (اعلم) بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من اللّه تعالى ذكره للّذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أنّ اللّه الّذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إيّاه وحماره بعد موت مائة عامٍ وبلائه حتّى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عامٍ حتّى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغيّرٍ على كلّ شيء قادرٌ كذلك.
وإنّما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصّواب دون غيره؛ لأنّ ما قبله من الكلام أمرٌ من اللّه تعالى ذكره قولاً للّذي أحياه اللّه بعد مماته وخطابًا له به، وذلك قوله: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك}، {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} فلمّا تبيّن له ذلك جوابًا عن مسألته ربّه: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها}؟ قال اللّه له: اعلم أنّ اللّه الّذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم، بعد أن أجابه عن مسألته إيّاه في قوله: {ربّ أرني كيف تحيي الموتى} {واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفيّة إحيائه الموتى أنّه عزيزٌ حكيمٌ، فكذلك أمر الّذي سأل فقال: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها} بعد أن أراه كيفيّة إحيائه إيّاها أن يعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ).
المصادر :
تفسير الطبري - تفسير ابن أبي حاتم - تفسير العيني - تفسير القسطلاني -تفسير ابن عطية -تفسير ابن كثير -تفسير الزجاج -تفسير ابن عاشور - تفسير ابن الجوزي - تفسير المارودي - الدر المصون للسمين الحلبي -اللباب لابن عادل .

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 29 ذو الحجة 1439هـ/9-09-2018م, 04:08 AM
بدرية صالح بدرية صالح غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 498
افتراضي

اختر آية من سورة البقرة ذكر بعض المفسرين في تفسيرها أخباراً إسرائيلية ثمّ اكتب رسالة في تفسيرها بأسلوب التقرير العلمي مبيناً أحكام تلك الإسرائيليات.
قال تعالى :(وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكهِ أَن يَأْتِيَكمُ التَّابُوت فِيهِ سكينَةٌ مِّن رَّبِّكم.....سورة البقرة (248).
المقدمة :
. الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد....
سياق هذه الآيات فيها من بدائع ودلالات الإعجاز القرآني ، وفيها من الدلائل على تكذيب بني اسرائيل على مر العصور ، وجحدهم وتكذيبهم للأنبياء ، وهو حجة بالغة عليهم، وهم قوم لاعهد لهم ولاذمة ، وأنهم قوم أهل جدل ولجاج وتكذيب ، فلا يؤخذ منهم قولاً ولاعهداً ، كذبوا رسله ،وقتلوا انبيائه.
وهذه قصة من الله سبحانه ،خبراً عن بني اسرائيل عند سؤالهم نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتل في سبيل الله ، فاستجاب لهم ،فكذبوه وطلبوا دلالة على صدقه ،فهذا حال بني اسرائيل من الإنكار والجحود والتكذيب ، فقد علموا بصدق رسالته ، وكانوا يستنصرون به قبل رسالته ، وكان مذكوراً في كتبهم قبل بعثه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم»، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية.
&لمن القول بقوله : (وقال لهم نبيهم ..
هذا القول خاص للملأ من بني إسرائيل الّذين قالوا لنبيّهم: {ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اللّه،. وقولاً عاماً لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله من ذراريهم ، ولمن بعدهم إلى أن تقوم الساعة ، ويرث الله الأرض ومن عليها .
&النبي المقصود في الآية ..
قال ابن جرير الطبري : هو انَّ النبيَّ المعنيَّ في الآية المباركة هو أشمويل وهو بالعربية إسماعيل ، والظاهر انَّ أشمويل هذا ليس هو إسماعيل الذبيح نجل النبي إبراهيم ، وأفاد انَّ أكثر المفسِّرين ذهبوا إلى ذلك.
-،وقيل أن النبي المعني في الآية، ذكر ابن جرير ،وابن أبي حاتم ،حدثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ هو شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب ، وأفاد بعض المفسرين بذلك .
وأفاد بعضهم انَّه يوشع بن نون بن أخراشيم بن يوسف بن يعقوب .
-قال ابن عطية : قال ابن إسحاق وغيره عن وهب بن منبه: هو سمويل بن بالي.
-وقال قتادة: «هو يوشع بن نون»، لكن ضعفه ابن جرير ،بحجة لأن مدة داود هي بعد مدة موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى موسى .
والراجح ممن أفاد به أكثر المفسرين هو ،أشمويل ، والله أعلم .
&معنى آية :
قال ابن قتيبة في تفسير غريب القران ،والزجاج أي : علامة تمليكه إياه .
وقال الزجاج :وموضع (أن) رفع المعنى: إن آية ملكه إتيان التابوت أتاكم.
-كما علمنا من قصص القرآن عن بني اسرائيل ، أنهم أهل تعنت وتكذيب وإنكار ، فقد سألوا نبيهم ؟وما آية ملك طالوت؟ فرد عليهم نبيهم بأن آيةملكه بركته عليكم بأن رد عليكم التابوت ، الذي حرمكم إياه بفعل معاصيكم وتكذيبكم انبيائهم .
&القراءات في قوله (التابوت .
اختلف في كتابة التابوت ،أو التابوه ورفع هذا الأمر للخليفة عثمان رضي الله عنه ، فأمر بكتابة التابوت بلسان قريش ،فالقراءة المتواترة المشهورة ، كما وصل لنا للجمع العثماني هي قراءة (التابوت ) ، لما روي في الأثر :
-ذكر ابن وهب المصري ، وجلال الدين السيوطي ،ماأخرجه ابن المنذر من طريق الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: أمرني عثمان بن عفان أن أكتب له مصحفًا فقال: إني جاعل معك رجلًا لسنًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه وما اختلفتما فيه فارفعا إليّ. قال زيد: فقلت أنا: التابوه. وقال أبان بن سعيد: التابوت. فرفعاه إلى عثمان فقال: التابوت، فكتبت.
-وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن عمرو بن دينار. أن عثمان بن عفان أمر فتيان المهاجرين والأنصار أن يكتبوا المصاحف، قال: فما اخلفتم فيه فاجعلوه بلسان قريش. فقال المهاجرون: التابوت. وقال الأنصار: التابوه. فقال عثمان: اكتبوه بلغة المهاجرين. التابوت.
-وأخرج ابن سعد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبي داود وابن الأنباري معًا في المصاحف وابن حبان والبيهقي في سننه من طريق الزهري عن أنس بن مالك ، مارواه حذيفة بن اليمان من اختلافهم بالقراءة ، وعرضه على عثمان رضي الله عنه وأمرهم بجمع المصاحف ، وقوله للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ..، وذكره الثوري في تفسيره .
&صفة التابوت.
-كانت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ، ذكره ابن جرير عن عبد الرّزّاق ، وذكره أبي حاتم الرازي ،فقال: أخبرنا بكّار بن عبد اللّه، قال: سألنا وهب بن منبّهٍ عن تابوت، موسى ما كان؟ قال: كان نحوًا من ثلاثة أذرعٍ في ذراعين).
وذكره السيوطي ماأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر عن وهب بن منبه، أنه سئل عن تابوت
موسى ما سعته قال: نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين).
&قصة التابوت .
وَكَانَتْ قِصَّةُ التَّابُوتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَابُوتًا عَلَى آدَمَ فِيهِ صُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ عُودِ الشِّمْشَاذِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَكَانَ عِنْدَ آدَمَ إِلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ بَعْدَ ذلك عند شيث، ثم توارثه أَوْلَادُ آدَمَ إِلَى أَنْ بَلَغَ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، ثُمَّ عِنْدَ يَعْقُوبَ ثُمَّ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُوسَى، فَكَانَ مُوسَى يَضَعُ فِيهِ التَّوْرَاةَ، وَمَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِ، فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ موسى عليه السلام، ثم تداوله أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى وَقْتِ إشمويل. ذكره البغوي والقرطبي في تفسيرهما.
&واختلف المفسرون في كيفية إتيان التّابوت وكيف كان بدء أمره.
1-قيل أن التابوت كان في عهد موسى وهارون ، وكانوا يتوارثونه حتى سُلب منهم من قِبل أهل الكفر به ، فرده الله إليهم ليكون آية لملك طالوت ، ذكره ابن جرير رواية عن ابن إسحاق، قال: حدّثني بعض، أهل العلم، عن وهب بن منبّهٍ،ورواية عن ابن جريجٍ: أخبرني يعلى بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس......
2-وقيل كان في البريّة، وكان موسى صلّى اللّه عليه وسلّم خلّفه عند فتاه يوشع، فحملته الملائكة حتّى وضعته في دار طالوت.ذكره ابن جرير حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة ، وفي رواية أخرى عن ابن أبي جعفرٍ،عن أبيه عن الرّبيع ........
-قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصّواب، ما قاله ابن عبّاسٍ ووهب بن منبّهٍ من أنّ التّابوت كان عند عدوٍّ لبني إسرائيل كان سلبهموه، وذلك أنّ اللّه تعالى ذكره قال مخبرًا عن نبيّه في ذلك الزّمان قوله لقومه من بني إسرائيل: {إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت} .
*والتعليل على تأكيد هذا القول : أن الأف واللام لاتدخلان على مثل هذه الأسماء إلا في معروف بالمتخاطبين ، فالتابوت أنتم تعرفوه وتستنصرون به ، فلو كان غير معروفاً لنطق بدون ال التعريف ،وقيل : (أن يأتيكم تابوت ....، بتصرف من ابن جرير.
&وقد رويت في هذه المعاني أخباراً كثيرة منها :
-قال ابن جرير : حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدّثني عبد الصّمد بن معقلٍ، أنّه سمع وهب بن منبّهٍ، قال: كان لعيلي الّذي ربّى شمويل ابنان شابّان أحدثا في القربان شيئًا لم يكن فيه، كان مسوط القربان الّذي كانوا يسوطونه به كلاّبين فما أخرجا كان للكاهن الّذي يسوطه، فجعل ابناه كلاليب، وكانا إذا جاء النّساء يصلّين في القدس يتشبّثان بهنّ. فبينا شمويل نائمٌ قبل البيت الّذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع صوتًا يقول: أشمويل فوثب إلى عيلي، فقال: لبّيك ما لك دعوتني؟ فقال: لا، ارجع فنم فرجع فنام، ثمّ سمع صوتًا آخر يقول: أشمويل فوثب إلى عيلي أيضًا، فقال: لبّيك ما لك دعوتني؟ فقال: لم أفعل ارجع فنم، فإن سمعت شيئًا فقل لبّيك مكانك مرني فأفعل فرجع فنام، فسمع صوتًا أيضًا يقول: أشمويل فقال: لبّيك أنا هذا مرني أفعل قال: انطلق إلى عيلي، فقل له: منعه حبّ الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي، وقرباني وأن يعصياني، فلأنزعنّ منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنّه وإيّاهما فلمّا أصبح سأله عيلي، فأخبره، ففزع لذلك فزعًا شديدًا، فسار إليهم عدوٌّ ممّن حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالنّاس فيقاتلا ذلك العدوّ فخرجا وأخرجا معهما التّابوت الّذي كان فيه اللّوحان وعصا موسى لينصروا به. فلمّا تهيّئوا للقتال هم وعدوّهم، جعل عيلي يتوقّع الخبر ماذا صنعوا، فجاءه رجلٌ يخبره وهو قاعدٌ على كرسيّه أنّ ابنيك قد قتلا، وأنّ النّاس قد انهزموا. قال: فما فعل التّابوت؟ قال: ذهب به العدوّ.
قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيّه فمات وذهب الّذين سبوا التّابوت حتّى وضعوه في بيت آلهتهم ولهم صنمٌ يعبدونه، فوضعوه تحت الصّنم والصّنم من فوقه، فأصبح من الغد والصّنم تحته وهو فوق الصّنم. ثمّ أخذوه فوضعوه فوقه وسمّروا قدميه في التّابوت، فأصبح من الغد قد تقطّعت يدًا الصّنم ورجلاه، وأصبح ملقًى تحت التّابوت؛ فقال بعضهم لبعضٍ: قد علمتم أنّ إله بني إسرائيل لا يقوم له شيءٌ، فأخرجوه من بيت آلهتكم فأخرجوا التّابوت فوضعوه في ناحيةٍ من قريتهم، فأخذ أهل تلك النّاحية الّتي وضعوا فيها التّابوت وجعٌ في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جاريةٌ كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التّابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم قالوا: كذبت قالت: إنّ آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولادٌ لم يوضع عليهما نيرٌ قطّ، ثمّ تضعوا وراءهما العجل، ثمّ تضعوا التّابوت على العجل، وتسيّروهما، وتحبسوا أولادهما فإنّهما تنطلقان به مذعنتين، حتّى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما ففعلوا ذلك فلمّا خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربةٍ فيها حصاد من بني إسرائيل. ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلاّ مات، فقال لهم نبيّهم شمويل: اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوّةً فليدن منه فعرضوا عليه النّاس، فلم يقدر أحدٌ يدنو منه، إلاّ رجلان من بني إسرائيل أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمّهما، وهي أرملةٌ، فكان في بيت أمّهما حتّى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع شمويل.
وقال ابن جرير : حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني بعض، أهل العلم، عن وهب بن منبّهٍ، قال: قال شمويل لبني إسرائيل لمّا قالوا له: {أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال قال إنّ اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم} وإنّ آية ملكه: وإنّ تمليكه من قبل اللّه أن يأتيكم التّابوت، فيردّ عليكم الّذي فيه من السّكينة، وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى، وآل هارون، وهو الّذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدوّ، وتظهرون به عليه قالوا: فإن جاءنا: التّابوت، فقد رضينا وسلّمنا. وكان العدوّ الّذين أصابوا التّابوت أسفل من الجبل، جبل إيليا، فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثانٍ، وكان فيهم جالوت، وكان جالوت رجلاً قد أعطي بسطةً في الجسم، وقوّةً في البطش، وشدّةً في الحرب، مذكورًا بذلك في النّاس. وكان التّابوت حين استبي قد جعل في قريةٍ من قرى فلسطين، يقال لها: أزدود، فكانوا قد جعلوا التّابوت في كنيسةٍ فيها أصنامهم. فلمّا كان من أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان من وعد بني إسرائيل أنّ التّابوت سيأتيهم، جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكّسةً على رءوسها، وبعث اللّه على أهل تلك القرية فأرًا، تثبيت الفأرة الرّجل فيصبح ميّتًا قد أكلت في جوفه من دبره.
قالوا: تعلمون واللّه لقد أصابكم بلاءٌ ما أصاب أمّةً من الأمم قبلكم، وما نعلمه أصابنا إلاّ مذ كان هذا التّابوت بين أظهرنا، مع أنّكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كلّ غداةٍ منكّسةً، شيءٌ لم يكن يصنع بها حتّى كان هذا التّابوت معها، فأخرجوه من بين أظهركم فدعوا بعجلةٍ فحملوا عليها التّابوت، ثمّ علّقوها بثورين، ثمّ ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثّورين تسوقهما، فلم يمرّ التّابوت بشيءٍ من الأرض إلاّ كان قدسًا، فلم يرعهم إلاّ التّابوت على عجله يجرّها الثّوران، حتّى وقف على بني إسرائيل، فكبّروا وحمدوا اللّه، وجدّوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت.
-وقال ابن جرير : حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: لمّا قال لهم نبيّهم: إنّ اللّه اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم، أبوا أن يسلّموا له الرّياسة حتّى قال لهم: {إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت فيه سكينةٌ من ربّكم} فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التّابوت فيه سكينةٌ من ربّكم وبقيّةٌ ممّا ترك آل موسى، وآل هارون تحمله الملائكة. وكان موسى حين ألقى الألواح تكسّرت، ورفع منها، فنزل، فجمع ما بقي، فجعله في ذلك التّابوت.
-وكمانعلم أن هذه الروايات أخباراً اسرائيلية ،والاسرائليات كما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة التفسير على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما وافق الكتاب والسنة فهذا نصدقه .
القسم الثاني : ما خالف الكتاب والسنة فهذا نرفضه .
القسم الثالث: ماكان مسكوتاً عنه ، فلا نصدقه ولا نكذبه ونؤمن به ، واجازوا الحكاية عنه.
وماكان في هذه الآية هو ما سكت عنه ، لذلك يجوز نقله والتحديث به فلا نصدقه ولا نكذبه .
&معنى السكينة في اللغة :
قيل فعيلة مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة ،قال بها الأخفش ، وابن قتيبة ، وزاد ابن فارس الرزانة والاستقرار .
-قال أبو جعفر: وهذا القول من أحسنها وأجمعها لأن السكينة في اللغة فعيلة من السكون أي آية يسكنون إليها.
*فلفظ السكينة ورد في القرآن الكريم ،في ستة مواضع ، جميعها تتضمن هذه المعاني من الطمأنينة والوقار يختص بها الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين ، فيثبت قلوبهم ،وينزل عليها الطمأنينة والهدوء.
-قال ابن القيم في منازل السالكين :هذه المنزلة من منازل المواهب ، لامن منازل المكاسب.
&الأقوال في معنى السكينة :
-اختلف أهل العلم في معناها على أقوال :
1-قيل هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ،ذكره عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم ،قولاً عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيلٍ، عن أبي وائلٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ،
وقال علي بن أبي طالب : هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان .القرطبي وقال سفيان الثوري : عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي ...
2-وقيل هي ريح خجوج لها رأسان ، ذكر ابن جرير ماحدث به عن أبو الأحوص، عن سماكٍ، عن خالد بن عرعرة، عن عليّ ..،
3- وقيل السكينة روح من الله تتكلم ، ذكره عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والقرطبي وابن كثير قولاً عن ماسمعه ابن بكار عن وهب بن منبه .
4-وقيل السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح ، ذكره ابن جرير قولاً عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبّهٍ، عن بعض، أهل العلم من بني إسرائيل، وذكره ابن كثير قولاً عن ابن اسحاق عن وهب ابن منبه.
5- وقيل حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينيه شعاع ، فإذا نظر إلى الجيش انهزم ،ذكره ابن جرير وابن ابي حاتم ، أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ.... ، ورواية عن أبي حاتم ،عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ ..
6-وقيل طست من ذهبٍ من الجنّة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، ذكره ابن منصور في سننه قولاً عن عبد اللّه بن المبارك، عن عيسى بن عمر، عن السّدّي ، وذكره ابن جرير ،وابن ابي حاتم ، حدّثنا الحكم بن ظهيرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ...
7- وقيل السّكينة: ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه ، ذكره ابن جرير ،وابن أبي حاتم ، حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: سألت عطاء بن أبي رباحٍ... ، ورواية عن أبي حاتم الرازي عن سفيان بن حسينٍ، عن الحسن ..
8- وقيل الرحمة ، ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع ، ورواية عن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ ..
9- وقيل الوقار ، ذكره ابن جرير ،وابن ابي حاتم ، أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة......
10-وقيل السكينة عصى موسى ، ذكره ابن ابي حاتم الرازي ، عن ميسرة، عن عكرمة ....
-جميع هذه الأقوال فيها آيات ومعجزات من الله سبحانه كافيات ،فهي تجلب السكينة في النفوس فتهدأ وتستريح وتطمئن ، وتثلج بهنّ الصّدور ، فتقر وتسكن ،وتوقن بأقدار الله سبحانه وتعالى.
-قال ابن جرير :وأولى هذه الأقوال بالحقّ في معنى السّكينة، ما قاله عطاء بن أبي رباحٍ، من الشّيء تسكن إليه النّفوس من الآيات الّتي تعرفونها.
وقال : اتّضح أنّ الآية الّتي كانت في التّابوت الّتي كانت النّفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحّة أمرها إنّما هي مسمّاةٌ بالفعل، وهي غيره لدلالة الكلام عليه).
-وقال ابن عطية : والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى .
&الفوائد والهدايات من الآية.
-هذه الآية تأكيد على تخلف بني اسرائيل على مر العصور ، وخيانتهم للوعد.
-في هذه الآية حض لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، على الجهاد في سبيله ، وعدم التخلف عن نبيهم ،وهي لهم ولمن بعدهم باتباع ولي الأمر في كل خير ومصلحة للمسلمين.
-فيها تأديب لمن بين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود النظير وقريظة ، عما
فعل أسلافهم من التكذيب وجحدالأنبياء ،رغم علمهم بقدومه وصدق نبوته.
-في هذه القصة عبرة ، أن العصيان سبب الخذلان.
-فيها تنبيه أن السؤال لغير حاجه ، خصوصاً لنبي أو ولي أمر للمسلمين ، سبباً لغضب الله وعقابه .
-حلم الله سبحانه وتعالى على عبادة ،رغم عصيانهم وكفرهم .
المراجع :
*تفسير القرآن من الجامع لابن وهب ،أبو محمد عبدالله بن وهب بن مسلم المصري القرشي ، (ت:197 ه )، الطبعة الأولى ،المحقق ميكلوش موراني ،دار الغرب الإسلامي .
*معاني القرآن وإعرابه، تأليف إبراهيم بن السري بن سهل ، المكنى أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)، الجزء الأول ،المحقق عبدالجليل عبده شلبي ، عالم الكتب -بيروت .
*تفسيرابن عطية ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،تأليف عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ)، الجزء الأول ،المحقق عبدالسلام عبد الشافي محمد ،دار الكتب العلمية -بيروت .
*إعراب القرآن للنحاس ، أبو جعفر النَّحَّاس أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي (المتوفى: 338هـ). جمهرة العلوم .
*جامع البيان في تأويل آي القرآن ،لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، (ت:310ه )، الجزء الأول ، تحقيق عبدالله التركي ،بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر الدكتور عبدالسند حسن يمامة ، طبعة دار هجر .
*معالم التنزيل (تفسير البغوي)، المؤلف: الحسين بن مسعود البغوي ،(ت:510ه ) ،الجزء الأول ، حققه وخرج أحاديثه محمد عبدالله النمر ، وعثمان ضميرية، وسليمان الحرش ، دار طيبة للنشر والتوزيع .
*تفسير القرآن العظيم ،إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، (ت:774 ه ) ،الجزء الأول. ، دار الكتب العلمية ،منشورات علي بيضون ، بيروت.
*لسان العرب ،محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)، الجزء الثالث عشر ، دار صادر - بيروت 1414 هـ، نسخة الكترونية .
*معاني القرآن للأخفش ، أبو الحسن المجاشعي ، (ت: 215ه )،تحقيق هدى محمد قراعة ، الجزء الأول ،الطبعة الأولى مكتبة الخانجي ،القاهرة .
*معجم مقاييس اللغة لابن فارس ،أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي ، أبو الحسين ( المتوفي 395ه) ، دار الفكر - الجزء الثالث ، 1399 ه.
*المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، دار الدعوة ،الجزء الأول .
*سير أعلام النبلاء ،محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، (ت:748 ه ) ، مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب. الأرناؤوط ، الطبعة الثالثة ، مؤسسة الرسالة .
*المعجم الأوسط للطبراني ، المحقق طارق بن عوض الله ، دار الحرمين ، الجزء السادس ، سنة النشر 1415 ه ،
*تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ)،الجزء الأول ، المحقق أسعد محمد الطيب،مكتبة نزار مصطفى الباز -المملكة العربية السعودية ، الطبعة الثالثة - 1419 هـ .
*مصنف عبد الرزاق ، أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني ، المتوفى:"211هـ " ،جمهرة العلوم .
*تفسير الثوري ،أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ،(ت:161 ه )، الطبعة الأولى ،دار الكتب العلمية -بيروت.
*تفسير الدر المنثور في التفسير المأثور ، عبدالرحمن بن أبي بكر ،جلال الدين السيوطي ،(ت: 911 ه) ، الجزء الثالث ، المحقق عبدالله التركي ، مركز هجر للبحوث والدراسات الإسلامية .
*سنن الترمذي ،محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك،الترمذي ،(ت:279 ه) ،الطبعة الثانية ،المحقق أحمد شاكر ،ومحمد فؤاد ، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي -مصر .
*صحيح البخاري ،محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري ،ت:256 ه ) ، الطبعة الأولى المحقق محمد بن زهير بن ناصر ، دار طوق النجاة.
*سنن النسائي ،أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني ،(ت: 303) ، الطبعة الثانية ، المحقق عبدالفتاح أبو غدة ، مكتب المطبوعات الإسلامية -حلب.
**سنن أبي داود ، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ،( ت:275ه ) ، المحقق محمد محي الدين عبدالحميد ،الجزء الرابع ، المكتبة العصرية ،صيدا.
*سنن سعيد بن منصور ، أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني ، ( ت:227 ه )لجزء الثالث ،الدار السلفية -الهند .

*















[/size][/font]

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10 محرم 1440هـ/20-09-2018م, 05:25 AM
شيماء طه شيماء طه غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 318
افتراضي

السلام عليكم أليس هذا بحث المستوى السابع لماذا تقولون السادس نحن عملنا بحث للمستوى الماضي

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 11 محرم 1440هـ/21-09-2018م, 03:03 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شيماء طه مشاهدة المشاركة
السلام عليكم أليس هذا بحث المستوى السابع لماذا تقولون السادس نحن عملنا بحث للمستوى الماضي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياكِ الله أختي
بعد تعديل نظام البرنامج فهذا يكون بحث المستوى السادس بإذن الله.

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 01:42 PM
منيرة محمد منيرة محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
الدولة: السعودية
المشاركات: 668
افتراضي


- اختر آية من سورة البقرة ذكر بعض المفسرين في تفسيرها أخباراً إسرائيلية ثمّ اكتب رسالة في تفسيرها بأسلوب التقرير العلمي مبيناً أحكام تلك الإسرائيليات.
الآية ..
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم .
يقول الله تعالى في صدر هذه السورة العظيمة سورة البقرة التي بيّن الله فيها أصول العقيدة وجوانب التشريع مترددة بين ثناياها وآياتها كلمة التقوى ومشتقاتها ،قال عز من قائل : ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ )).

بعدما ذكر الله عز وجل ما امتن به على عباده من خلقِ جميع ما في الأرْضِ لَهم وتسخير مافي السماء ، أتبع ذلك بذكر بدء خلقهم مخاطباً به نبييه صلى الله عليه وسلم على وجه التشريف والتنبيه لما سيقال بعده من تكريم أبيهم آدم وجعله خليفة وإسكانه دار كرامته وإسجاد الملائكة له تعظيماً لشأنه وتنبيها على ما خصه الله به من العلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات ،ولا شكَّ أنّ الإحسان إلى الأصْل إحسانٌ إلى الفرع، وشرفُ الفرْع بشرف الأصْل ، وفي لفظة الربوبية وتنوع الخطاب من العام إلى حيث خوطب به النبي صلَّى الله عليه وسلَّم تذكيراً بهذا الشرف وتشويقاً لما سيذكر بعده ..
ذكر الزّجاج " أن في هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أنّ خبر آدم وما كان من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس من علم العرب الذي كانت تعلمه ، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به .
ولعل مقصد الآية "بيان حال الخلق مع الابتلاء " فالملائكة وهم أشرف الخليقة امتحنهم الله بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فأسجدهم له وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة كما فعل سبحانه بموسى لما أخبر عن نفسه أنه أعلم أهل الأرض فامتحنه بالخضر، وكذلك ابتلاؤه لآدم حيث ابتداؤه بالإكرام والإنعام ثم جاءت المحنة والبلية فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين، إنعام قبلها وبعدها ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب، وابتلى أبليس بالسجود مستخرجاً ما كان كامنا في نفسه من الكبر والمعصية ،وما كان يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه به بل على وقوع معلومة سبحانه وتعالى .

🔺المسائل الواردة في الآية :
🔹المسألة الأولى : في قوله :((وإذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ))
- قوله "وإذ
"
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : " إذ " زائدة ، والتقدير : وقال ربك ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :
فإذ وذلك لا مهاة لذكره.. والدهر يعقب صالحابفساد
وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين .
قال النحاس : وهذا خطأ ; لأن " إذ " اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد .
وقال الزجاج : هذا إقدام من أبي عبيدة ، لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، "إذ" معناها الوقت وهي اسم فكيف يكون لغواً والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم ، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال ، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام ، كما قال :
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما يريد أينما ذهب .
قال القرطبي: يحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال .
- قوله " للملائكة "
الملائكة جمع ملأكٍ، غير أنّ واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنّهم يقولون في واحدهم ملكٌ من الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحرّكون اللاّم الّتي كانت مسكّنةً لو همز الاسم ...."
وربّما جاء الواحد منهم مهموزًا كما قال الشّاعر:
فلست بجنى ولكن لملأكٍ.......تحدّر من جوّ السّماء يصوب* .
- معنى قوله تعالى :(إنّي جاعلٌ )
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى : {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم: إنّي فاعلٌ» ورواه ابن جرير عن قتادة .
وروى عن أبي روقٍ، أنه قال: «كلّ شيءٍ في القرآن "جعل" فهو "خلق"».
وقال البغوي ومعنى "جاعل" خالق ومستخلف، وقيل مصير وكلها مرادفات لكلمة جاعل .
قال ابن جرير : والصّواب في تأويل قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} أي: مستخلفٌ فيها خليفةً ومصيّرٌ فيها خلفًاء، والأرض هي مكة كما روى ذلك
ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن سابطٍ أنّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة فقال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}»، يعني مكّة.
وقد ضعف ابن كثير هذا الحديث وذكر أنه مرسل ، وفي سنده ضعف ، ورجح أن المراد بالأرض أعم من ذلك .
وأما في قوله : خليفة ،فاللمفسرين وجهان في تفسيرها .
🔸- الأول : أن المراد أبونا آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ،ومن قام مقامه فيه بعده لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره ، رواه ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس .
وقيل: لأنه صار خلفا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله، وعليه فالخليفة: فعيلة بمعنى فاعل. وقيل: لأنه إذا مات يخلفه من بعده، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول.
واحتج من قال بأن الخليفة آدم لكونه هو الظاهر المتبادر من السياق ، وبقوله تعالى خطاباً لنوع الإنسان ، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}، وبقول موسى لقومه:{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وغيرها من الآيات والأحاديث .
واحتجوا كذلك بقول الراعي يخاطب أبا بكر رضي الله عنه:
خَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ ............ حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلاَ
عُرْبٌ نَرَى للهِ فِي أَمْوَالِنَا ............ حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلاً تَنْزِيلاَ .

ومن رد هذا القول احتج بقوله أن الخليفة إنما يكون عمن يغيب، ويَخْلُفُه غَيْرُه، والله تعالى شاهدٌ غيرُ غائب، قريبٌ غير بعيد، راءٍ وسامع؛ فمحال أن يَخْلُفَهُ غيرُهُ؛ بل هو سبحانه الذي يَخْلُف عبده المؤمن، فيكون خليفته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال الذي في الصحيح : ((إنْ يَخرُج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يَخرُج ولست فيكم فامرؤ حَجِيجُ نَفْسِه، والله خليفتي على كُلِّ مؤمن)) .
قالوا: ولقد أنكر الصديق رضى الله عنه على مَن قال له: يا خليفة الله، قال: لستُ بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله، وحسبي ذلك .
وقال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة، وحقيقتها خليفة الله الذي جعله الله خَلَفًا عن غيره ، والله أعلم.
🔸- القول الثاني : أن المراد به قومًا، يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل ،كما قال تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} . رواه ابن جرير عن الحسن البصري .
وخليفة مفرد أريد به الجمع، أي خلائف، ويكثر في كلام العرب إطلاقه مرادا به الجمع كقوله تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر} يعني وأنهار بدليل قوله: {فيها أنهار من ماء غير آسن} الآية وقوله: {واجعلنا للمتقين إمامًا}،
ونظيره من كلام العرب قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شرعم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا.

وهو اختيار ابن كثير واحتج لذلك بقوله : إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
وقد أوضح الشنقيطي ماقد يرد من إشكال فقال في "أضواء البيان" ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم، وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد، وسفك الدماء. فقالوا ما قالوا، وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية، وبخلافة ذريته أعم من ذلك، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر.
وقال رحمه الله :وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين. فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالخليفة: الخلائف من آدم وبنيه لا آدم نفسه وحده. كقوله تعالى: ﴿قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ .
وعلى هذا تكون (خليفة) صالحة لاسم الفاعل واسم المفعول، كل هذا محتمل وكلّه واقع .
وقال ابن القيم : فلا خلاف أن المراد به آدم وذريته ، وجمهور أهل التفسير على هذا .

والذي يترجح والله أعلم أن المراد بالخليفة -آدم عليه السلام وذريته - لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل والتاء فيه للمبالغة ،

🔸المسألة الثانية : قوله تعالى :( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )
- قوله (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا)
ورد في معنى الإستفهام عدة أقوال :
-الأول
: أنه على وجه الاستعلام منهم لربّهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائنٌ كذلك، رواه ابن جرير من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ وتابعه عليه الرّبيع بن أنسٍ .
وبين ابن جرير رحمه الله : أن هذا القول غير فاسدٍ وذلك إن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكّان الأرض قبل آدم من الجنّ .
-الثاني : أنه على وجه التّعجّب منها من أن يكون للّه خلقٌ يعصي خالقه ، قال به ابن زيد ورواه ابن جرير من طريق وهب .
قال ابن جرير رحمه الله تعالى :"وأمّا دعوى من زعم أنّ اللّه جلّ ثناؤه كان أذن لها بالسّؤال عن ذلك فسألته على وجه التّعجّب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التّنزيل ولا خبر بها من الحجّة يقطع العذر، وغير جائزٍ أن يقال في تأويل كتاب اللّه بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه الّتي تقوم بها الحجّة .
-الثالث : إنه على وجه الاستخبار عن حالهم عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟
رواه ابن جرير عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ من القول الّذي رواه السّدّيّ ووافقهما عليه قتادة من التّأويل.
وقال ابن جرير وأولى التّأويلات بها إنّ ذلك منها استخبارٌ لربّها؛ بمعنى: أعلمنا يا ربّنا، أجاعلٌ أنت في الأرض من هذه صفته وتاركٌ أن تجعل خليفتك فيها، ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك؟
لا إنكار منها لما أعلمها ربّها أنّه فاعلٌ، وإن كانت قد استعظمت لمّا أخبرت بذلك أن يكون للّه خلقٌ يعصيه.
وذكر أن وجه استخبارها سؤالاً عن حالها عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربّهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتّى لا يعصوه.
مستدلاً لذلك بقوله :"إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالةٌ على معنى مراده" .
ومما يعضد به قوله تعالى:( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ....) يعني كمن هو غير قانت، وهو اختيار الحسن بن الفضل.
وكقول الشّاعر:
فلا تدفنوني إنّ دفني محرّمٌ.......عليكم ولكن خامري أمّ عامر
فحذف قوله: دعوني للّتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أمّ عامر، إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالةٌ على معنى مراده ، فكذلك هذه الآية .
وذكر ابن جرير أن نظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى.
وبين إن أولى الأقوال ما كان عليه من ظاهر التّنزيل دلالةً ممّا يصحّ مخرجه في المفهوم، وأن سبب ترك بعض الأقوال أنه لا يوجد خبر بالّذي قيل من وجهٍ يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجّة.

_وقد ورد في هذه الآية عدداً من الروايات الإسرائلية والتي لا تعدمصدراً يعتمد عليه في التعلم والتحصيل، وإنما أوردها المفسرون في كتبهم، من باب الأذن الوارد فيها والذي يدخله التقييد، وتلك القيود منها ما نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نصّ عليه بعض أصحابه مما علموه وأدركوه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لهم وتعليمه إيّاهم .
قال ابن تيمية: (وَمَعْلُوم أَن هَذِه الاسرائيليات لَيْسَ لَهَا إسناد، وَلَا يقوم بهَا حجَّة فِي شَيْء من الدّين إلا إذا كَانَت منقولة لنا نقلا صَحِيحا، مثل مَا ثَبت عَن نَبينَا أَنه حَدثنَا بِهِ عَن بني اسرائيل).
وقال ابن كثير: "وإنما يرد إما لبسط مختصر ، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبي التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه.
ومما ورد في ذلك ما رواه ابن جرير عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك عن ابن عباس قال: «أوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا». قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس في جندٍ من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتّى ألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال؛ ثمّ خلق آدم فأسكنه إيّاها، فلذلك قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}».
ورواها بن أبي حاتم عن مجاهد .
وإذا نظرنا في هذا الآثر وجدناه لا يصح لا متناً ولاسنداً،وإنما هو من الأسرائيليات المذكورة في كتب التفسير حيث لا يصح الاستدلال بها ولا الاعتماد عليها ،
وكذلك ما رواه بن أبي حاتم ،عن أبا جعفر محمد بن علي قال : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قالا ذلك استطالة على الملائكة .
قال ابن كثير:"وهذا أثر غريب ، وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، ومخالف للسياق .
قال ابن كثير: وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضا - عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم .
وهذا - أيضا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم .
- ومن الأقوال التي وردت ، أن الملائكة قالت ذلك لما علمت أن المعصية ستظهر من ذرية هذا الخليفة، وذلك للأثر الذي رواه ابن جرير عن ابن زيد من طريق وهب قال :لمّا خلق اللّه النّار ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربّنا لم خلقت هذه النّار، ولأيّ شيءٍ خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي».
قال: «ولم يكن للّه خلقٌ يومئذٍ إلاّ الملائكة، والأرض ليس فيها خلقٌ، إنّما خلق آدم بعد ذلك».
وقرأ قول اللّه: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر لم يكن شيئًا مذكورًا}.
وقيل : إن الملائكة قالت هذا لما يعرف بطريقة الالتزام أي إن الحكم والقضاء لايكون إلا عند نزاع وتخاصم ووقوع شر وفساد ،فلما أخبر الله بهذا الخليفة كان ذلك اخباراً ضمنياً بحصول هذا الفساد المتوقع ،وذلك ممارواه ابن جرير عن الحسن وقتادة.
وقيل : أن الملائكة ما قالت هذا القول إلا بعد أن أعلمها الله صفات هذا المخلوق ،فقالته على سبيل اليقين لا على سبل الظنّ ، وهوالذي قال به عبدالله بن مسعود وابن عباس ، ومجاهد والحسن وقتادة ، وهذا القول هو الذي رجحه ابن جرير ،ودل عليه قوله تعالى في الآية التي بعدها (سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم )

🔷قوله :(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ)
*قيل هي على سبيل الاستفهام، كأنهم أرادوا: ﴿ونحن نسبح بحمدك﴾ أم نتغير عن هذه الحال؟
فتكون الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم ﴿أتجعل فيها من يفسد﴾ وليس شيئا خطر لهم .
قال "ابن عطية" وهذا القول يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: "أتجعل".
*وقيل : معناه التمدح ووصف حالهم والتعريض بأنهم أولى بالاستخلاف ، كما قال يوسف عليه السلام: ﴿إني حفيظ عليم﴾. قال ابن عطية وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه .
🔹وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال :
الأول : أنه الصلاة ،قال به ،ابن مسعود، وابن عباس ،رواه ابن جرير ورواه بن أبي حاتم عن السدي ،واستشهد له، بقوله ﴿فلولا أنه كان من المسبحين﴾ أي من المصلين ،قال ابن عباس: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة .
*الثاني : أنه قول ، سبحان الله قال به قتادة، رواه عبدالرزاق،وابن جرير ،وبن أبي حاتم ،وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان ربي وبحمده»، وفي لفظ: «سبحان الله وبحمده». ورجحه ابن جرير،مستشهداً له بقول أعشى بني ثعلبة:
أقول لمّا جاءني فخره.......سبحان من علقمة الفاخر
يريد: سبحان اللّه من فخر علقمة. أي: تنزيهًا للّه ممّا أتى علقمة من الافتخار على وجه النّكير منه لذلك،
وقال القرطبي وهو الصحيح لما رواه أبو ذر أن رسول الله ﷺ سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: (ما اصطفى الله لملائكته "أو لعباده" سبحان الله وبحمده). أخرجه مسلم.
وأورد حديثاً ذكره البيهقي لعبد الرحمن بن قرط أن رسول الله ﷺ ليلة أسري به سمع تسبيحا في السموات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى .
*الثالث : أنه التعظيم والحمد،قال به مجاهد في تفسيره ،وذكره ابن جرير عند تفسيره للآية،فقال : يعني: إنّا نعظّمك بالحمد لك والشّكر، كما قال الله تعالى ذكره: {فسبّح بحمد ربّك} ونسبه ابن الجوزي في تفسيره إلى أبو صالح .
*الرابع: أنه الخضوع والذل ،نسبه ابن الجوزي إلى محمد بن القاسم الأنباري .
*وقيل تسبيحهم :رفع الصوت بالذكر، قاله المفضل، واستشهد بقول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما ... سبح(٢١) الحجيج وكبروا إهلالا .
وقوله ﴿ بحمدك﴾ أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به. والحمد كما علمنا هو الثناء . ويحتمل أن يكون قولهم: "بحمدك" اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك .
*قوله: {ونقدس لك} أي نصلي لك قيل :إنّ تقديس الملائكة لربّها صلاتها له،قال به قتادة ،رواه عبدالرزاق ،وابن جرير وبن أبي حاتم، وبه فسره السدّي ،لكن ابن عطية ضعف هذا القول، وتعقبه القرطبي بقوله: بل معناه صحيح، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح، وكان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح).

*وقيل أنه التمجيد والتعظيم : رواه ابن جرير عن مجاهد، وأبو صالح ،وذكره النهدي عن الثوري في تفسيره ، ورجحه ابن جرير بقوله: التّقديس هو التّطهير والتّعظيم؛ سبّوحٌ: تنزيهٌ للّه؛ وقدّوسٌ: طهارةٌ له وتعظيمٌ؛ ولذلك قيل للأرض: أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة.
ولعله يدخل في هذا المعنى مارواه ابن جرير عن ابن إسحاق قوله «لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه».
*وقيل التقديس : هو التطهير ، رواه ابن جرير عن الضحاك ،ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاسٍ ، ورجحه ابن عطية بقوله :التقديس التطهير بلا خلاف، وأيد هذا المعنى القرطبي .
🔹قوله :{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
ورد في معنى هذه الآية أقوال :
لأول : يعني ما في نفس إبليس من الاستكبار والمعصية ، قال به ،ابن مسعود،وابن عباس، ومجاهد ،ورواه عنهما ابن جرير، و بن أبي حاتم .
قال ابن جرير : وحدّثني موسى ..إلى أن قال عن ابن عباس ،عن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}: «يعني من شأن أبليس >> ورواه عن مجاهد من طرق متعددة .
*الثاني: أفعال الفضلاء من بني آدم ،قال به قتادة،ورواه ابن جرير، وبن أبي حاتم ،من طريق سعيد، قال: «{إنّي أعلم ما لا تعلمون} فكان في علم اللّه أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة».
*الثالث: أعلم بمصالح العباد وما يكون ومما هو كائن، قال به القرطبي في تفسيره ،وذكره المارودي دون نسبة .
وزاد ابن الجوزي قولاً رابعاً نسبه لابن زيد ،قال "أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس "
وقد حوت هذه الآية على وجازتها من المسائل العقيدية ،والأمور الكونية ،والمعاني البلاغية والدلالات اللفظية ،ما يزيد الإيمان ،ويثبت الجنان، ويقوي الصلة بالواحد الديان،معترفاً بمنته وفضله،موقناً بعلمه واحاطته،
ولله في كل تحريكة ∗∗∗ وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ∗∗∗ تدل على أنه واحد


هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد

المراجع :
من المصادر الأصيلة :

-التفاسير المسندة ، تفسير عبد الرزاق، وتفسير ابن جرير، وتفسير ابن أبي حاتم الرازي، وتفاسير الثعلبي والواحدي والبغوي،
- كتب التفسير في دواوين السنّة: كتاب التفسير في صحيح البخاري وصحيح مسلم وأبواب التفسير من جامع الترمذي وكتاب تفسير القرآن من جامع ابن وهب ومن سنن سعيد بن منصور الخراساني والسنن الكبرى للنسائي ومستدرك الحاكم .
وكذلك كتب التفسير في جوامع الأحاديث والزوائد، كجامع الأصول لابن الأثير، ومجمع الزوائد للهيثمي، والمطالب العالية لابن حجر، وإتحاف الخيرة المهرة للبوصيري،
-تفسير الدر المنثور للسيوطي .
-الكتب التي تجمع أقوال المفسرين ،وتعتني بتحرير المسائل :
تفسير تفسير ابن جرير، مكي بن أبي طالب ، والكشف والبيان للثعلبي، والنكت والعيون للماوردي، والمحرر الوجيز لابن عطية، وزاد المسير لابن الجوزي، وأحكام القرآن للقرطبي، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير،وابن عاشور، ومحمد الأمين للشنقيطي، وما جمع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب في التفسير.
وما درس في دورات معهد أفاق .

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تجب, نشر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:54 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir