جزء عم
قال جلال الدّين عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ السّيوطيّ (ت: 911 هـ): (
سورة عم:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: تناسبها معها في الجمل؛ ففي المرسلات: {ألم نهلك الأوّلين، ثمّ نتبعهم الآخرين} "المرسلات: 16، 17"، {ألم نخلقكم من ماءٍ مهينٍ} "المرسلات: 20"، {ألم نجعل الأرض كفاتًا} "المرسلات: 25" إلى آخره، وفي عم: {ألم نجعل الأرض مهادًا} "6" إلى آخره، فذلك نظير تناسب جمل: ألم نشرح، والضحى، بقوله في الضحى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى} "الضحى: 6" إلى آخره، وقوله: {ألم نشرح لك صدرك} "الشرح: 1" مع اشتراك هده السورة والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار، ما عدا المدثر في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله، وعلى ذكر بدء الخلق، وإقامة الدليل على البعث.
وأيضًا في سورة المرسلات: {لأيّ يومٍ أجّلت، ليوم الفصل، وما أدراك ما يوم الفصل} "المرسلات: 12-14"، وفي هذه السورة: {إنّ يوم الفصل كان ميقاتًا، يوم ينفخ في الصّور فتأتون أفواجًا} "17، 18" إلى آخره، فكأن هذه السورة شرح يوم الفصل المجمل ذكره في السورة التي قبلها.
سورة النازعات:
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها عقب سورة عم، وأولها يشبه أن يكون قسمًا لتحقيق ما في آخر عم، أو ما تضمنته كلها على حد ما تقدم في {والمرسلات} مع {هل أتى}، {والذّاريات} مع {ق} ].
سورة عبس:
أقول: وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع؛ لقوله هناك: {فإذا جاءت الطّامّة} "النازعات: 34"، وقوله هنا: {فإذا جاءت الصّاخّة} "33"، وهما من أسماء يوم القيامة.
سورة التكوير:
أقول: لما ذكر في [آخر] عبس: {فإذا جاءت الصّاخّة، يوم يفرّ المرء من أخيه} "عبس: 33، 34" الآيات، ذكر يوم القيامة كأنه رأي عين [شرح حاله في هذه السورة والتي بعدها؛ ولهذا ورد] في لحديث: "من سره أن ينظر يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ: {إذا الشّمس كوّرت} "1" و {إذا السّماء انفطرت} "الانفطار: 1" و {إذا السّماء انشقّت} "الانشقاق: 5 ".
سورة الانفطار:
أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع.
سورة المطففين:
أقول: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من خمسة أوجه: الافتتاح بـ {إذا السّماء} "الانفطار، الانشقاق"، والتخلص بـ {يا أيّها الإنسان} "الانفطار، الانشقاق: 6"، وشرح حال يوم القيامة؛ ولهذا ضمت بالحديث السابق، والتناسب في المقدار، وكونها مكية.
وهذه السورة مدنية [وأطول منهما]، ومفتتحها ومخلصها غير ما لهما لنكتة [لطيفة] ألهمنيها الله، وذلك أن السور الأربع لما كانت في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.
فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، يقع في صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله: {يوم يقوم النّاس لربّ العالمين} "6"؛ ولهذا ورد في الحديث: "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه".
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأخذٌ باليمين، وأخذٌ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب.
هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث، فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب والحساب، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.
ووجه آخر وهو: أنه جل جلاله لما قال في الانفطار: {وإنّ عليكم لحافظين، كرامًا كاتبين} "الانفطار: 10، 11"، وذلك في الدنيا، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان، وهو: كتاب مرقوم جعل في عليين، أو في سجين، وذلك أيضًا في الدنيا؛ لكنه عقّب بالكتابة، إما في يومه، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار، فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية.
وله حالة ثالثة متأخرة عنها؛ وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك، عن السورة التي فيها الحالة الثانية، وهي الانشقاق، فلله الحمد على ما منّ بالفهم لأسرار كتابه.
ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطففين أيضًا: اتصال أولها بآخر ما قبلها ظاهر؛ لأنه تعالى بيّن هناك أن يوم القيامة من صفته [أنه] {لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئًا والأمر يومئذٍ للّه} "الانفطار: 19" وذلك يقتضي تهديدًا عظيمًا للعصاة؛ فلهذا أتبعه بقوله: {ويلٌ للمطفّفين} "11" الآيات.
سورة الانشقاق:
قد استوفى الكلام فيها في سورة المطففين.
سورة البروج والطارق:
أقول: هما متآخيتان فقرنتا، وقدمت الأولى لطولها، وذكرا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء؛ ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادًا بها السور الأربع، كما قيل: المسبحات.
سورة الأعلى:
أقول: في سورة الطارق ذكر خلق [النبات] والإنسان في قوله: {والأرض ذات الصّدع} "الطارق: 12"، [وقوله: {فلينظر الأنسان ممّ خلق} إلى {إنّه على رجعه لقادرٌ} "الطارق: 5-8"، وذكره في هذه السورة في قوله: {خلق فسوّى} "2"، وقوله في النبات: {والّذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى} "4، 5"، وقصة النبات في هذه السورة أبسط، كما أن قصة الإنسان هناك أبسط، نعم، ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات.
سورة الغاشية:
أقول: لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله: {سيذّكّر من يخشى، ويتجنّبها الأشقى، الّذي يصلى النّار الكبرى} إلى قوله: {والآخرة خيرٌ وأبقى} "الأعلى: 10-17" إلى المؤمن والكافر، والنار والجنة إجمالًا، فصل ذلك في هذه السورة، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كل منهما، على نمط ما هنالك؛ ولذا قال [هنا] : {عاملةٌ ناصبةٌ} "3" في مقابل: {الأشقى} "الأعلى: 11" [هناك]، وقال [هنا] : {تصلى نارًا حامية} "4" إلى {لا يسمن ولا يغني من جوع} "7" في مقابلة {يصلى النّار الكبرى} "الأعلى: 12" [هناك]، ولما قال [هناك] في الآخرة: {خيرٌ وأبقى} "الأعلى: 17" بسط [هنا] صفة أكثر من صفة النار؛ تحقيقًا لمعنى الخيرية.
سورة الفجر:
أقول: لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها، من قوله جل جلاله: {إنّ إلينا إيابهم، ثمّ إنّ علينا حسابهم} "الغاشية: 25، 26"، وعلى ما تضمنه من الوعد والوعيد، كما أن أول الذاريات قسم على تحقيق ما في "ق"، وأول المرسلات قسم على تحقيق ما في [ {هل أتى} وأول {والنّازعات} قسم على تحقيق ما في] "عم".
هذا مع أن جملة: {ألم تر كيف فعل ربّك} "6" هنا، مشابهة لجملة {أفلا ينظرون} "الغاشية: 17" هناك.
سورة البلد:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما ذم فيها من أحب المال، وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة.
سورة الشمس والليل والضحى:
أقول: هذه الثلاثة حسنة التناسق جدًّا؛ لما في مطالعها من المناسبة؛ لما بين الشمس والليل والضحى من الملابسة، ومنها سورة الفجر؛ لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم، كما فصل بين الانفطار والانشقاق، وبين المسبحات؛ لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، إنما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة.
ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد، فإنه سبحانه لما ختمها بذكر أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة، فقوله: [في الشمس] {قد أفلح من زكّاها} "9" هم أصحاب الميمنة في سورة البلد، وقوله: {وقد خاب من دسّاها} "10" [في الشمس]، هم أصحاب المشأمة في سورة البلد، فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة؛ ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة: الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي.
ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس، فقوله: {فأمّا من أعطى واتّقى} "الليل: 5" وما بعدها، تفصيل {قد أفلح من زكّاها} "الشمس: 9"، وقوله: {وأمّا من بخل واستغنى} "الليل: 8" الآيات، تفصيل قوله: {وقد خاب من دسّاها} "الشمس: 10".
ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين، فإن فيها: {وإن لنا للآخرة والأولى} "الليل: 13"، وفي الضحى: {وللآخرة خيرٌ لك من الأولى} "4"، وفي الليل: {ولسوف يرضى} "الليل: 21"، وفي الضحى: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} "5".
ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه -صلى الله عليه وسلم- افتتحت بالضحى، الذي هو نور، ولما كانت سورة الليل [نازلة في بخيل في قصة طويلة، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
قال الإمام: سورة الليل] سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل، وكانت سورة الضحى سورة محمد، عقب بها، ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر.
سورة {ألم نشرح}:
أقول: هي شديدة الاتصال بسورة الضحى؛ لتناسبهما في الجمل؛ ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما. قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو: أن قوله: {ألم نشرح} كالعطف على {ألم يجدك يتيمًا فآوى} "الضحى: 6" [في الضحى].
قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: "يا محمد، ألم أجدك يتيمًا فأويت، وضالًّا فهديت، وعائلًا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت" الحديث، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي هذا أوفى دليل على اتصال السورتين معنى.
سورة التين:
أقول: لما تقدم في سورة الشمس: {ونفسٍ وما سوّاها} "الشمس: 7" فصل في هذه السورة بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ، ثمّ رددناه أسفل سافلين}"4، 5" إلى آخره.
وأخرت هذه السورة لتقدم ما هو أنسب بالتقديم من السور الثلاث واتصالها بسورة البلد لقوله: {وهذا البلد الأمين} "3"، وأخرت لتقدم ما هو أولى بالمناسبة مع سورة الفجر.
لطيفة:
نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي قال: قرأت مرة: {والتّين والزّيتون} إلى أن انتهيت إلى قوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ، ثمّ رددناه أسفل سافلين} "4، 5" ففكرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أن معناها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحًا وعقلًا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسًا وهوًى.
قلت: فظهر من هذه المناسبة وضعها بعد {ألم نشرح}، فإن تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك يستدعي كمال عقله وروحه، فكلاهما في القلب الذي محله الصدر، وعن تبرئته من الوزر الذي ينشأ عن النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذكر؛ حيث نزه مقامه عن كل وصم.
فلما كانت هذه السورة في هذا العلم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسي، وذكر ما خامرهم من متابعة النفس والهوى.
سورة العلق:
أقول: لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم، بيّن هنا أنه تعالى: {خلق الإنسان من علقٍ} "2" وذلك ظاهر الاتصال، فالأول بيان العلة الصورية، وهذا بيان العلة المادية.
سورة القدر:
قال الخطابي: لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} "1" الإشارة إلى قوله: {اقرأ} "العلق: 1".
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جدًّا.
سورة لم يكن:
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها؛ كأنه لما قال سبحانه: {إنّا أنزلناه} "القدر: 1" قيل: لم أنزل؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، وهو رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة، وذلك هو المنزّل.
وقد ثبتت الأحاديث بأنه كان في هذه السورة قرآن نسخ رسمه وهو: "إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لابتغى إليه الثاني، ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها؛ حيث ذكر هناك إنزال القرآن، وهنا إنزال المال، وتكون السورتان تعليلًا لما تضمنته سورة اقرأ؛ لأن [في] أولها ذكر العلم، وفي أثنائها ذكر المال، فكأنه قيل: إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر؛ بل ليستعان به على تقوانا، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
سورة الزلزلة:
أقول: لما ذكر في آخر "لم يكن" أن جزاء الكافرين جهنم، وجزاء المؤمنين جنات، فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} "1" أي: [حين] تكون زلزلة الأرض، إلى آخره.
هكذا ظهر لي، ثم لما راجعت تفسير الإمام الرازي، ورأيته ذكر نحوه فحمدت الله كثيرًا، وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها وجوهًا؛ منها: أنه تعالى لما قال: {جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدنٍ} "البينة: 8"، فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك يا رب؟ فقال: {إذا زلزلت الأرض} "1".
ومنها: أنه لما ذكر فيها وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال: {إذا زلزلت الأرض} ونظيره: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ} ثم ذكر ما للطائفتين فقال: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا الّذين اسودّت وجوههم} إلى آخره، ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرة من الخير والشر. انتهى.
سورة العاديات:
أقول: لا يخفى ما بين قوله في الزلزلة: {وأخرجت الأرض أثقالها} "الزلزلة: 2"، وقوله في هذه السورة: {إذا بعثر ما في القبور} "9" من المناسبة والعلاقة.
سورة القارعة:
قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: {إنّ ربّهم بهم يومئذٍ لخبيرٌ} "11" فكأنه قيل: وما ذاك؟ فقال: هي القارعة، قال: وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه في قولي: {إذا بعثر ما في القبور} "9".
سورة التكاثر:
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها؛ كأنه لما قال هناك: {فأمّه هاويةٌ} "القارعة: 9" قيل: لم ذلك؟ فقال: لأنكم {ألهاكم التّكاثر} "1" فاشتغلتم بدنياكم [عن دينكم]، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفت موازينكم بالآثام؛ ولهذا عقّبها بسورة والعصر، المشتملة على أن الإنسان في خسر، بيان لخسارة تجارة الدنيا، وربح تجارة الآخرة؛ ولهذا عقّبها بسورة الهمزة، المتوعّد فيها من {جمع مالًا وعدّده، يحسب أنّ ماله أخلده} "الهمزة: 2، 3"، فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحسن اتساقها.
سورة الفيل:
[أقول:] ظهر لي في وجه اتصالها بعد الفكرة: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللمزة، الذي جمع مالًا وعدّده، وتعزز بماله وتقوّى، عقّب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وعتوًّا، وقد جعل كيدهم في تضليل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه، وجعلهم كعصف مأكول، ولم يغن عنهم مالهم ولا عددهم ولا شوكتهم ولا فيلهم شيئًا.
فمن كان قصارى تعززه وتقويه بالمال، وهمز الناس بلسانه، أقرب إلى الهلاك، وأدنى إلى الذلة والمهانة.
سورة قريش:
هي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك؛ ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة.
سورة الماعون:
أقول: لما ذكر [الله] تعالى في سورة قريش: {الّذي أطعمهم من جوعٍ} "قريش: 4"، ذكر هنا ذم من لم يحض على طعام المسكين.
ولما قال هناك: {فليعبدوا ربّ هذا البيت} "قريش: 3" ذكر هنا من سها عن صلاته.
سورة الكوثر:
قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة للتي قبلها؛ لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: {إنّا أعطيناك الكوثر} "1" أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فصلّ} "2" أي: دم عليها، وفي مقابلة الرياء: {لربّك} "2" أي: لرضاه، لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون: {وانحر} "2" وأراد به: التصدق بلحوم الأضاحي، قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة.
سورة الكافرون:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: {فصلّ لربّك} "الكوثر: 2" أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون، وبالغ في ذلك فكرر، وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه.
سورة النصر:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه [لما] قال في آخر ما قبلها: {ولي دين} "الكافرون: 6" فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه، وسلم من شوائب الكدر والمخالفين، فعقّب ببيان وقت ذلك، وهو مجيء الفتح والنصر، فإن الناس حين دخلوا في دين الله أفواجًا، فقد تم الأمر وذهب الكفر، وخلص دين الإسلام ممن كان يناوئه؛ ولذلك كانت السورة إشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام فخر الدين: كأنه تعالى يقول: لما أمرتك في السورة المتقدمة بمجاهدة جميع الكفار، بالتبري منهم، وإبطال دينهم، جزيتك على ذلك بالنصر والفتح، وتكثير الأتباع.
قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما أعطاه [الله] الكوثر؛ وهو: الخير الكثير، ناسب تحميله مشقاته وتكاليفه، فعقّبها بمجاهدة الكفار، والتبري منهم، فلما امتثل ذلك أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح، وإقبال الناس أفواجًا إلى دينه، وأشار إلى دنو أجله، فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال.
سورة تبت:
قال الإمام: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما قال: {لكم دينكم ولي دين} "الكافرون: 6"، فكأنه قيل: إلهي، وما جزائي؟ فقال الله له: النصر والفتح، فقال: وما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال: {تبّت يدا أبي لهبٍ} "1" الآيات.
وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر معللًا بقوله: {ولي دين}، ويكون الوعيد راجعًا إلى قوله: {لكم دينكم} على حد قوله: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا الّذين اسودّت وجوههم} "آل عمران: 106".
قال: فتأمل في هذه المجانسة الحافلة بين هذه السور، مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل بالمدينة، والكافرون وتبت من أوائل ما نزل بمكة؛ ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله، وبأمره.
قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما قال: {لكم دينكم ولي دين} "الكافرون: 6" كأنه قيل: يا إلهي، ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح، فقيل: وما ثواب العاصي؟ قال: الخسارة في الدنيا، والعقاب في العقبى، كما دلت عليه سورة تبت.
سورة الإخلاص:
قال بعضهم: وضعت هاهنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة تبت.
وأقول: ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ: أن هذه السورة متصلة بـ {قل يا أيّها الكافرون} في المعنى؛ ولهذا قيل: من أسمائها أيضًا الإخلاص، وقد قالوا: إنها اشتملت على التوحيد، وهذه أيضًا مشتملة عليه؛ ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر، والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصبح المسافر، ومغرب ليلة الجمعة.
وذلك أنه لما نفى عبادة ما يعبدون، صرح هنا بلازم ذلك، وهو أن معبوده أحد، وأقام الدليل عليه بأنه صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك.
وإنما فصل بين النظيرتين بالسورتين لما تقدم من الحكمة، وكأن إيلاءها سورة تبت ورد عليه بخصوصه.
سورة الفلق والناس:
قال: أقول: هاتان السورتان نزلتا معًا -كما في الدلائل للبيهقي- فلذلك قرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بـ {قل أعوذ}، وعقب بهما سورة الإخلاص؛ لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل.
وقدمت الفلق على الناس -وإن كانت أقصر منها- لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت.
وهذا آخر ما منّ الله به عليّ من استخراج مناسبات ترتيب السور، وكله من مستنبطاتي، ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوي له، فلله الحمد على ما ألهم، والشكر على ما منّ به وأنعم، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). [تناسق الدرر: ؟؟]