دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب الصلاة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 ذو القعدة 1429هـ/19-11-2008م, 08:48 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي استقبال القبلة

ومنها استقبالُ القبلةِ، فلا تَصِحُّ بدونِه إلا لِعَاجِزٍ ومُتَنَفِّلٍ راكبٍ سائرٍ في سَفَرٍ، ويَلْزَمُه افتتاحُ الصلاةِ إليها، وماشٍ ويَلْزَمُه الافتتاحُ والركوعُ والسجودُ إليها، وفَرْضُ مَنْ قَرُبَ من القِبلةِ إصابةُ عَيْنِها، ومَن بَعُدَ جِهَتِها فإنْ أَخْبَرَه ثِقَةٌ بيقينٍ أو وَجَدَ مَحاريبَ إسلاميَّةً عَمِلَ بها، ويُسْتَدَلُّ عليها في السفَرِ بالقُطْبِ والشمسِ والقمَرِ ومَنَازِلِهما، وإن اجْتَهَدَ مُجتهدانِ فاخْتَلِفَا في جِهةٍ لم يَتْبَعْ أحدُهما الآخَرَ، ويَتْبَعُ الْمُقَلِّدُ أَوْثَقَهما عندَه، ومَن صَلَّى بغيرِ اجتهادٍ ولا تقليدٍ قَضَى إن وَجَدَ مَن يُقَلِّدُه، ويَجْتَهِدُ العارِفُ بأَدِلَّةِ القِبلةِ لكلِّ صلاةٍ، ويُصَلِّي بالثاني، ولا يَقْضِي ما صَلَّى بالأَوَّلِ.


  #2  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 06:01 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقنع لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

....................

  #3  
قديم 24 ذو القعدة 1429هـ/22-11-2008م, 06:03 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الروض المربع للشيخ: منصور بن يونس البهوتي

(ومِنْهَا)؛ أي: مِن شُرُوطِ الصَّلاةِ (استِقْبَالُ القِبْلَةِ)؛ أي: الكَعْبَةِ أو جِهَتِهَا لِمَن بَعُدَ.
سُمِّيَت قِبْلَةً لإقْبَالِ النَّاسِ علَيْهَا، قالَ تعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}. (فلا تَصِحُّ الصَّلاةُ بدُونِه)؛ أي: بدُونِ الاستِقْبَالِ, (إلاَّ لعَاجِزٍ)؛ كالمَرْبُوطِ لغَيْرِ القِبْلَةِ والمَصْلُوبِ وعندَ اشتِدَادِ الحَرْبِ، وِلاَّ) لـ(ـمُتَنَقِّلٍ راكبٍ سائرٍ), لا نَازِلٍ (في سَفَرٍ) مُبَاحٍ طَوِيلٍ أو قَصِيرٍ, إذا كانَ يَقْصِدُ جِهَةً مُعَيَّنَةً فلَهُ أن يَتَطَوَّعَ على رَاحِلَتِه حيثُ ما تَوَجَّهَت بهِ, (ويَلْزَمُه افتِتَاحُ الصَّلاةِ) بالإحرامِ إن أَمْكَنَهُ (إليها)؛ أي: إلى القِبْلَةِ, بالدَّابَّةِ أو بنَفْسِه, ويَرْكَعُ ويَسْجُدُ إن أَمْكَنَهُ بلا مَشَقَّةٍ، وإلا فإِلَى جِهَةِ سَيْرِه، ويُومِئُ بهِما، ويَجْعَلُ سجُودَهُ أَخْفَضَ, ورَاكِبُ المِحَفَّةِ الوَاسِعَةِ والسَّفِينَةِ والرَّاحِلَةِ الوَاقِفَةِ, يَلْزَمُه الاستِقْبَالُ في كُلِّ صَلاتِه.
(و) إِلاَّ لمُسَافِرٍ (مَاشٍ)؛ قِيَاساً على الرَّاكبِ, (ويَلْزَمُه)؛ أي: المَاشِيَ (الافتِتَاحُ) إليها (والرُّكُوعُ والسُّجُودُ إليها)؛ أي: إلى القِبْلَةِ؛ لتَيَسُّرِ ذلك عليه، وإن داسَ النَّجَاسَةَ عَمْداً, بَطَلَتْ، وإن دَاسَهَا مَرْكُوبُه, فلا، وإن لم يُعْذَرْ مَن عَدَلَتْ بهِ دَابَّتُه, أو عَدَلَ إلى غَيْرِ القِبْلَةِ عَن جِهَةِ سَيْرِه معَ عِلْمِه، أو عُذِرَ وطَالَ عُدُولُه عُرْفاً, بَطَلَتْ.
(وفَرْضُ مَن قَرُبَ مِن القِبْلَةِ)؛ أي: الكَعْبَةِ, وهو مَن أَمْكَنَهُ مُعَايَنَتُها أو الخَبَرُ عَن يَقِينٍ- (إِصَابَةُ عَيْنِهَا) ببَدَنِه كُلِّه, بحيثُ لا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهُ عَن الكَعْبَةِ، ولا يَضُرُّ عُلُوٌّ ولا نُزُولٌ.
(و) فَرْضُ (مَن بَعُدَ) عَن الكَعْبَةِ استِقْبَالُ (جِهَتِهَا), فلا يَضُرُّ التَّيَامُنُ ولا التَّيَاسُرُ اليَسِيرُ إن عُرِفَا، إلاَّ مَن كانَ بمَسْجِدِه صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لأنَّ قِبْلَتَهُ مُتَيَقَّنَةٌ، (فإِنْ أَخْبَرَهُ) بالقِبْلَةِ مُكَلَّفٌ (ثِقَةٌ) عَدْلٌ ظَاهِراً وبَاطِناً (بيَقِينٍ), عَمِلَ به حُرًّا كانَ أو عَبْداً, رَجُلاً أو امرَأَةً، (أو وَجَدَ محَارِيبَ إِسْلامِيَّةً, عَمِلَ بها)؛ لأنَّ اتِّفَاقَهُم عَلَيْهَا معَ تَكْرَارِ الأَعْصَارِ, إِجْمَاعٌ عليها، فلا تَجُوزُ مُخَالَفَتُها حيثُ عِلْمُهَا للمُسْلِمِينَ، ولا يَنْحَرِفُ, (ويُسْتَدَلُّ عليها في السَّفَرِ بالقُطْبِ), وهو أَثْبَتُ أَدِلَّتِهَا؛ لأنَّه لا يَزُولُ عَن مَكَانِه إلا قَلِيلاً، وهو نَجْمٌ خَفِيٌّ شِمَالِيٌّ, وحَوْلَهُ أَنْجُمٌ دَائِرَةٌ كفَرَاشَةِ الرَّحَى، في أَحَدِ طَرَفَيْهِ الجَدْيُ والآخَرِ الفَرْقَدَانِ، يكونُ وراءَ ظَهْرِ المُصَلِّي بالشَّامِ، وعلى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ بمِصْرَ، (ويُسْتَدَلُّ عليها بالشَّمْسِ أو القَمَرِ ومَنَازِلِهِمَا)؛ أي: مَنَازِلِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، تَطْلُعُ مِن المَشْرِقِ وتَغْرُبُ بالمَغْرِبِ، ويُسْتَحَبُّ تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ القِبْلَةِ والوَقْتِ، فإن دَخَلَ الوَقْتُ وخَفِيَتْ عليهِ, لَزِمَهُ – أي: التَّعَلُّمُ- ويُقَلِّدُ إن ضَاقَ الوَقْتُ، (وإن اجتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فاخْتَلَفَا فِي جِهَةٍ, لم يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ), وإن كانَ أَعْلَمَ مِنْهُ، ولا يَقْتَدِي بهِ؛ لأنَّ كُلاًّ مِنْهُما يَعْتَقِدُ خَطَأَ الآخَرَ، (ويَتْبَعُ المُقَلِّدُ) لجَهْلٍ أو عَمًى (أَوْثَقَهُمَا)؛ أي: أَعْلَمَهُما وأَصْدَقَهُمَا وأَشَدَّهُمَا تَحَرِّياً لدِينِه (عندَه)؛ لأنَّ الصَّوَابَ إليهِ أَقْرَبُ، فإنْ تسَاوَيَا, خُيِّرَ، وإذا قَلَّدَ اثنَيْنِ لم يَرْجِعْ برُجُوعِ أَحَدِهِمَا، (ومَن صَلَّى بغَيْرِ اجتِهَادٍ) إن كانَ يُحْسِنُه, (ولا تَقْلِيدٍ) إن لم يُحْسِنِ الاجتِهَادَ, (قَضَى)-ولو أَصَابَ- (إن وَجَدَ مَن يُقَلِّدُه)، فإن لم يَجِدْ أَعْمَى أو جَاهِلٌ مَن يُقَلِّدُه, فتَحَرَّيَا وصَلَّيَا, فلا إِعَادَةَ، وإن صَلَّى بَصِيرٌ حَضَراً فأَخْطَأَ، أو صَلَّى أَعْمَى بلا دَلِيلٍ مِن لَمْسِ مِحْرَابٍ أو نَحْوِه أو خَبَرِ ثِقَةٍ, أَعَادَ.
(ويَجْتَهِدُ العَارِفُ بأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لكُلِّ صَلاةٍ)؛ لأنَّها وَاقِعَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، فتَسْتَدْعِي طَلَباً جَدِيداً، (ويُصَلِّي بـ) الاجتِهَادِ (الثَّانِي)؛ لأنَّه تَرَجَّحَ في ظَنِّه, ولو كانَ في صَلاةٍ, ويَبْنِي، (ولا يَقْضِي ما صَلَّى بـ) الاجتِهَادِ (الأَوَّلِ)؛ لأنَّ الاجتِهَادَ لا يَنْقُضُ الاجتهَادَ، ومَن أُخْبِرَ فيها بالخَطَأِ, لَزِمَهُ قَبُولُه، وإن لم يَظْهَرْ لمُجْتَهِدٍ جِهَةٌ في السَّفَرِ صَلَّى على حَسَبِ حَالِه.


  #4  
قديم 26 ذو القعدة 1429هـ/24-11-2008م, 03:50 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي حاشية الروض المربع للشيخ: عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم

(ومنها) أي من شروط الصلاة (استقبال القبلة) أي الكعبة أو وجهتها لمن بعد([1]) سميت قبلة لإقبال الناس عليها([2]) قال تعالى {فول وجهك شطر المسجد الحرام}([3]).(فلا تصح) الصلاة (بدونه) أي بدون الاستقبال([4]) (إلا لعاجز) كالمربوط لغير القبلة([5]) والمصلوب([6]).وعند اشتداد الحرب([7]) (و) إلا لـ (متنقل راكب سائر)([8]) لا نازل (في سفر) مباح([9])طويل أو قصير([10]) إذا كان يقصد جهة معينة([11]) وله أن يتطوع على راحلته حيثما توجهت به([12]).(ويلزمه افتتاح الصلاة) بالإحرام إن أمكنه (إليها) أي إلى القبلة، بالدابة أو بنفسه([13]) ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة([14]) وإلا فإلى جهة سيره([15]) ويومئ بهما([16]) ويجعل سجوده أخفض([17]).وراكب المحفة الواسعة([18]) والسفينة([19]) والراحلة الواقفة يلزمه الاستقبال في كل صلاته([20]) (و) إلا لمسافر (ماش) قياسا على الراكب([21]) (ويلزمه) أي الماشي (الافتتاح) إليها([22]) (والركوع والسجود إليها) أي إلى القبلة، لتيسر ذلك عليه([23]).وإن داس النجاسة عمدا بطلت([24]) وإن داسها مركوبه فلا([25]) وإن لم يعذر من عدلت به دابته([26]) أو عدل إلى غير القبلة عن جهة سيره مع علمه([27]) أو عذر وطال عدوله عرفا بطلت([28]) (وفرض من قرب من القبلة) أي الكعبة وهو من أمكنه معاينتها([29]).أو الخبر عن يقين (إصابة عينها)([30]) ببدنه كله بحيث لا يخرج شيء منه عن الكعبة([31]) ولا يضر علو ولا نزول([32]) (و) فرض (من بعد) عن الكعبة استقبال (جهتها )([33]) فلا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران عرفا([34]).إلا من كان بمسجده صلى الله عليه وسلم لأن قبلته متيقنة([35]) (فإن أخبره) بالقبلة مكلف (ثقة)([36]) عدل ظاهر وباطنا (بيقين) عمل به، حرا كان أو عبدا، رجلا كان أو امرأة([37]).(أووجد محاريب إسلامية عمل بها)([38]) لأن اتفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها، فلا تجوز مخالفتها، حيث علمها للمسلمين ولا ينحرف([39]).(ويستدل عليها في السفر بالقطب) وهو أثبت أدلتها، لأنه لا يزول عن مكانه إلا قليلا([40]) وهو نجم خفي شمالي([41]) وحوله أنجم دائرة كفراشة الرحى([42]) في أحد طرفيه الجدي([43]) والآخر الفرقدان([44]) يكون وراء ظهر المصلي بالشام([45]).وعلى عاتقه الأيسر بمصر([46]) (و) يستدل عليها بـ (الشمس والقمر ومنازلهما) أي منازل الشمس والقمر([47]) تطلع من الشرق([48]) وتغرب من المغرب([49]).ويستحب تعلم أدلة القبلة والوقت([50]) فإن دخل الوقت وخفيت عليه لزمه([51]) ويقلد إن ضاق الوقت([52]) (وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر) وإن كان أعلم منه([53]).ولا يقتدي به([54])لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر([55]) (ويتبع المقلد) لجهل أو عمى(أوثقهما) أي أعلمهما وأصدقهما وأشدهما تحريا لدينه (عنده)([56]) لأن الصواب إليه أقرب، فإن تساويا خير([57]).وإن قلد اثنين لم يرجع برجوع أحدهما([58]) (ومن صلى بغير اجتهاد) إن كان يحسنه([59]) (ولا تقليد) إن لم يحسن الاجتهاد (قضى) ولو أصاب (إن وجد من يقلده)([60]) فإن لم يجد أعمى أو جاهل من يقلده فتحريا وصليا فلا إعادة([61]) وإن صلى بصير حضرا فأخطأ أو صلى أعمى بلا دليل من لمس محراب أو نحوه([62]) أو خبر ثقة أعادا([63]).(ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة)([64]) لأنها واقعة متجددة فتستدعي طلبا جديدا([65]) (ويصلي بـ) الاجتهاد (الثاني) لأنه ترجح في ظنه، ولو كان في صلاته ويبني([66]) (ولا يقضي ما صلى بـ) الاجتهاد (الأول)([67]) لأن الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد([68]).ومن أخبر فيها بالخطأ يقينا لزمه قبوله([69]) وإن لم يظهر لمجتهد جهة في السفر صلى على حسب حاله([70]).



([1]) إجماعا، لقوله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة» صححه الترمذي، وروي عن غير واحد من الصحابة، وقال شيخنا، استقبال القبلة من العلم العام عند كل أحد شرعيته، وأنه من شرائط صحة الصلاة اهـ، فالواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه، وهذا بالنسبة إلى المدينة، وما وافق قبلتها، ولسائر البلدان من السعة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك، وقاله ابن عبد البر: وهذا صحيح لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل العلم، قال أحمد: هذا في كل البلدان، إلا بمكة عند البيت، فإنه إذا زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة، وبين القاضي وغيره أنما وقع عليه اسم مشرق ومغرب فالقبلة ما بينهما، وينبغي أن يتحرى وسط ذلك، لا يتيامن ولا يتياسر، ويعفى عنه في الجهة.

([2]) ولأن المصلي يقابلها، وكل شيء جعلته تلقاء وجهك فقد استقبلته، وأصلها الحالة التي يقابلها الشيء غيره عليها، إلا أنها صارت كالعلم للجهة التي يستقبلها المصلي، وأصل الجهة الوجهة، والوجه اسم للمتوجه إليه، وسميت الكعبة كعبة لتكعبها أي تربعها، أو استدارتها وارتفاعها.

([3]) أي حول وجهك نحوه، وقبله، والشطر الناحية والمراد به الكعبة، والحرام أي المحرم، والتوجه لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها.

([4]) مع القدرة إجماعا لقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} أي في بر أو بحر أو مشرق أو مغرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وفي حديث المسيء «ثم استقبل القبلة فكبر» وقصة أهل قباء: إنه أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم قد صلى ستة عشر شهرا بالمدينة إلى بيت المقدس، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فوجه إليه. وأول صلاةصلاها قبل البيت صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، والقصة في الصحيحين، ولأحمد كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر ستة عشر شهرا، ثم صرف إلى الكعبة، قال ابن كثير: الحكمة في تحويلها{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}يعني أهل الكتاب، فإنهم قالوا: سيرجع إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني قريشا وهي أنهم قالوا إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فلم رجع عنه ويجاب بأن الله اختار له التوجه إلى بيت المقدس، لما في ذلك من الحكمة {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة بجميع وجوهها{وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} إلى ما ضل عنه الأمم، وقال ابن رشد: ما نقل بالتواتر كاستقبال القبلة وأنها الكعبة لا يرده إلا كافر.

([5]) أي إلا لعاجز عن استقبال القبلة فلم يقدر عليه، كالمربوط أي المشدود الموثق لغير جهتها، فتصح بدونه، للعجز عنه إجماعا.

([6]) أي المعلق على صليب ونحوه مما يتخذ على هيئة عود يصلب عليه اللص ونحوه إلى غير القبلة فتصح بدونه.

([7]) كحال الطعن والكر والفر، وكهروب من سيل أو نار أو سبع، ولو نادرا كمريض عجز عن الاستقبال، فتصح صلاتهم إلى غير القبلة إجماعا لأنه شرط عجز عنه فسقط، كستر العورة لقوله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وسيأتي حديث ابن عمر في شدة الخوف مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه.

([8]) فلا يجب عليه الاستقبال.

([9]) أي غير مكروه ولا محرم، لأن نفله ذلك رخصة، والرخصة لا تناط بالمعاصي، والسفر قطع المسافة إذا خرج للارتحال، أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى، سمي بذلك لما فيه من الذهاب والمجيء، أو لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ويأتي.

([10]) أي دون فرسخ للعموم، قال البغوي: يجوز أداء النافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير جميعا، عند أكثر أهل العلم، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي اهـ وأجمعوا على أنه لا يجوز للمقيم في بلد، التطوع إلى غير القبلة لا ماشيا ولا راكبا.

([11]) بخلاف راكب تعاسيف وهو ركوب الفلاة وقطعها على غير صوب، فلا يسقط عنه الاستقبال، ذكره في الرعاية والفروع وغيرهما.

([12]) إجماعا لقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}قال ابن عمر: نزلت في التطوع خاصة، ولحديث ابن عمر: كان يسبح على راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، متفق عليه، ولأن إباحته تخفيف لئلا يؤدي إلى تقليله، أو قطعه
وتطوع بالشيء تبرع به وتنفل ومفهومه أنه لا يصح الفرض إلا بالاستقبال وهو كذلك لقوله: ولم يكن يصنع ذلك في المكتوبة متفق عليه.

([13]) بأن يدير الدابة إلى القبلة إن أمكنه، أو يدور هو بنفسه، لحديث أنس، كان إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة، ثم خلى عنها رواه أحمد وأبو داود وأصله في الصحيحين، وعنه لا يلزمه وفاقا لمالك وأبي حنيفة لإطلاقه في الأحاديث الصحيحة ولأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه بقيتها ويحمل حديث أنس على الفضيلة، وقال ابن القيم: فيه نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته، أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام، ولا غيرها اهـ قال في الإنصاف: مفهوم كلام المصنف أنه إذا لم يمكنه الافتتاح إلى القبلة لا يلزمه قولا واحدا، وهو الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب.

([14]) إلى جهة القبلة، كراكب محفة واسعة، وراحلة واقفة، وهو مذهب الجمهور، لأنه في عدم المشقة كالمقيم، وقيل لا يلزمه، للتساوي في الرخصة العامة.

([15]) أي وإلا يمكنه كراكب بعير مقطور، وتعسر عليه الاستدارة بنفسه، أو دابته حرون تصعب إدارتها عليه فإلى جهة سيره.

([16]) أي بالركوع والسجود إلى جهة سيره.

([17]) أي من ركوعه إن قدر وجوبا وفاقا، لحديث جابر والسجود أخفض من الركوع، وقيل لا يلزمه لأن الرخصة العامة يسوى فيها بين ما وجدت فيه المشقة وغيره، وإن عجز سقط بلا نزاع.

([18]) يلزمه الاستقبال في كل صلاته، والمحفة بكسر الميم مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب قديما، سميت بذلك لأن الخشب يحيط بالقاعد فيها من جميع جوانبه، وكعمارية وهودج، لقدرته عليه بلا مشقة.

([19]) وكذا العمارية، يلزمه الاستقبال، إلا ملاحا فلا يلزمه استقبال القبلة، وفاقا، لانفراده بتدبيرها.

([20]) في الاستفتاح والركوع والسجود إن أمكنه بلا مشقة، وإن أمكنه الافتتاح إلى القبلة دون ركوع وسجود، أو بالعكس أتى بما قدر عليه.

([21]) لمساواته له في الانقطاع عن القافلة في السفر، فيصح نفله بدون الاستقبال.

([22]) قال في الإنصاف: يفتتح الصلاة إلى القبلة، بلا خلاف أعلمه.

([23]) ويركع ويسجد بالأرض، ويفعل الباقي من الصلاة إلى جهة سيره، والوجه الثاني يومئ إلى جهة سيره كالراكب، صححه المجد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، قال الآمدي وغيره، يومئ بالركوع والسجود كالراكب قياسا عليه، قال الشيخ: هو الأظهر لأن الركوع والسجود وما بينهما يتكرر في كل ركعة، ففي الوقوف له وفعله بالأرض قطع لمسيره، فأشبه الوقوف في حال القيام اهـ، وأبيح للراكب كيلا ينقطع عن القافلة، وهو موجود في الماشي.

([24]) لما تقدم أنه يشترط طهارة بقعته.

([25]) ولو عمدا لأنه عفي عن المركوب إذا كان نجسا مع طهارة محل المصلي من نحو سرج وبرذعة فإذا وطئها فمن باب أولى، ويعتبر طهارة ما تحت راكب من نحو برذعة وإن كان المركوب نجس العين، ولمسلم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار في النفل، قال المجد وغيره: ولا كراهة في ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم، ومسيس الحاجة إليه.

([26])بأن قدر على ردها ولم يفعل، وكان عالما بالعدول بطلت صلاته.

([27])بطلت لأنه ترك قبلته عمدا، سواء طال العدول أو لا، وإن كان العدول إلى القبلة، فهو الأصل، فإذا حصل فهو المطلوب.

([28])أي عذر من عدلت به دابته لعجزه عنها، أو عذر من عدل إلى غير القبلة لغفلة أو نوم أو جهل وطال عدوله عن جهتها عرفا، بطلت صلاته، لأنه بمنزلة العمل الكثير من غير جنس الصلاة، فإن عذر ولم يطل لم تبطل، لأنه بمنزلة العمل اليسير، والوتر وغيره من النوافل سواء، لأنه عليه الصلاة والسلام يوتر على دابته، متفق عليه.

([29])أي سهل عليه ولا حائل بينه وبين إصابة عينها وفاقا، وفي الإنصاف وغيره: بلا نزاع، كمن بالمسجد الحرام أو كان خارجه لكن يمكنه النظر إليها، كأن كان على جبل أبي قبيس، أو مرتفع بحيث يعاينها.

([30]) أي وفرض من قرب من القبلة ولم يمكنه معاينتها، وأمكنه الخبر عن يقين من عالم به، إصابة عينها، أي استقبال نفس الكعبة وفاقا، فإن من نشأ بمكة أو أقام بها كثيرا يمكنه اليقين في ذلك، ولو مع حائل حادث كالأبنية.

([31]) لأنه قادر على التوجه إلى عينها قطعا، فلم يجز العدول عنه، وإن تعذرت إصابة العين بحائل اجتهد إلى عينها، ولا يكلف المعاينة بصعود حائل أو دخول مسجد للمشقة، وذكر جماعة من الأصحاب وغيرهم: إن تعذر إصابة العين للقريب فحكمه حكم البعيد.

([32]) أي عن الكعبة كالمصلي على أبي قبيس، أو في حفيرة في الأرض ونزل بها عن مسامتتها لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفة، وإن لم تكن مسامتة، فإن المسامتة لا تشترط كما تقدم.

([33]) لحديث ما بين المشرق والمغرب قبلة، وغيره وتقدم، ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة، والصف الطويل مستويا ولان التكليف بحسب الوسع، قال في الإنصاف والمبدع وغيرهما: البعد هنا هو بحيث لا يقدر على المعاينة، ولا عن من يخبره بعلم، وقال غير واحد من الأصحاب: ليس المراد بالبعد مسافة القصر، ولا بالقرب دونها، والجهة الناحية كالوجه وأصلها وجهة قال الواحدي: الوجهة اسم للمتوجه إليه والوجه مستقبل كل شيء.

([34]) بحيث لا يخرج عن الجهة، لأن إصابة العين بالاجتهاد متعذرة فسقطت، وأقيمت الجهة مقامها للضرورة.

([35]) أو قريبا منه قاله جماعة، فيشترط إصابة العين ببدنه، لأن قبلته متيقنة الصحة، قال الشارح وغيره: لكن إنما الواجب عليه صلى الله عليه وسلم استقبال الجهة وقد فعله، وقيل: رفعت له الكعبة حين بنى مسجده صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.

([36]) فلا يعمل بخبر صغير ولا فاسق، وقال ابن تميم: يصح التوجه إلى قبلته في بيته، وجزم به في المبدع.

([37]) ولو أخبره بالمشرق أو المغرب أو نجم فأخذ القبلة منه لزمه العمل به،وإن أخبره عن اجتهاد لم يجز تقليده وفاقا، وقيل يجوز تقليده إن ضاق الوقت وإلا فلا، وذكره القاضي ظاهر كلام أحمد، واختاره جماعة من الأصحاب منهم الشيخ تقي الدين، وعدالة الظاهر بأن يكون مستور الحال، والباطن بأن يختبر بالأمانة ونحوها.

([38]) عدولا كانوا أو فساقا، والمحاريب جمع محراب، وهو صدر المجلس، ومنه محراب المسجد وهو مقام الإمام منه.

([39]) أي عن التوجه عن تلك الجهة، لأن دوام التوجه إلى جهة تلك المحاريب كالقطع، ونقل إجماع العلماء عليه صاحب الشامل وغيره، لأنها لا تنصب إلا بحضرة جماعة من أهل المعرفة بالأدلة فإن لم يعلم أنها لهم فلا التفات إليها قال الموفق والشارح: إذا علم قبلتهم كالنصارى في كنائسهم على أنها مستقبلة للشرق أي يستدل بها على القبلة.

([40]) لا يؤثر والاستدلال بالنجوم أصح أدلتها قال تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} وقال: {لِتَهْتَدُوا بِهَا} والقطب بثليث القاف حكاه ابن سيده وغيره.

([41]) لا يراه إلا حديد البصر في غير ليالي القمر، لكن يستدل عليه بالجدي والفرقدين.

([42]) أي فراشة الطاحون الذي يديره الماء أو غيره، فيدير هو الرحى فتدور هذه الفراشة حول القطب، دوران فراشة الرحى حول سفودها، في كل يوم وليلة دورة، فيكون الفرقدان، عند طلوع الشمس مثلا في مكان جهته عند غروبها، والقطب في مكانه، لا يبرح مكانه وقيل قليلا.

([43]) نجم نير وهو غير جدي البرج، ويعرف بجدي القطب وجدي الفرقدين تعرف به القبلة.

([44]) وبين الجدي والفرقدين أنجم صغار منقوشة، ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور أيضا دوران فراشة الرحى حول سفودها، كل يوم وليلة دورة، والفرقدان جاء مثنى ومفردا لقرب اتصالهما، وعلى القطب تدور بنات نعش وغيرها من الأنجم الشمالية.

([45]) والعراق وسائر الجزيرة، وما حاذى ذلك، وذكره في الحاوي وغيره فلا تتفاوت إلا يسيرا معفوا عنه، وقال الشيخ: إذا جعل الشامي القطب بين أذنه اليسرى ونقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشامي والميزاب، والعراقي إذا جعل القطب بين أذنه اليمنى ونقرة القفا فقد استقبل قبلته اهـ وقيل: ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلا، وكلما قرب إلى المغرب كان انحرافه أكثر، وينحرف بالعراق وما قاربها إلى المغرب قليلا، وكلما قرب إلى المشرق كان انحرافه أكثر، وكذا في سائر الجهات.

([46]) وما والاها قال بعضهم:

وعكسه الشام وخلف الأذن
من واجه القطب بأرض اليمن
قد صححوا استقبالها في العمر
بمنى عراق ثم يسرى مصر

([47]) وما يقترن بمنازل الشمس والقمر، أو ما يقاربها، والشمس تقارب الجنوب شتاء، والشمال صيفا، والقمر كل شهر.

([48]) على يسرة المصلي في البلاد الشمالية، ويمنته في البلاد الجنوبية.

([49]) على اليمنة في الشامية، واليسرة في اليمنية لكن الشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب اختلاف منازلها، فتطلع قرب الجنوب شتاء، وقرب الصبا صيفـا، والقمر يبـدو أول ليــلة هلالا في المغرب، عـن يمين المصلي من أهل المشرق، ثم يتأخر كل ليلة منزلة حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة المصلي منهم، مائلا عنها قليلا إلى المغرب، ثم يطلع ليلة الأربع عشرة من المشرق قبل غروب الشمس بدرا، وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي من أهل المشرق، أو قريبا منها وقت
الفجر، وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق وتختلف مطالعه بحسب اختلاف منازله، ومنازله ثمانية وعشرون، أربعة عشر شامية، وأربعة عشر يمانية، فالشامية، الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعـة، الـذراع، النثـرة، الطرف، الجبهـة، الـزبرة، الصـرفة، العـواء، السماك، واليمانية، الغفر، الزبانا، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح،سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخر، بطن الحوت، فالقمر ينزل في كل ليلة واحدا منها، والشمس ثلاثة عشر يوما.

([50]) وذهب إلى وجوبه على المسافر طائفة، قال في شرح الهداية: وهو متجه، ويحتمل أن لا يجب فإن التباس جهة القبلة مما يندر، والمكلف إنما يتعين عليه ما يعم مسيس الحاجة إليه، لا ما يندر.

([51]) أي تعلم أدلة القبلة، لأن الواجب لا يتم إلا به مع قصر زمنه، قال في شرح الهداية، إذا أمكنه وجب، قولا واحدا، وقاله الزركشي، وغيره لقصر زمنه، وهو فرض عين لسفر، فكل فرد مخاطب بالتعلم حيث كان أهلا له.

([52]) عن تعلم أدلة القبلة، لأن القبلة يجوز تركها للضرورة إلا مع سعته وفاقا، وإلا فلا، اختاره جمع من الأصحاب وغيرهم، منهم الشيخ تقي الدين، وأصل التقليد في اللغة وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به، وسمي ذلك قلادة وهو في عرف الفقهاء: قبول قول الغير من غير حجة، أخذا من هذا المعنى.

([53]) أي وإن اجتهد مجتهدان في جهة القبلة، فاختلفا جهة بأن ظهرت لأحدهما جهة غير الجهة التي ظهرت للآخر لم يتبع مجتهد ظهرت له جهة القبلة مجتهدا آخر ظهر له أن جهة القبلة إلى غير جهة صاحبه، إن كان أعلم منه بحيث ينحرف إلى جهته لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر، كالعالمين يختلفان في حادثة، والمجتهد هنا هو العالم بأدلة القبلة، وإن جهل أحكام الشرع، لأن كل من علم أدلة شيء كان مجتهدا فيه، لأنه يتمكن من استقبالها بدليله.

([54]) وفاقا أي لا يأتم مجتهد بمجتهد خالفه جهة، كما لو خرج ريح من اثنين واعتقد كل منهما أنها من الآخر وتقدم، فإن مال أحدهما يمينا والآخر شمالا مع اتفاقهما في الجهة صح ائتمام أحدهما بالآخر، قولا واحدا.

([55]) في القبلة فلم يجز الائتمام به، وذلك فيما إذا كان اختلافهما في جهتين قال في المغني: وقياس المذهب جواز ذلك، وذكره الشيخ: وصححه الشارح وحكاه في الفائق قولا.

([56]) أي أعلمهما عند المقلد في أدلة القبلة بالدلائل، وإن كان جاهلا في الأحكام، والمقلد هنا من لا تمكنه الصلاة باجتهاد نفسه، لعدم بصره أو بصيرته، قال ابن القيم: يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه، وهو أرجح المذاهب السبعة، وقال في الروضة: يأخذ بالأفضل في دينه وعلمه، وفي الفروع وغيره: لا يجب على جاهل وأعمى تقليد الأوثق، وقدمه في التبصرة وفاقا،كعامي في القياس على الأصح وفاقا.

([57]) فيتبع أيهما شاء، جزم به الشيخ، وذكره القاضي محل وفاق، وصححه غير واحد، وفي الإنصاف، إن كان في جهة خير، وفي جهتين فالصحيح يخير، وعليه الجمهور، وإن أمكن أعمى اجتهاد بنهر كبير أو ريح أو جبل لزمه ولم يقلد.

([58]) لأنه دخل فيها على ظاهر فلا يزول إلا بمثله.

([59]) قضى لأنه قدر على شرط من شروط الصلاة فلم تصح بدونه.

([60]) أو ظن جهة باجتهاده قضى، وفاقا لمالك والشافعي، وإن صلى باجتهاد أو تقليد فبان أنه أخطأ فلا إعادة عليه إجماعا، لحديث عامر بن ربيعة وغيره، وقصة أهل قباء، إلا في أحد قولي الشافعي، والحاصل أن المراتب أربع: الأولى المعاينة، والثانية المخبر عن علم، والثالثة الاجتهاد، والرابعة التقليد، فلا ينتقل للمتأخرة حتى يعجز عن التي قبلها.

([61]) ولو أخطآ لأنهما أتيا بما أمرا به على وجهه.

([62]) مما يدل على القبلة، كأن يعلم أن باب المسجد إلى الشمال.

([63]) أي البصير المخطئ ولو اجتهد، والأعمى، لأنه كالبصير في الحضر لقدرته على الاستدلال ولو لم يخطئ القبلة، لأن الحضر ليس بمحل للاجتهاد، لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها، ولأنه يجد من يخبره عن يقين غالبا، وعنه لا يعيد البصير إن كان عن اجتهاد، واحتج أحمد بقصة أهل قباء، وكذا الأعمى، لكن يلزمه التحري، فإن لم يجتهد البصير ولم يتحر الأعمى وصليا أعادا إن أخطآ قولا واحدا، حكاه في الإنصاف وغيره.

([64]) كالحاكم إذا اجتهد في حادثة ثم حدث مثلها.

([65]) أي لأن كل صلاة واقعة أي حاصلة متجددة بدخول وقتها، فتستدعي أي تستلزم طلبا أي اجتهادا جديدا مرة بعد أخرى

([66]) فيستدير إلى الجهة التي ظهرت له، ويبني على ما مضى من الصلاة، نقله الجماعة،وفاقا لأبي حنيفة، وهو الأصح عند الشافعية، كأهل قباء لما أخبروا بتحويل القبلة استداروا إليها وبنوا، وإن شك لم يزل عن جهته.

([67]) قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، فلو صلى الأربع الركعات إلى أربع جهات كلما بداله جهة توجه إليها صحت صلاته، وليس هذا نقضا للاجتهاد وإنما هو عمل بكل من الاجتهادين، فلذلك بنى على صلاته ولم يعد ما فعله بالاجتهاد الأول، ولقضية عمر في مسألة المشركة، وقال: تلك على ما قضينا، ولم يعلم له مخالف.

([68]) قال عثمان: وجملة ذلك أنه إذا دخل في الصلاة باجتهاد فإما أن يستمر اجتهاده إلىفراغها، أو يعرض له شك،ويستمر الشك إلى فراغها، أو يزول الشك ويبقى ظن الصواب، أو بالعكس، بأن يظن الخطأ ويظهر له جهة أخرى فينتقل إليها، ويبني فصلاته صحيحة في الصور الأربع كلها، وإما أن يظن الخطأ من غير أن يظهر له جهة يتوجه إليها فتبطل صلاته.

([69]) أي أخبره ثقة بالخطأ كأن يقول: رأيت الشمس ونحوها، وتيقنت خطأك، لزمه قبول خبره، ويترك الاجتهاد أو التقليد، كما لو أخبره قبلهما، وإن لم يكن عن يقين لم يجز قبوله.

([70]) بفتح السين أي على قدر طاقته، وذلك بأن تعادلت عنده الأمارات، أو منع من الاجتهاد، ونحو ذلك، أو تعذر عليه الاجتهاد، لرمد ونحوه، ولا إعادة عليه، لأنه أتى بما أمر به وتحرى، فأجزأته وإن لم يصب وفاقا.


  #5  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 05:39 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي الشرح الممتع للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ القِبْلَةِ .........
قوله: «ومنها استقبال القِبلة» ، أي: من شروط الصَّلاة استقبال القبلة، والمراد بالقِبلة الكعبة، وسُمِّيَت قِبْلة؛ لأن النَّاس يستقبلونها بوجوههم ويؤمُّونها ويقصدونها، وهو من شروط الصَّلاة بدلالة الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] .
وأما السُّنَّة: فكثيرة؛ منها: قوله صلّى الله عليه وسلّم للمسيء في صلاته: «إذا قمت إلى الصَّلاة فأسبغ الوُضُوء، ثم استقبل القِبْلة فكبِّر».
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب استقبال القِبْلَة في الصَّلاة.
والحكمة من ذلك هي: أن يتَّجه الإنسان ببدنه إلى مُعَظَّمٍ بأمر الله وهو البيت، كما يتَّجه بقلبه إلى ربِّه في السَّماء، فهنا اتجاهان: اتجاهٌ قلبي واتجاهٌ بدني، الاتجاه القلبي إلى الله عزّ وجل، والاتجاه البدني إلى بيته الذي أُمِرَ بالاتِّجاه إليه وتعظيمه، ولا ريب أنَّ في إيجاب استقبال القِبْلة من مظهر اجتماع الأمَّة الإسلامية ما لا يخفى على الناس، لولا هذا لكان النَّاس يُصلُّون في مسجد واحد، أحدهم يُصلِّي إلى الجنوب، والثاني إلى الشمال، والثالث إلى الشرق، والرابع إلى الغرب، وقد تتعذَّر الصفوف في الجماعة، لكن إذا كانوا إلى اتجاه واحد صار ذلك من أكبر أسباب الائتلاف.
وكان الرّسول عليه الصَّلاة والسَّلام يُصلِّي إلى بيت المقدس، ولكن الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فيكون مقامه في صلاته، بين الرُّكن اليماني والحَجَر الأسود؛ لتكون الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ولما هاجر إلى المدينة بقيَ بأمر الله عزّ وجل يُصلِّي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً وبعض السَّابع عشر، ثم بعد ذلك أُمِرَ بالتَّوجه إلى الكعبة.

فَلاَ تَصِحُّ بِدُونِه إِلاَّ لِعَاجِزٍ وَمُتَنَفِّلٍ رَاكبٍ سَائِرٍ في سَفَرٍ .........
قوله: «فَلاَ تَصِحُّ بِدُونِه» ، أي: لا تصحُّ الصلاة بدون استقبال القِبلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، ولأن استقبال القبلة شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط، فلا تصحُّ الصَّلاة بدونه لهذه العِلَّة.
قوله: «إلا لعاجز» ، أي: لعاجز عن استقبال القبلة فيسقط عنه وجوب الاستقبال، وقد استثنى المؤلِّف مسألتين:
الأولى: العاجز؛ تصحُّ صلاته بدون استقبال القِبلة، وله أمثلة منها: أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة، وليس عنده أحد يوجِّهه إلى القبلة، فهنا يتَّجه حيث كان وجهه؛ لأنَّه عاجز.
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] . وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
ومن القواعد المقرَّرة عند أهل العلم المأخوذة من نصوص الكتاب والسُّنة: أنه لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة.
ومن الأمثلة: حال اشتداد الحرب، فيسقط استقبال القِبْلة، مثل لو كانت الحرب فيها كَرٌّ وفَرٌّ؛ فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة في هذه الحال.
ومنها: لو هرب الإنسان من عدوٍ، أو من سيل، أو من حريق، أو من زلازل، أو ما أشبه ذلك، فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة.
قوله: «ومتنفِّلٍ راكبٍ سَائرٍ في سَفَرٍ» ، هذه هي المسألة الثَّانية، «المتنفِّل» أي: المصلِّي نافلة إذا كان راكباً، واشترط المؤلِّف شرطين:
أحدهما: أن يكون سائراً.
الثاني: أن يكون في سفرٍ.
فأمَّا الماشي فسيأتي حكمُه.
وعُلِمَ من كلامه أن النَّازل في السَّفر يلزمه استقبال القِبْلة، وأنَّ السَّائر في الحضر يلزمه استقبال القِبْلة.
فإذا قال قائل: هذا استثناء من عموم نصوص الكتاب والسُّنَّة، فقد قال الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] . وهذا عموم من أقوى العمومات، فإنَّ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} جملة شرطيَّة من أقوى العمومات؛ فما الذي أخرج هذه الحال من هذا العموم؟
فالجواب: أخرجتها السُّنَّة؛ بفعل الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، فقد ثبت في «الصَّحيحين» وغيرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي النَّافلة على راحلته حيثما توجَّهتْ به، غير أنَّه لا يُصلِّي عليها المكتوبة، فهذه السُّنَّة خصَّصت عموم الآيات والحديث.
فإن قال قائل: أفلا يُمكن أن يكون هذا قبل وجوب استقبال القِبْلة؟
قلنا: لا يمكن؛ لأنَّ الصحابة استثنوا الفرائض، فدلَّ هذا على أنَّه بعد وجوب استقبال القِبْلة.
فإذا قال قائل: ما نوع هذا التَّخصيص؟ قلنا: هذا في الحقيقة من غرائب التَّخصيصات؛ لأنه قرآنٌ خُصَّ بسُنَّةٍ، وقولٌ خُصَّ بفعلٍ، يعني: لم يقل الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم: من تنفَّلَ في السَّفر فلا يستقبل. ومعلومٌ أن تخصيص قول بفعلٍ، أضعف من تخصيص قول بقول؛ لاحتمال الخصوصية، ولاحتمال العُذر، بخلاف القول.
وأيضاً: تخصيص القرآن بالسُّنَّة أضعف من تخصيص القرآن بالقرآن.
ولكن نقول: إن السُّنَّة تكون من الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر الله الصَّريح؛ أو بأمره الحُكمي الذي يُقِرُّ الله سبحانه وتعالى فيه نبيَّه على ما قالَ أو على ما فعلَ، ولهذا إذا فعل الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام شيئاً لا يُقِرُّهُ الله عليه بَيَّنَه، كما قال الله تعالى له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ *} [التوبة] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، وقال عزّ وجل: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] .
فإذاً؛ نقول: إن فعل الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام في تَرْكِ استقبال القِبْلة في التنفُّل في السَّفر كان بأمر الله الحُكمي؛ لأنه أقرَّه، فيكون ما جاءت به السُّنَّة كالذي جاء به القرآن تماماً في أنه حُجَّة.
فإن قيل: هل تجوز الفريضة للرَّاكب السَّائر في السَّفر بدون استقبال القِبْلة؟
فالجواب: لا؛ إلا في الحال التي يتعذَّر فيها استقبال القِبْلة.
فإن قيل: إذا كان المسافرُ نازلاً في مكان، فهل يجوز أن يتنفَّل إلى غير القبلة؟
فالجواب: لا؛ لأنَّ تخصيص العام يُقتصر فيه على الصُّورة التي وقع فيها التَّخصيص فقط.
فإن قيل: إذا كان الإنسانُ في بلده، لكن البلد متباعد الأحياء؛ فهل له أن يتنفَّل في هذه الحال إلى جهة سيره؟
فالجواب: ليس له ذلك؛ لأنه غير مسافر.
ولو قال قائل: رجل في مَكَّة يتنقَّل في سيارته، هل يجوز له أن يتنفَّل عليها غير مستقبل القبلة أو لا؟
فالجواب: إن كان من أهل مَكَّة فلا يجوز، وإن كان من غيرهم فيجوز، إذاً؛ لو ذهبت إلى مَكَّة في العُمرة، وصرت تتنقَّل من المسجد الحرام إلى بيتك على السيَّارة جاز؛ ولو كانت الكعبة خلف ظهرك؛ لأنَّك مسافر، هذا هو الظَّاهر من عمومات الأدلَّة، وفيه شيء من البحث والنَّظر.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يجوز أن يتنفَّلَ على راحلته، ولو كان السَّفر قصيراً؛ فإذا خَرجتَ من البلد؛ ولو إلى بلد قريب منك لا يُعَدُّ الخروج إليه سفراً تُقصر فيه الصلاة؛ جاز لك التنفُّل على الرَّاحلة غير مستقبل القِبْلة للعموم، ولكن بعض الأصحاب رحمهم الله قالوا: لا يجوز التنفُّل على الرَّاحلة إلا في سفر يقصر فيه، فإن كان لا يقصر فيه فإنه لا يجوز.

ويَلْزَمُهُ افتِتاحُ الصَّلاةِ إليها .........
قوله: «ويلزمه افتتاحُ الصَّلاةِ إليها» ، «يلزمه»، أي: الرَّاكب «افتتاح الصَّلاة إليها»، أي: إلى الكعبة، ثم بعد ذلك يكون حيث كان وجهه.
ودليل هذا: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود وغيره أنَّ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سافر؛ فأراد أن يتطوَّع؛ استقبل بناقته القِبْلة؛ فكبَّر، ثم صَلَّى حيث وجَّهه رِكابُه. قالوا: فهذا دليل على أنه يجب افتتاح الصَّلاة إلى القِبْلة، لأن تكلُّفَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاناته لإيقاف البعير واتجاهه إلى القِبْلة وقطع المسير يدلُّ على أنه أمر واجب.
وقال بعض أهل العلم: إنه ليس بواجبٍ . وأجابوا عن هذا الحديث بأمرين:
أولاً: أنَّه ليس إلى ذاك في الصِّحَّة، وغاية ما قيل فيه: إنه حسن.
والثاني: أنه فعل، ومجرد الفعل لا يدلُّ على الوجوب. وحديث ابن عمر وغيره من الأحاديث عامة: «أنَّه كان يُصلِّي حيث كان وجهه». وظاهرها أنه من ابتداء الصلاة إلى انتهائها.
وعليه فنقول: إن الصَّحيح في هذه المسألة أن الأفضل أن يبتدئ الصَّلاة متَّجهاً إلى القِبْلة، ثم يتَّجه حيث كان وجهه، أمَّا أن يكون واجباً بمقتضى هذا الدَّليل المُعَارِضِ للأدلَّة التي هي أصحُّ منه ففي النَّفس منه شيء.

وماشٍ وَيَلْزَمُهُ الافْتِتَاحُ والرُّكُوعُ والسّجُود إلَيْهَا ..........
قوله: «وماشٍ» ، هذا معطوف على قوله: «راكب»، يعني: ولمتنفِّلٍ ماشٍ، يعني: يمشي على قدميه. فيجوز للإنسان المسافر إذا كان يمشي على قدميه؛ أن يكون اتِّجاهُه حيث كان وجهه في صلاة النَّفل، ويسقط عنه استقبال القبلة.
قوله: «وَيَلْزَمُهُ الافْتِتَاحُ والرُّكُوعُ والسّجُودُ إلَيْهَا» ، «يلزمه» أي: الماشي. «الافتتاح» أي: إلى القِبْلة؛ لأنه إذا لزم الرَّاكب مع معاناةِ صَرْفِ المركوب؛ فلزُومُه في حقِّ الماشي من باب أَولى؛ لأنَّ انصراف الماشي إلى القِبْلة أسهل من انصراف مركوبِهِ لو كان راكباً.
وكذلك يلزمه الرُّكوع والسُّجود إليها أيضاً، أما الرَّاكب فلا يلزمه رُكوع ولا سجود، وإنما يومئ إيماء فيختلف الماشي عن الرَّاكب في أمرين:
الأول: أنه يلزمه الرُّكوع والسُّجود، والرَّاكب يكفيه الإيماء.
الثَّاني: أنه يجب أن يكون الرُّكوع والسُّجود إلى القبلة بخلاف الرَّاكب، والعِلَّة في ذلك قالوا: لأن هذا سهل على الماشي، أما الراكب فلا يتحقَّقُ له الرُّكوع والسُّجود إلى القِبْلة إلا إذا نزل، ونزوله من مركوبه فيه صعوبة ومشقَّة.
ولكن الصَّحيح: أننا إن جوَّزنا للماشي التَّنفُّل فإنه لا يلزمه الرُّكوع والسُّجود إلى القِبْلة؛ لأنَّ في ذلك مشقَّة عليه؛ لأنه يستلزم الوقوف للرُّكوع والسجود والجلوس بين السَّجدتين، وهذا يعيقُه بلا شَكٍّ، لكن لو قلنا يومئُ إيماء؛ أمكنه أن يومئ وهو ماشٍ في ركوعه وسجوده، فحكمه حكم الرَّاكب في أنه يلزمه الافتتاح فقط؛ لأن الافتتاح مدَّتُه وجيزة والانحراف إلى القِبْلة فيه سهل فلا يضرُّه.
وقولنا: إن جوَّزنا للماشي التَّنفُّل، فيه إشارة إلى أنَّ في المسألة خلافاً، فإن من العلماء من يقول: إن المسافر الماشي لا يجوز أن يتنفَّل حال مشيه، لأنَّ الماشي سوف يعمل أعمالاً كثيرة بالمشي، والرَّاكب ساكن لا يعمل، فلا يُلحق هذا بهذا.
ولأن تنفُّل المسافر الرَّاكب على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل فهو خارجٌ عن الأصل، ولا يُقاس عليه.
ولكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن القول الرَّاجح: ما قاله المؤلِّف في إلحاق الماشي بالرَّاكب، لأن العِلَّة في جواز التنفُّل على الرَّاحلة بدون عُذْر هو حمل الإنسان وتشجيعه على كثرة النَّوافل، وهذا حاصل للمسافر الماشي، كما هو حاصل للمسافر الرَّاكب.
وقولهم: إن هذا خلافُ الأصل، وما كان خلافَ الأصل فلا يُقاس عليه، نقول في جوابه: ما خرج عن الأصل لعِلَّة معقولة فلا مانع من أن يُقاس عليه؛ لأنَّ القاعدة العامَّة في هذه الشَّريعة: «أنها لا تُفرِّقُ بين متماثلين، ولا تجمع بين متفرِّقين». فإذا علمنا أنَّ الشَّارع إنما رَخَّص في الصَّلاة حيث كان وجهه على بعيره من أجل أن يحمل النَّاسَ على كَثْرَة النَّوافل ولا يحرمهم، نقول: هذا أيضاً في الماشي. وكثيرٌ من النَّاس المسافرين لا يجدون مركوباً فتجدهم يمشون مع الرُّكبان على أقدامهم من بلادهم، إلى أن يرجعوا إلى بلادهم، وهذا شيء معلوم يعرفه النَّاس من قَبْلُ لمَّا كانوا يسافرون على الإبل.
لكن ماذا يستقبل؟ بيَّنت السُّنَّة أنَّ قِبْلَتَهُ جهةُ سيره، فلا بُدَّ أن يكون متَّجهاً إمَّا إلى القِبْلة، وإما إلى جهة سيره، فلو حَرَفَ البعيرَ عن جهة سيره إلى جهة القِبْلة صَحَّ؛ لأنَّها الأصل، ولو حَرَفَها عن جهة سيره لغير القِبلة فقد قال العلماء: لا يجوز، لأنَّه خرج عن استقبال القِبْلة؛ وخرج عن استقبال جهة سيره التي أباح الشَّارع أن تكون قِبْلته من أجل تسهيل سيره، فإذا عدل بها عن جهة سيره فإنها تبطل.
أما إذا عَدَلت به الدَّابة؛ فقال بعض أهل العلم: إن طال الفصل بطلت صلاته، وإن لم يطلْ لم تبطل صلاته.
والصَّحيح: أنه إذا عَجَزَ عن ردِّها لم تبطل مطلقاً، لأنه يدخل في العاجز عن استقبال القِبْلة، ولو طال الفصلُ.

وَفَرْضُ مَنْ قَرُبَ مِنْ القِبْلَةِ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، وَمنْ بَعُدَ جِهَتُها
قوله: «وفَرْضُ من قَرُبَ من القِبْلَة إصابَةُ عينها، ومَنْ بَعُدَ جهتُها» .
بيَّنَ المؤلِّف رحمه الله كيف يكون استقبال القِبْلة، وذَكَرَ أنه على وجهين:
الوجه الأول: أنه يلزمُه استقبالُ عينِ الكعبة.
والوجه الثاني: أنه يلزمُه استقبالُ جهةِ الكعبة.
فالأول إذا كان قريباً من الكعبة؛ وهو الذي يمكنه مشاهدتها.
والثاني إذا كان بعيداً عنها أو قريباً لا يمكنه المشاهدة.
وظاهر كلامهم: أنَّ المراد الإمكان الحسيّ، وأنه إذا أمكنه المشاهدة حِسًّا وجب عليه إصابةُ العين، وإن كان لا يمكن شرعاً، وعلى هذا؛ فمن كان في صحن المسجد، فاستقبالُ عين الكعبة عليه فرض، وهذا سهل.
ومَنْ كان في السَّطح الأعلى أو الأوسط فهذا قد تكون إصابة عين الكعبة سهلة عليه، وقد تكون صعبة، فإذا كانت الصُّفوف متراصَّة أو أمامه أعمدة تمنعه من مشاهدة الكعبة، فهنا قد لا يستطيع الرُّؤية، ولا يستطيع أن يتحوَّل عن مكانه، لأنَّ الصُّفوف متراصَّة والتَّعذُّر هنا شرعي.
وظاهر كلامهم: أنها لا تصحُّ صلاته حتى يكون مصيباً للعين، وإذا أخذنا بهذا الرَّأي فإن كثيراً من الذين يصلُّون في المسجد الحرام لا تصحُّ صلاتهم؛ لأنَّ كثيراً منهم نشاهدهم بأعيننا لا يصيبون عينَ الكعبة، يتَّجهون إلى جهتها ولا يُصيبون عينها، فتجد الصَّفَّ مستطيلاً، وبعضهم يتَّجه عن يمين الكعبة، وبعضهم عن يسار الكعبة، وبعضهم يتَّجه إلى الكعبة تماماً، وهذه المسألة مشكلة باعتبار أن الإنسان إذا كان بآخر الصفوف لا يتمكَّن من مشاهدة الكعبة قطعاً، ولا يقول: إنه أصاب عينها، وأحياناً يرى الظُّلْمَة والسَّواد ويقول: هذا عينُ الكَّعبة، ثم يُصلِّي، وإذا سَلَّم يجد الكعبة عن يمينه أو عن يساره، وهذا كثير.
ولكنِّي ما رأيت أحداً من أهل العلم قال: إنَّ مَنْ كان بداخل المسجد فإن فرضه استقبال الجهة إلا قولاً في «سُبُل السَّلام شرح بلوغ المرام» لم يعزُه لأحد، ولكنَّه قاله تَفَقُّهاً من عنده، وإذا لم يكن أحد قال به قَبْله فهو غير مُسَلَّم؛ لأن المعروف من كلام أهل العلم قاطبة أنه من كان يمكنه مشاهدتها ففرضُه إصابةُ العين.
ويجب أن يصيبَ عينَ الكعبة بكلِّ بدنه، فلو فُرِضَ أن جانبَ الوجه الأيمن مساوٍ للكعبة؛ والجانبَ الأيسر خارج عن الكعبة؛ لم تصحَّ صلاته، فلا بُدَّ أن يكون اتجاهُه كلُّه إلى عين الكعبة، وذلك لأنَّه أمكن الاتجاه عن يقين، فوجب عليه، ولأنَّ الأصل وجوب الاستقبال إلى البيت الذي هو البناء وليس إلى المسجد كلِّه، وإلا لصحَّ أن نقول: إن الذي يصلِّي إلى الجانب الجنوبي منه مثلاً له أن يستقبل الجانب الشمالي منه، ولو كانت الكعبة عن يمينه أو عن يساره، ولا أحد يقول بهذا، فالمقصود الأول هو عينُ الكعبة، فإذا أمكن وجب.
وقوله: «ومَنْ بَعُدَ جهتُها»، أي: من بَعُدَ عن الكعبة بحيث لا يمكنه المشاهدة؛ فيجب عليه إصابةُ الجهة، والجهة حدَّدها النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تستقبلوا القِبْلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبرُوها، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا». لمَّا قال: «شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا» يريد بذلك عكس القِبْلة، وعلى هذا فيكون ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة كلُّه قِبْلة، فالجنوب كلُّه قِبْلة لهم، ليس قِبْلتهم ما سامت الكعبةَ فقط، وبهذا نعرف أنَّ الأمر واسع، فلو رأينا شخصاً يُصلِّي منحرفاً يسيراً عن مُسامَتَةِ القِبْلة، فإن ذلك لا يضرُّ، لأنَّه متَّجه إلى الجهة وهذا فرضه.
وجهة القِبْلة لمن كانوا شمالاً عن الكعبة ما بين الشَّرق والغرب، ولمن كانوا شرقاً عن الكعبة ما بين الشَّمال والجنوب. ولمن كانوا غرباً ما بين الشَّمال والجنوب، ولمن كانوا جنوباً عن الكعبة ما بين الشرق والغرب، فالجهات إذاً أربع، وهذا مقتضى حديث أبي أيوب.
واعلمْ أنه كلَّما قَرُبتَ من الكعبة صَغُرت الجهة، فإذا صِرتَ تحت جدار الكعبة تكون الجهة بقَدْر بدنك فقط، أي: لو انحرفت أقلَّ انحراف عن الكعبة، إما عن يسارك أو عن يمينك بطلت.

أَخْبَرَه ثِقَةٌ بِيَقِينٍ، ..........
قوله: «فَإنْ أَخْبَرَه ثِقَةٌ بِيَقِينٍ» ، شرع المؤلِّف في بيان ما يُستدلُّ به على القِبْلة. فذكر أشياء:
الأول: خبرُ ثقة؛ لكن عن يقين، فلو أخبره ثقة بيقين ـ رَجُل أو امرأة ـ أن هذه هي القِبْلة، لَزِم الأخذ بقوله.
والثقة: تستلزم العدالة والخبرة، فإن لم يكن عدلاً فليس بثقة؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فأوجب الله سبحانه وتعالى أن نَتَبَيَّن، وأن نتثبَّت في خبر الفاسق، ولم يوجب ردَّه مطلقاً؛ ولا قَبُوله مطلقاً، فإذا قال لنا إنسانٌ فاسقٌ: القِبْلة هنا، وإنْ كان ذا خبرة، فإننا لا نعمل بقوله؛ لأنه ليس بعدل، وكذلك إذا قال لنا إنسانٌ عدل ظاهراً وباطناً صاحب عبادة وزهد وورع: هذه هي القِبْلة، ولكنه ليس ذا خبرة، فإنَّنا لا نأخذ بقوله؛ لعدم الثِّقة بقوله؛ لكونه ليس ذا خبرة.
وأفاد المؤلِّف بقوله: «فإن أخبره ثقة» أنه لا يُشترط التَّعدد، يعني: لا يُشترط أنه يخبره ثقتان، وهذا بخلاف الشَّهادة؛ لأن هذا خبر ديني فاكتُفيَ فيه بقول الواحد، كما نعمل بقول المؤذِّن بدخول الوقت.
وأفادنا أيضاً بقوله: «ثقة» أنه لو كان المخبر امرأة يُوثق بقولها؛ لكونها عدلاً وذات خِبرة، فإننا نأخذ بقولها.
والعِلَّة: أن هذا خبر ديني فيُقبل فيه خبر المرأة كالرِّوَاية، فإنَّا نقبل فيها قول المرأة إذا كانت عدلاً حافظة.
وقول المؤلِّف: «بيقين»، أي: بأن أخبره عن مشاهدة، وأفادنا أنَّه لو أخبره الثقة عن اجتهاد، فإنه لا يعمل بقوله، مثل: جماعة في سفر، كلُّهم لا يعرفون القِبْلة، ولا يستطيعون الاجتهاد إلى جهتها، لكن واحداً منهم يعرف ذلك عن اجتهاد، فظاهر كلام المؤلف أننا لا نأخذ بقوله، ولكن هذا فيه نظر.
والصَّواب: أنه لو أخبره ثقة سواءٌ أخبره عن يقين أم عن اجتهاد، فإنه يعمل بقوله كما نعمل بقول الثِّقة بالاجتهاد في مسائل الدِّين؛ الحلال والحرام والواجب، فكيف لا نعمل به في إخباره بالقِبْلة؟

أَوْ وَجَدَ مَحَارِيْبَ إِسْلامِيّةً ..........
قوله: «أو وَجَدَ محاريبَ إسلاميَّة» ، هذا هو الثاني مما يُستدلُّ به على القِبْلة: المحاريب الإسلامية، فإذا وجد محاريبَ إسلاميَّة فإنه يعمل بها؛ لأن الغالب بل اليقين أن لا تُبنى إلا إلى جهة القِبْلة. والمحاريب: جمعُ مِحْرَاب، وهو طَاقُ القِبْلة الذي يقف نحوه الإمام في الجماعة.
وقوله: «محاريب إسلامية»، يُفهم منه أن المسلمين لا زالوا يستعملون المحاريب، وأن لهم محاريبَ خاصَّة تتميَّز عن محاريب النَّصارى وغيرهم، وهو كذلك.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في اتِّخاذ المِحراب؛ هل هو سُنَّة؛ أم مستحبٌّ؛ أم مباح؟ والصَّحيح أنَّه مستحبٌّ، أي: لم تَرِدْ به السُّنَّة، لكن النُّصوص الشَّرعيَّة تدلُّ على استحبابه؛ لما فيه من المصالح الكثيرة، ومنها بيان القِبْلة للجاهل.
وأما ما رُويَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام من النَّهي عن مذابح كمذابح النَّصارى أي: المحاريب، فهذا النَّهيُ فيما إذا اتُّخِذَت محاريب كمحاريب النَّصارى، أما إذا اتُّخِذت محاريب متميّزة للمسلمين، فإن هذا لا نهي عنه.
وعُلِمَ من كلامه: أنه لو وجد محاريبَ غير إسلاميَّة لم يَعملْ بها؛ لأنه لا يُوثق ببنائهم، كما أنه لا يُوثق بكلامهم في مسائل الدِّين، وإلا فيُمكن أن يُقال: إنَّ المعروف عند غير المسلمين من أهل الكتاب أنهم يتَّجهون إلى بيت المقدس، فإذا وجدنا محاريبَ لهم متَّجهة إلى بيت المقدس، ونحن مثلاً في جهة بين بيت المقدس وبين الكعبة فإننا نعرف أن القِبْلة في استدبار محاريبهم، ولكننا لا نثق بمحاريبهم؛ لأننا نخشى أن يكونوا قد بدَّلُوا أو غيَّروا، فلهذا قيَّدَ المؤلِّف هذا بقوله: «أو وَجَدَ محاريبَ إسلاميَّة».
قال في «الرَّوض»: «لأنَّ اتفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها، فلا تجوز مخالفتُها حيثُ عَلِمَهَا للمسلمين».

وَيُسْتَدلُّ عَلَيْهَا في السَّفَرِ بالقُطْبِ ..........
قوله: «ويُستدلُّ عليها في السَّفرِ بالقُطْبِ» ، هذا هو الثَّالث مما يُستدلُّ به على القِبْلة: القُطْب؛ وهذا دليل آفاقي، أي: دليل على الأُفق. والقُطْبُ: هو الشيء الذي تدور عليه الأشياء، وهو أصل الشيء، وهو نجم خفيٌّ جداً من جهة الشَّمال الشَّرقي بالنسبة لنا في «القصيم»، قال العلماء: لا يراه إلا حديد البَصَر في غير ليالي القمر، إذا كانت السماء صافية، لكن له جار بيِّنٌ واضح يُستدلُّ به عليه وهو «الجَدي»، فإن «الجَدي» قريب منه، ولهذا يظنُّ بعض النَّاس أن «الجدي»، ثابت لا يتغيَّر، وليس كذلك، بل «الجَدي» يتحرَّك يسيراً، لكن لقربه من القُطْبِ لا تتبيَّنُ حركته، أما القُطْب نفسه فلا يتغيَّر ولا يتحرَّك، كقُطْبِ الرَّحا، والرَّحا إذا دارت فيما كان حول قطبها فإن دورانها يَسيرٌ خفيٌّ جداً، وكلما قَرُبَ كان أخفى، والبعيد تكون دورته واسعة بَيِّنة، وهكذا النجوم على القُطْب، ما كان قريباً من القُطْب فدورته يسيرةٌ جداً؛ حتى إن بعض الناس يظنُّ أنَّه لا يدور، وما كان بعيداً فإنه يدور دوراناً كبيراً بيِّناً.
وأضربُ لكَ مثلاً ببنات نعش الكُبرى والصُّغرى، وهي سبعة نجوم كبيرة، وسبعة نجوم صغيرة. فبنات نعش الصُّغرى في أحد طرفيها «الجَدي»، وفي الآخر «الفَرقدان» اللذان قال فيهما الشاعر: «وفرقدا السَّماء لن يفترقا». وهي لا تغيب أبداً، نُشاهدُها وهي تدور، فأحياناً يكون «الفرقدان» في الجنوب و«الجَدي» في الشِّمال، وأحياناً يكون «الفرقدان» في الشمال و«الجَدي» في الجنوب لا يغيب، أما «بنات نعش الكُبرى» فإنها تغيب؛ لكن لا تكاد تمضي ساعة أو ساعة ونصف إلا وقد طلع أوَّلها من الشرق بعد أن يغيب آخرها من الغرب؛ لأن المسافة غير بعيدة.
والدَّليل على اعتبار النُّجوم دليلاً قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، فإن الله سبحانه وتعالى أطلق الاهتداء بالنَّجم، فالنَّجم يُهتدى به على الجهات لكلِّ غرض.

والشَّمْسِ والقَمَرِ ..........
قوله: «والشمس والقمر» ، هذا هو الرَّابع مما يستدلُّ به على القِبْلة؛ لأنَّ الشمس والقمر كلاهما يخرج من المشرق ويغرب من المغرب، فإذا كنت عن الكعبة غرباً فالقِبْلة شرقاً، وإذا كنت عن الكعبة شرقاً، فالقِبْلة غرباً، وإذا كنت عن الكعبة شمالاً فالقِبْلة جنوباً، وإذا كنت عن الكعبة جنوباً فالقِبْلة شمالاً، «وما بين المشرق والمغرب قِبْلة» كما قال النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام، وذلك لأهل المدينة ومن ضاهاهم.

وَمَنَازِلِهِمَا .........
قوله: «ومنازلهما» ، أي: منازل الشمس والقمر، يعني: منازل النجوم الصيفيَّة والشتوية، وهي ثمان وعشرون منزلة ينزلها القمر كلَّ ليلة له منزلة منها، وليلتان أو ليلة واحدة يكون مستتراً لا يُرى، ولهذا تُسمَّى ليلة التاسع والعشرين والثلاثين، أو الثامن والعشرين والتاسع والعشرين «ليالي الاستسرار»، أي: أنَّ القمر يستتر فيها ولا يُرى.
والثمان والعشرون منزلة هذه تنزلها الشمس على مدى سَنَة كاملة، أما القمر فيطوف بها خلال شهر، وفي السَّنَة اثنتي عشرة مَرَّة. أما الشمس فتطوف بها في السَّنَة مرَّة واحدة.
وكيف نستدلَّ بمنازلهما؟
الجواب: ننظر مثلاً إلى النجوم الشَّمالية التي تقسم المشرق نصفين والمغرب نصفين. والنُّجوم الجنوبية التي تقسم المشرق نصفين والمغرب نصفين. فالجنوبية من جهة الجنوب، والشمالية من جهة الشمال، لكن هذه لا يعرفها إلا من تَمَرَّسَ وكان في البَرِّ، وليس حوله أنوار كهرباء بحيث يعرف هذه النُّجوم، والذين يعرفونها يستطيعون أن يحكموا على الليل والنهار بالسَّاعات، بل بأقلَّ من السَّاعات، فيقولون: الآن ذهب من الليل نصفُه، ذهب رُبعُه، ذهب ثُمنُه، ذهب عُشرهُ، ويستدلُّون على ذلك بهذه المنازل.
وقال بعضُ العلماء: يُستدلُّ أيضاً بالجبال الكِبَار.
وقال بعضهم: يُستدلُّ بالأنهار ومصابِّها .
وقال بعضهم: يُستدلُّ بالرِّياح .
لكن هذه الثلاثة دلالتها خفيَّة، ولهذا أغفلها المؤلِّف رحمه الله ولم يذكرها، فإن من النَّاس من يكون عنده قوَّة إحساس؛ بحيث يقول لك: الهواءُ جنوبي، الهواءُ شرقي، الهواءُ غربي ـ ولو كان أعمى ـ، ويَستدلُّ بالرِّياح على الجهات.
وفي زمننا هذا أنْعَمَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بالآلات الدَّقيقة التي يُستدلُّ بها على جهة القِبْلة، بل إنني سمعت أنه يوجد آلات يُستدلُّ بها على عين القِبْلة؛ لأنهم يقولون: إن الكعبة هي مركز الكُرَة الأرضيَّة، وأنهم الآن توصَّلُوا إلى آلات دقيقة يكون اتجاهُها دائماً إلى مركز الأرض وهو وسطها.

وَإِنْ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فَاخْتَلَفَا جِهَةً ..........
قوله: «وَإنْ اجتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فَاخْتَلَفَا جِهَةً» ، أي: بذلا الجُهد في معرفة القِبْلة.
والمجتهد في جهة القِبْلة هو: الذي يعرف أدلَّتها، كما أنَّ المجتهد في باب العِلْم هو الذي يعرف أدلَّة العلم، فالنَّاس بالنسبة للقِبْلة إمَّا مجتهدٌ يعرف كيف يستدلُّ بأدلَّتها، وإما مقلِّدٌ لا يعرف ولا يدري.
والمقلِّدُ فرضُه التَّقليد، ولكن سبق أنَّه لا بُدَّ أن يكون المُقَلِّد يخبر عن يقين على المذهب.
والصَّحيح: أنه يُقَلَّد؛ سواء أَخْبَرَ عن يقين أم عن اجتهاد.
وقوله: «فاختلفا جِهَةً»، أي: قال أحدُهما: إنَّ القِبْلة هنا؛ ويُشير إلى الشِّمال؛ والثَّاني يقول: القِبْلة هنا؛ ويشير إلى الجنوب، فلا يجوز أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر.
لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر، وهذا فيما إذا كان الاختلاف في جهتين.
أما إذا اختلفَا في جهةٍ واحدة؛ بأن اختلفا في الانحراف في جهة واحدة، فهنا لا بأس أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر، مثل: أن يتَّجِهَا إلى الجنوب لكن أحدهما يميل إلى الغرب، والآخر يميل إلى الشَّرق فلا يأس للذي يميل إلى الغرب أن يَتْبَع الذي يميل إلى الشَّرق، ويميل معه إلى الشَّرق أو العكس؛ لأن الانحراف في الجهة لا يضرُّ؛ ولا يُخِلُّ بالصَّلاة.

لَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ .........
قوله: «لم يَتْبَع أحدُهُما الآخر» ، المراد بالاتِّباع هنا في القِبْلة، فلا يجوز أن يَتْبَع أحدُهما الآخر؛ حتى ولو كان أعلمَ منه وأعرف، ما دام أنَّه خالفه، فإن كان المجتهدُ حين اجتهد؛ واجتهد الآخر الذي هو أعلمُ منه صار عنده تردُّد في اجتهاده، وغلبة ظنِّه في اجتهاد صاحبه. فعلى المذهب لا يتبعه؛ لأنهم يقولون: لا بُدَّ أن يكون خبر الثّقة عن يقين.
والصَّحيح: أنه يَتْبَعه؛ لأنَّه لمَّا تردَّدَ في اجتهاده بطل اجتهاده، ولمَّا غلب على ظَنِّه صحَّة اجتهاد صاحبه وجب عليه أن يَتْبَع ما هو أَحْرَى، وقد قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث عبد الله بن مسعود في الشَّكِّ في عدد الرَّكعات: «فَلْيَتَحَرَّ الصَّواب، ثم لِيَبْنِ عليه»، وهذا دليل على أنَّ من كان عنده غلبة ظنٍّ في أمر من أمور العبادة فإنه يَتْبَع غلبة الظَّنِّ.
وهذا أيضاً له أصلٌ في الكتاب، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وهذه استطاعته.
وقوله: «لم يَتْبَع أحدُهما الآخر» يشمل متابعة الائتمام، فلا يأتمُّ به؛ لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد أنَّ هذا أخطأ القِبْلة، فالإمام يرى أن القِبْلة جنوب، والمأموم يرى أن القِبْلة شمال؛ فيتَّجِه الإمامُ إلى الجنوب والمأموم إلى الشَّمال، فصار المأموم قد استدبر الإمام، فإذا ركع الإمامُ إلى الجنوب ركع المأموم إلى الشَّمال، وهذا تضادٌّ.
والمقصود من الجماعة هو الائتلاف.
وقال بعض أهل العلم: بل يجوز أن يتبعه في الائتمام، وإذا كانت الصَّلاة صلاةَ جماعة واجبة وجب أن يَتْبَعه ويأتمَّ به، لأن كلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر بالنسبة لاجتهاده، ويعتقد صوابه بالنسبة لاجتهاده نفسه، فأنا أعتقد أن الإمام مخطئ لما اتَّجَه إلى الجنوب باعتقادي أنا، لكن باجتهاده هو أعتقد أنه مُصيب وأنَّه لو تابعني لبطلت صلاتُه.
قالوا: ونظير ذلك لو أنَّ رَجُلَين أكلا من لحم إبل، أحدهما يعتقد أنَّ لحم الإبل ناقض، والثاني يعتقد أن لحم الإبل غير ناقض، فَأْتمَّ أحدُهما بالآخر، فهنا أحدهما يعتقد بطلان صلاة الآخر، ومع ذلك يجوز أن يَأْتمَّ أحدُهما بالآخر، قالوا: فهذا مثل هذا، واعتقاد الخطأ في الحكم كاعتقاد الخطأ في الحال، فالذي خالفني في القِبْلة قد اتفقت معه على الحكم؛ وهو أن استقبال القِبْلة شرط، لكن اختلفنا في الحال، أنا أعتقد أن هذه القِبْلة، وهو يعتقد أن القِبْلة مخالفة لذلك، فلا فرق بين أن أعتقد أن هذا اللحم ناقض للوُضُوء، وهو يعتقد أنه ليس بناقض.
وهذا القول أقرب للصَّواب، وهو جواز اتِّباع أحدهما الآخر في الائتمام مع اختلافهما في جهة القِبْلة. والتضاد هنا لا يمنع من الائتمام كما لو ائتمَّ أحدُهما بالآخر في جوف الكعبة، وأحدهما مستقبل الجدار الشِّمالي؛ والثاني مستقبل الجدار الجنوبي.
بقي علينا إذا كان هناك ثالث ليس بمجتهد، أي: لدينا رجلان اجتهدا، وعندهما ثالث ليس بمجتهد، وقد بيَّنه المصنف بقوله:

وَيَتْبَعُ المُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ.
وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلاَ تَقْلِيدٍ قَضَى إِنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُه.
قوله: «وَيَتْبَعُ المُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ» ، يعني: إذا اجتهد مجتهدان إلى القِبْلة؛ فقال: أحدهما: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية، وقال الثاني: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية مخالفة، وعندهما رجل ثالث فَيَتْبع أوثقهما، فإن تَبِعَ غير الأوثق مع وجود الأوثق، فصلاته باطلة؛ لأنه يعتقد بطلانها، ويكون كالمتلاعب في صلاته.
قوله: «وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلاَ تَقْلِيْدٍ قَضَى إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُه» ، يعني: «من صَلَّى بغير اجتهادٍ» إن كان يحسنه، «ولا تقليد» إن كان لا يُحسنه فإنه يقضي؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه، فكان بذلك مفرِّطاً فوجب عليه القضاء.
مثال ذلك: رَجُلٌ يُحسنُ الاجتهاد، ويعرف دلائل القِبْلَة بالقُطْبِ، أو الشمس، أو القمر، وصَلَّى بغير اجتهاد فإنه يجبُ عليه القَضاء.
وظاهر كلام المؤلِّف أنه يقضي ولو أصاب، وذلك لأنَّه لم يَقُمْ بالواجب عليه من الاجتهاد، وإصابته وقعت على سبيل الاتفاق، لا على سبيل الرُّكُون إلى هذه الجهة؛ لأنه لم يجتهد.
كذلك لو كان ليس من أهل الاجتهاد، ففرضه التَّقليد، لكنَّه لم يُقلِّد، فلم يسأل أحداً من النَّاس وصَلَّى، فإنَّه يقضي ولو أصاب؛ لأنه ترك ما يجب عليه، إذ الواجب أن يعرف أن هذه هي القِبْلَة، إما باجتهاده إن كان يُحسنُه وإما بتقليد إذا كان لا يحسنه، وهذه الأخيرة تقع كثيراً، فمثلاً: يأت رَجُل إلى شخص فينزل ضيفاً عليه، ثم يقوم يُصلِّي، ولا يسأل صاحب البيت أين القبلة، فيصلِّي وهو ليس من أهل الاجتهاد الذين يعرفون القِبْلة بالأدلَّة، فيجب عليه أن يُعيد الصَّلاة ولو أصاب؛ لأنَّه لم يأتِ بالواجب من الاجتهاد، ولا من التَّقليد، فالواجب على هذا الضَّيف إذا أراد أن يُصلِّي أن يسأل صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت عنده عِلْم بالقِبْلة.
وقال بعض العلماء: إنه إذا أصاب أجزأ؛ لأنه لن يُصلِّي إلا إلى جهة تميلُ إليها نفسُه، وهذا الميل يوجب غلبة الظَّنِّ، وغلبةُ الظَّنِّ يُكتفى به في العبادات؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فَلْيتحَرَّ الصَّواب ثم لِيَبْنِ عليه» فإذا أصاب فلماذا نُلزمه بالقضاء؟ وهذا القول أصحُّ، فإن أخطأ وجبت عليه الإعادة؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه من السُّؤال ولا من الاجتهاد.
وهل الحضر محلٌّ للاجتهاد أم لا؟ الجواب: أمَّا المذهب عند الأصحاب فليس محلًّا للاجتهاد، ولا ريب أنَّ هذا القول ضعيف.
والصَّواب: أنَّ الحضر والسَّفر كلاهما محلٌ للاجتهاد، فإن الإنسان في الحضر قد يصعد إلى السَّطح في الليل، وينظر إلى القُطب ويَستدلُّ به، وفي النهار ينظر إلى الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، والعلامات التي في السَّفر هي علامات في الحضر.
وأما قولهم: إنه لا اجتهاد في الحضر؛ لأنه يَستدلُّ على ذلك بخبر أهل البلد وبالمحاريب الإسلامية، فنقول: إذا كان من أهل الاجتهاد فلا مانع أن يجتهد في الحضر كما يجتهد في السَّفر.
فالصَّواب: أنه إذا اجتهد في الحضر فإنه تصحُّ صلاته، فإن أصاب فالأمر ظاهر، وإن لم يُصب فإنه اجتهد وأخطأ وله أجر، وإذا اجتهد فلا إعادة عليه مطلقاً؛ سواء أصاب أم لم يصب؛ لأنه فعل ما يجب عليه، ومن فعل ما وجب عليه فقد اتّقى الله ما استطاع، ومن اتَّقى الله ما استطاع فليس عليه أن يُصلِّي مرَّتين؛ لأن الله لم يوجب على عباده العبادة مرَّتين إذا أَتَوا بها على الوجه الذي أُمِرُوا به.
مسألة : إذا كان من غير أهل الاجتهاد في الحضر، واستند إلى قول صاحب البيت، وتبيَّن أنَّ قول صاحب البيت خطأ، فالمذهب أنه يُعيد؛ لأنه سبقَ أنه لا بُدَّ أن يستند إلى قول ثقة بيقين
والصَّحيح: أنه لا يُعيد، لأن هذا الإنسان استند إلى خبر ثقة، وفعل ما يجب عليه، ومن فعل ما يجب عليه فإنه لا إعادة عليه، كما لو أفتاه مُفْتٍ بحكم فتبيَّن خطؤه فيه.
وخُلاصة المسألة:
أولاً: مَنْ صَلَّى باجتهاد، فصلاتُه صحيحة؛ سواءٌ أخطأ أم أصاب، وسواء في السَّفر أم في الحضر على القول الرَّاجح.
ثانياً: إذا صَلَّى بغير اجتهاد ولا تقليد، فإن أخطأ أعاد، وإن أصاب لم يُعِدْ على الصَّحيح.
وقوله: «إن وجد مَنْ يقلِّده»، عُلِمَ منه أنه إذا لم يجد من يُقلِّده وتحرَّى؛ فإنه لا تلزمه الإعادة.

وَيَجْتَهِدُ العَارِفُ بِأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لِكُلِّ صَلاَةٍ،...........
قوله: «وَيَجْتَهِدُ العَارِفُ بِأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لِكُلِّ صَلاَةٍ» ، العارف بأدلَّة القِبْلة هو المجتهد، وسُمِّيَ بذلك لأنَّه أهل للاجتهاد؛ لمعرفته بأدلَّة القِبْلة، فيجب عليه أن يجتهد لكلِّ صلاة، فإذا اجتهد مثلاً لصلاة الظُّهر؛ وتبيَّن له أن القِبْلة أمامه؛ ووضع العلامة على القِبْلة؛ وصَلَّى فصلاته صحيحة، فإذا جاء العصر فلا يعتمد على الاجتهاد الأوَّل، ويجب أن يعيد الاجتهاد مرَّة ثانية، وينظر إلى الأدلَّة مرَّة ثانية، فلكلِّ صلاة اجتهاد؛ لاحتمال الخطأ في الاجتهاد الأوَّل. لكن هذا القول ضعيف أيضاً.
والصَّواب: أنه لا يلزمه أن يجتهد لكلِّ صلاة، ما لم يكن هناك سبب، مثل أن يطرأ عليه شَكٌّ في الاجتهاد الأوَّل، فحينئذ يعيد النَّظر، وسواءٌ كان الشَّكُّ بإثارة الغير أم بإثارة من نفسه.
ونظير ذلك: المجتهد في المسائل العلميَّة، إذا حقَّق مسألة من المسائل مثلاً، واجتهد فيها ورأى أن الحكم فيها كذا وكذا؛ ثم حدثت مرَّة أخرى فإنه لا يلزمه أن يُعيد البحث والمناقشة، بل يكتفي بالأوَّل ما لم يكن هناك سبب لإعادة النَّظر.

وَيُصَلِّي بالثَّانِي، وَلاَ يَقْضِي ما صَلَّى بالأوَّلِ ..
قوله: «وَيُصَلِّي بالثَّانِي، وَلاَ يَقْضِي ما صَلَّى بالأَوَّلِ» ، «يُصلِّي» أي: المجتهد «بالثاني»، أي: بالاجتهاد الثاني «ولا يقضي ما صَلَّى بالأول» أي: إذا تبيَّن له خطؤه؛ لأن الأول مبنيٌّ على اجتهاد قد أتى الإنسان بما يجب عليه فيه، ومن أتى بما يجب عليه لم يُلزم بإعادة العبادة، لأننا لو قلنا بلزوم الإعادة لأوجبنا عليه العبادة مرَّتين.
فإذا صَلَّى الظُّهر إلى الشمال معتقداً بحسب اجتهاده أن هذه هي القِبْلة، وفي العصر تبيَّن له أن القِبْلة نحو الجنوب فلا يُعيد الظُّهر؛ لأنه صلاَّها باجتهاد حسب ما أُمِرَ، والاجتهاد لا يُنقض باجتهاد.
ومثله: المسائل العِلميَّة، لو كان الإنسان يرى رأياً بناءً على أن هذا مقتضى النُّصوص، ثم بعد البحث والمناقشة والاطِّلاع تبيَّن له خلاف رأيه الأول، فإنه لا يلزمه نقض الحكم إن كان حاكماً به، ولا نقض الفتوى، فلا يلزمه أن يذهب إلى الذي أفتاه في الأول، ويقول: إني أفتيتك بكذا وتبيَّن لي أني أخطأت. لأنَّ الأول صادر عن اجتهاد، فلا يُنقض بالاجتهاد الثاني.
وإنما قلنا: لا يُنقض؛ لأنه كما كان الخطأ في اجتهاده الأول يمكن أن يكون الخطأ في الثاني، فربما يكون الأول هو الصَّواب؛ وقد ظَنَّ أنَّ الثاني هو الصَّواب فلهذا قالوا: لا يُنقض الاجتهاد بالاجتهاد.
ورُويَ عن عمر رضي الله عنه في مسألة «الحِمَاريَّة» أنَّه قضى فيها بحرمان الإخوة الأشقاء، ثم حدثت مرَّة أخرى وقضى فيها بالتَّشريك، فقيل له في ذلك، فقال: «ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي»، ولم ينقض الحكمَ الأولَ.


  #6  
قديم 29 شعبان 1432هـ/30-07-2011م, 02:30 PM
تلميذ ابن القيم تلميذ ابن القيم غير متواجد حالياً
طالب علم
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 237
افتراضي شرح الزاد للشيخ حمد الحمد

قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ومنها استقبال القبلة )
أي من شروط الصلاة استقبال القبلة – باتفاق أهل العلم لقوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته : ( ثم استقبل القبلة فكبر ).
قال : ( فلا تصح بدونه )
فلو صلى إلى غير القبلة مع قدرته على استقبالها فإن صلاته باطلة .
قال : ( إلا لعاجز )
أي عاجز عن استقبالها ، كمربوط أو مصلوب إلى غير القبلة فإن هذا لا يمكنه أن يستقبلها ، فيجب عليه أن يصلي الصلاة على حسب حاله لقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } والحديث : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ))متفق عليه .
ومثل ذلك بعض صور صلاة الخوف – وسيأتي الكلام عليها في بابها - .
قال : ( ومتنفل راكب سائر في سفر )
" راكب " لا ماشي وسيأتي الكلام على الماشي .
" سائر " لا نازل ، فإذا كان نازلاً فيجب أن يصلي مستقبل القبلة .
" في سفر " سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً .
والسفر القصير عند الفقهاء : هو السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة ، وهو ما دون 4 برد أو 16 فرسخاً وهي ما تزيد على 80 كم .
فلو سافر إلى بلدة دون هذه المسافة فهذا هو السفر القصير .
وأما إذا كان أربعة برد فهذا الذي يحل فيه قصر الصلاة – هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور – من تقسيم السفر إلى سفر طويل وقصير – وسيأتي ترجيح الظاهر في هذه المسألة وأن السفر مطلق ليس منه القصير والطويل ، بل متى ثبت السفر فإن القصر يكون مشروعاً ولا فرق بين طويل السفر أو قصيره .
فعلى المذهب : لو خرج إلى قرية قريبة لا يقصر فيها الصلاة فيجوز له أن يصلي النافلة على راحلته غير مستقبل القبلة وأولى منه لو سافر سفراً تقصر فيه الصلاة .
هذا مذهب جمهور العلماء وأن السفر هنا مطلق يدخل فيه القصير والطويل .
- وذهب الإمام مالك : إلى أن الصلاة على الراحلة في النفل لا تشرع إلا في السفر الطويل والسفر الطويل هو ما ثبت فيه القصر ، وما لم يثبت فيه القصر فلا يشرع فيه ذلك .
- وعن الإمام أحمد قول ثالث : وهو جوازه في الحضر وهو قول أبي يوسف من الأحناف وهو مذهب الظاهرية ومذهب بعض الشافعية .
إذن في المسألة ثلاثة أقوال :
1- القول الأول : أنه يجوز حضراً وسفراً – وهو رواية عن الإمام أحمد – .
2- القول الثاني: أنه لا يجوز في الحضر ، وإنما يجوز في السفر مطلقاً طويلاً كان أو قصيراً ( وهذا المشهور في مذهب الحنابلة).
3- القول الثالث : وهو مذهب المالكية أنه لا يشرع إلا في السفر الطويل .
والصحيح منها ما ذهب إليه المالكية ، للأحاديث الواردة في هذا الباب ، فمن الأحاديث الواردة في أصل الرخصة في صلاة النفل على الراحلة – ما ثبت في الصحيحين عن عامر بن ربيعة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به )زاد البخاري : ( يومئ برأسه ولم يكن يصنعه في المكتوبة )
وهذا الحديث ليس فيه أن ذلك في السفر ، بل هو مطلق في السفر وفي غيره . وبه استدل من رأى أن النافلة يجوز أن تصلى على الراحلة في الحضر وهو رواية عن أحمد كما تقدم .
والحديث الثاني في هذا الباب : ما ثبت في البخاري عن عبد الله بن دينار قال : ( كان عبد الله بن عمر إذا كان في السفر يصلي على راحلته أينما توجهت يومئ ، وذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله ) وهنا فيه قيد السفر .
والحديث الثالث : ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد عن أنس بن مالك قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه ).
وفي هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور في أن ذلك إنما يكون في السفر ، فإن مفهوم هذا الحديث أنه إن لم يكن في سفر فإنه لا يفعل ذلك – وهذا هو الأصل فإن الأصل في الصلاة أن تصلى إلى القبلة وأن يركع ويسجد وأن يفعل فيها ما يفعله المفترض إلا أن يدل دليل على ذلك ، فقيد أنس هذا الفعل بأنه في السفر فيحمل عليه حديث عامر بن ربيعة فيقيد به إطلاق حديثه .
وإنما نرجح مذهب مالك ؛ لأن ظاهر لفظة السفر في الشريعة السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فإن الشارع شرع القصر في السفر ، وهنا قد أتى لفظ السفر ، فالأصل أن يكون هو السفر الذي رخص فيه بالقصر وغيره من الأحكام المختصة بالسفر ، فيحمل لفظ السفر في حديث ابن عمر وأنس على السفر الذي يشرع فيه القصر .
وتقسيم السفر إلى طويل وقصير لا دليل عليه شرعي ، وإطلاقات الشريعة ظاهرها أن السفر واحد وأن السفر الذي شرع فيه القصر هو السفر الذي شرعت فيه الصلاة على الراحلة تطوعاً حيث توجهت الراحلة .
إذن أرجح هذه المذاهب هو مذهب المالكية من أن هذا مشروع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وأما ما يسميه الفقهاء من السفر القصير فلا تشرع فيه ، ومثله الحضر فكذلك لا تشرع فيه .
والسنة له أن يومئ بركوعه وسجوده ، كما تقدم في حديث عامر بن ربيعة ( يومئ رأسه )وحديث ابن عمر في قوله ( أينما توجهت يومئ ) وذكر عبد الله بن عمر أن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أي من الصلاة والإيماء ).
والسجود أخفض من الركوع لما ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث صحيح عن جابر قال : ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ).
وفي صفته ما ذكره المؤلف بقوله : ( ويلزمه افتتاح الصلاة إليها )
هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختارها أكثر أصحابه أنه يلزمه افتتاح الصلاة إليها ، فعلى ذلك يجب عليه أن يستقبل بركابه أو ببدنه جميعه القبلة فيكبر ثم يتوجه حيث توجه ركابه .
واستدلوا بحديث أنس المتقدم وفيه : ( استقبل بناقته القبلة فكبر ) قالوا : فهذا يدل على أن هذا الاستقبال فرض ؛ لأنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيص الصلاة تنفلاً عن التوجه إلى القبلة في الراحلة في السفر ، فيبقى على الأصل من استقبال القبلة فيكون توجهه إذا كبر مبق لهذا الركن على الأصل .
- والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أنه لا يجب عليه ذلك ، وهذا أظهر. فيحمل حديث أنس على الاستحباب ؛ لأنه فعل مجرد ، والفعل المجرد يدل على الاستحباب .
فإن قيل : فلم لم تحمله على الفرضية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص هذا الركن بالتوجه إلى القبلة عن سائر الأركان وهو الأصل فوجب أن يبقى على الأصل ؟
فالجواب أن يقال : إنه لا فرق بين التكبير وغيره فالتكبير جزء من أجزاء الصلاة لا فرق بينه وبين غيره ، ولم يُذكر في حديث عامر بن ربيعة ولا في حديث عبد الله بن عمر ولا في حديث جابر ، وحيث لم يذكر فإنه يدل على أنه لم يفعل في تلك الأحاديث .
فإن قيل : لم لا تقيد تلك الأحاديث بحديث أنس ؟
فالجواب : إن الأفعال لا يقيد بعضها بعضاً ، فإن كل فعل حكاية عين وحكاية واقعة ، فهذا يحكي الواقعة التي رآها وهذا يحكي الواقعة التي رآها وهكذا .
وظاهر - ما ذكره- من لم يذكرها أنها لم تقع من النبي صلى الله عليه وسلم .
فأظهر الروايتين عن الإمام أحمد أن ذلك لا يجب وهو الذي يقتضيه النظر والقياس فإنه لا فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها من سائر الأركان .
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم حيثما فعل ذلك : أنه كان نازلاً فركب راحلته ، وفي تلك الحال لا يشق أن يتوجه إلى القبلة فكبر متوجهاً إلى القبلة .
بخلاف ما إذا كان سائراً فإن هناك مشقة أن يقف فيستقبل القبلة ويكبر تكبيرة الإحرام .
ومعلوم أن من أحب أن يصلي ركعات كثيرة ، كمن له ورد من الليل ، فإنه على ذلك يحتاج أن يقف بعد كل ركعتين فيستقبل القبلة فيكبر ، إن صلى مثنى مثنى .
ففي هذا مشقة ظاهرة ، فالأولى ما تقدم وأنه ليس بواجب وهذا ما يقتضيه التخفيف والتسهيل في أمر النافلة ، فمعلوم أن هذا أسهل للمحافظة عليها .
وهذا هو أصل مشروعية التنفل على الراحلة غير مستقبل القبلة وإخراجها عن الأصل من إيجاب الركوع والسجود ومن استقبال القبلة ، وكذلك ما يكون في الحضر من كونه يصلي قاعداً – كل هذا من باب تخفيف وتسهيل أمر النافلة لتتم المحافظة عليها – والعلم عند الله تعالى .
قال : ( وماشٍ )
كذلك الماشي من باب القياس ، فلو كان ماشي في سفر فإنه يصلي حيث توجه .
قالوا : لأن المعنى الموجود في الراكب موجود في الماشي فكل منهما يحتاج إلى أن يحافظ على النافلة ، وكل منهما إذا وقف للنافلة فصلاها نازلاً فإنه ينقطع عن السير وربما فاتت عليه صحبته ونحو ذلك – فكان الماشي في هذا الحكم كالراكب لا فرق بين الاثنين وهو أحد نوعي المسافر . فالمسافرون : إما ركبان أو مشاة .
- وعن الإمام أحمد : أن الماشي لا يشرع له ذلك ولا يجوز ؛ لأن النص إنما ورد في الراكب وليس الماشي كالراكب ؛ لأنه يحتاج إلى مشي كثير ، والمشي الكثير مبطل للصلاة .
والأظهر هو القول الأول ، لأنا حيث أسقطنا عنه استقبال القبلة وحيث أسقطنا عنه الركوع والسجود ونحو ذلك من فرائض الصلاة ، فمثل ذلك أن يسقط عن الماشي ما هو من طبيعة سيره من المشي على قدميه فهذا أولى أن يسقط مما تقدم ذكره .
فالأظهر ما هو مشهور في المذهب من قياس الماشي على الراكب .

وحيث قلنا بوجوب استقبال القبلة عند الافتتاح ، فيجب عليه ذلك ، لذا قال : ( ويلزمه الافتتاح )
فهو في حكم الراكب , وحيث قلنا أن الاستقبال عند الافتتاح لا يجب على الراكب فكذلك الماشي .
قال : ( ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها )
فلا يجوز له أن يومئ بل يجب عليه أن يقف فيركع ويسجد إلى القبلة ، لأنه يجب عليه الركوع والسجود – عندهم – وحيث وجب عليه فإنه لا حاجة إلى ألا يستقبل القبلة أي لا حاجة إلى إسقاط استقبال القبلة عنه .
- وعن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها المجد بن تيمية أنه يومئ بالركوع والسجود كالراكب .
وهذا هو الراجح ، لأنا حيث قلنا بكونه يصلي وهو ماشي كان من الممكن أن يقف ، والركوع والسجود يتكرر في الصلاة .
وحيث أمرناه بالوقوف والركوع والسجود في كل ركعة ، فإن ذلك سيؤدى إلى انقطاع سيره ، وسيلحقه شيئاً من المشقة ، فلا فرق – حينئذ – بين أن يؤمر فيقف فيصلي وبين أن يؤمر بأن يقف فيركع ويسجد ؛ لأن هذه الأفعال متكررة في الصلاة ، فالركوع والسجود وما بينهما هذا يأخذ أكثر من شطر الصلاة ، فيناقض ما هو المقصود من التخفيف والتسهيل في أمر النافلة .
فالأظهر : أنه يومئ بركوعه وسجوده وهذا كذلك الذي يقتضيه القياس على الراكب .

فالراجح : أنه لا يجب عليه الركوع والسجود ولا يجب أن يكون ذلك إلى القبلة ، بل أصل الركوع والسجود ليس بواجب ، فيكفيه أن يومئ إيماء عن الركوع والسجود ، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع .
فعلى ذلك : صفة صلاة الماشي أن يكبر للإحرام مستقبل القبلة استحباباً ثم يتوجه حيث شاء ثم يومئ بالركوع والسجود .
أما صفته على المذهب : فيجب أن يستفتح الصلاة تجاه القبلة ثم يتوجه حيث شاء ثم إذا حان الركوع والسجود يقف فيركع أو يسجد إلى القبلة – والصحيح خلاف ذلك كما تقدم – .
قال : ( وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها ، ومن بعد جهتها )
فالقريب من القبلة الذي ليس بينه وبينها شاخص ولا ستر يغطي القبلة عنه يجب عليه أن يصيب عينها اتفاقاً فلا يكون مائلاً عنها ولو شيئاً يسيراً ، بل يجب أن يكون بدنه كله متوجهاً إلى عين الكعبة ، لأنه قادر على ذلك .
فإن لم يكن كذلك بل كان بينه وبينها ستر أو جدران ويشق عليه إصابة عينها – بخلاف الجدران التي في الحرم وما حولـه فإنه لا يشق عليه أن ينظر فيتوجه إلى القبلة عيناً – أما حيث كان على خلاف ذلك – فالواجب عليه أن يصيب جهتها ، لذا قال :
( ومن بعد جهتها ) وهذا باتفاق أهل العلم ، لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين المشرق والمغرب قبلة )
فإن كنت من أهل المدينة فجعلت المشرق عن يسارك ، والمغرب عن يمينك فأنت متوجه إلى القبلة ، وإن كان هناك انحراف يسير فهذا لا يؤثر . فالواجب أن يصيب جهتها ، لأن إصابة عينها متعذر .
وعندما يكون قريباً إلى الحرم فإنه يشق عليه أن يتقصد إصابة عينها وحيث كان كذلك فالمشقة تجلب التيسير وحيث تعذر ذلك فالعجز عن الواجب يسقطه .
قال : ( فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها )
إن أخبره ثقة ممن يجب قبول خبره وهو العدل المكلف ذكر كان أو أنثى حراً كان أو عبداً – أخبره عن القبلة عن يقين لا عن اجتهاد ونظر – فيجب عليه أن يقبل خبره ؛ لأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد . وثبت في الصحيحين عن البراء قال : ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن يتوجه قبل البيت ، وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر فصلى معه رجال ، فخرج رجل منهم فمر على أهل مسجد وهو راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل البيت فداروا كما هم قبل الكعبة ) فقبلوا خبر الواحد .
أما إذا كان الخبر عن اجتهاد فإنه لا يجوز أن يقبل خبره – وهذا على المجتهد .

فمن كان عارفاً بأدلة القبلة ، فسأل آخر فأخبره باجتهاد فلا يجوز له قبول خبره ، بل يجب أن يجتهد لأنه قادر على الاجتهاد ، والاجتهاد الأول – أي اجتهاد المخبر – قابل للصواب والخطأ ، فلا يجوز له إلا أن يجتهد فينظر وهذا باتفاق أهل العلم وأن المجتهد لا يجوز أن يقبل خبر المجتهد مثله .
بخلاف المقلد وهو غير العارف بأدلة القبلة, فإنه إذا لم يمكنه أن يتعلمها ودخل وقت الصلاة وتضايق الوقت فإنه يجوز له تقليد المجتهد
أما إذا كان يمكنه أن يتعلم فيجب عليه أن يتعلم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإذا دخل وقت الصلاة وأمكنه أن يتعلم ما به يعرف القبلة فيجب عليه ذلك ولا يَقبل الاجتهاد .
أما إذا كان غير بصير ونحوه ممن لا يمكنه أن يتعرف على القبلة ويصل إليها فإنه يجوز له أن يقلد غيره .
( أو وجد محاريب إسلامية )
فإنه يصلي إليها ولا يجتهد لأنها – في الحقيقة – تجري مجرى الخبر بل أولى منه فإن وضعها عند هؤلاء المسلمين واستمرارها بعد ذلك تقطع بثبوت صحة اتجاهها إلى القبلة وإن كانت منحرفة يسيراً فهذا لا يؤثر كما تقدم . ولا يجوز له الاجتهاد في هذه الحالة .
قال : ( ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما )
القطب : هو ما يكون في ناحية الشمال ، فمن كان في مثل بلدنا هذه يتوجه إلى الجهة المغايرة له ، فيكون في ظهره .
فهذه أساليب وطرق الاجتهاد ، ومثل ذلك " البوصلة " .
إذن يبحث ويتحرى جهة القبلة سواء كان ذلك بالشمس والقمر ومنازلهما ، أو بالرياح واتجاهاتها ، أو كان ذلك بالنجوم ، المقصود من ذلك أن يجتهد وينظر ويتجه إلى القبلة بعد ذلك .


قال : ( وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر )
لأن كلاً منهما مجتهد والواجب على المجتهد أن يعمل بما تبين له ، وهو يعتقد صواب نفسه وخطأ غيره .
فإن صلى إلى الجهة الأخرى مقلداً فلا تصح صلاته ، لأنه صلى إلى ما يعتقد أنه غير القبلة ، فهو يعتقد أن القبلة في الناحية الأخرى – وهو من أهل الاجتهاد - ، لأنه توجه إلى غير القبلة في اعتقاده .
لكن هل يقتدي أحدهما بالآخر أم لا ؟ قولان لأهل العلم :
1- القول الأول وهو مذهب الشافعية وهو المشهور في المذهب : أنه لا يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر .
قالوا : لأنه يعتقد خطأ اتجاهه ، وحيث كان يعتقد خطأ اتجاهه فلا يجوز أن يصلي خلفه .
2- وقياس المذهب كما قال ذلك الموفق : أن الصلاة صحيحة . وهذا هو الظاهر .
فالراجح أن الصلاة صحيحة إذا ائتم بعضهم ببعض ؛ لأن كلاً منهما يعتقد صحة صلاة الآخر .

وهذا كصلاة من يعتقد النقض بناقض من نواقض الوضوء خلف من لا يعتقد ذلك فإنه يعتقد خطأه في هذه المسألة ولكنه يعتقد صحة صلاته – وفي هذه المسألة كذلك ، وحيث اعتقد خطأه في اتجاهه لا يبرر ذلك عدم ائتمامه .
فالراجح : ما رجحه الموفق وقال إنه قياس المذهب من أن الائتمام صحيح ؛ لأن كلا منهما يعتقد صحة صلاة الآخر .
قال : ( ويتبع المقلد أوثقهما عنده )
- ظاهره وجوباً وهذا هو المشهور في المذهب .
- والقول الثاني في المذهب : أن ذلك ليس على هيئة الوجوب بل الأولى له أن يقلد الأوثق وليس ذلك واجباً عليه .
حجة أهل القول الأول : قالوا : إن هذا هو الأقرب للصواب ، فلما كان الأقرب للصواب وجب التزامه .
وحجة أهل القول الثاني : أن كليهما دليل بمفرده يجوز أن يقلد لو لم يعارض ، وحيث كانا كذلك فهما كالمجتهدين في المسائل الشرعية لا يجب على المقلد أن يقلد أوثقهما ولا أورعهما ؛ لأن الله لم يوجب ذلك ، بل أوجب عليه أن يسأل أهل العلم ولم يوجب عليه أن يسأل أعلمهما أو أوثقهما أو أورعهما ، وللمسلم أن يقلد من العلماء خلاف الأوثق ما لم يكن ذلك عن هوى وشهوة لعموم قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر } وهذه كتلك .
وكون أحدهما أوثق لا يكون ملزماً بتقليده بل يدل على أن الأولى هو تقليده – وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الظاهر في هذه المسألة – وأنه لو اختلف مجتهدان أحدهما أوثق من الآخر فكما لو اختلف عالمان أحدهما أوثق فلا يجب على المقلد أن يقلد الأوثق أو الأعلم بل يجوز أن يقلد أحدهما لعموم قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
قال : ( ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده )
إذا صلى بغير اجتهاد وهو يمكنه الاجتهاد ، أو صلى بغير تقليد وهو واجد لمن يقلده ، فيجب عليه أن يعيد الصلاة ، لأنه قد ترك فرضه .
فمن هو من أهل الاجتهاد وصلى بلا اجتهاد أو هو من أهل التقليد فلم يكن منه ذلك – فلم يكن منهم فعل ما فرض الله عليهم من الاجتهاد أو التقليد فالواجب عليهم : أن يعيدوا الصلاة وإن أصابوا القبلة ، لأنهم تركوا الفرض مع الاستطاعة ، فإن الفرض هو التوجه إلى القبلة عن علم إما بتقليد عالم حيث لا يمكن الاجتهاد أو باجتهاد ونظر أو بخبر متيقن – والحالة هنا ليست على هذه الصور فكان الواجب عليهم أن يعيدوا الصلاة .
فإذن : من صلى إلى غير القبلة أو إلى القبلة بغير اجتهاد وهو قادر عليه أو هو من أهل التقليد وهو قادر عليه ومع ذلك لم يقلد سواء أصاب أم لم يصب فيجب عليهم الإعادة ؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم والفرض عليهم من وجوب تحري القبلة والصلاة إليها .

وهم صلوا على هيئة التخمين والظن غير المشروع مع قدرتهم على الظن الغالب المشروع أو اليقين .
أما من صلى باجتهاد أو تقليد ولم يصب القبلة فصلاته صحيحة اتفاقاً ، لأنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع فلم يجب عليه أن يعيد الصلاة مرة أخرى وقد صلاها على الوجه المشروع حيث أمر الله تعالى .
ومثل ذلك : المجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد مطلقاً كأن يكون في غيم أو ليلة مظلمة شديدة الظلمة وهي مصحوبة بقتر أو غيم فلم يمكنه أن يجتهد فصلى على حسب حاله فصلاته صحيحة .
يدل على هذا : ما ثبت في الترمذي والحديث حسن بشواهده : عن عامر بن ربيعة قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا ، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزل قول الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } أي أقر الله تعالى صلاتهم وقبلها منهم لأنهم قد فعلوا ما أمر الله به وهذه هي استطاعتهم وقدرتهم ، فقد اتقوا الله ما استطاعوا فلم يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى .

قال : ( ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول )
فيجب عليه لكل صلاة أن يتحرى وينظر في أدلة القبلة فلو صلى بناءً على اجتهاده في الصلاة الأولى فلا تصح صلاته ، بل يجب أن يجدد اجتهاده ؛ لأن هذه الواقعة جديدة فيجب الاجتهاد لها . قال في الفروع : " في الأصح " .
وحيث قال ذلك : فإنه يدل على أن هناك قول آخر والقول الآخر هو الظاهر ، فالظاهر أن ذلك لا يجب ؛ لأنه قد اجتهد للصلاة الأولى وظن ظناً غالباً أن هذا هو اتجاه القبلة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، إلا أن يتبين له أن اجتهاده كان خاطئاً أو أن شيئاً من النظر والبحث الذي فعله كان على خطأ فحينئذ : يجب عليه أن يجدد الاجتهاد .
( ويصلي بالثاني ) : أي يصلي بالاجتهاد الثاني ولا يعيد الصلاة الأولى لأنه صلاها عن اجتهاد صحيح وفعل ما أمر به .
ومثل ذلك : لو تبين له أثناء الصلاة – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – فلو تبين في الصلاة أنه إلى غير القبلة فإنه ينحرف وما تقدم من الصلاة صحيح .
* وإذا اجتهد اجتهاداً ثانياً فناقض الاجتهاد الأول ، فإن هذا الاجتهاد الثاني لا ينقض الأول للقاعدة الشرعية : " الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد " فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وإنما ينقض بنص ، فهنا حيث اجتهد ثم رأى اجتهاداً آخر ، فإن الاجتهاد الآخر لا ينقض الأول فلا تبطل الصلاة لأنه قد صلاها على ما أمره الله به .
لذا قال : ( ولا يقضي ما صلى بالأول ) لأنه صلاها صلاة شرعية صحيحة باجتهاد صحيح ففعل ما أُمر به واتقى الله ما استطاع فلم يؤمر بإعادة الصلاة مرة أخرى .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
القبلة, استقبال

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:28 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir