تفسير سورة البقرة [من الآية (106) إلى الآية (110) ]
تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
مناسبة الآية ط
قال ابن عطية: معنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ
معنى الآية ط
قال ابن عطية: فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.
القراءات وأثرها على المعنى وما يترتب عليه : ط
قال ابن عطية: وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان:
1- أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقا بكم خيرا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
2- والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
3- والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضا على هذا رفع التلاوة والحكم.
4- والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في منها أو مثلها عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك،
1- أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله
2- والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته،
3- والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه،
4- والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصا وإما إشارة فكملناها.
القراءات في ننسخ ومعناها ط ك
قال ابن عطية :
1- قرأ جمهور الناس «ما ننسخ» بفتح النون، من نسخ
2- ، وقرأت طائفة «ننسخ»، بضم النون من «أنسخ»، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد خرج قرأة هذه القراءة المعنى على وجهين:
1- أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في منها ومثلها عائدين على الضمير في ننسأها، 2- والمعنى الآخر أن يكون ننسخ من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخا، وما شرطية وهي مفعولة ب ننسخ، وننسخ جزم بالشرط.
قال ابن كثير: :
1-، عن ابن عبّاسٍ:ما نبدّل من آيةٍ.
2-عن مجاهدٍأي: ما نمح من آيةٍ.
3- ، عن مجاهدٍ:*{ما ننسخ من آيةٍ}*قال: نثبت خطّها ونبدّل حكمها ذلك.
4- قال الضّحّاك ما ننسك.
5- وقال عطاءٌ: أمّا*{ما ننسخ}*فما نترك من القرآن يعني: ترك فلم ينزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم
6- وقال السّدّيّ*نسخها: قبضها.
7- قال ابن جريرٍ:*{ما ننسخ من آيةٍ}*ما ينقل من حكم آيةٍ إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يحوّل الحلال حرامًا والحرام حلالًا والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلّا في الأمر والنّهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ.
معنى النسخ في اللغة ج ط
قال الزجاج : النسخ في اللغة؛ فإبطال شيء, وإقامة آخر مقامه، العرب تقول: نسخت الشمس الظل، والمعنى: أذهبت الظل, وحلّت محلّه
قال ابن عطية: وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر»، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين
المراد بالنسخ عند العرب ط
قال ابن عطية: النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، والثاني الإزالة، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية: 29]، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية
أصل النسخ ك
قال ابن كثير: وأصل النّسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخةٍ أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنّما هو تحويله ونقل عبادة إلى غيرها.
معنى النّسخ الشّرعيّ :ك
قال ابن كثير: أنّه رفع الحكم بدليلٍ شرعيٍّ متأخّرٍ.
فوائد في النسخ : ط
قال ابن عطية:
1- الناسخ حقيقة هو الله تعالى،
2- ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا إذ به يقع النسخ
3- ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت، بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
4- والنسخ جائز على الله تعالى عقلا لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ لطروّ علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني. والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكون إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى،
5- وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلّوا.
6- والمنسوخ عند أئمتنا: الحكم الثابت نفسه، لا ما ذهبت إليه المعتزلة، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن،
7- وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية.
8- والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت قطعا تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا. و
9- النسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي، وردّ بعض المعترضين الأمر خبرا بأن قال: أليس معناه:
«واجب عليكم أن تفعلوا كذا» ؟ فهذا خبر، والجواب أن يقال: إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء.
10- وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى،
11- والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى، وكقوله تعالى: وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا [الممتحنة: 11]، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.
12- وينسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، 13- وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة. فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله، وفي قوله تعالى: فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار [الممتحنة: 10]، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم، و
14- لا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصا، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت الأمة أنه لا نسخ.
15- ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن.
16- وقال بعض المتكلمين: «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه»، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح.
القراءات في في*{ننسها} ومعناها : ج ط ك
قال ابن كثير:
وقوله تعالى: {أو ننسها} فقرئ على وجهين: "ننسأها وننسها".
1- فأمّا من قرأها: "ننسأها" -بفتح النّون والهمزة بعد السّين-فمعناه: نؤخّرها.
2- وأمّا على قراءة:*{أو ننسها}* عن قتادة في قوله:*{ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}*قال: كان اللّه تعالى ينسي نبيّه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جريرٍ: عن الحسن أنّه قال في قوله:*{أو ننسها}*قال: إنّ نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم أقرئ قرآنًا ثمّ نسيه.
قال ابن عطية: قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان.
والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.
قال الزجاج :
وقال أهل اللغة في معنى*{أو ننسها}*قولين:-
1-*قال بعضهم:*(أو ننسها)*من النسيان، وقالوا: دليلنا على ذلك قوله عزّ وجلّ:*{سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه}, فقد أعلم اللّه أنه يشاء أن ينسى، وهذا القول عندي ليس بجائز؛ لأن اللّه عزّ وجل قد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله*{ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك}*أنّه لا يشاء أن يذهب بالذي أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله{فلا تنسى * إلا ما شاء اللّه}قولان يبطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة:-
أحدهما:{فلا تنسى}*أي: لست تترك إلا ما شاء اللّه أن تترك،*
ويجوز أن يكون:*إلا ما شاء الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.
2-*وقيل في*{أو ننسها}*قول آخر, وهو خطأ أيضاً, قالوا: أو نتركها, وهذا يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت أي: تركت،
وإنما معنى*{أو ننسها}: أو نتركها, أي: نأمر بتركها
ومن قرأ (أو ننسؤها) أراد: نؤخرها, والنّسء في اللغة التأخير، يقال: نسأ اللّه في أجله, وأنسأ اللّه أجله, أي: أخر أجله.
ونقل ابن عطية عن الزجاج : وقال الزجاج: إن القراءة «أو ننسها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآنا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء: 86]، أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها.
الفرق بين الترك والنسخ ج
قال الزجاج :
فإن قال قائل:*ما معنى تركها غير النسخ؟ وما الفرق بين الترك والنسخ؟
فالجواب في ذلك:*أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية , فتبطل الثانية العمل بالأولى.
ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل , فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تأتي ناسخة للتي قبلها، نحو:*{إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}, ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المحنة, فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيّنّاه, فهذا هو الحق.
معنى قوله تعالى :*{نأت بخير منها أو مثلها } ج ك
ج وقوله:*{نأت بخير منها}المعنى: بخير منها لكم ،*{أو مثلها}،*فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ , فتمام الصيام الذي نسخ الإباحة في الإفطار لمن استطاع الصيام, ودليل ذلك قوله:*{ولتكملوا العدّة}, فهذا هو خير لنا كما قال اللّه عزّ وجلّ.
وأمّا قوله*{أو مثلها}*أي: نأتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ أسهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ, والناس إليه أسرع نحو القبلة التي كانت على جهة, ثم أمر اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بجعل البيت قبلة المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب, وغيرهم إلى الإسلام)
ك وقوله:*{نأت بخيرٍ منها أو مثلها}*أي: في الحكم بالنّسبة إلى مصلحة المكلّفين، كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ:*{نأت بخيرٍ منها}*يقول: خيرٌ لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية:*{ما ننسخ من آيةٍ}*فلا نعمل بها،*{أو ننسئها}*أي: نرجئها عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السّدّيّ:*{نأت بخيرٍ منها أو مثلها}*يقول: نأت بخيرٍ من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة:*{نأت بخيرٍ منها أو مثلها}*يقول: آيةٌ فيها تخفيفٌ، فيها رخصةٌ، فيها أمرٌ، فيها نهيٌ)
معنى (خير) وإعرابها ط
قال ابن عطية : ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و «من» لابتداء الغاية.
إعراب (ألم تعلم ) والمخاطب بها ط
قال ابن عطية :
1- أنّ ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة أم تريدون [البقرة: 18]،
2- وقال قوم أم هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، المخاطب بها :
وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي.
المراد بقوله تعالى (على كلّ شيءٍ ) ط
قال ابن عطية : لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء
المراد ب (الشيء) ط
قال ابن عطية : الشيء في كلام العرب الموجود
تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
معنى الآية ج ك
قال الزجاج: معنى الآية: إن اللّه يملك السّماوات والأرض, ومن فيهن, فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ , ومنسوخ, ومتروك, وغيره
قال ابن كثير:
قال ابن جرير : وهذا الخبر وإن كان من اللّه تعالى خطابًا لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه الخبر عن عظمته، فإنّه منه تكذيبٌ لليهود الّذين أنكروا نسخ أحكام التّوراة، وجحدوا نبوّة عيسى ومحمّدٍ، عليهما الصّلاة والسّلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند اللّه بتغيّر ما غيّر اللّه من حكم التّوراة. فأخبرهم اللّه أنّ له ملك السّماوات والأرض وسلطانهما، وأنّ الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السّمع والطّاعة لأمره ونهيه، وأنّ له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عمّا يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السّلام، بذبح ولده، ثمّ نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثمّ رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل].
مناسبة الآية ك
قال ابن كثير: وفي هذا المقام ردٌّ عظيمٌ وبيانٌ بليغٌ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم اللّه -في دعوى استحالة النّسخ إمّا عقلًا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، ً وإمّا نقلًا كما تخرّصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا
الخطاب في الآية ك
قال ابن كثير: وهذا الخبر وإن كان من اللّه تعالى خطابًا لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه الخبر عن عظمته، فإنّه منه تكذيبٌ لليهود الّذين أنكروا نسخ أحكام التّوراة، وجحدوا نبوّة عيسى ومحمّدٍ، عليهما الصّلاة والسّلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند اللّه بتغيّر ما غيّر اللّه من حكم التّوراة
مسألة إنكار اليهود للنسخ والرد عليهم ك
قال ابن كثير:
قال ابن جرير :قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النّسخ، إنّما هو الكفر والعناد، فإنّه ليس في العقل ما يدلّ على امتناع النّسخ في أحكام اللّه تعالى؛ لأنّه يحكم ما يشاء كما أنّه يفعل ما يريد، مع أنّه قد وقع ذلك في كتبه المتقدّمة وشرائعه الماضية، كما أحلّ لآدم تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرّم ذلك، وكما أباح لنوحٍ بعد خروجه من السّفينة أكل جميع الحيوانات، ثمّ نسخ حلّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرّم ذلك في شريعة التّوراة وما بعدها. وأشياء كثيرةٌ يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلّة بأجوبةٍ لفظيّةٍ، فلا تصرف الدّلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورًا من البشارة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والأمر باتّباعه، فإنّه يفيد وجوب متابعته، عليه والسلام، وأنّه لا يقبل عملٌ إلّا على شريعته. وسواءٌ قيل إنّ الشّرائع المتقدّمة مغيّاة إلى بعثته، عليه السّلام، فلا يسمّى ذلك نسخًا كقوله:*{ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل}[البقرة: 187]، وقيل: إنّها مطلقةٌ، وإنّ شريعة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم نسختها، فعلى كلّ تقديرٍ فوجوب اتّباعه معيّنٌ لأنّه جاء بكتابٍ هو آخر الكتب عهدًا باللّه تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بيّن تعالى جواز النّسخ، ردًّا على اليهود، عليهم لعائن اللّه، حيث قال تعالى:*{ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ* ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ}*الآية، فكما أنّ له الملك بلا منازعٍ، فكذلك له الحكم بما يشاء،*{ألا له الخلق والأمر}[الأعراف: 54]*وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى:*{كلّ الطّعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه}*الآية*[آل عمران: 93]*كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلّهم متّفقون على جواز النّسخ في أحكام اللّه تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلّهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلمٍ الأصبهانيّ المفسّر: لم يقع شيءٌ من ذلك في القرآن، وقوله هذا ضعيفٌ مردودٌ مرذولٌ. وقد تعسّف في الأجوبة عمّا وقع من النّسخ، فمن ذلك قضيّة العدّة بأربعة أشهرٍ وعشرًا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلامٍ مقبولٍ، وقضيّة تحويل القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب بشيءٍ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرةٍ من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصّدقة قبل مناجاة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وغير ذلك،
إعراب ألم ومعناها ج
قال الزجاج :
لفظ*{ألم}*ههنا لفظ استفهام, ومعناه: التوقيف، وجزم*{ألم}*ههنا كجزم "لم"؛ لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله
معنى الملك في اللغة واشتقاقه ج ط
قال الزجاج : ومعنى الملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها, فما كان مما يقال فيه ملك سمي: الملك، وما نالته القدرة مما يقال فيه مالك, فهو ملك، تقول: ملكت الشيء أملكه ملكا.
وكقوله تعالى*{على ملك سليمان}*أي: في سلطانه وقدرته.
وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين أملكه إذا بالغت في عجنه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا "إملاك" فلان، أي: شهدنا عقد أمر نكاحه, وتشديده.
قال ابن عطية: الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة
الخطاب في (ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ومعناه ج ط
قال الزجاج : هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللّه جلّ وعزّ ناصرهم، والفائدة فيه: أنه بنصره إياهم, يغلبون من سواهم)
قال ابن عطية: وجمع الضمير في لكم دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته
معنى (الولي ) ط
قال ابن عطية: فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما
معنى (النصير) ط
قال ابن عطية: فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر
تفسير قوله تعالى:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
معنى الآية ج ك
قال الزجاج: فمعنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا خير لهم في السؤال عنه , وما يكفّرهم، وإنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم , وإقامتها على مخالفتهم , , فأعلم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر،
قال ابن كثير: نهى اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأشياء قبل كونها،
سبب نزول الآية ط ك
ذكر ابن عطية وابن كثير
1- إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل. وتلا: ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً. [النساء: 110].
2- وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك،
3- وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة،
4- وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلا،
5- وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهبا، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا.
القراءات في سئل ج ط
قال ابن عطية:
1- وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سيل» بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال،
2- ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء،
3- وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين،
وذكره الزجاج
معنى الاستفهام (أم تريدون) والمراد به ج ط ك
قال ابن عطية:
وقوله تعالى: أم تريدون:
1- قالت فرقة: أم رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
2- وقالت فرقة أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب. ك ج
3- وقالت فرقة: أم هنا بمعنى بل وألف الاستفهام (بل أتريدون) ك ج
مرجع الضمير في رسولكم ط ك
قال ابن كثير: وهو يعمّ المؤمنين والكافرين، فإنّه، عليه السّلام، رسول اللّه إلى الجميع، كما قال
معنى (كما سئل موسى من قبل) ط
قال ابن عطية: وكما سئل موسى عليه السلام هو أن يرى الله جهرة
معنى قوله تعالى (ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ط ك
قال ابن عطية: وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل،
قال ابن كثير: *أي: من يشتر الكفر بالإيمان
وقال أبو العالية: يتبدّل الشّدّة بالرّخاء
ورده ابن عطية فقال : قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به
معنى قوله تعالى (فقد ضل سواء السبيل) ج ط ك
قال الزجاج : *أي: من يسأل عما لا يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحق , فقد ضل سواء السبيل,*ي: قصد السبيل).*
قال ابن كثير: أي: فقد خرج عن الطّريق المستقيم إلى الجهل والضّلال وهكذا حال الّذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتّباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التّعنّت والكفر
معنى ضل ط
قال ابن عطية: وضلّ أخطأ الطريق
معنى (سواء) ط
قال ابن عطية: و «السواء» من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى في سواء الجحيم [الصافات: 55].
المراد ب (السبيل) وسبب التسمية ط
قال ابن عطية: والسّبيل عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها
حكم كثرة السؤال والتفصيل فيه ك
قال ابن كثير:
1- نهى اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأشياء قبل كونها فلعلّه أن يحرّم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصّحيح: "إنّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته".
2- ثبت في الصّحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال وفي صحيح مسلمٍ: "ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه"
3- والمراد أنّ اللّه ذمّ من سأل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيء، على وجه التعنّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السّلام، تعنّتًا وتكذيبًا وعنادًا،
تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
معنى الآية ك
قال ابن كثير: يحذّر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفّار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظّاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيّهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصّفح والعفو والاحتمال، حتّى يأتي أمر اللّه من النّصر والفتح.
سبب نزول هذه الآية ط ك
قال ابن عطية: واختلف في سبب هذه الآية
1- فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية
2- وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في راعنا [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
والحقّ: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه،
قال ابن كثير:
1- عن ابن عباس، قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم اللّه برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وكانا جاهدين في ردّ النّاس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل اللّه فيهما:*{ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم}الآية.
2- وقال الزّهريّ : هو كعب بن الأشرف.
3- وقال ابن أبي حاتمٍ: عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه: أنّ كعب بن الأشرف اليهوديّ كان شاعرًا، وكان يهجو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وفيه أنزل اللّه:*{ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم}*إلى قوله:*{فاعفوا واصفحوا}
إعراب (ود كثير من أهل الكتاب ) ط
قال ابن عطية: ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب، كثيرٌ مرتفع ب ودّ، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق
المراد بقوله تعالى (كثير من أهل الكتاب) ج ط ك
قال الزجاج يعني به: علماء اليهود.
قال ابن عطية: ،قال الزهري عنى ب كثيرٌ واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى يردّونكم يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة،
المراد بالكتاب : ط
قال ابن عطية: والكتاب هنا التوراة
معنى لو في قوله تعالى (لو يردونكم) ط
قال ابن عطية: وقوله تعالى: ولو هنا
1- بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب،
2- وقيل يتقدر جوابها في ودّ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ف «ود» دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخرا عن لو،
إعراب كفارا ط
قال ابن عطية:
1- كفّاراً مفعول ثان
2- ويحتمل أن يكون حالا، وحسداً مفعول له
3- وقيل: هو مصدر في موضع الحال
تعلق قوله تعالى ( من عند أنفسهم) ج ط
قال ابن عطية : واختلف في تعلق قوله من عند أنفسهم:
1- فقيل يتعلق ب ودّ لأنه بمعنى ودوا
2- ، وقيل: يتعلق بقوله حسداً فالوقف على قوله كفّاراً، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: يقولون بأفواههم [آل عمران: 167]، ويكتبون الكتاب بأيديهم [البقرة: 79]، ولا طائرٍ يطير بجناحيه [الأنعام: 38]،
3- وقيل يتعلق بقوله يردّونكم، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
ورجح الزجاج القول الأول : وقوله:*{حسداً من عند أنفسهم}*موصول بـ{ود الذين كفروا}، لا بقوله*{حسداً}؛ لأن حسد الإنسان لا يكون من عند نفسه،
ولكن المعنى: مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم الدليل على ذلك قوله:*{من بعد ما تبيّن لهم الحق}.
معنى قوله تعالى (من عند أنفسهم) ك
قال ابن كثير: من قبل أنفسهم.
معنى قوله تعالى (من بعد ما تبين لهم الحق) ك
قال ابن كثير: قال أبو العالية:*{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}*من بعد ما تبيّن [لهم] أنّ محمّدًا رسول اللّه يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل، فكفروا به حسدًا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم.
*{كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}*يقول: من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئًا، ولكنّ الحسد حملهم على الجحود، فعيرّهم ووبّخهم ولامهم أشدّ الملامة،
مسألة حكم الكفر عنادا ط
قال ابن عطية: وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلا وبعده وقوعا، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد،
معنى العفو ط
قال ابن عطية: والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار»
معنى الصفح ط
قال ابن عطية: والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقت الأمر بالصفح في هذه الآية والأقوال في نسخها ج ط ك
قال الزجاج : هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإنما كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد وضوح الحق عندهم , فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
قال ابن عطية:
1- وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قاتلوا الّذين لا يؤمنون [التوبة: 29] إلى قوله صاغرون [التوبة: 29]، وقيل: بقوله «اقتلوا المشركين»، 2- وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة،
قال ابن كثير: ذكر قول ابن عباس السابق وقال : إنّها منسوخةٌ بآية السّيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله:*{حتّى يأتي اللّه بأمره}
و عن عروة بن الزّبير: أنّ أسامة بن زيدٍ أخبره، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم اللّه، ويصبرون على الأذى، قال اللّه:*{فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}*وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتأوّل من العفو ما أمره اللّه به، حتّى أذن اللّه فيهم بقتلٍ، فقتل اللّه به من قتل من صناديد قريشٍ.
وهذا إسناده صحيحٌ، ولم أره في شيءٍ من الكتب السّتّة [ولكن له أصلٌ في الصّحيحين عن أسامة بن زيدٍ رضي اللّه عنهما]
معنى قوله تعالى (حتى يأتي الله بأمره) ط
قال ابن عطية: قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأمر من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه الآية بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
معنى قوله تعالى(إن الله على كل شيء قدير) ج ط
قال الزجاج : أي: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم والأبلغ
قال ابن عطية: وقوله تعالى: إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين
تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
معنى الآية ك
قال ابن كثير: يحثّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة، من إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، حتّى يمكّن لهم اللّه النّصر في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد*{يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللّعنة ولهم سوء الدّار}[غافر: 52]؛ ولهذا قال تعالى:*{إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ}*يعني: أنّه تعالى لا يغفل عن عمل عاملٍ، ولا يضيع لديه، سواءٌ كان خيرًا أو شرًّا، فإنّه سيجازي كلّ عاملٍ بعمله.
المراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ط
قال ابن عطية: قالت فرقة من الفقهاء: إن قوله تعالى: وأقيموا الصّلاة عموم، وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في أقيموا الصّلاة، وأما الزكاة فمجملة لا غير.
سبب الأمر بالصلاة والزكاة ط
قال ابن عطية: قال الطبري: إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود راعنا [البقرة: 104]، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنين بما يحطه،
معنى تجدوه ط
قال ابن عطية: فمعنى تجدوه تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده.
معنى قوله تعالى (إن الله بما تعملون بصير) ط ك
قال ابن كثير : قال ابن جرير وهذا الخبر من اللّه للّذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنّهم مهما فعلوا من خيرٍ أو شرٍّ، سرًّا أو علانيةً، فهو به بصيرٌ لا يخفى عليه منه شيءٌ، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها.
- وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنّ فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنّه أعلم القوم أنّه بصيرٌ بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته إذ كان ذلك مدّخرًا لهم عنده، حتّى يثيبهم عليه، كما قال:*{وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه}*وليحذروا معصيته
معنى (بصير )
ك
قال ابن كثير وأمّا قوله:*{بصيرٌ}*فإنّه مبصرٌ صرف إلى "بصيرٍ" كما صرف مبدعٌ إلى "بديعٍ"، ومؤلمٌ إلى "أليمٍ