والإشارةُ في قولِهِ (وَيَتَبَيَّنُ هذا) رَاجِعَةٌ إلى بيانِ أنَّ اللهَ تعالى مُتَّصِفٌ ومُسَمًّى بما لهُ من الأسماءِ والصفاتِ، وأنَّهُ سبحانَهُ مُنَزَّهٌ عن مُمَاثَلَةِ المخلوقاتِ خِلاَفاً لِمَنْ نَفَى فَعَطَّلَ، أو أَثْبَتَ فَشَبَّهَ ومَثَّلَ، فهذهِ المقدمةُ وما ذَكَرَ فيها يُوَضِّحُهُ ويُقَرِّرُهُ ما سَيَأْتِي في الأصلَيْنِ الجَلِيلَيْنِ، والمَثَلَيْنِ الوَاضِحَيْنِ – وللهِ المَثَلُ الأَكْمَلُ – وَيَتَّضِحُ ذلكَ أيضاً (بالخاتمةِ الجامعةِ) التي ذَكَرَ المُؤَلِّفُ فيها سَبْعَ قواعدَ جَلِيلَةٍ، وَبِاخْتِتَامِهِ للقواعدِ السَّبْعِ يَنْتَهِي الكَلاَمُ فِي (بابِ الأسماءِ والصِّفَاتِ)؛ حَيْثُ يَبْتَدِئُ كَلاَمَهُ في الأصلِ الثَّانِي, وهوَ تَوْحِيدُ (الشَّرْعِ والقَدَرِ).
الأصـــلُ الأوَّلُ
قولُهُ:
فأمَّا الأصلانِ: فأَحَدُهُمَا أنْ يُقَالَ: (القولُ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في بعضٍ) فإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يقولُ بأنَّ اللهَ حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بِعِلْمٍ، قديرٌ بِقُدْرَةٍ، سميعٌ بِسَمْعٍ، بصِيرٌ بِبَصَرٍ، مُتَكَلِّمٌ بِكَلاَمٍ، مُرِيدٌ بإرادةٍ، وَيَجْعَلُ ذلكَ كلَّهُ حقيقةً، وَيُنَازِعُ في مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وغَضَبِهِ وكَرَاهَتِهِ، فيجعلُ ذلكَ مَجَازاً، ويُفَسِّرُهُ إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المخلُوقَاتِ؛ مِن النِّعَمِ والعُقُوبَاتِ، فَيُقَالُ لهُ: لا فَرْقَ بينَ ما نَفَيْتَهُ، وبينَ ما أَثْبَتَّهُ، بل القولُ في أَحَدِهِمَا كالقولِ في الآخَرِ، فإنْ قُلْتَ: إنَّ إرادتَهُ مثلُ إرادةِ المخلوقِينَ، فكذلكَ مَحَبَّتُهُ وَرَضِاهُ وَغَضَبُهُ، وهذا هو التمثيلُ، وإنْ قُلْتَ: إنَّ لهُ إرادةً تَلِيقُ بهِ، كما أنَّ للمخلوقِ إرادةً تَلِيقُ بهِ، قيلَ لَكَ: وكذلكَ لهُ محبةٌ تَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ محبةٌ تَلِيقُ بهِ، ولهُ رِضًا وغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ، وللمخلوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بهِ،وإنْ قُلْتَ: الغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ القلبِ لِطَلَبِ الانتقامِ، فَيُقَالُ لكَ: والإرادةُ مَيْلُ النفسِ إلى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فإنْ قُلْتَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ قِيلَ لكَ: وهذا غَضَبُ المخلوقِ.
وكذلكَ يَلْزَمُ بالقولِ في كلامِهِ وسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إنْ نَفَى عَنْهُ الغَضَبَ، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هو مِن خَصَائِصِ المَخْلُوقِينَ؛ فهذا مُنْتَفٍ عن السمعِ والبصرِ والكلامِ وجميعِ الصفاتِ، وإنْ قالَ: إنَّهُ لا حَقِيقَةَ لهذا إلاَّ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقِينَ؛ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عنهُ قِيلَ لهُ: وهكذا السمعُ، والبصرُ، والكلامُ، والعلمُ، والقُدْرَةُ)
الشرحُ:
هذا شُرُوعٌ في تفصيلِ ما أَجْمَلَهُ المُؤَلِّفُ في المُقَدِّمَةِ، وقولُهُ: (أحدُهُمَا أنْ يُقَالَ: القولُ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في البعضِ الآخَرِ) يعني: أوَّلَ الأصلينِ الشَّرِيفَيْنِ المُتَضَمِّنَيْنِ إيضاحَ القاعدةِ الماضِيَةِ، هو أنَّ الكلامَ في بابِ الصفاتِ واحدٌ، ومَن يُحَاوِلْ إثباتَ البعضِ ونَفْيَ الآخَرِ يَقَعْ في التناقضِ والاضطرابِ لا مَحَالَةَ.
وقولُهُ: (فإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ بأنَّ اللهَ حَيٌّ) إلخ: يَعْنِي إذا كانَ البَحْثُ والمناقشَةُ مع المُنْتَسِبِ للأشعريِّ فإنَّهُ هو الذي يُثْبِتُ هذه الصفاتِ السَّبْعَ، ويُنَازِعُ في بَقِيَّةِ الصفاتِ، ويَجْعَلُ نِسْبَتَهَا إلى اللهِ على سبيلِ المجازِ، ويَسْلُكُ في ذلكَ أَحَدَ طَرِيقَيْنِ إمَّا تأويلُ الصفةِ بصفةٍ أُخْرَى – كَتَفْسِيرِهِ المَحَبَّةَ بالإرادةِ – وإمَّا تَفْسِيرُ الصفةِ ببعضِ المخلوقاتِ مِن النِّعَمِ والعُقُوبَاتِ، مثلَ تَفْسِيرِهِ اليدَ بالنِّعْمَةِ، وتَفْسِيرِ الغَضَبِ بالعقوبةِ، فإنَّهُ يُقَالُ لهُ حينئذٍ: لاَ فَرْقَ بينَ الصفةِ التي تُثْبِتُهَا والصفةِ التي تَنْفِيهَا مِن حيثُ لزومُ المَحْذُورِ وَعَدَمُ لُزُومِهِ، فدلالةُ النصوصِ على أنَّ لهُ مَحَبَّةً ورَحْمَةً، وغَضَباً ورِضَاً، وفَرَحاً وضَحِكاً، ووَجْهاً وَيَدَيْنِ، كدلالةِ النصوصِ على الصفاتِ السَّبْعِ، فَلِمَ نَفَيْتَ حقيقةَ رَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وفَرَحِه وَضَحِكِهِ وَأَوَّلْتَهَا بصفةِ الإرادةِ؟ فإنْ قُلْتَ: إنَّ إثباتَ الإرادةِ لا يَلْزَمُ منهُ تَشْبِيهٌ وتَجْسِيمٌ، وإثباتَ حقائقِ هذهِ الصفاتِ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ والتجسيمَ؛ فإنَّهَا لا تُعْقَلُ إلاَّ فِي الأجسامِ؛ فإنَّ الرحمةَ رِقَّةٌ تَعْتَرِي طبيعةَ الحيوانِ، والمَحَبَّةَ مَيْلُ النفسِ لِجَلْبِ ما يَنْفَعُهَا، والغَضَبَ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِوُرُودِ ما يَرِدُ عليهِ، قيلَ لكَ: وكذلكَ الإرادةُ هِيَ مَيْلُ النفسِ إلى جَلْبِ ما يَنْفَعُهَا وَدَفْعِ ما يَضُرُّهَا، وكذلكَ جميعُ ما أَثْبَتَّهُ مِن الصفاتِ إنَّمَا هي أعراضٌ قائمةٌ بالأجسامِ في الشاهدِ؛ فإنَّ العِلْمَ انْطِبَاعُ صورةِ المعلومِ في نَفْسِ العالمِ،أو صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ قائِمَةٌ بهِ، وكذلكَ َالسَّمْعُ، والبَصَرُ، والحياةُ، أعراضٌ قائِمَةٌ بالموصوفِ، فكيفَ لَزِمَ التشبيهُ والتجسيمُ مِن إثباتِ تلكَ الصفاتِ، ولم يَلْزَمْ مِن إثباتِ هذهِ، فإنْ قُلْتَ: أنَا أُثْبِتُهَا على وَجْهٍ لا يُمَاثِلُ صفاتِ المخلوقِينَ؛ قيلَ لكَ: هكذا القولُ في سائرِ الصفاتِ، تُثْبَتُ للهِ كما أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ على وجهٍ لا يُمَاثِلُ فيها صفاتِ المخلوقِينَ، فإنْ قُلْتَ: هذا لا يُعْقَلُ إلاَّ مِن جنسِ ما يُثْبَتُ للمخلوقينَ؛ قِيلَ لكَ: فكيفَ عَقَلْتَ سَمْعاً وبَصَراً وحياةً وإرادةً لَيْسَتْ مِن جنسِ صفاتِ المخلوقينَ؟
وقولُهُ: (وكذلكَ يَلْزَمُ القولُ في كلامِهِ وسَمْعِهِ، وبَصَرِهِ، وعِلْمِهِ، وقُدْرَتِهِ) إلخ.
المعنى لَمَّا مَثَّلَ المُؤَلِّفُ بالإرادةِ والغضبِ، وأنَّ الأشعريَّ إنْ أَثْبَتَ الإرادةَ على ما يَلِيقُ باللهِ لَزِمَهُ ذلكَ في سائرِ الصفاتِ، وإنْ مَثَّلَهَا بإرادةِ المخلوقِ صارَ مُشَبِّهاً، وأَنَّهُ إذا فَسَّرَ الغضبَ بما هو مِن خصائصِ المخلوقِ بَيَّنْتُ لهُ الإرادةَ التي هِيَ مِن خصائصِ المخلوقِ.
فإذَا قالَ: هذهِ إرادةُ المخلوقِ.
قيلَ لهُ: والغضبُ الذى ذَكَرْتَ هو غَضَبُ المخلوقِ.
أقولُ: لَمَّا ذَكَر المُؤَلِّفُ هذا المثالَ الذي - هوَ عِبَارَةٌ عن مناقشةٍ يُفْحِمُ فيها صاحبُ السُّنَّةِ خَصْمَهُ مِن الأشعريةِ - قالَ: وهكذا يَلْزَمُ الكلامُ في السمعِ والبصرِ، إذا نَفَى الأشعريُّ المحبَّةَ والرِّضَا والرحمةَ، وغيرَ ذلكَ من الصفاتِ، وفَسَّرَ ذلك بما يُنَاسِبُ المخلوقِينَ؛ قيلَ لهُ: وهذا المَحْذُورُ أيضاً يُقَالُ بالنسبةِ للسمعِ والبصرِ ونحوِ ذلكَ في الصفاتِ التي تُثْبَتُ.
وإذا قالَ: لا حقيقةَ للمحبَّةِ والغضبِ، ونحوِ ذلكَ إلاَّ مِن جنسِ ما يَخْتَصُّ بالمخلوقينَ.
قِيلَ لهُ: ولا حقيقةَ للسمعِ والبصرِ إلاَّ مِن جنسِ ما يُثْبَتُ للمخلوقينَ، إذ البابُ واحِدٌ.
قولُهُ:
(فهذا المُفَرِّقُ بينَ بعضِ الصفاتِ وبعضٍ، يقالُ لهُ فيما نَفَاهُ كما يَقُولُهُ هو لِمُنَازِعِهِ فيما أَثْبَتَهُ، فإذا قالَ المُعْتَزِلِيُّ: ليسَ لهُ إرادةٌ، ولا كلامٌ قائمٌ بِهِ؛ لأنَّ هذه الصفاتِ لا تَقُومُ إلاَّ بالمخلوقاتِ، فإنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هذهِ الصفاتِ يَتَّصِفُ بها القديمُ، ولا تَكُونُ كصفاتِ المُحْدَثَاتِ، فهكذا يقولُ لهُ المُثْبِتونَ لسائرِ الصفاتِ مِن المَحَبَّةِ والرِّضَا ونحوِ ذلكَ).
الشرحُ:
يعني أنَّهُ يُقَالُ للأَشْعَرِيِّ مِثْلَمَا يَقُولُ هو للمُعْتَزِلِيِّ، حينما يقولُ لهُ: إثباتُ الصفاتِ السَّبْعِ مُسْتَلْزِمٌ للتشبيهِ؛ فإنَّ الأَشْعَرِيَّ يُبَيِّنُ ويُوَضِّحُ لِخَصْمِهِ المُعْتَزِلِيِّ قائلاً: هذهِ الصفاتُ يَتَّصِفُ بها الرَّبُّ, ولا يَقْتَضِي إِثْبَاتُهَا لهُ تمثيلاً بالمخلوقاتِ، فإذا قالَ الأَشْعَرِيُّ هذا الجوابَ للمُعْتَزِلِيِّ قالَ لهُ أهلُ السُّنَّةِ: جوابُكَ على المُعْتَزِلِيِّ هو جوابُنَا عليكَ بالنسبةِ لسائرِ الصفاتِ.
قولُهُ:
(فإنْ قالَ: تلكَ الصفاتُ أَثْبَتُّهَا بالعقلِ؛ لأنَّ الفِعْلَ الحادِثَ دَلَّ على القدرةِ، والتخصيصَ دَلَّ على الإرادةِ,والإِحْكَامَ دَلَّ على العلمِ، وهذهِ الصفاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ للحياةِ، والحَيُّ لا يَخْلُو عن السمعِ، والبصرِ، والكلامِ أو ضِدِّ ذلكَ.
قالَ لهُ سائِرُ أهلِ الإثباتِ: لكَ جوابانِ:
أَحَدُهُمَا: أنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدليلِ المُعَيَّنِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ المَدْلُولِ المُعَيَّنِ، فَهَبْ أنَّ ما سَلَكْتَ مِن الدليلِ العَقْلِيِّ لا يُثْبِتُ ذلكَ، فإنَّهُ لا يَنْفِيهِ، والنافِي لاَ بُدَّ أنْ يأتِيَ بدليلٍ كالمُثْبِتِ سواءً بسواءٍ، وليسَ لكَ أنْ تَنْفِيَهُ بغيرِ دليلٍ؛ لأنَّ النافِيَ عليهِ الدليلُ كَمَا على المُثْبِتِ، والسَّمْعُ قد دَلَّ عليهِ، ولمْ يُعَارِضْ ذلك مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ ولا سَمْعِيٌّ، فَيَجِبُ إِثْبَاتُ ما أَثْبَتَهُ الدليلُ السالمُ عن المُعَارِضِ المُقَاوِمِ.
الثاني: أنْ يُقَالَ:يُمْكِنُ إثباتُ هذهِ الصفاتِ بِنَظِيرِ ما أُثْبِتَ بهِ تلكَ من العقلياتِ، فيقالُ: نَفْعُ العبادِ بالإحسانِ إليهم يَدُلُّ على الرحمةِ، كدلالةِ التخصيصِ على المشيئةِ، وإكرامُ الطائعِينَ يَدُلُّ على مَحَبَّتِهِم، وعقابُ الكافرينَ يَدُلُّ على بُغْضِهِم، كَمَا قد ثَبَتَ بالمشاهدةِ والخَبَرِ مِن إكرامِ أوليائِهِ، وعقابِ أعدائِهِ.
والغاياتُ المحمودةُ في مَفْعُولاَتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وهي ما تَنْتَهِي إليهِ مَفْعُولاَتُهُ ومَأْمُورَاتُهُ مِن العواقبِ الحميدةِ – تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالغةِ، كما يَدُلُّ التخصيصُ على المَشِيئَةِ، وَأَوْلَى لِقُوَّةِ العِلَّةِ الغَائِيَّةِ، ولهذا كانَ ما في القرآنِ مِن بيانِ ما في مخلوقاتِهِ مِن النِّعَمِ والحِكَمِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي القرآنِ من بيانِ ما فيها من الدلالةِ على مَحْضِ المَشِيئَةِ.
الشرحُ:
يعني إذا قالَ: إنِّي أَثْبَتُّ السبْعَ؛ لدلالةِ العقلِ عليها وأمَّا بَقِيَّةُ الصفاتِ فلا أُثْبِتُهَا لِعَدَمِ دلالةِ العقلِ عليها، أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ، وفيما بينَ ذلكَ ذَكَرَ المُؤَلِّفُ وَجْهَ استدلالِ الأَشْعَرِيِّ على إثباتِ هذهِ الصفاتِ بالعقلِ، فقالَ: لأنَّ الفِعْلَ الحادثَ دَلَّ على القدرةِ، والتخصيصَ دَلَّ على المشيئةِ، والإحكامَ دَلَّ على العلمِ؛ فإنَّ الفعلَ المُحْكَمَ، والخَلْقَ والرِّزْقَ، وإنزالَ المَطَرِ، وإنباتَ النباتِ، وتخصيصَ بعضِ الناسِ بالاصطفاءِ أو الكراماتِ، وكَوْنَ الأحكامِ في غايةِ السدادِ والمُلاَءَمَةِ للأحوالِ، كلَّ ذلكَ يَدُلُّ على إثباتِ هذهِ الصفاتِ للهِ، وهذهِ الصفاتُ لا يَتَّصِفُ بها إلاَّ مَن كانَ حَيًّا، والحيُّ لا يَخْلُو عن أن يكونَ سميعاً، بصيراً، مُتَكَلِّماً، أو يكونَ أَصَمَّ، أَعْمَى، أَبْكَمَ، والسمعُ والبصرُ والكلامُ أوصافُ كمالٍ، وَضِدُّهَا أوصافُ نَقْصٍ، واللهُ تعالى لهُ الوصفُ الأكملُ، فهو مُتَّصِفٌ بها، هذا وجهُ الاستدلالِ على الصفات ِالسَّبْعِ بالعقلِ.
والجوابانِ هما:
أولاً: أن يُقَالَ لِمَنْ زَعَمَ عَدَمَ دلالةِ العقلِ على ما عَدَا الصفاتِ السَّبْعَ: افْرِضْ أنَّ العقلَ لم يَدُلَّ عليها؛ فإنَّ عَدَمَ دلالتِهِ عليها ليسَ معناهُ أنَّهَا غيرُ موجودةٍ؛ إذْ قد دَلَّ عليها دليلٌ آخَرُ وهوَ السمعُ، والسمعُ دليلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، بل الطِّمَأْنِينَةُ إليهِ في هذا البابِ أعظمُ مِن الطِّمَأْنِينَةِ إلى مُجَرَّدِ العقلِ، فما الذي يُسَوِّغُ لكَ نَفْيَ مدلولِهِ؟ وقولُهُ: (والنافِي عليهِ الدليلُ كَمَا على المُثْبِتِ)، معناهُ أنَّ النافيَ عليهِ إقامةُ الدليلِ على الانتفاءِ؛ كما أنَّ المُثْبِتَ للشيءِ عليهِ إقامةُ الدليلِ على إثباتِهِ.
وثانياً: يقالُ لهُ: بقيةُ الصفاتِ ثابتةٌ بالعقلِ، كمَا أنَّ الصفاتِ السَّبْعَ ثابتةٌ بهِ، فالإِنْعَامُ، والإحسانُ وكَشْفُ الضُّرِّ، وتفريجُ الكُرُبَاتِ، دَالٌّ على الرحمةِ؛ كدلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ. والتخصيصُ بالكرامةِ والاصطفاءِ والاختيارِ دالٌّ على المحبَّةِ كدلالةِ ما ذَكَرْتَ على الإرادةِ، والإهانةُ والطَّرْدُ والإبعادُ والحرمانُ دَالٌّ على المَقْتِ والبُغْضِ كدلالةِ ضِدِّهِ على الرِّضَا والحُبِّ، والعقوبةُ والبَطْشُ، والانتقامُ دالٌّ على الغضبِ، كدلالةِ ضِدِّهِ على الرضا.
وإذا قُدِّرَ اثنانِ: أَحَدُهُمَا يُحِبُّ نُعُوتَ الكمالِ ويَفْرَحُ بها ويَرْضَاهَا، والآخرُ لا فَرْقَ عندَهُ بينَ صفاتِ الكمالِ وصفاتِ النقْصِ، فلا يُحِبُّ هذا ولا هذا، ولا يَرْضَى هذا ولا هذا، ولا يَفْرَحُ بهذا ولا بهذا، كان الأوَّلُ أَكْمَلَ مِن الثاني، ومعلومٌ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى يُحِبُّ المُحْسِنِينَ والمُتَّقِينَ، والمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عن الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ، وهذهِ كلُّهَا صفاتُ كمالٍ، وكذلكَ إذا قُدِّرَ اثنانِ: أَحَدُهُمَا يَبْغَضُ المُتَّصِفَ بِضِدِّ الكمالِ كالظلمِ، والجهلِ، والكذبِ، ويَغْضَبُ على مَن يفعلُ ذلكَ، والآخرُ لا فَرْقَ عندَهُ بينَ الجاهلِ الكاذبِ والظالمِ، وبينَ العالمِ الصادقِ والعادلِ؛ كانَ الأوَّلُ أَكْمَلَ.
وأيضاً فنحنُ نَعْلَمُ بالاضطرارِ، أنَّهُ إذا فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ، أَحَدُهُمَا يَرْحَمُ غَيْرَهُ،فَيَجْلُبُ لهُ المَنْفَعَةَ، وَيَدْفَعُ عنهُ المَضَرَّةَ، والآخرُ قد اسْتَوَى عِنْدَهُ هذا وهذا، فليسَ عندَهُ ما يَقْتَضِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ, وَلاَ دَفْعَ مَضَرَّةٍ كانَ الأوَّلُ أَكْمَلَ.
وقولُهُ: (والغاياتُ المحمودةُ في مفعولاتِهِ ومأموراتِهِ - وهي ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُهُ ومأموراتُهُ مِن العواقبِ الحميدةِ - تَدُلُّ على حِكْمَتِهِ البالغةِ) إلخ.
الغاياتُ المحمودةُ مبتدأٌ خَبَرُهُ قولُهُ: تَدُلُّ على حكمتِهِ البالغةِ وما بينَ المبتدأِ والخبرِ جملةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُفَسِّرَةٌ للغاياتِ، فقولُ المُؤَلِّفِ: (وهيَ ما تَنْتَهِي إليهِ مفعولاتُهُ ومأموراتُهُ من العواقبِ الحميدةِ) تَوْضِيحٌ لمعنى الغاياتِ المحمودةِ.
فالخلاصةُ أنَّ العواقبَ الحميدةَ في أفعالِ اللهِ وأوامرِهِ تَدُلُّ على صفةِ الحكمةِ كدلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ، فالمَشِيئَةُ بمعنى الإرادةِ الكونيَّةِ.
وقولُهُ: (لقوةِ العِلَّةِ الغائِيَّةِ) معناهُ: أنَّ دلالةَ العواقبِ الحميدةِ في أفعالِ اللهِ وأوامرِهِ على الحكمةِ أقوى من دلالةِ تخصيصِ بعضِ العِبَادِ دونَ بعضٍ على صفةِ الإرادةِ، ثم بَيَّنَ المُؤَلِّفُ وَجْهَ ذلكَ، فقالَ: (ولهذا كانَ ما في القرآنِ من بيانِ ما فى مخلوقاتِهِ من النِّعَمِ والحِكَمِ أَعْظَمَ مِمَّا في القرآنِ من بيانِ ما فيها من الدلالةِ على مَحْضِ المَشِيئَةِ) المعنى: ومِن أَجْلِ أنَّ دلالةَ العواقبِ الحميدةِ على الحكمةِ أَقْوَى من دلالةِ التخصيصِ على المشيئَةِ نَجِدُ أنَّ اللهَ سبحانَهُ ذَكَرَ في القرآنِ ما في مخلوقاتِهِ من النِّعَمِ والحِكَمِ أكثرَ مِمَّا ذَكَرَ أنَّهُ شاءَهَا وخَلَقَهَا فمَثَلاً قولُهُ تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعْلَمُونَ}، وقولُهُ تعالى: {هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتُغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَوَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، هذهِ الآياتُ التي يَذْكُرُ اللهُ فيها أنَّهُ أَنْعَمَ على عبادِهِ بما خَلَقَ لهم، وبيانُهُ لِلْحِكْمَةِ في خَلْقِهِ الأشياءَ أَكْثَرُ مِن ذِكْرِهِ أنَّهُ كَوَّنَ الأشياءَ وَخَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ، كقولِهِ تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وَنَحْوِهَا مِن الآياتِ, فهذهِ الأدلَّةُ العقليَّةُ التي دَلَّتْ على هذهِ الصفاتِ هي نظيرُ الأدلَّةِ العقليَّةِ التي دَلَّتْ على الصفاتِ السَّبْعِ، فَتَبَيَّنَ أنَّهُ لاَ بُدَّ للأَشْعَرِيَّةِ مِن واحدٍ من أَمْرَيْنِ، إمَّا النَّفْيُ والتعطيلُ, وإمَّا أنْ يَصِفُوا اللهَ بِمَا وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِه رسولُهُ، ويَتَّبِعُوا في ذلكَ سبيلَ السَّلَفِ، الذينَ هم أَعْلَمُ الأُمَّةِ بهذا الشَّأْنِ نَفْياً وَإِثْبَاتاً وَأَشَدُّ تَعْظِيماً وَتَنْزِيهًا له عَمَّا لا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وكانَ البابُ عندَهُم واحداً.
واعْلَمْ أنَّ إثباتَ الصفاتِ السَّبْعِ فَقَطْ خلافُ قولِ السَّلَفِ وخلافُ قولِ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ فالناسُ كانوا طائفتَيْنِ؛ سَلَفِيَّةً وجَهْمِيَّةً، فَحَدَثَت الطائفةُ السَّبْعِيَّةُ، واشْتَقَّتْ قولاً بينَ قولَيْنِ، فلا للسَّلَفِ اتَّبَعُوا, ولا مع الجَهْمِيَّةِ بَقُوا، والأشعريُّ منسوبٌ إلى أبى الحسنِ عليِّ بنِ إسماعيلَ بنِ أبي بِشْرٍ، إِسْحَاقَ بنِ سَلْمَانَ بنِ إسماعيلَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ موسى بنِ بلالِ بنِ أبي بُرْدَةَ، عامرِ بنِ أبى موسى الأَشْعَرِيِّ صاحبِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو صاحبُ الأصولِ، والقائمُ بِنُصْرَةِ مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ، وإليهِ تُنْسَبُ الطائفةُ الأشعريَّةُ، ومولدُهُ سنةَ سَبْعِينَ، وقيلَ: سِتِّينَ ومِائَتَيْنِ بالبَصْرَةِ، وتُوُفِّيَ بعدَ نَيِّفٍ وثلاثينَ وثلاثِمَائَةٍ، وقيلَ: سنةَ أَرْبَعٍ وعشرينَ وثلاثِمائَةٍ، والأَشْعَرِيُّ بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الشينِ المُعْجَمَةِ وفتحِ العينِ المُهْمَلَةِ, وبعدَها راءٌ نسبةً إلى أَشْعَرَ، واسمُهُ نَبْتُ بنُ أَدَدِ بنِ زيدِ بنِ يَشْجُبَ، وإنَّمَا قيلَ لهُ أَشْعَرُ؛ لأنَّ أمَّهُ وَلَدَتْهُ والشَّعْرُ على يَدَيْهِ، هكذا قالَهُ السَّمْعَانِيُّ.
وكان أبو الحسنِ الأَشْعَرِيُّ أَوَّلاً مُعْتَزِلِيٍّا، ثم تابَ مِن القولِ بِخَلْقِ القرآنِ في المسجدِ الجامعِ بالبصرةِ، يومَ الجمعةِ رَقِي كُرْسِيًّا، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَن عَرَفَنِي فقد عَرَفَنِي، ومَن لم يَعْرِفْنِي فَأَنَا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسِي، أَنَا فلانُ بنُ فلانٍ, كُنْتُ أقولُ بِخَلْقِ القرآنِ, وإنَّ اللهَ لا تَرَاهُ الأبصارُ, وأَنَا تَائِبٌ، مُقْلِعٌ، مُعْتَقِدٌ للرَّدِّ على المُعْتَزِلَةِ، مُخْرِجٌ لِفَضَائِحِهِموَمَعَائِبِهم، وهو صاحبُ الكُتُبِ في الرَّدِّ على المَلاَحِدَةِ وغيرِهِم من المُعْتَزِلَةِ والرَّافِضَةِ والجَهْمِيَّةِ والخوارجِ وسائرِ أصنافِ المُبْتَدِعِينَ, والتي منها: المُوجِزُ والمقالاتُ، والإبانةُ، وقد صَرَّحَ في كُتُبِهِ الأخيرةِ بِرُجُوعِهِ عن مذهبِ نُفَاةِ الصفاتِ، وأنَّهُ مُعْتَقِدٌ لمذهبِ السلفِ, وهو إثباتُ الأسماءِ والصفاتِ، دونَ تفريقٍ بينَ صفةٍ وأُخْرَى.
قولُهُ:
وإنْ كانَ المُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصفاتِ ويُقِرُّ بالأسماءِ، كالمُعْتَزِلِيِّ الذي يقولُ: إنَّهُ حَيٌّ عليمٌ قديمٌ، ويُنْكِرُ أنْ يَتَّصِفَ بِالحياةِ والعلمِ والقدرةِ، قيلَ لهُ: لا فَرْقَ بينَ إثباتِ الأسماءِ، وإثباتِ الصفاتِ، فإنَّكَ إنْ قُلْتَ: إثباتُ الحياةِ والعلمِ والقدرةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهاً أو تَجْسِيمًا؛ لأنَّا لا نَجِدُ مُتَّصِفاً بالصفاتِ إلاَّ ما هو جِسْمٌ، قيلَ لكَ: ولا نَجِدُ في الشاهِدِ ما هو مُسَمًّى حَيًّا عليمًا قديرًا إلاَّ ما هو جِسْمٌ، فإنْ نَفَيْتَ ما نَفَيْتَ؛ لكونِكَ لم تَجِدْهُ في الشاهدِ إلاَّ للجسمِ فَانْفِ الأسماءَ، بلْ وكُلَّ شيءٍ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُهُ في الشاهدِ إلا للجسمِ، فكلُّ ما يَحْتَجُّ به مَن نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بهِ نَافِي الأسماءِ الحُسنى، فَمَا كانَ جوابًا لذلكَ كانَ جواباً لِمُثْبِتِي الصفاتِ.
الشرحُ:
يعني: يُقَالُ للمعتزليِّ - إذا كانَ الخطابُ مَعَهُ فإنَّهُ هو الذي يُقِرُّ بالأسماءِ وَيَنْفِي الصفاتِ - يُقَالُ لهُ: إذا قالَ: إنَّ الصفاتِ لا تَقُومُ إلاَّ بِجِسْمٍ.رَدُّنَا عليكَ هو أنْ نقولَ لكَ:والأسماءُ التي يُسَمَّى بها المخلوقُ لا تَقُومُ في المُشَاهَدِ إلا بجسمٍ, وأنتَ تُثْبِتُ للهِ الأسماءَ, فَيَلْزَمُكَ التشبيهُ، وحينئذٍ فما كانَ جواباً عن ثبوتِ الأسماءِ، كانَ جواباً لأهلِ الإثباتِ عن إثباتِ الصفاتِ.
والمقصودُ أنَّهُ يُقَالُ للمعتزلةِ: قولُكُم مَنْقُوضٌ بإثباتِ الأسماءِ الحُسْنَى؛ فإنَّكُم تقولونَ: إنَّ اللهَ يُسَمَّى حَيًّا عليماً قديراً، وإذا أَمْكَنَ إثباتُ حَيٍّ عليمٍ قديرٍ وليسَ بِجِسْمٍ أَمْكَنَ أنْ يكونَ لهُ حياةٌ وعِلْمٌ وقُدْرَةٌ وليس بجسمٍ، وإنْ لم يُمْكِنْ ذلكَ، فما كانَ جوابُكُم عن إثباتِ الأسماءِ كانَ جوابَنَا عن إثباتِ الصفاتِ، ويُقَالُ لهم أيضاً:ما تَعْنُونَ بالجسمِ؟ أَتَعْنُونَ بهِ ما كانَ مُرَكَّباً مِن الجواهرِ المُفْرَدَةِ، أو مِن المادَّةِ والصورةِ؟ أمْ تَعْنُونَ بهِ ما يُمْكِنُ الإشارةُ إليهِ، أو ما كانَ قائماً بنفسِهِ، أو ما هو موجودٌ؟ فإنْ عَنَيْتُم الأوَّلَ، لم نُسَلِّمْ أنَّ هذه الصفاتِ لا تَقُومُ إلا بِجِسْمٍ – بهذا التفسيرِ - وإنْ عَنَيْتُمْ بهِ الثانيَ، لم نُسَلِّمْ بِامْتِنَاعِ اللازِمِ؛ فإنَّ الربَّ تعالى موجودٌ، قائمٌ بنفسِهِ, مشارٌ إليهِ، كما جاءَ ذلكَ مُصَرَّحاً بهِ في الأحاديثِ الصحيحَةِ.
قولُهُ:
وإنْ كانَ المخاطَبُ مِن الغلاةِ نُفَاةِ الأسماءِ والصفاتِ، وقالَ: لا أَقُولُ: هو موجودٌ، ولا حَيٌّ، ولا عليمٌ، ولا قديرٌ، بلْ هذهِ الأسماءُ لمخلوقاتِهِ؛ إذْ هي مجازٌ؛ لأنَّ إثباتَ ذلكَ يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ بالموجودِ الحيِّ العليمِ.
قيلَ لهُ: وكذلكَ إذا قُلْتَ: ليسَ بموجودٍ ولا حَيٍّ، ولا عليمٍ، ولا قديرٍ، كان ذلكَ تَشْبِيهًا بالمَعْدُوماتِ، وذلكَ أَقْبَحُ مِن التشبيهِ بالموجوداتِ.
الشرحُ:
الكلامُ الآنَ مع الجَهْمِيَّةِ، وهمُ غُلاَةٌ بالنسبةِ للأشاعرةِ والمُعْتَزِلَةِ؛ حيثُ نَفَى كلٌّ منهما البعضَ دُونَ البعضِ، ونَفَتِ الجَهْمِيَّةُ الأسماءَ والصفاتِ مَعًا.
فيُقَالُ لهم:
أوَّلًا: يَسْتَحِيلُ مع كمالِعِلْمِ المُتَكَلِّمِ وَفَصَاحَتِهِ وبيانِهِ وَنُصْحِهِ أنْ يُرِيدَ بِكَلاَمِهِ خَلافَ حقيقتِهِ وظاهرِهِ، وأنَّ الحقَّ في أقوالِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ وأنَّ تَأْوِيلاَتِهِم هي المُرَادَةُ مِن هذه النصوصِ، فإنَّ المُتَكَلِّمَ بهذهِ النصوصِ إمَّا أنْ يكونَ عالِماً أنَّ الحقَّ في تأويلاتِ النُّفَاةِ المُعَطِّلِينَ، أو لا يَعْلَمُ ذلكَ، فإنْ لم يَعْلَمْ ذلكَ كانَ ذلكَ قَدْحاً في عِلْمِهِ، وإنْ كانَ عالِماً أنَّ الحقَّ فيها فلا يَخْلُو إمَّا أنْ يكونَ قادِراً على التعبيرِ بعباراتِهِم التي هي تَنْزِيهُ اللهِ بِزَعْمِهِم عن التشبيهِ والتمثيلِ والتجسيمِ، وأنَّهُ لا يَعْرِفُ اللهَ مَن لم يُنَزِّه اللهَ بها، أو لا يكونَ قادراً على تلكَ العباراتِ، فإنْ لم يَكُنْ قادراً على التعبيرِ بذلكَ، لَزِمَ القدْحُ في فصاحتِهِ، وهذا مِمَّا يَعْلَمُ بُطْلانَهُ بالضرورةِ أولياؤُهُ وأعداؤُهُ، ومُوَافِقُوهُ، ومُخَالِفُوهُ، فإنَّ مُخَالِفِيهِ لم يَشُكُّوا أنَّهُ أَفْصَحُ الخلقِ وأَقْدَرُهُم على حُسْنِ التعبيرِ بِمَا يُطَابِقُ المعنى, ويُخَلِّصُهُ من اللُّبْسِ والإشكالِ.
وإنْ كانَ قادراً على ذلكَ ولم يَتَكَلَّمْ بهِ، وتَكَلَّمَ دائماً بخلافِهِ؛ كانَ ذلك قَدْحاً في نُصْحِهِ، وقد وَصَفَ اللهُ رُسُلَهُ بأنَّهُم أَنْصَحُ الخلقِ لِأُمَمِهِم، فَمَعَ النُّصْحِ والبيانِ والمعرفةِ التامَّةِ، كيفَ يكونُ مَذْهَبُ النُّفَاةِ المُعَطِّلَةِ أصحابِ التحريفِ هو الصوابَ، وقولُ أهلِ الإثباتِ أَتْبَاعِ القرآنِ والسُّنَّةِ باطلًا! وقد سَبَقَت الإشارةُ إلى ذلكَ عندَ قَوْلِ المُؤَلِّفِ إلى أمثالِ هذه الأياتِ والأحاديثِ.
ويُقَالُ لهم ثانياً: إنَّكُم بِنَفْيِكُم هذهِ الصفاتِ تُشَبِّهُونَ اللهَ بالمعدومِ، فقد فَرَرْتُم مِمَّا هو تشبيهٌ على زَعْمِكُم، ولكنْ وَقَعْتُم في شَرٍّ منه؛ فإنَّ التشبيهَ بالمعدومِ أَفْظَعُ مِن التشبيهِ بالموجودِ.
قولُهُ:
فإنْ قالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، قِيلَ لهُ؛ فَيَلْزَمُكَ التشبيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ مِن المُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الشيءُ موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، أو يُوصَفَ ذلكَ باجتماعِ الوجودِ والعدمِ، أو الحياةِ والموتِ، أوالعلمِ والجهلِ، أو يُوصَفَ بِنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ، ونَفْيِ الحياةِ والموتِ، ونَفْيِ العلمِ والجهلِ. فإنْ قُلْتَ: إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يكونُ قابلاً لهما، وهذانِ يَتَقَابَلاَنِ تَقَابُلَ العَدَمِ والمَلَكَةِ، لا تقابُلَ السَّلْبِ والإيجابِ؛ فإنَّ الجدارَ لا يُقَالُ له: أَعْمَى، ولا بَصِيرٌ، ولا حَيٌّ ولا مَيِّتٌ؛ إذْ ليس بقابلٍ لهما. قيلَ لكَ:
أوَّلاً: هذا لا يَصِحُّ في الوجودِ والعدمِ، فإنَّهُمَا مُتَقَابِلاَنِ تَقَابُلَ السلبِ والإيجابِ باتِّفَاقِ العُقَلاَءِ، فَيَلْزَمُ مِن رَفْعِ أحدِهِمَا ثُبُوتُ الآخَرِ. وأمَّا مَا ذَكَرْتَهُ من الحياةِ والموتِ، والعلمِ والجهلِ؛ فهذا اصطلاحٌ اصْطَلَحَتْ عليهِ المُتَفَلْسِفَةُ المَشَّاؤُونَ، والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دليلاً على الحقائقِ العقليَّةِ، وقد قالَ اللهُ تعالى:{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }، فَسَمَّى الجَمَادَمَيِّتًا، وهذا مشهورٌ في لُغَةِ العربِ وغيرِهم، وقيلَ ذلكَ ثانياً؛ فَمَا لا يَقْبَلُ الاتصافَ بالحياةِ والموتِ والعَمَى والبصرِ ونحوِ ذلكَ مِن المُتَقَابِلاَتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ، فالأَعْمَى الذي يَقْبَلُ الاتصافَ بالبصرِ أَكْمَلُ مِن الجمادِ الذي لا يَقْبَلُ واحداً منهما، فَأَنْتَ فَرَرْتَ من تشبيهِهِ بالحيواناتِ القابلَةِ لصفاتِ الكمالِ، وَوَصَفْتَهُ بصفاتِ الجماداتِ التي لا تَقْبَلُ ذلكَ.
وأيضاً فما لا يَقْبَلُ الوجودَ والعدمَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِن القابلِ للوجودِ والعدمِ بلْ ومِن اجتماعِ الوجودِ والعدمِ، ونَفْيِهِما جميعاً، فما نَفَيْتَ عنهُ قَبُولَ الوجودِ والعدمِ كان أَعْظَمَ امتناعاً مِمَّا نَفَيْتَ عنهُ الوجودَ والعدمَ، وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعاً في صرائحِ العقولِ فذاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً فَجَعَلْتَ الوجودَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ العدمَ هو أَعْظَمَ المُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التَّنَاقُضِ والفسادِ.
الشرحُ:
يعني إذا قالَ الغالي: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ والإثباتَ، فلا يَلْزَمُنِي التشبيهُ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، قيلَ لهُ: فَيَلْزَمُكَ حينئذٍ التشبيهُ بالمُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّ مَن ليسَ بموجودٍ ولا معدومٍ، ولا حَيٍّ ولا مَيِّتٍ، ولا عالمٍ ولا جاهلٍ، مُمْتَنِعُ الوجودِ، وكما يَمْتَنِعُ وَصْفُ الشيءِ بالعلمِ والجهلِ بمسألةٍ مُعَيَّنَةٍ، والحياةِ والموتِ الحَقِيقِيَّيْنِ، والوجودِ والعدمِ؛ يَمْتَنِعُ كذلكَ سَلْبُ هذهِ المُتَقَابِلاَتِ فإنَّهُمَا نقيضانِ يلزمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِما ارتفاعُ الآخَرِ، وإذا قالَ هذا الغالي: لا يَلْزَمُ التشبيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فيهِ النقيضانِ مِن المُمْتَنِعَاتِ, إلاَّ إذا نَفَيْتَهُمَا عن مَحَلٍّ قابلٍ لهما، قيلَ لهُ: فَمَا لاَ يَقْبَلُ الاتِّصَافَ بالحياةِ والموتِ، والعلمِ والجهلِ، ونحوِ ذلكَ من المُتَقَابِلاَتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذلكَ، فالأَعْمَى الفاقِدُ لصفةِ البصرِ أَكْمَلُ مِن الجمادِ؛ لأنَّهُ وإنْ كانَ فاقِداً للبصرِ فهو قابلٌ للاتصافِ بهِ، بخلافِ الجمادِ فإنَّهُ ليسَ مِن شَأْنِهِ الاتصافُ بالبصرِ أو العَمَى، فأنتَ فَرَرْتَ مِن تشبيهِهِ بالحيواناتِ القابلةِ لصفاتِ الكمالِ، وَوَصَفْتَهُ بصفاتِ الجماداتِ التي لا تَقْبَلُ الاتصافَ بالكمالِ أو النَّقْصِ. وقيلَ لهُ ثانياً: بالنِّسْبَةِ لِنَفْيِ الوجودِ والعَدَمِ قولُكُ: لا يَقْبَلُ الوجودَ والعدمَ تشبيهٌ للهِ بأعظمِ المُمْتَنِعَاتِ؛ فإنَّ مَن يُنْفَى عنهُ الوُجودُ والعدمُمُمْتَنِعٌ، ومَن يُنْفَى عنهُ قَبُولُ الوجودِ والعَدَمِ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً منهُ، وكذلكَ مَن يُوصَفُ بالوجودِ والعدمِ معاً مُمْتَنِعٌ أيضاً، ومَن يُنْفَي عنهُ قَبُولَ الوجودِ والعدمِ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً منهُ؛ فقد فَرَرْتَ مِن تشبيهِهِ بالمُمْتَنِعِ الأسْهَلِ امْتِنَاعاً، وَوَقَعْتَ في تشبيهِهِ بالأشدِّ امْتِنَاعاً، وهو معنى قولِ المُؤَلِّفِ: (وإذا كانَ هذا مُمْتَنِعاً في صرائحِ العقولِ فذاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعاً).
وأمَّا قولُكُ: وهذانِ يَتَقَابَلاَنِ تَقَابُلَ العَدَمِ والمَلَكَةِ, لا تَقَابُلَ السَّلْبِ والإيجابِ فَجَوَابُنَا عليهِ أنْ نقولَ:
أولاً: هذا لا يَصِحُّ بالنسبةِ للوجودِ والعدمِ، فإنَّ التقابلَ بينَهُما تَقَابُلُ نَقِيضَيْنِ باتفاقِ العقلاءِ، فَيَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا انتفاءُ الآخَرِ.
وثانياً: قولُكُ: وَما لا يَقْبَلُ الحياةَ والموتَ، والعلمَ والجهلَ والعَمَى والبصرَ - كالجدارِ لا يُوصَفُ بذلكَ - جَوَابُنَا على هذهِ الدَّعْوَى أنْ نقولَ: هذه الدَّعْوَى غيرُ صحيحةٍ، فَفِي لُغَةِ العربِ وَصْفُ الجمادِ بالحياةِ والموتِ ونحوِ ذلكَ، وإنْ لم يَكُن الجمادُ على زَعْمِكَ قابلاً؛ قالَ اللهُ تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}.
ومِن جُمْلَةِ مَعْبُودَاتِهِم الأصنامُ، وفيها الجمادُ، والعربُ تقولُ: (اشْتَرِ المَوَتَانِ، ولا تَشْتَرِ الحيوانَ).
وَسَيَأْتِي لهذا المبحثِ مزيدُ بيانٍ في موضعِهِ، وإنَّمَا قولُكَ: إنَّ ما لا يَقْبَلُ الاتصافَ بهذهِ الأوصافِ لا يُوصَفُ بها؛ مُجَرَّدُ اصطلاحٍ لَفْظِيٍّ اصْطَلَحَتْ عليهِ الفلاسفةُ المَشَّاؤُونَ، والاصطلاحاتُ اللفظيَّةُ ليستْ دليلاً على الحقائقِ العقليَّةِ، فلا يُمْكِنُ إِطْرَاحُ ما هو مُدْرَكٌ معروفٌ بالعقلِ, واعتبارُ ما هو مُجَرَّدُ اصطلاحٍ لَفْظِيٍّ.
والفلاسفةُ المَشَّاؤُونَ هم أَتْبَاعُ أَرِسْطُو، وهو المَقْدُونِيُّ مِن أَهْلِ مَقْدُونَةَ مِن بلادِ الرُّومِ مِن تلاميذِ (أَفْلاَطُونَ) وكانَ مولدُهُ سَنَةَ ثلاثِمائَةٍ وأربعٍ وثمانينَ قبلَ الميلادِ، وتُوُفِّيَ سنةَ ثلاثِمائةٍ واثنتَيْنِ وعشرِينَ قبلَ الميلادِ، عن ثلاثٍ وسِتِّينَ سَنَةً.
وكانَ يُعَلِّمُ الحكمةَ، وهو مِاشٍ تحتَ الرِّوَاقِ المُظَلَّلِ لهُ مِن حَرِّ الشمسِ، فَسُمِّيَ تلاميذُهُ المشَّائِينَ، فَتَسْمِيَةُ أَتْبَاعِهِ بالمشَّائِينِ إِنَّمَا هو أَخْذٌ من عادتِهِ؛ إذْ كانَ يُلْقِي عليهم الدرسَ وهو يَمْشِي وهم يَسِيرُونَ حولَهُ، ويُسَمَّوْنَ أيضاً الرِّوَاقِيَّةَ نسبةً إلى الرِّواقِ الذي كان يَتَمَشَّى في ظِلِّهِ, وهو يُلْقِي الدَّرُوسَ.
والمُتَقَابِلاَنِ بالعدمِ والمَلَكَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُودِيٌّ، والآخَرُ عَدَمِيٌّ؛ فالوجودِيُّ هو الصفةُ الثبوتِيَّةُ التي تَقُومُ بِمَنْ مِن شأنِهِ الاتصافُ بِهَا كالبصرِ، والعلمِ؛ والعَدَمِيُّ هو فُقْدَانُ تلكَ الصفَةِ كالعَمَى والجَهْلِ؛ فإنَّ العَمَى عَدَمُ البَصَرِ عَمَّا مِن شَأْنِهِ قَبُولُ البَصَرِ، والجَهْلَ فُقْدَانُ العلمِ عَمَّا مِن شأنِهِ قَبُولُ العلمِ، فالوُجُودِيُّ هو المَلَكَةُ، والعَدَمِيُّ فُقْدَانُهَا، والمتقابلانِ بالإيجابِ والسَّلْبِ هما أَمْرَانِ يَلْزَمُ مِن ثبوتِ أَحَدِهِمَا انتفاءُ الآخرِ، فالإيجابُ مَعْنَاهُ الإثباتُ، والسلبُ معناهُ النَّفْيُ.
وقولُهُ: (فَجَعَلْتَ الوجودَ الواجبَ الذي لا يَقْبَلُ العدمَ هو أَعْظَمَ المُمْتَنِعَاتِ، وهذا غايةُ التَّنَاقُضِ والفسادِ) معناهُ: أنَّ هذا الغاليَ بِنَفْيِهِ عن اللهِ قَبُولَ الاتصافِ بالوجودِ والعدمِ، وقبولَ الاتصافِ بسائرِ الصفاتِ، قد شَبَّهَهُ بأعظمِ المُمْتَنِعَاتِ في حينَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وَاجِبُ الوجودِ؛ الذي لا يَجُوزُ عليهِ حدوثٌ ولا عدمٌ، وهذا يُبَيِّنُ مَدَى فسادِ مقالةِ هؤلاءِ الغُلاَةِ، ويُوَضِّحُ تَهَافُتَ شُبَهِهِم التي زَعَمُوا بِهَا أنَّهُم يُنَزِّهُونَ اللهَ عن التَّشْبِيهِ.
فَمَقَالَتُهُم فاسدةٌ، وَشُبَهُهُم مُتَضَارِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ مَنْقُوضَةٌ بِصَرِيحِ المَِعْقُولِ وصحيحِ المَنْقُولِ.
قولُهُ:
(وهؤلاءُ الباطنيَّةُ: منهم مَن يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النقيضَيْنِ؛الوجودِ والعَدَمِ، وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا، ومنهم مَن يقولُ: لا أُثْبِتُ واحدًا مِنْهُمَا، فامْتِنَاعُهُ عن إثباتِ أحدِهِما في نفسِ الأمْرِ لا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ واحدٍ منهما في نفسِ الأمرِ؛ وإنَّمَا هو كَجَهْلِ الجاهلِ، وسُكُوتِ الساكِتِ الذي لا يُعَبِّرُ عن الحقائقِ، وإذا كانَ ما لا يَقْبَلُ الوجودَ ولا العدمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعاً مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا مع نَفْيِهِمَا عنهُ، فما يُقَدَّرُ لا يَقْبَلُ الحياةَ ولا الموتَ، ولا العلمَ ولا الجهلَ، ولا القدرةَ ولا العجزَ، ولا الكلامَ ولا الخَرَسَ، ولا العَمَى ولا البَصَرَ، ولا السَّمْعَ ولا الصَّمَمَ؛ أَقْرَبُ إلى المعدومِ والمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قابلًا لهما مع نَفْيِهِما عنهُ. وحينئذٍ فَنَفْيُهُمَا مع كونِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلى الوجودِ والمُمْكِنِ، وما جَازَ لواجبِ الوجودِ قابلاً وَجَبَ لَهُ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ على غيرِهِ، فإذا جازَ القَبُولُ وَجَبَ، وإذا جازَ وجودُ القَبُولِ وَجَبَ، وقد بُسِطَ هذا في موضعٍ آخَرَ، وبُيِّنَ وُجُوبُ اتِّصَافِهِ بصفاتِ الكمالِ التي لا نَقْصَ فيها بِوَجْهٍ من الوجوهِ.
قولُهُ:
وقيلَ لهُ أيضاً: اتِّفَاقُ المُسَمَّيَيْنِ في بعضِ الأسماءِ والصفاتِ ليسَ هو التشبيهَ والتمثيلَ؛ الذي نَفَتْهُ الأدلَّةُ السمْعِيَّاتُ والعَقْلِيَّاتُ، وإنَّمَا نَفَتْ ما يَسْتَلْزِمُ اشتراكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بهِ الخالقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أو جوازِهِ أو امتناعِهِ؛ فلا يَجُوزُ أنْ يَشْرَكَهُ فيهِ مخلوقٌ، ولا يَشْرَكُهُ مَخْلُوقٌ في شيءٍ من خصائصِهِ سبحانَهُ وتعالى.
الشرحُ:
يعني أنَّ الغالِيَ الذي يَنْفِي الصفاتِ أو يَنْفِي قَبُولَهَا عن اللهِ يُقَالُ لهُ: اتِّفَاقُ المُسَمَّيَاتِ في الاسمِ والمعنى العامِّ لا يُوجِبُ تَمَاثُلَ المُسَمَّيَيْنِ، فنحن إذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ موجودٌ حَيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ، وَقُلْنَا: إنَّ المخلوقَ موجودٌ حَيٌّ عالمٌ سميعٌ بصيرٌ مُتَكَلِّمٌ، لم يَكُنْ ذلكَ تشبيهاً، بل اللهُ موجودٌ لم يَزَلْ حَيًّا قديماً، قَيُّوماً، عالِماً سميعاً بصيراً، ولا يَجُوزُ أنْ يُوصَفَ بأَضْدَادِ هذهِ الصفاتِ والموجودُ مِنَّا إِنَّمَا وُجِدَ عن عَدَمٍ وَحُيِيَ بِمَعْنًى، ثم يَصِيرُ مَيِّتًا بزوالِ ذلكَ المعنى، وعَلِمَ بعدَ أنْ لم يَعْلَمْ، وقد يَنْسَى ما عَلِمَ، وسَمِعَ وأَبْصَرَ، وتَكَلَّمَ بِجَوَارِحَ قد تَلْحَقُهَا الآفاتُ، فلم يَكُنْ فيمَا أُطْلِقَ للخلقِ تَشْبِيهٌ بِمَا أُطْلِقَ للخالقِ – سبحانَهُ وتعالى – وإن اتَّفَقَتْ مُسَمَّيَاتُ هذهِ الصفاتِ عندَ الإطلاقِ، فالرَّبُّ - سبحانَهُ وتعالى - مُسْتَحِقٌّ للكمالِ مُخْتَصٌّ بهِ على وجهٍ لا يُمَاثِلُهُ فيهِ شيءٌ، فليسَ لهُ سَمِيٌّ ولا كُفْؤٌ, سَوَاءٌ كانَ الكمالُ مِمَّا لا يُثْبَتُ منهُ شيءٌ للمخلوقِ، كَرُبُوبِيَّةِ العبادِ والغِنَى والمُطْلَقِ ونحوِ ذلكَ؛ أو كانَ مِمَّا يُثْبَتُ منهُ نوعٌ للمخلوقِ، فالذي يُثْبَتُ للخالقِ منهُ نوعٌ هو أَعْظَمُ مِمَّا يُثْبَتُ مِن ذلكَ للمخلوقِ، والتَّفَاوُتُ الذي بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ من التَّفَاوُتِ الذي بَيْنَ أَدْنَى المخلوقاتِ وأعلاهَا.
فالأسماءُ والصفاتُ نوعانِ: نوعٌ يَخْتَصُّ بهِ الرَّبُّ مثلَ الِإلَهِ، وَرَبِّ العالمينَ ونحوَ ذلكَ، فهذا لا يُثْبَتُ للعبدِ بِحَالٍ، ومِن هنا ضَلَّ المشركونَ الذينَ جَعَلُوا للهِ أَنْدَاداً.
والثاني: ما يُوصَفُ بهِ العبدُ في الجملةِ كالحَيِّ والعالِمِ والقادرِ, فهذا لا يَجُوزُ أنْ يُثْبَتَ للعبدِ مِثْلَمَا يُثْبَتُ للربِّ أصلاً؛ فإنَّهُ لو ثُبِتَ له ما ثُبِتَ لهُ لَلَزِمَ أنْ يَجُوزَ على أَحَدِهِمَا ما يَجُوزُ على الآخَرِ، ويَجِبَ لهُ ما يَجِبُ لهُ، ويَمْتَنِعَ عليهِ ما يَمْتَنِعُ عليهِ، ومثالُ ما يَمْتَنِعُ على الربِّ: اتِّخَاذُ الوَلَدِ، والصاحِبَةِ، والشَّرِيكِ، والوَلِيِّ مِن الذُّلِّ، فإنَّ نَفْيَ هذا مِن خصائصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وكذلكَ السِّنَةُ، والنَّوْمُ، واللُّغُوبُ، والنِّسْيَانُ، والعَجْزُ، والموتُ، والظُّلْمُ، وغيرُ ذلكَ مِمَّا هو مُسْتَحِيلٌ عليهِ مُمْتَنِعٌ في حَقِّهِ، ولَكِنَّهُ وَاقِعٌ في العِبَادِ؛ فهذا القِسْمُ مُمْكِنٌ واقعٌ بالنسبةِ للعبادِ، ومُسْتَحِيلٌ في حَقِّ اللهِ, ومِمَّا يَجِبُ لهُ كَوْنُهُ رَبَّ العالمينَ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرًا، وبِكُلِّ شيءٍ عليمًا، ومِمَّا يَجُوزُ عليهِ كَوْنُهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَرْزُقُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ.
قولُهُ:
وأمَّا ما نَفَيْتَهُ فهو ثابتٌ بالشرْعِ والعقلِ، وتَسْمِيَتُكَ ذلكَ تشبيهاً وتجسيماً تَمْوِيهٌ على الجُهَّالِ، الذينَ يَظُنُّونَ أنَّ كلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمًّى بهذا الاسمِ يَجِبُ نَفْيُهُ، ولو سَاغَ هذا لكانَ كلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الحقَّ بأسماءٍ يَنْفُرُ عنها بعضُ الناسِ؛ لِيُكَذِّبُ الناسُ بالحقِّ المعلومِ بالسمعِ والعقلِ، وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ على طوائفِ الناسِ، عَقْلَهُم ودِينَهُم، حتَّى أَخْرَجُوهُم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وأَبْلَغِ الغَيِّ والضلالَةِ.
الشرحُ:
يعني: يُقَالُ للنُّفَاةِ: تَسْمِيَتُكُمْ إِثْبَاتَ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ تَشْبِيهاً وَتَجْسِيماً وَتَلْقِيبُكُم مَن يُثْبِتُ ذلك بِالْمُشَبِّهِ وَالمُجَسِّمِ لا يُغَيِّرُ مِن الواقعِ شيئاً، ولا يُغَيِّرُ من وِجْهَةِ أهلِ البَصِيرَةِ والمعرفةِ باللهِ، فالتوحيدُ لا يكونُ شِرْكاً، وَوَصْفُ اللهِ بأوصافِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ لا يكونُ تشبيهاً، وإنَّمَا التَّشْبِيهُ هو ما يَقُولُهُ النُّفَاةُ المُعَطِّلَةُ الذين سَمَّوْا تَعْطِيلَهُم وإلحادَهُم وَنَفْيَهُم توحيداً؛ وهو غايةُ النقصِ، فقد قَلَبُوا الحقائقَ، وَنَفَوْا حقائقَ أسمائِهِ وصفاتِهِ تحتَ سِتَارِ ألفاظٍ، يَسْمَعُهَا الغرُّ المَخْدُوعُ، فَيَظُنُّهَا تَنْزِيهًا للهِ عن النقائصِ والعيوبِ، وأنَّهُم يُعَظِّمُونَ اللهَ ويُمَجِّدُونَهُ، ويَكْشِفُ الناقِدُ البصيرُ ما تَحْتَ هذهِ الألفاظِ؛ فَيَرَى تَحْتَهَا الإلحادَ، وتكذيبَ الرُّسُلِ، وتعطيلَ الربِّ - سبحانَهُ وتعالى - عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِن كمالٍ، ومِن هذهِ الألفاظِ قولُهُم: نَحْنُ نُنَزِّهُ اللهَ عن الأعْرَاضِ والأغْرَاضِ وَالأَبْعَاضِ، وَنُنَزِّهُهُ عن الحدودِ والجِهَاتِ، وعن حُلُولِ الحوادثِ.
وتَنْزِيهُهُم للهِ عن الأعراضِ هو جَحْدُ صِفَاتِهِ – كَسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وحَيَاتِهِ وعِلْمِهِ وَكَلاَمِهِ وَإِرَادَتِهِ – فإنَّ هذهِ أعراضٌ على زَعْمِهِم لا تَقُومُ إلا بِجِسْمٍ، فلو كانَ مُتَّصِفاً بها لكانَ جِسْماً؛ وكانتْ أَعْرَاضاً لهُ، وهو مُنَزَّهٌ عن الأعراضِ.
وأمَّا الأَغْرَاضُ فهي الغايةُ والحِكْمَةُ؛ التي لِأَجْلِهَا يَخْلُقُ، ويَفْعَلُ، ويَأْمُرُ، وَيَنْهَى، وَيُثِيبُ، وَيُعَاقِبُ، وهي الغاياتُ المحمودةُ المطلوبةُ لهُ مِن أَمْرِهِ، ونَهْيِهِ، وفِعْلِهِ، فَيُسَمُّونَهَا أغراضاً وعِلَلًا يُنَزِّهُونَهُ عنها.
وأمَّا تَنْزِيهُهُم للهِ عن الأَبْعَاضِ فَمُرَادُهُم أنَّهُ ليسَ لهُ وَجْهٌ ولا يَدَانِ، ولا يُمْسِكُ السمواتِ على إِصْبَعٍ، والأَرَضِينَ على إِصْبَعٍ، والشَّجَرَ على إِصْبَعٍ، والماءَ على إِصْبَعٍ، فإنَّ ذلكَ كُلَّهُ أَبْعَاضٌ، واللهُ مُنَزَّهُ عن الأبعاضِ.
وأمَّا الحدودُ والجهاتُ: فَمُرَادُهُم بِتَنْزِيهِهِ عنها أنَّهُ ليسَ فوقَ السمواتِ رَبٌّ، ولا على العرشِ إِلَهٌ، ولا يُشَارُ إليهِ بالأصابعِ إلى فوقٍ، كما أَشَارَ إليهِ أَعْلَمُ الخَلْقِ بِهِ، ولا يَنْزِلُ منهُ شيءٌ، ولا يَصْعَدُ إليهِ شيءٌ، ولا تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ، ولا رَفَعَ المسيحَ إليهِ، ولا عُرِجَ برسولِ اللهِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهِ، إذا لو كانَ كذلكَ لَلَزِمَ إثباتُ الحدودِ والجهاتِ لهُ، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلكَ.
وأمَّا تَنْزِيهُهُم للهِ عن حلولِ الحوادثِ، فَمُرَادُهُم بذلكَ أنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بقدرتِهِ ومشيئتِهِ، ولا يَنْزِلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ولا يَأْتِي يومَ القيامةِ، ولا يُحِبُّ، ولا يُرِيدُ شيئاً بعدَ أنْ لم يَكُنْ مُرِيداً لهُ، فلا يقولُ لهُ: كُنْ حَقِيقَةً، ولا اسْتَوَى على عَرْشِهِ بعدَ أنْ لم يَكُنْ مُسْتَوِياً، ولا يَغْضَبُ يومَ القيامةِ غَضَباً لم يَغْضَبْ قبلَهُ مثلَهُ, ولن يَغْضَبَ بعدَهُ مثلَهُ، ولا يُنَادِي عبادَهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يَكُنْ مُنَادِيًا لهم، ولا يقولُ لِلْمُصَلِّي إذا قالَ(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): حَمِدَنِي عَبْدِي، فإنَّ هذهِ كُلَّهَا حوادثُ، وهوَ مُنَزَّهٌ عن حلولِ الحوادثِ.
ونحنُ لا نَنْفِي أوصافَ الرَّبِّ ونُعُوتَ جلالِهِ؛ لِأَجْلِ تَسْمِيَتِهِم لها بهذهِ الأسماءِ، كَمَا أَنَّنَا لا نَسُبُّ الصحابةَ لأجلِ تسميةِ الروافضِ لِمَنْ يُحِبُّهُم ويوالِيهِم نواصبَ، ولا نَنْفِي قَدَرَ الربِّ ونُكَذِّبُ بهِ لأجلِ تسميةِ القَدَريةِ لِمَنْ أَثْبَتَهُ جَبْرِيًّا، ولا نَرُدُّ مَا أَخْبَرَ بهِ الصادقُ عن اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ لتسميةِ النُّفَاةِ لنا حَشَوِيَّةً، ولا نَجْحَدُ صفاتِ خالقِنَا وعُلُوَّهُ على خَلْقِهِ واستواءَهُ على العرشِ؛ لتسميةِ الفِرْعُونِيَّةِ المُعَطِّلَةِ لِمَنْ أَثْبَتَ ذلكَ مُجَسِّماً مُشَبِّهاً.
فإنْ كانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ إِنِّي إِذًا لَمُجَسِّمُ
وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهاً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ فَمِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ لاَ أَتَكَتَّمُ
وَإِنْ كَانَ تَنْزِيهاً جُحُودُ اسْتِوَائِهِ وَأَوْصَافِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ
وَإِنْ كَانَ التَّنْزِيهُ نَزَّهْتُ رَبَّنَا بِتَوْفِيقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ
قالَ ابنُ القَيِّمِ – رَحْمَةُ اللهِ تعالى عليهِ – بعدَ إنشادِهِ هذهِ الأبياتَ: ورحمةُ اللهِ على الشافعيِّ, حيثُ فَتَحَ للناسِ هذا البابَ بقولِهِ:
يَا رَاكِبًا قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى وَاهْتِفْ بِقَاعِدٍ خِيفِهَا وَالنَّاهِضِ
إنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلاَنِ أَنِّي رَافِضِي
وَهَذَا كُلُّهُ مأخوذٌ من قولِ الشاعرِ الأوَّلِ:
وَعَيَّرَنِى الوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا وَذَلِكَ ذَنْبٌ لَسْتُ مِنْهُ أَتُوبُ
فَنَفْيُهُم للصفاتِ بهذهِ الألقابِ المُنْكَرَةِ خَطَأٌ في اللفظِ والمعنى، وجِنَايَةٌ على ألفاظِ الوَحْيِ أمَّا الخطأُ اللَّفْظِيُّ فَتَسْمِيَتُهُم هذهِ الصفاتِ تَرْكِيباً وَتَجْسِيماً وَتَشْبِيهاً، فَكَذَبُوا على القرآنِ، وعلى الرسولِ، وعلى اللغةِ، وَوَضَعُوا للصفاتِ أَلْفَاظاً، منهم بَدَأَتْ وإليهم تَعُودُ.
وأمَّا خَطَؤُهُم في المعنى فَنَفْيُهُم وتَعْطِيلُهُم لصفاتِ كمالِهِ بواسطةِ هذهِ التسميةِ والألقابِ، فَنَفَوُا المعنى الحَقَّ، وسَمَّوهُ بالاسمِ المُنْكَرِ، وكانوا في ذلكَ بمنزلةِ مَن سَمِعَ أنَّ العسلَ شِفَاءٌ ولم يَرَهُ؛ فَسَأَلَ عنهُ فَقِيلَ لهُ: مائِعٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ, يُشْبِهُ العَذِرَةَ تَتَقَيَّؤُهُ الزَّنَابِيرُ, فَمَنْ لمْ يَعْرِف العسلَ يَنْفِرْ عنهُ بهذا التعريفِ، ومَن عَرَفَهُ وذَاقَهُ لم يَزِدْهُ هذا التعريفُ عندَهُ إلا مَحَبَّةً لهُ، وَرَغْبَةً فيهِ، وللهِ دَرُّ القائلِ:
تَقُولُ هذا جَنَاءُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ
وقولُهُ: (وبهذهِ الطريقةِ أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ على طوائِفِ الناسِ عَقْلَهُم ودِينَهُم حتى أَخْرَجُوهُم إلى أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وأَبْلَغِ الْغَيِّ والضَّلاَلَةِ) يعني: وَبِسَبَبِ تَسْمِيَةِ الحقِّ الثابتِ بأسماءٍ مُنْكَرَةٍ وتَلْقِيبِ أصحابِ العِلْمِ الإلَهِيِّ وأهلِ الدِّيَانَةِ والصلاحِ بالألقابِ الشَّنِيعَةِ، أَفْسَدَت المَلاَحِدَةُ فِطَرَ الناسِ ولَوَّثَتْ عُقُولَهُم؛ فإنَّ أَشَدَّ مَا سَلَكَت المَلاَحِدَةُ في التَّنْفِيرِ عن الحقِّ سوءُ التعبيرِ عنهُ، وضَرْبُ الأمثالِ القبيحةِ لهُ، والتعبيرُ عن تلكَ المعانِي التي لا أَحْسَنَ منها بألفاظٍ مُنْكَرَةٍ؛ أَلْقَوْهَا في مسامعِ المُغْتَرِّينَ المَخْدُوعِينَ، فَوَصَلَتْ إلى قلوبِهم. وأَكْثَرُ العقولِ يَقْبَلُ القولَ بعبارةٍ, وَيَرُدُّهُ بعبارةٍ أُخْرَى، ومثلَ هذا ما يَسْتَعْمِلُهُ الفُسَّاقُ والمَلاَحِدَةُ في زمانِنَا مِن الألفاظِ البَذِيئَةِ التي يُطْلِقُونَهَا علىالفُضَلاَءِ وأهلِ الديانةِ كقولِهِم: مُتَحَجِّرُونَ، وجَامِدُونَ، ورَجْعِيُّونَ، وَمُتَأَخِّرُونَ, بَيْنَمَا يَنْعَتُونَ أَشْبَاهَهُمْ بالتَّقَدُّمِيِّينَ، والمُتَنَوِّرِينَ، والرَّاقِينَ، فهي إذاً شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِن أَخْزَمَ في قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ.
وفي قولِهِ ( أَعْظَمِ الكُفْرِ والجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الغَيِّ وَالضَّلاَلَةِ) إِضَافَةُ الصِّفَةِ إلى المَوْصُوفِ.
قولُهُ:
وإنْ قالَ نُفَاةُ الصفاتِ: إثباتُ العلمِ والقُدْرَةِ والإرادةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصفاتِ، وهذا تركيبٌ مُمْتَنِعٌ.
قِيلَ: وإذا قُلْتُمْ: هو مَوْجُودٌ وَاجِبٌ، وعَقْلٌ وعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ؛ أَفَلَيْسَ المفهومُ مِن هذا هو المفهومَ مِن هذا؟ فهذهِ مَعَانٍ متعددةٌ مُتَغَايِرَةٌ في العقلِ، وهذا تركيبٌ عندَكم، وأنْتُم تُثْبِتُونَهُ, وتُسَمُّونَهُ توحيداً.
فإنْ قالوا: هذا توحيدٌ في الحقيقةِ، وليس هذا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعاً.
قِيلَ لهم: واتِّصَافُ الذاتِ بالصفاتِ اللازمَةِ لها توحيدٌ في الحقيقةِ؛ وليسَ هو تَرْكِيباً مُمْتَنِعاً.
الشرحُ:
يعني: إذا قالَ نُفَاةُ الصفاتِ، مِن غُلاَةِ الفلاسفةِ والجَهْمِيَّةِ: إثباتُ الصفاتِ للهِ يستلزمُ التركيبَ, وهذا تشبيهٌ للخالقِ بالمخلوقِ؛ لأنَّ هذه صفاتٌ مُتَغَايِرَةٌ متعددةٌ فَيَلْزَمُ أنْ يكونَ المُتَّصِفُ بها مُرَكَّباً منها، قِيلَ لهم:
أولاً: أَنْتُم تُثْبِتُونَ صفاتٍ متغايرةً متعددةً، كَوَصْفِكُم اللهَ بالوجودِ والوجوبِ، وقَوْلِكُم عنهُ سبحانَهُ: إنَّهُ عَقْلٌ وعاقلٌ ومعقولٌ، فالمفهومُ مِن هذهِ الصفاتِ التي أَثْبَتُّمُوهَا مثلُ المفهومِ مِن الصفاتِ التي وَصَفَ بها نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بها رسولُهُ، وَوَصَفَهُ بها المؤمنونَ: كالاستواءِ والعلمِ والقدرةِ والمحبةِ والغضبِ والرضا، المفهومُ مِن الجميعِ واحدٌ، مِن حيثُ إنَّ كلَّ صفةٍ مغايرةٌ للأخرى، ومِن حيثُ التَّعَدُّدُ فَلِمَ نَفَيْتُمْ هذهِ الصفاتِ, وأَثْبَتُّمْ تلكَ الصفاتِ؟
فإذا قالوا: الذي أَثْبَتْنَاهُ إنَّمَا هو في الحقيقةِ توحيدٌ, وليس تركيباً، قيلَ لَهُم: والذي أَثْبَتْنَاهُ - لأنَّ اللهَ أَثْبَتَهُ لنفسِهِ وأَثْبَتَهُ لهُ رسولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هو في الحقيقةِ توحيدٌ, وليسَ مُسْتَلْزِماً للتركيبِ، ويُقَالُ لهم:
ثانياً: أَتَعْنُونَ بالمُرَكَّبِ الذي كانَ مُفْتَرِقاً فاجْتَمَعَ؟ أَوْ رَكَّبَهُ مُرَكِّبٌ فَجَمَعَ أَجْزَاءَهُ؟ أو مَا أَمْكَنَ تَأْلِيفُهُ أو تَبْعِيضُهُ وَانْفِصَالُ بَعْضِهِ عن بعضٍ ونحوَ ذلكِ؟ فإنْ أَرَدْتُمْ بِالمُرَكَّبِ المَعَانِيَ المُتَقَدِّمَةَ، فهذا مُنْتَفٍ عن اللهِ قَطْعاً، وهو كَذِبٌ وَبُهْتٌ عَلَى اللهِ وعلى الشرعِ وعلى العَقْلِ، فاللهُ سبحانَهُ خالقُ الفردِ والمُرَكَّبِ، الذي يَجْمَعُ المُتَفَرِّقَ، ويُفَرِّقُ المُجْتَمِعَ، وَيُؤَلِّفُ بينَ الأشياءِ،فَيُرَكِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ.
فالحاصلُ أنَّهُ يُقَالُ لهم: قد وَصَفْتُمُوهُ بصفاتٍ يَتَمَيَّزُ بعضُها عن بعضٍ،فَهَلْ كانَ هَذَا عِنْدَكُمْ تَرْكِيباً؟ وقدْ دَلَّ الوَحْيُ وَالعَقْلُ وَالفِطْرَةُ على ثُبُوتِ ما نَفَيْتُمْ أَفَنَنْفِيهِ لِمُجَرَّدِ تَسْمِيَتِكُم الباطلةِ؟
والعقلُ كما دَلَّ على إلهٍ واحدٍ، وربٍّ واحدٍ، لا شَرِيكَ لهُ، ولا شَبِيهَ لهُ, لم يَدُلَّ على أنَّ الربَّ الواحدَ لا اسْمَ لهُ، ولا صفةَ، ولا وجهَ، ولا يَدَيْنِ، ولا هو فوقَ خَلْقِهِ، ولا يَصْعَدُ إليهِ شَيْءٌ، ولا يَنْزِلُ منهُ شَيْءٌ، فَدَعْوَى ذلكَ على العقلِ كَذِبٌ صريحٌ عليهِ، كما هو كَذِبٌ صريحٌ على الوَحْيِ, وقولُهُم: (إنَّمَا هو توحيدٌ) كَذِبٌ وافْتِرَاءٌ؛ بلْ إثباتُ ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ هو التوحيدُ، وضِدُّهُ الشِّرْكُ، فهم يُسَمُّونَ نَفْيَ الصفاتِ توحيداً، وكذلكَ المعتزلةُ يُسَمُّونَ ذلك توحيداً، وهم ابْتَدَعُوا هذا التعطيلَ، وَجَعَلُوا اسمَ التوحيدِ واقِعًا على غيرِ ما هو واقِعٌ عليهِ في دِينِ المُسْلِمِينَ، فإنَّ التوحيدَ الذي بَعَثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ، وأَنْزَلَ بهِ كُتُبَهُ، هو أنْ يُعْبَدَ اللهُ لا يُشْرَكُ بهِ شيءٌ, ولا يُجْعَلُ لهُ نِدٌّ, كما قالَ تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورةَ.
ومِن تمامِ التوحيدِ: أنْ يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وبما وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ، وَيُصَانَ ذلكَ عن التحريفِ والتعطيلِ، والتكييفِ والتمثيلِ، كما قالَ تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورةَ.
و (عَقْلٌ): مَصْدَرُ عَقَلَ، و (عاقِلٌ) اسمُ فاعلٍ، و (مَعْقُولٌ) اسمُ مفعولٍ، فالتمييزُ بينَ مُسَمَّى المصدرِ، ومُسَمَّى اسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، والتفريقُ بينَ هذهِ الأمورِ مُسْتَقِرٌّ في كُلِّ الفِطَرِ والعُقُولِ السليمةِ، ولُغَاتِ الأُمَمِ، أمَّا هؤلاء الفلاسفةُ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ عَقْلًا عِنْدَهُم أنَّهُ مُجَرَّدٌ عن المادةِ، مُنَزَّهٌ عن اللَّوَازِمِ المادِيَّةِ، ومعنَى كَوْنِهِ عاقلاً هو أنَّهُ مجردٌ لذاتِهِ، ومعنى كَوْنِهِ معقولاً هو أنَّهُ غيرُ محجوبٍ عن ذاتِهِ بذاتِهِ ولا بغيرِهِ، وسيأتِي الشرحُ الصحيحُ للعقلِ في الكلامِ على القاعدةِ الأُولَى إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ:
(وذلكَ أنَّهُ مِن المعلومِ في صريحِ العقولِ أنَّهُ ليسَ معنى كَوْنِ الشيءِ عالماً هو معنى كَوْنِهِ قادراً، ولا نَفْسَ ذاتِهِ هو نفسُ كونِهِ عالِمًا قادِراً، فمنْ جَوَّزَ أنْ تكونَ هذهِ الصفةُ هي الموصوفَ فهو مِن أعظمِ الناسِ سَفْسَطَةً، ثم إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ؛ فإنَّهُ إنْ جَوَّزَ ذلكَ جازَ أنْ يكونَ وجودُ هذا هو وجودَ هذا، فيكونُ الوجودُ واحداً بالعينِ لا بالنوعِ، وحينئذٍ فإذا كانَ وجودُ المُمْكِنِ هو وجودَ الواجبِ كانَ وجودُ كلِّ مخلوقٍ يُعْدَمُ بعدَ وجودِهِ، ويُوجَدُ بعدَ عدمِهِ هو نفسَ وجودِ الحقِّ، القديمِ، الدائمِ، الباقي، الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ، وإذا قُدِّرَ هذا كانَ الوجودُ الواجبُ مَوْصُوفًا بكلِّ تَشْبِيهٍ وتجسيمٍ وكلِّ نَقْصٍ وكل عَيْبٍ، كما يُصَرِّحُ بذلكَ أهلُ وِحْدَةِ الوجودِ، الذين طَرَدُوا هذا الأصلَ الفاسدَ، وحينئذٍ فتكونُ أقوالُ نُفَاةِ الصفاتِ باطلةً على كلِّ تقديرٍ ).
قولُهُ:
وهذا بابٌ مُطَّرِدٌ، فإنَّ كلَّ واحدٍ من النُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ بهِ الرَّسُولُ مِن الصفاتِ، لا يَنْفِي شيئاً فِرَاراً مِمَّا هو محذورٌ إلاَّ وَقَدْ أَثْبَتَ ما يَلْزَمُهُ فيهِ نظيرَ ما فَرَّ منهُ، فلابُدَّ في آخِرِ الأمرِ مِن أنْ يُثْبِتَ مَوْجُوداً واجِباً قديماً، مُتَّصِفاً بصفاتٍ تُمَيِّزُهُ عن غيرِهِ، ولا يكونُ فيها مُمَاثِلاً لِخَلْقِهِ، فَيُقَالُ لهُ: هكذا القولُ في جميعِ الصفاتِ، وكلُّ ما تُثْبِتُهُ مِن الأسماءِ والصفاتِ، فَلاَ بُدَّ أنْ يَدُلَّ على قَدْرٍ تَتَوَاطَأُ فيهِ المُسَمَّيَاتُ، ولَوْلاَ ذلكَ لَمَا فُهِمَ الخِطَابُ؛ ولَكِنْ نَعْلَمُ أنَّ ما اخْتَصَّ اللهُ بهِ، وامْتَازَ عن خَلْقِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطُرُ بالبالِ أو يَدُورُ في الخيالِ.
الشرحُ:
يعني كما يُقَالُ لهؤلاءِ الفلاسفةِ: إنَّكُم نَفَيْتُم الصفاتِ فِرَاراً مِن التركيبِ اللازمِ مِن التَّعَدُّدِ، وقد لَزِمَكُم مثلُ ما فَرَرْتُم منهُ حيثُ تُثْبِتُونَ أَنْتُم صفاتٍ متعددةً مُتَبَايِنَةً يُقَالُ أيضاً لكلِّ مَن نَفَى شيئاً مِمَّا أَثْبَتَهُ اللهُ ورسولُهُ، فالبابُ واحدٌ، والقاعدةُ مُطَّرِدَةٌ، فَمَثَلًا إذا قالَ الأشعريُّ: الرِّضَا والغَضَبُ والفَرَحُ والمَحَبَّةُ ونحوَ ذلكَ هو مِن صفاتِ الأجسامِ. فإنَّهُ يُقَالُ لهُ: كذلكَ الإرادةُ، والسمعُ والبصرُ، والعلمُ، والقدرةُ، مِن صفاتِ الأجسامِ، فإنَّهُ كَمَا لا نَعْقِلُ في الشاهدِ ما يَنْزِلُ وَيَسْتَوِي ويَغْضَبُ ويَرْضَى إلاَّ جِسْماً، لم نَعْقِلْ ما يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، ويُرِيدُ، ويَعْلَمُ، وَيَقْدِرُ، إلاَّ جِسْماً، فإذا قالَ: سَمْعُهُ ليس كَسَمْعِنَا،وَبَصَرُهُ ليس كَبَصَرِنَا، وإِرَادَتُهُ ليستْ كَإِرَادَتِنَا، وكذلكَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ. قيلَ لهُ: وَرِضَاهُ ليس كَرِضَانَا، وَغَضَبُهُ ليس كَغَضَبِنَا، وَفَرَحُهُ ليس كَفَرَحِنَا. ونُزُولُهُ ليسَ كَنُزُولِنَا، فإذا قالَ: لا يُعْقَلُ في الشاهدِ غَضَبٌ إلاَّ غَلَيَانُ دَمِ القَلْبِ لِطَلَبِ الانتقامِ. قيلَ لهُ: وَلاَ يُعْقَلُ في الشاهدِ إرادةٌ إلا مَيْلُ القلبِ إلى جَلْبِ ما يَحْتَاجُ إليهِ ويَنْفَعُهُ وَيَفْتَقِرُ فيهِ إلى ما سِوَاهُ،وَدَفْعُ ما يَضُرُّهُ، واللهُ سبحانَهُ كما أَخْبَرَ عن نَفْسِهِ المُقَدَّسَةِ في حديثِهِ الِإلَهِيِّ: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي)، فَهُوَ مُنَزَّهٌ عن الإرادةِ التي لا تُعْقَلُ في الشاهدِ إلا هكذا، وكذلكَ السمعُ لا يُعْقَلُ في الشاهدِ إلا وُصُولُ صوتٍ في الصِّمَاخِ، وذلكَ لا يكونُ إلاَّ في أَجْوَفَ، واللهُ سبحانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ، مُنَزَّهٌ عن ذلكَ.
والمعتزلةُ نَفَوا الصفاتِ فِرَاراً مِن التشبيهِ بالمخلوقاتِ, فَيُقَالُ لَهُم: أَنْتُم تُثْبِتُونَ الأسماءَ للهِ فَتُسَمُّونَهُ حَيًّا عَلِيماً قديرًا, وهذهِ الأسماءُ يُسَمَّى بها المخلوقُ، فَيَلْزَمُ مِن ذلكَ التشبيهُ، فقد فَرَرْتُم مِن أمرٍ، وَنَفَيْتُمْ مِن أَجْلِهِ الصفاتِ، ولكنَّ المحذورَ لازِمٌ لكم فيما تُثْبِتُونَ من الأسماءِ، فإنَّهُ كما يُسَمَّى بها الخلقُ يُسَمَّى بها أيضاً المخلوقُ، فَكَمَا سَمَّى نفسَهُ عَلِيمًا، سَمَّى المخلوقَ عليماً، وسَمَّى نفسَهُ سميعاً بصيراً، وسَمَّى المخلوقَ سميعاً بصيراً، إلى غيرِ ذلكَ. ويُقَالُ للجَهْمِيَّةِ: المخلوقُ يُوصَفُ بالخلقِ كما في قولِهِ سبحانَهُ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي}.
وَيُوصَفُ بالفِعْلِ كما في قولِهِ: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وَقَوْلِهِ: {صُنْعَ اللهَ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} واللهُ سبحانَهُ يُوصَفُ بالخلقِ كما في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وَيُوصَفُ بِالفِعْلِ كَمَا فِي قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الجَهْمِيَّةُ تُثْبِتُونَ كَوْنَ اللهِ خالقاً فاعلاً، فَهَلْ فِعْلُهُ وَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ مِثْلَ المَخْلُوقِ؟ إنْ قُلْتُمْ هذا فهذا هو التشبيهُ وأنتم تَفِرُّونَ منهُ, وإنْ قُلْتُمْ: بَلْ فِعْلُ اللهِ وَخَلْقُهُ على ما يَلِيقُ بهِ، وفِعْلُ المخلوقِ وخَلْقُهُ على ما يُنَاسِبُهُ، فَيَجِبُ أنْ تَقُولُوا هذا في سائرِ الصفاتِ، فالحاصلُ أنَّ هؤلاءِ النفاةَ جَمِيعاً لم يَسْتَفِيدُوا مِن نَفْيِهِم إلاَّ تَعْطِيلَ حقائقِ النصوصِ، وإنَّهُم لم يَتَخَلَّصُوا مِمَّا ظَنُّوهُ مَحْذُوراً، بلْ هوَ لازِمٌ لهم فيما فَرُّوا إليهِ، بل قد يُثْبِتُونَ ما هو أعظمُ مَحْذُوراً، كحالِ الذينَ تَأَوَّلُوا نصوصَ العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ والاستواءِ فِرَاراً مِن التَّحَيُّزِ والحَصْرِ, ثم قالوا: هو في كلِّ مكانٍ بِذَاتِهِ، فَنَزَّهُوهُ عن استوائِهِ ومُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ، وَجَعَلُوهُ في أجوافِ البيوتِ والآبارِ والأوانِي والأماكنِ التي يُرْغَبُ عن ذِكْرِهَا، فَجَعَلُوا نِسْبَتَهُ إلى العرشِ كَنِسْبَتِهِ إلى أَخَسِّ مكانٍ، فتعالى اللهُ عن قولِهِم عُلُوًّا كبيراً.
وقولُهُ: (فلا بُدَّ في آخِرِ الأمرِ مِن أنْ يُثْبِتَ مَوْجُوداً وَاجِباً قَدِيماً مُتَّصِفاً بصفاتٍ تُمَيِّزُهُ عن غَيْرِهِ ) إلخ.
معناهُ أنَّ هؤلاءِ الذين يَنْفُونَ شيئًا فِرَاراً مِن مَحْذُورٍ، لاَ بُدَّ وأنْ يُثْبِتُوا شيئاً يَمْتَازُ بهِ الخالقُ عن المخلوقِ، كَكَوْنِهِ سبحانَهُ موجوداً قائماً بِنَفْسِهِ، وأنَّ وُجُودَهُ لا يُمَاثِلُ وُجُودَ خَلْقِهِ، وأنَّ قِيَامَهُ بنفْسِهِ لا يُمَاثِلُ قيامَ المخلوقِينَ بِأَنْفُسِهِم، فإنَّهُ سبحانَهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، والخلقُ مُفْتَقِرُونَ إليهِ، فإذا أَثْبَتَ المُعَطِّلُ هذهِ الصفاتِ للهِ قِيلَ لهُ: فَيَجِبُ أنْ تَقُولَ هذا في سائرِ الصفاتِ، فالبابُ واحدٌ، وَمَهْمَا أَثْبَتَّ مِن وَصْفٍ للهِ فَلاَبُدَّ أنْ يَدُلَّ على قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، بَحَيْثُ يَتَّفِقَانِ فيهِ عندَ الإطلاقِ فإنَّكَ لاَ بُدَّ أنْ تُثْبِتَ للهِ وَصْفًا كَكَوْنِهِ شيئاً موجوداً، فالشيءُ الموجودُ يَتَّصِفُ بهِ كُلٌّ مِن الخالقِ والمخلوقِ، وَلَوْلاَ أَنَّنَا نَفْهَمُ قَدْرًا مُشْتَرَكاً بينَ الخالقِ والمخلوقِ في مُسَمَّى الشيءِ والوجودِ ونحوِ ذلكَ لَمَا فَهِمْنَا مَا خَاطَبَنَا اللهُ بهِ، فإنَّ الشيءَ ضِدُّ لا شَيْءَ, والوجودَ ضِدُّ العَدَمِ، كَمَا أنَّ القُدْرَةَ ضِدُّ العَجْزِ، والعِلْمَ ضِدُّ الجَهْلِ، وهكذا سائرُ الصفاتِ، لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أنَّ ما يُضَافُإلى المَخْلُوقِ مِن الأوصافِ هو على ما يُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَيَلِيقُ بهِ، وما يُضَافُ إلى اللهِ مِن حقائقِ أسمائِهِ وَنُعُوتِ جَلاَلِهِ هو أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطُرُ ببالِ إنسانٍ أو يَدُورُ في خُلْدِهِ، فاللهُ أَعْلَى وأَعْظَمُ مِن أنْ يَتَصَوَّرَ عَظَمَتَهُ مُتَصَوِّرٌ، كَمَا قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)، وقولُهُ عليهِ الصلاةُ والسلامِ: (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَو اسْتَأْثَرْتَ بهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ) الحديثَ.